وقد تأبطت ذراعه وهما يشقان طريقهما بين الأزقة، سارت رشيدة تسرد لعبد المالك في خفوت ما يدور في رأسها وتصغي إلى رده في اهتمام..مذ عشر سنوات وهما على هذه الحال يخططان لزواج لم يتحقق لحد الآن.كنت أراهما كل مساء فتخامرني هواجس متنافرة، وأسير أردد في نفسي "شلحة أو عربي حتى يعفو ربي " إلى أي حد سيبقيا متلاحمين كنفس واحدة! كبنيان مرصوص لن تؤثر فيه عوادي الأيام وتقلبات الظروف! ارتباط مقدس يشد بعضهما البعض بخيط متين كل يمسك بطرفه بقوة مخافة أن ينسل من يده وهو أوهي في حالة انفلات و انخطاف وجودي، يطارد أحلاما رومانسية حتى تخوم اللامنتهى حيث هالة العشق النوراني، وأسرار الحب المكنون..رشيدة وعبد المالك وهما غارقان في توحدهما، وفي أغوار منفاهما الاختياري يتدبران بؤس مصيرهما الإنساني كانا أشبه بغجريين مقطوعي الجذور أو هكذا كان يخيل إلي وأنا أتأملهما كل مساء سائرين نحو المجهول، يتبادلان أطراف الحديث في هدوء وسكينة، أو ملتصقين كظلال وارفة، وما أن يصلا إلى مكانهما المألوف ويخلدا قليلا إلى الراحة حتى تتفجر فيهما الأحاسيس، و تنقدح شرارة الرغبات، فيغرقا في بحر عناق محموم يكاد ينسيهما لسعات البرد القارصة، ونظرات الناس الباهتة والمستنكرة، لكنهما لا يحفلان لأي شيء سوى لحديث قلبيهما.هي تكلمه في همس" لو كان لي أن أحفظك لوضعتك فوق رموش عيناي " وهو يجيب في آسف بالغ " لو كانت بيدي وظيفة لهيئت لك سريرا من ريش النعام " ترفع عيناها في وجهه حتى إذا ما وقعت عيناه عليها أسبلتهما وقد تورد خداها خجلا، وارتعشت فرائصها..يمد يده إلى خدها يتلمسه مبتسما" ألا تزالي تخجلين مني.." تبعد يده عن وجهها، ثم تنتصب واقفة، يمد يده إليها، تجذبه إليها، ثم يقفلا عائدين من حيث آتيا والشمس آفلة نحو الغروب..ليسا على كل حال مخطئين في حبهما..حبهما أشد من الأعاصير، وأقوى من المحال، وأصفى من بياض الماء، لكن الخطأ في الظروف التي جمعتهما صدفة وعلى غير اتفاق مذ عشر سنوات خلت في ما يشبه المعجزة..كانا طالبين بالجامعة..كان هو سنته الأخيرة بينما هي في سنتها الأولى، وإذ جمعتهما ساحة النضال وتشبعا معا بأبجدياتها صارت منظمة الاتحاد الوطني لطلبة المغرب اوطم الحضن الدافئ الذي يجمعهما صباح مساء ..اعتصامات..إضرابات..حلقيات للنقاش ، وكم كان عبد المالك بارعا وقويا في نقاشاته وجريئا في مواقفه النضالية، وقد ساعده تخصصه في مادة التاريخ من التمكن من اكتساب ثقافة موسوعية استثمرها أيما استثمار في إقناع الجماهير الطلابية بوجاهة رأيه، فالتف حـوله الطلاب وصار رمزهم، وعنوان الذي لا عنوان سواه نضالهم، وإذ كانت مليكة حديثة العهد بالجامعة استهوها الجو النضالي، واسترعاها عبد المالك بحيويته المتوقدة وعنفوانه فكبر في عينيها، وصارت لا تلهج إلا باسمه، استوقفته ذات يوم وسط محراب الجامعة ليطلعها عن أموركانت تجهلها عن الإتحاد الوطني لطلبة المغرب، فتكلم مستعرضا ثقافته النضالية الغزيرة، حدثها بإسهاب عن كرونولوجية اوطم منذ تأسيسها ، ومختلف المحطات والمنعرجات التي عرفتها ، ثم عرج بعد ذلك إلى ذكر الفصائل الطلابية التي تتكون منها المنظمة من الطلبة القاعديين، إلى رفاق الشهداء،إلى الطليعيين، دون أن يلمح ولو بإشارة إلى طلبة الإتحاد الاشتراكي، أو طلبة الإتحاد العام لطلبة المغرب، أو الإسلاميين، فهو يعتبرهم ارتكاسيين وارتداديين، ولا مكان لهم داخل منظمة تقدمية، كما ادعى أنهم قوى استئصالية و ظلامية لا هم لهم سوى تشتيت الجهد النضالي والالتفاف على مكتسبا الطـلبة لمصالح نخبوية ضيقة..آمنت رشيدة لما قاله عبد المالك، وازدادت تعلقا به، وصارت أكثر تقربا منه وكأنها ظل لظله، يسيران جنبا لجنب..يجلسان في مقصف الجامعة جنب إلى جنب ليحتسيا القهوة، وليتبادلا أطراف النقاش بمعية الطلبة والطالبات المحيطين بهم عن وضعية البروليتاريا وانتهازية الأوليغارشيا، ومفهوم الكومبرادور، تلك ذكريات جميلة يتمخض لها القلب، وتكاد أن ترتج لها الأرض ارتجاجا وهما جالسين قبالة البحر أو أمام منظر الغروب يجتران تفاصيلها بحزن بالغ كانت أياما حماسية كلها فتوة واندفاع جارف..الكل كان يحلم بالثورة..ضحكت رشيدة بازدراء فارتسمت غمازة على خديها المتوردين وتكلمت وعيناها شبه مغمضتين:
- أحقا كنا نحلم يا عبد المالك!
تمتم وهو سارح ببصره نحو الأفق البعيد:
- نعم يا رشيدة حلما صبيانيا
أطرق قليلا وكأنه يفكر في أمر ما ثم أضاف:
- لا نريد ثورة ولا دما، نريد خبزا وعملا!
وأردفت رشيدة وفي صوتها رنة حزينة:
- بالعمل سنبني مستقبلنا ولكن أين هو العمل!
زم عبد المالك بأنفه إلى السماء:
- الخبز يا الخبز..الخبز هو الإفادة ..لو ما كان الخبز..ما يكون لا دين لا عبادة*
ولأن لاشيء يلوح في الأفق أو يشير بتغيير قريب قرر الاثنان الانخراط في الجمعية المغربية لحملة الشهادات المعطلين فربما تقع المفاجأة ويحصلا على عمل يفتح لهما باب المستقبل ولو أن قاموس الحصول على وظيفة عمومية أصبح هذه الأيام عزيزا ومستحيلا، إذ لا يظفر بها إلا أبناء الأسر المحظوظة..
- إلى أين يسير بنا هذا الوضع المأساوي !
تساءل عبد المالك في انقباض
بهتت رشيدة في مكانها جامدة دون أن تنطق ببنت شفة تنظر إليه نظرات حانية، التقط من أعماقه نفسا عميقا وراح يسرد لرشيدة وحاجباه منعقدان فصلا من فصول التاريخ القديم عن الواقع المزري والتعيس الذي شهدته الأندلس أواخر أيام المعتمد بن عباد، وكيف أصبحت ظاهرة التسول حرفة يتباهـى في احترافها الفـقراء و المحتاجون، وكيف أضحت مهنة لها روادها ومريدوها الذين يتفانون على اكتساب أسرارها، ولما انتهى التفت ناحيتها وابتسامة عريضة تملئ محياه قائلا:
- ما رأيك أن نتسولا تسولا عصريا!
تبرق عيناها في رأسها، وتجيب في استغراب:
- نتسولا!
يقوم من مكانه ثم يستقيم في وقفته، وبخفة متناهية يضع نظاراته السوداء فوق عينيه، ويقوس ظهره قليلا، ثم يطلب منها أن تمسكه من يده ويشرع يصرخ بصوت مهزوم" اشكون يعاون هاد لبصير الله يرحم بها الوالدين..." ثم ينفجر بالضحك وعيناه تكادا أن تدمعان:
- ألست متسولا بارعا يا رشيدة!
تصمت
- هل التسول عيب يا رشيدة !
تصمت
-ثم ماذا لو تسولنا إلى الله!
تلوي شفتيها امتعاضا، وربما ابتلعت غصة ثم تجيب:
- دعنا من هذه اللعبة السخيفة، ولنفكر في حل معقول
- هو الحل عن من نبحث يا رشيدة
يجيب في انكسار وقد علت وجهه آثار انفعال، بدا من خلال إجابته أنه يتخبط وسط دوامة من الأسئلة الثقيلة والتي طالما بحث لها عن إجابة لكن دون جدوى!إنه يحس أنه في حالة عجز تام..الأيام البئيسة تتناسل أمام عينيه كابية ورتيبة..إلى متى سيظل منقادا لقدره..كلا لا بد من طريقة للخروج من الوضعية وبأي ثمن..لابد من تحدي الصعاب ولو أن الواقع أصبح لا يرحم ولا يطاق..صار عنيدا يدفع من استجار به إلى الهاوية بلا شفقة، وهو يردد في مسامعه " الماء و الشطابة حتى قاع البحر "..للواقع إيقاع المنفى، وغبار الاحتمال في أن نكون أولا نكون، ولو حاولنا مجابهته ولي ذراعه، وفك ألاعيبه فلن نجني سوى الخسران..هذا ما توصل إليه عبد المالك وهو غارق في تفكيره، زم بأنفه إلى السماء ثم ما لبث أن هز كتفيه دلالة على اللامبالاة ورشيدة ترمقه في توجس..هي تعرف أنه حين يلوذ إلى صمته الطويل فإنه يعمل من الحبة قبة، ولذا لا مفر من ثورة حقيقية ستأجج عواطفه، فتحرق الأخضر واليابس، وكل ذلك الغضب سيقع على رأسها..وهي تخمن السيناريوهات الممكنة لتلافي غضبته سار يضحك ضحكا هيستريا والدموع تسيح من عينيه، فارتدت إلى الوراء :
- ماذا أصابك هل جننت!
لملم يجبها واسترسل في ضحكه بشكل لم تعهده رشيدة من قبل، كما لم يحدث قط أن وقعت مثل هذه الحالة وهما معا:
- ماذا يضحكك عبد المالك ! أريد أن أضحك أنا أيضا!
كف عن الضحك، وتكلم بهدوء:
- لقد وجدت الحل لمشكلتنا رشيدة!
أبرقت عيناها في رأسها:
- الحل!..أتقول الحل!
وقد أخد نفسا عميقا شرع يتكلم في رباطة جأش:
- نعم الحل..لما لا نفكر في إنشاء مقاولة خاصة وأن الحكومة تدفع في هذا الاتجاه وباستراتيجية مدروسة أشبه باستراتجية اليابان!..لما لا نقتحم الغمار فربما ننجح في المشروع ..لكن ما أخشاه أن تكون المقاولة أشبه بالمقاومة لم يستفد منها إلا لمحظوظون...
- لم أسمعك جيدا ..أقلت المقاومة!
وقد اقتربت منه
سار يسبقها في مشيته وهو يجيب:
- لا لا قلت المقاولة .هل أصبحت صماء يا رشيدة...هل..!
نظم لسيدي عبد الرحمان المجذوب
- أحقا كنا نحلم يا عبد المالك!
تمتم وهو سارح ببصره نحو الأفق البعيد:
- نعم يا رشيدة حلما صبيانيا
أطرق قليلا وكأنه يفكر في أمر ما ثم أضاف:
- لا نريد ثورة ولا دما، نريد خبزا وعملا!
وأردفت رشيدة وفي صوتها رنة حزينة:
- بالعمل سنبني مستقبلنا ولكن أين هو العمل!
زم عبد المالك بأنفه إلى السماء:
- الخبز يا الخبز..الخبز هو الإفادة ..لو ما كان الخبز..ما يكون لا دين لا عبادة*
ولأن لاشيء يلوح في الأفق أو يشير بتغيير قريب قرر الاثنان الانخراط في الجمعية المغربية لحملة الشهادات المعطلين فربما تقع المفاجأة ويحصلا على عمل يفتح لهما باب المستقبل ولو أن قاموس الحصول على وظيفة عمومية أصبح هذه الأيام عزيزا ومستحيلا، إذ لا يظفر بها إلا أبناء الأسر المحظوظة..
- إلى أين يسير بنا هذا الوضع المأساوي !
تساءل عبد المالك في انقباض
بهتت رشيدة في مكانها جامدة دون أن تنطق ببنت شفة تنظر إليه نظرات حانية، التقط من أعماقه نفسا عميقا وراح يسرد لرشيدة وحاجباه منعقدان فصلا من فصول التاريخ القديم عن الواقع المزري والتعيس الذي شهدته الأندلس أواخر أيام المعتمد بن عباد، وكيف أصبحت ظاهرة التسول حرفة يتباهـى في احترافها الفـقراء و المحتاجون، وكيف أضحت مهنة لها روادها ومريدوها الذين يتفانون على اكتساب أسرارها، ولما انتهى التفت ناحيتها وابتسامة عريضة تملئ محياه قائلا:
- ما رأيك أن نتسولا تسولا عصريا!
تبرق عيناها في رأسها، وتجيب في استغراب:
- نتسولا!
يقوم من مكانه ثم يستقيم في وقفته، وبخفة متناهية يضع نظاراته السوداء فوق عينيه، ويقوس ظهره قليلا، ثم يطلب منها أن تمسكه من يده ويشرع يصرخ بصوت مهزوم" اشكون يعاون هاد لبصير الله يرحم بها الوالدين..." ثم ينفجر بالضحك وعيناه تكادا أن تدمعان:
- ألست متسولا بارعا يا رشيدة!
تصمت
- هل التسول عيب يا رشيدة !
تصمت
-ثم ماذا لو تسولنا إلى الله!
تلوي شفتيها امتعاضا، وربما ابتلعت غصة ثم تجيب:
- دعنا من هذه اللعبة السخيفة، ولنفكر في حل معقول
- هو الحل عن من نبحث يا رشيدة
يجيب في انكسار وقد علت وجهه آثار انفعال، بدا من خلال إجابته أنه يتخبط وسط دوامة من الأسئلة الثقيلة والتي طالما بحث لها عن إجابة لكن دون جدوى!إنه يحس أنه في حالة عجز تام..الأيام البئيسة تتناسل أمام عينيه كابية ورتيبة..إلى متى سيظل منقادا لقدره..كلا لا بد من طريقة للخروج من الوضعية وبأي ثمن..لابد من تحدي الصعاب ولو أن الواقع أصبح لا يرحم ولا يطاق..صار عنيدا يدفع من استجار به إلى الهاوية بلا شفقة، وهو يردد في مسامعه " الماء و الشطابة حتى قاع البحر "..للواقع إيقاع المنفى، وغبار الاحتمال في أن نكون أولا نكون، ولو حاولنا مجابهته ولي ذراعه، وفك ألاعيبه فلن نجني سوى الخسران..هذا ما توصل إليه عبد المالك وهو غارق في تفكيره، زم بأنفه إلى السماء ثم ما لبث أن هز كتفيه دلالة على اللامبالاة ورشيدة ترمقه في توجس..هي تعرف أنه حين يلوذ إلى صمته الطويل فإنه يعمل من الحبة قبة، ولذا لا مفر من ثورة حقيقية ستأجج عواطفه، فتحرق الأخضر واليابس، وكل ذلك الغضب سيقع على رأسها..وهي تخمن السيناريوهات الممكنة لتلافي غضبته سار يضحك ضحكا هيستريا والدموع تسيح من عينيه، فارتدت إلى الوراء :
- ماذا أصابك هل جننت!
لملم يجبها واسترسل في ضحكه بشكل لم تعهده رشيدة من قبل، كما لم يحدث قط أن وقعت مثل هذه الحالة وهما معا:
- ماذا يضحكك عبد المالك ! أريد أن أضحك أنا أيضا!
كف عن الضحك، وتكلم بهدوء:
- لقد وجدت الحل لمشكلتنا رشيدة!
أبرقت عيناها في رأسها:
- الحل!..أتقول الحل!
وقد أخد نفسا عميقا شرع يتكلم في رباطة جأش:
- نعم الحل..لما لا نفكر في إنشاء مقاولة خاصة وأن الحكومة تدفع في هذا الاتجاه وباستراتيجية مدروسة أشبه باستراتجية اليابان!..لما لا نقتحم الغمار فربما ننجح في المشروع ..لكن ما أخشاه أن تكون المقاولة أشبه بالمقاومة لم يستفد منها إلا لمحظوظون...
- لم أسمعك جيدا ..أقلت المقاومة!
وقد اقتربت منه
سار يسبقها في مشيته وهو يجيب:
- لا لا قلت المقاولة .هل أصبحت صماء يا رشيدة...هل..!
نظم لسيدي عبد الرحمان المجذوب