بعد أن أنجز الكاتب غسان كنفاني روايته "ما تبقى لكم" (1966) ذات الأسلوب الفني الذي يحتاج إلى قارئ مميز، وذلك لتعقد الأسلوب من حيث تداخل الأصوات المتعددة دون تحديد واضح لمصدر الصوت، تراجع عن توظيف هذا الأسلوب واستبدله بآخر أسهل وأوضح، وهو ما يلحظ في روايتيه "عائد إلى حيفا" (1969) و"أم سعد" (1969). وقد أبدى المؤلف رأيه في العودة إلى الأسلوب الذي بدأ فبه كتابته الروائية في روايته "رجال في الشمس" (1963)، وتراجعه عن الاستمرار في الكتابة بالأسلوب الذي بدا في "ما تبقى لكم"، على الرغم من أن هذا كان جديداً في الأدب العربي، حيث لم يوظفه إلا نجيب محفوظ، وعلى الرغم من أنه كان أحدث الأساليب في الرواية الغربية التي تأثر بها كنفاني.
يوضح كنفاني السبب الذي حدا به إلى عدم مواصلة الكتابة بأسلوب "ما تبقى لكم"- أي أسلوب تيار الوعي والأصوات المتعددة المتداخلة- فيقول:
"في الواقع رواية "ما تبقى لكم" هي قفزة من ناحية الشكل، ولكنها أثارت بنفس الوقت تساؤلات بالنسبة لي: "لمن أكتب أنا؟" هذه الرواية قلة يستطيعون من بين قرائنا العرب أن يفهموها. فهل أنا أكتب من أجل أن يكتب أحد النقاد في مجلة ما، إنني أكتب رواية جيدة أم أنا أكتب من أجل أن أصل إلى الناس وأن تكون هذه الرواية شكلا من أشكال الثقافة الموجودة في مجتمعنا، والتي من واجب المثقف أن يتعامل فيها مع الناس؟" (ص87).
ويرى كنفاني أنه ليس بالضرورة أن تكون الأشياء العميقة معقدة وليس بالضرورة أن تكون الأشياء البسيطة ساذجة..والإنجاز الفني الحقيقي هو أن يستطيع الإنسان أن يقول الشيء العميق ببساطة" (ص87).
وتعقب رضوى عاشور في كتابها "الطريق إلى الخيمة الأخرى: دراسة في أعمال غسان كنفاني" (1977) على كلام كنفاني، وتذهب إلى أن غسان هنا "يطرح المعادلة الصعبة التي يواجه بها غالبية الكتاب التقدميين في العالم الثالث. هذه المعادلة هي كيفية التوفيق بين جودة الفن وجماهيريته" التي ينحاز إليها-أي إلى الجمهور-، دون أن يفرط الأديب بجودة فنه. وتتوقف الدارسة أمام سؤال آخر لم يخطر على بال كنفاني وهو: ما مدى مناسبة تيار الشعور كأسلوب روائي لكاتب يضطلع بمهمة تأكيد ذات الجماعة والتعبير عنها؟ أسلوب روائي برز نتيجة لإيمان الكاتب الغربي بتحطيم وحدة الوجود وعزلة الإنسان داخل العالم وفقدان الثقة في حقيقة موضوعية.
ولئن كان سؤالها الثاني مهما فإن ما يهمنا هنا هو موقف كنفاني من جمهور القراء، وانحيازه للكتابة الواضحة القادرة على الوصول إليهم، وهذا يحيلنا إلى الفكرة الأساس التي كانت الدافع لكتابة هذه المقالة، وهي علاقة محمود درويش بقرائه وبالقراء عموما وأهمية الناحية الجمالية في أشعاره.
في المقابلة التي أجراها، مع الشاعر، كل من (يعقوب بيسر) ومحمد حمزة غنايم، المقابلة التي نشرت بالعبرية وترجمت إلى العربية ونشرت في الاتحاد الحيفاوية 14/4/2000، في المقابلة هذه يُسأل درويش عما سيكتب بعد عودته وبعد حل قضية شعبه، وهل سينتهي شاعراً أم أنه تطور؟ ويجيب على ذلك بأنه يعتقد أنه، بعد عودته، تطور، وانه يحس بأنه أكثر تحرراً من المطالب القومية المعينة هذه. وحين يسأل سؤالاً ثانياً عن علاقته بالقراء واحتمال خسارة القراء نتيجة هذا التغيير يجيب:
"ثمة مفارقة في الأمر. منذ 15 عاما وأنا محط هجوم الجوقة المتحدثة باسم القراء- ولكنها لا تقرأ بنفسها- بأن قصائدي أكثر تركيباً وعسيرة على الفهم، وإن مجازيتي تتطور وإيقاعاتي تتغير وبأنني في الطريق لخسارة القراء، لكن في كل مرة أنشر فيها كتابا، يكون لي المزيد من القراء. عندما أذهب إلى أمسية شعرية، في بيروت، مثلا، كما حدث معي قبل شهرين، أتيقن أنه كلما تطورت أضيف لي المزيد من القراء. ممنوع أن نفترض بأن القارئ لا يستوعب شيئا مما يقرأ. القارئ أنا وأنت، والقاعدة الثقافية للقارئ تتسع هي الأخرى. وعموما، فإنني لا أخسر القراء، وإذا خسرت- كثمن لتطوري- فأنا مستعد لذلك، أفضل أن أتطور".
وكان الشاعر، في المقابلة التي أجريت معه ونشرت في مجلة "الشعراء" (رام الله)، في ربيع وصيف 1999، في العدد المزدوج الرابع والخامس، كان الشاعر قد تحدث مطولا عن الذائقة الشعرية وضرورة تطويرها لدى الشاعر والقارئ معا، كأنه بذلك يتحدث عن دور المبدع في الخروج عن المألوف والإتيان بالجديد غير المألوف الذي يسبب للقارئ صدمة تنجم عن الفارق بين ما اعتاد عليه وما يقرأه من جديد، صدمة سببها المسافة الجمالية بين القديم والمعتاد والجديد غير المعتاد. ولعل العبارة المهمة في الفقرة المقتبسة هي تلك التي يبدي فيها الشاعر استعداده لأن يخسر جمهور القراء مقابل تفضيله أن يتطور جماليا. إنها العبارة الناصة:
"وعموما، فإنني لا أخسر القراء، وإذا خسرت- كثمن لتطوري- فأنا مستعد لذلك، أفضل أن أتطور".
ومن المؤكد أن هذه العبارة هي النقيض التام لقول الشاعر في بداية حياته:
"قصائدنا، بلا لون
بلا طعم... بلا صوت!
إذا لم تحمل المصباح من بيت إلى بيت!
وإن لم يفهم "البُسَطا" معانيها
فأولى أن نذريها
ونخلد نحن... للصمت!!"
أو لقوله: إنا نحب الورد/ لكنا نحب القمح أكثر، أو لقوله: أحد الشعراء يقول:/ لو سرت أشعاري خلاني/ واغاظت أعدائي/ فأنا شاعر../ وأنا سأقول!
ثمة انحيازان مختلفان؛ انحياز للقارئ مقابل التضحية، إلى حد ما، بالقيمة الجمالية، وانحياز للجمال مقابل التضحية، إلى حد ما، بالقارئ. وأكرر عبارة إلى حد ما، فدرويش في بداية حياته لم يكن يضحي كليا بالناحية الجمالية، وكان هذا يسبب له الحرج أمام رفاقه الأيديولوجيين، تماما كما أنه لم يضح، الآن، بالقارئ، وإن كانت عبارته في المقابلة توحي بذلك، وهي- أي عبارته- لا تقول ما يقوله شعره، فهذا- أي شعره- قابل، إلى حد كبير، لأن يفهم من القراء المثقفين، وأقول إلى حد كبير لأن هناك قراءً كثيرين يقرأون الشاعر ويدافعون عن شعره، والذين لا يفهمون بعض شعره هم أولئك "البسطا" الذين كان درويش يقرأ على مسامعهم الشعر، في القرى الفلسطينية، يوم كان مقيماً في فلسطين قبل عام 1970- أي قبل مغادرته الوطن إلى المنفى.
بدأ كنفاني حياته الروائية والقصصية، وهو يكتب بأسلوب واضح، ثم جارى الرواية العالمية، فأنجز "ما تبقى لكم"، وحين أصغى إلى ردود الفعل، عاد ليكتب بأسلوبه الأول، وهكذا انحاز إلى المحتوى أكثر من انحيازه إلى الشكل، وبدأ درويش حياته الشعرية، وهو يكتب القصائد الواضحة، وكان يدافع عن هذا، وآل إلى كتابة قصائد تختلف عن قصائده الأولى، ولا أقول أنه انحاز للشكل وتخلى عن المحتوى، ولكنه هو نفسه كان مرّ فيما مرّ فيه كنفاني. فدرويش الذي تأثر بالشعر العربي الحديث بعد خروجه من الأرض المحتلة،- أي بعد عام 1970-، وانجز قصائد "محاولة رقم 7" (1974)، عاد في غمرة الحرب الأهلية في لبنان إلى كتابة قصائد واضحة، وهو ما بدا في مجموعة "أعراس" (1977)، حيث كتب:
"أنا شاهد المذبحة
وشهيد الخريطة
أنا ولد الكلمات البسيطة"
وكتب في قصيدة "نشيد إلى الأخضر" التي ظهرت في "أعراس":
"وأنا أكتب شعراً، أي: أموت الآن. فلتذهب أصول الشعر وليتضح الخنجر ولينكشف الرمز: الجماهير هي الطائر والأنظمة الآن تسمى قتلة".
وهو مقطع تخلى عنه الشاعر في أعماله الكاملة (ط14 الصادرة عن دار العودة 1996). وتخلي الشاعر عنه قد يعود أيضا لأسباب سياسية منها تهادن الشاعر مع النظام السياسي العربي، لأنه- أي الشاعر- كان بحاجة إلى هدنة أمام غابة السنديان.
ولا ندري ما الذي كان سيفعله كنفاني لو امتد به العمر! أكان سيعود إلى تفضيل قضية الشكل أم أنه سيظل يكتب روايات على غرار "أم سعد"؟
ترى ما العوامل التي جعلت محمود درويش يقول:
"وعموماً، فإنني لا أخسر القراء، وإذا خسرت- كثمن لتطوري- فأنا مستعد لذلك، أفضل أن أتطور".
سوف أوجز هذه العوامل، ذلك أنني تطرقت إلى أكثرها بتفصيل بيِّنٍ في دراستي "محمود درويش: حذف البدايات وقصائد أخرى" (انظر مجلة مجمع اللغة العربية، العدد الثاني، صيف 2000):
أولا: كان درويش في بداية حياته الشعرية ماركسياً يتبنى الواقعية الاشتراكية، وتركز هذه على حزبية الأدب والأديب وشعبية الفن، ولهذا كتب درويش قصائد يفهمها البسطاء، عدا أنّ إمكاناته في حينه لم تكن تسمح له بكتابة أكثر مما كتب. وأما كنفاني فلم يتبنَ الماركسية إلا بعد هزيمة 1967، وعليه فقد أخذ يكتب للجماهير بوحي من الأفكار الجديدة التي اعتنقها، وهي أفكار لم يكن اقترب منها يوم كتب "ما تبقى لكم"، إذ كان، في حينه، واحداً من المثقفين العرب الذين يقرأون الأدب الوجودي والأدب العالمي ويتأثرون بأسئلته وبشكله أيضا.
ثانيا: بعد خروجه من الأرض المحتلة عاش درويش أجواء المثقفين العرب في بيروت، وتأثر بأبرز رموز الحركة الشعرية، وبخاصة أدونيس، ولم يعد الشاعر ماركسيا حزبيا، ولم يعد يقرأ أدبا ذا توجه واحد. لقد نهل من مشارب أدبية عديدة؛ شرقية وغربية، وأراد أن يرد على أولئك الذين رأوا في شعراء الأرض المحتلة شعراء رفعتهم قضيتهم، فكتب شعراً لا يكرر الشعار وحسب، وإنما يرتقي جماليا ليوازي الشعر الذي كتبه أبرز الشعراء العرب في حينه. وما من شك في أن ثقافة المرء تترك أثرها على نتاجه، وهذا ما حدث مع الشاعر الذي وجد نفسه أيضا متحرراً من خلية الحزب التابعة لخلية فخلية فقيادة تطلب منه أن يكون شاعراً جماهيريا. وخلافا له فقد التزم كنفاني بعد عام 1967 بالجبهة الشعبية، وغدا عضوا بارزا من أعضائها. لقد غدا حزبيا في الوقت الذي تحلل فيه درويش من الحزب.
ثالثا: تغير الظروف والمعطيات ما بين 1967 و2000:
لقد تراجعت في السنوات العشرين الأخيرة حركة المقاومة الفلسطينية وانهار الاتحاد السوفيتي، وخسرت الحركة القومية العربية معاركها معركة معركة. خرجت المقاومة من بيروت، وأُقصيَ الحزب الشيوعي عن الحكم، وهزمت العراق، ودخل العرب عهد الصلح مع العدو دون أن ينجزوا الحد الأدنى مما اتفقوا على ضرورة إنجازه- أعني الانسحاب من المناطق المحتلة عام 1967، وإذا كانت دولٌ بكاملها تغيرت فلماذا لا يتغير الموقف من الشعر. كان الشاعر يعتقد أنه مصلح وقائد، وأنه يستطيع من خلال شعره أن يُغيّر ويُثَوّر، ولكنه عجز عن ذلك، بل ورأى من يملكون القرار والإمكانيات أعجز من إنجاز ذلك، فلماذا إذَن لا يتخلى الشاعر عن اعتقاده السابق بدوره.
رابعا: تراجع مكانة الشعر:
لم يعد جمهور الشعر، الآن، كما كان سابقا. وليس هذا مقتصراً على الجمهور العربي، ومن يطالع ما يكتب عن دور الشعر وقرائه في العالم يعرف أن قلة قليلة من القراء هي من تحتفي بالشعر. ففي باريس مثلا لا يطبع من الديوان الواحد أكثر من ألف نسخة لأربعين مليون، وقد حدا هذا بكاتب عربي إلى أن يكتب قبل عشرين عاما مقالة عن تراجع مكانة الشعر لصالح الرواية وإلى التساؤل إن كانوا، الآن، يدقون آخر مسمار في نعش الشعر. وفي ألمانيا كتب ناقد ألماني قبل عام تقريبا – أي في 1999-، مقالة يظهر فيها أن ما يخيف الناشرين ويرعبهم هو طباعة مجموعات شعرية، ولم تشذ عن هذا سوى شاعرة ألمانية هي (أولا هان). ويمكن قول الشيء نفسه عن جمهور الشعر في العالم العربي، ومحمود درويش، بالإضافة إلى أسماء شعرية قليلة، يعد استثناءً، وحتى درويش نفسه لا يُقرأ إلا من جمهور معين، فلا الباعة ولا الفلاحون ولا صناعيو المدينة يقرأونه، وعليه فليس غريبا أن يكتب الشاعر ويطور ذائقته الشعرية، ساعيا في الوقت نفسه إلى تطوير ذائقة هذا الجمهور- أي الذين يحبون الشعر ويقرأونه.
وعلى الرغم من كل ما سبق، وهو كلام قابل لأن يناقش، تبقى عبارة محمود درويش "فإنني لا أخسر القراء، وإذا خسرت-كثمن لتطوري- فأنا مستعد لذلك. أفضل أن أتطور" تبقى عبارة خطيرة، ذلك أن الشاعر يفضل الشعر على الجمهور، أعني جمهور الشعر. وهذا يعني انحياز الشاعر للجمال، لا للإنسان، والسؤال الذي يثار هو: ما قيمة الجمال بلا إنسان يستمتع به؟، وهو سؤال يوجه للشاعر نفسه. حقا ما قيمة الجمال بلا إنسان يستمتع به، وما قيمة أجمل القصائد دون قراء، بل هل هناك من ضرورة للشعر الصافي دون أن يكون له قراء؟ ونظرية التلقي، وهي من أحدث النظريات النقدية، ترى أن لا قيمة للأدب ولا وجود له إلا من خلال قارئ يعطي الأشياء مكانتها وحضورها وقيمتها، إذ دونه ستظل الكلمات حروفا باردة ولا حياة فيها ولا نبض لها. آمل أن يفكر الشاعر الكبير بهذا، وأن يفكر أيضا بموضوع الجمهور جيدا، فجمهوره الذي يزداد، وقراؤه الذين يزدادون يشكون أيضا، أحيانا، من صعوبة شعره. ومع أنني شخصيا قد أنحاز لدرويش في بعض ما يذهب إليه، وبخاصة فيما يتعلق بضرورة تطوير القصيدة، إذ لا ضرورة لمئات القصائد المتشابهة، إلا أنني أحيانا، أرى أن من يقرأون الشعر، وهم طلاب قسم اللغة العربية في الجامعات، هم من يشكون من صعوبة استيعاب قصائد الشاعر، وأنهم لا يتذوقونها إلا بعد شرحي لها، وهذا طبيعي ومنطقي، فإذا ما تخلى درويش عن هؤلاء القراء فمن سيبقى له؟ وهل ستصبح قصائده مثل الشعار على الجدار؟ وحينئذ ما قيمتها؟
لدرويش أن يقول رأيه، ولنا أن نناقشه أيضا!! حقا ماذا تساوي شهادتي وثقافتي وأنا وحيد في قاعة الدرس؟ وما قيمة كتابتي هذه إذا لم تجد من ينشرها أولا ومن يقرأها ثانيا.
كنفاني ودرويش والقارئ
يوضح كنفاني السبب الذي حدا به إلى عدم مواصلة الكتابة بأسلوب "ما تبقى لكم"- أي أسلوب تيار الوعي والأصوات المتعددة المتداخلة- فيقول:
"في الواقع رواية "ما تبقى لكم" هي قفزة من ناحية الشكل، ولكنها أثارت بنفس الوقت تساؤلات بالنسبة لي: "لمن أكتب أنا؟" هذه الرواية قلة يستطيعون من بين قرائنا العرب أن يفهموها. فهل أنا أكتب من أجل أن يكتب أحد النقاد في مجلة ما، إنني أكتب رواية جيدة أم أنا أكتب من أجل أن أصل إلى الناس وأن تكون هذه الرواية شكلا من أشكال الثقافة الموجودة في مجتمعنا، والتي من واجب المثقف أن يتعامل فيها مع الناس؟" (ص87).
ويرى كنفاني أنه ليس بالضرورة أن تكون الأشياء العميقة معقدة وليس بالضرورة أن تكون الأشياء البسيطة ساذجة..والإنجاز الفني الحقيقي هو أن يستطيع الإنسان أن يقول الشيء العميق ببساطة" (ص87).
وتعقب رضوى عاشور في كتابها "الطريق إلى الخيمة الأخرى: دراسة في أعمال غسان كنفاني" (1977) على كلام كنفاني، وتذهب إلى أن غسان هنا "يطرح المعادلة الصعبة التي يواجه بها غالبية الكتاب التقدميين في العالم الثالث. هذه المعادلة هي كيفية التوفيق بين جودة الفن وجماهيريته" التي ينحاز إليها-أي إلى الجمهور-، دون أن يفرط الأديب بجودة فنه. وتتوقف الدارسة أمام سؤال آخر لم يخطر على بال كنفاني وهو: ما مدى مناسبة تيار الشعور كأسلوب روائي لكاتب يضطلع بمهمة تأكيد ذات الجماعة والتعبير عنها؟ أسلوب روائي برز نتيجة لإيمان الكاتب الغربي بتحطيم وحدة الوجود وعزلة الإنسان داخل العالم وفقدان الثقة في حقيقة موضوعية.
ولئن كان سؤالها الثاني مهما فإن ما يهمنا هنا هو موقف كنفاني من جمهور القراء، وانحيازه للكتابة الواضحة القادرة على الوصول إليهم، وهذا يحيلنا إلى الفكرة الأساس التي كانت الدافع لكتابة هذه المقالة، وهي علاقة محمود درويش بقرائه وبالقراء عموما وأهمية الناحية الجمالية في أشعاره.
في المقابلة التي أجراها، مع الشاعر، كل من (يعقوب بيسر) ومحمد حمزة غنايم، المقابلة التي نشرت بالعبرية وترجمت إلى العربية ونشرت في الاتحاد الحيفاوية 14/4/2000، في المقابلة هذه يُسأل درويش عما سيكتب بعد عودته وبعد حل قضية شعبه، وهل سينتهي شاعراً أم أنه تطور؟ ويجيب على ذلك بأنه يعتقد أنه، بعد عودته، تطور، وانه يحس بأنه أكثر تحرراً من المطالب القومية المعينة هذه. وحين يسأل سؤالاً ثانياً عن علاقته بالقراء واحتمال خسارة القراء نتيجة هذا التغيير يجيب:
"ثمة مفارقة في الأمر. منذ 15 عاما وأنا محط هجوم الجوقة المتحدثة باسم القراء- ولكنها لا تقرأ بنفسها- بأن قصائدي أكثر تركيباً وعسيرة على الفهم، وإن مجازيتي تتطور وإيقاعاتي تتغير وبأنني في الطريق لخسارة القراء، لكن في كل مرة أنشر فيها كتابا، يكون لي المزيد من القراء. عندما أذهب إلى أمسية شعرية، في بيروت، مثلا، كما حدث معي قبل شهرين، أتيقن أنه كلما تطورت أضيف لي المزيد من القراء. ممنوع أن نفترض بأن القارئ لا يستوعب شيئا مما يقرأ. القارئ أنا وأنت، والقاعدة الثقافية للقارئ تتسع هي الأخرى. وعموما، فإنني لا أخسر القراء، وإذا خسرت- كثمن لتطوري- فأنا مستعد لذلك، أفضل أن أتطور".
وكان الشاعر، في المقابلة التي أجريت معه ونشرت في مجلة "الشعراء" (رام الله)، في ربيع وصيف 1999، في العدد المزدوج الرابع والخامس، كان الشاعر قد تحدث مطولا عن الذائقة الشعرية وضرورة تطويرها لدى الشاعر والقارئ معا، كأنه بذلك يتحدث عن دور المبدع في الخروج عن المألوف والإتيان بالجديد غير المألوف الذي يسبب للقارئ صدمة تنجم عن الفارق بين ما اعتاد عليه وما يقرأه من جديد، صدمة سببها المسافة الجمالية بين القديم والمعتاد والجديد غير المعتاد. ولعل العبارة المهمة في الفقرة المقتبسة هي تلك التي يبدي فيها الشاعر استعداده لأن يخسر جمهور القراء مقابل تفضيله أن يتطور جماليا. إنها العبارة الناصة:
"وعموما، فإنني لا أخسر القراء، وإذا خسرت- كثمن لتطوري- فأنا مستعد لذلك، أفضل أن أتطور".
ومن المؤكد أن هذه العبارة هي النقيض التام لقول الشاعر في بداية حياته:
"قصائدنا، بلا لون
بلا طعم... بلا صوت!
إذا لم تحمل المصباح من بيت إلى بيت!
وإن لم يفهم "البُسَطا" معانيها
فأولى أن نذريها
ونخلد نحن... للصمت!!"
أو لقوله: إنا نحب الورد/ لكنا نحب القمح أكثر، أو لقوله: أحد الشعراء يقول:/ لو سرت أشعاري خلاني/ واغاظت أعدائي/ فأنا شاعر../ وأنا سأقول!
ثمة انحيازان مختلفان؛ انحياز للقارئ مقابل التضحية، إلى حد ما، بالقيمة الجمالية، وانحياز للجمال مقابل التضحية، إلى حد ما، بالقارئ. وأكرر عبارة إلى حد ما، فدرويش في بداية حياته لم يكن يضحي كليا بالناحية الجمالية، وكان هذا يسبب له الحرج أمام رفاقه الأيديولوجيين، تماما كما أنه لم يضح، الآن، بالقارئ، وإن كانت عبارته في المقابلة توحي بذلك، وهي- أي عبارته- لا تقول ما يقوله شعره، فهذا- أي شعره- قابل، إلى حد كبير، لأن يفهم من القراء المثقفين، وأقول إلى حد كبير لأن هناك قراءً كثيرين يقرأون الشاعر ويدافعون عن شعره، والذين لا يفهمون بعض شعره هم أولئك "البسطا" الذين كان درويش يقرأ على مسامعهم الشعر، في القرى الفلسطينية، يوم كان مقيماً في فلسطين قبل عام 1970- أي قبل مغادرته الوطن إلى المنفى.
بدأ كنفاني حياته الروائية والقصصية، وهو يكتب بأسلوب واضح، ثم جارى الرواية العالمية، فأنجز "ما تبقى لكم"، وحين أصغى إلى ردود الفعل، عاد ليكتب بأسلوبه الأول، وهكذا انحاز إلى المحتوى أكثر من انحيازه إلى الشكل، وبدأ درويش حياته الشعرية، وهو يكتب القصائد الواضحة، وكان يدافع عن هذا، وآل إلى كتابة قصائد تختلف عن قصائده الأولى، ولا أقول أنه انحاز للشكل وتخلى عن المحتوى، ولكنه هو نفسه كان مرّ فيما مرّ فيه كنفاني. فدرويش الذي تأثر بالشعر العربي الحديث بعد خروجه من الأرض المحتلة،- أي بعد عام 1970-، وانجز قصائد "محاولة رقم 7" (1974)، عاد في غمرة الحرب الأهلية في لبنان إلى كتابة قصائد واضحة، وهو ما بدا في مجموعة "أعراس" (1977)، حيث كتب:
"أنا شاهد المذبحة
وشهيد الخريطة
أنا ولد الكلمات البسيطة"
وكتب في قصيدة "نشيد إلى الأخضر" التي ظهرت في "أعراس":
"وأنا أكتب شعراً، أي: أموت الآن. فلتذهب أصول الشعر وليتضح الخنجر ولينكشف الرمز: الجماهير هي الطائر والأنظمة الآن تسمى قتلة".
وهو مقطع تخلى عنه الشاعر في أعماله الكاملة (ط14 الصادرة عن دار العودة 1996). وتخلي الشاعر عنه قد يعود أيضا لأسباب سياسية منها تهادن الشاعر مع النظام السياسي العربي، لأنه- أي الشاعر- كان بحاجة إلى هدنة أمام غابة السنديان.
ولا ندري ما الذي كان سيفعله كنفاني لو امتد به العمر! أكان سيعود إلى تفضيل قضية الشكل أم أنه سيظل يكتب روايات على غرار "أم سعد"؟
ترى ما العوامل التي جعلت محمود درويش يقول:
"وعموماً، فإنني لا أخسر القراء، وإذا خسرت- كثمن لتطوري- فأنا مستعد لذلك، أفضل أن أتطور".
سوف أوجز هذه العوامل، ذلك أنني تطرقت إلى أكثرها بتفصيل بيِّنٍ في دراستي "محمود درويش: حذف البدايات وقصائد أخرى" (انظر مجلة مجمع اللغة العربية، العدد الثاني، صيف 2000):
أولا: كان درويش في بداية حياته الشعرية ماركسياً يتبنى الواقعية الاشتراكية، وتركز هذه على حزبية الأدب والأديب وشعبية الفن، ولهذا كتب درويش قصائد يفهمها البسطاء، عدا أنّ إمكاناته في حينه لم تكن تسمح له بكتابة أكثر مما كتب. وأما كنفاني فلم يتبنَ الماركسية إلا بعد هزيمة 1967، وعليه فقد أخذ يكتب للجماهير بوحي من الأفكار الجديدة التي اعتنقها، وهي أفكار لم يكن اقترب منها يوم كتب "ما تبقى لكم"، إذ كان، في حينه، واحداً من المثقفين العرب الذين يقرأون الأدب الوجودي والأدب العالمي ويتأثرون بأسئلته وبشكله أيضا.
ثانيا: بعد خروجه من الأرض المحتلة عاش درويش أجواء المثقفين العرب في بيروت، وتأثر بأبرز رموز الحركة الشعرية، وبخاصة أدونيس، ولم يعد الشاعر ماركسيا حزبيا، ولم يعد يقرأ أدبا ذا توجه واحد. لقد نهل من مشارب أدبية عديدة؛ شرقية وغربية، وأراد أن يرد على أولئك الذين رأوا في شعراء الأرض المحتلة شعراء رفعتهم قضيتهم، فكتب شعراً لا يكرر الشعار وحسب، وإنما يرتقي جماليا ليوازي الشعر الذي كتبه أبرز الشعراء العرب في حينه. وما من شك في أن ثقافة المرء تترك أثرها على نتاجه، وهذا ما حدث مع الشاعر الذي وجد نفسه أيضا متحرراً من خلية الحزب التابعة لخلية فخلية فقيادة تطلب منه أن يكون شاعراً جماهيريا. وخلافا له فقد التزم كنفاني بعد عام 1967 بالجبهة الشعبية، وغدا عضوا بارزا من أعضائها. لقد غدا حزبيا في الوقت الذي تحلل فيه درويش من الحزب.
ثالثا: تغير الظروف والمعطيات ما بين 1967 و2000:
لقد تراجعت في السنوات العشرين الأخيرة حركة المقاومة الفلسطينية وانهار الاتحاد السوفيتي، وخسرت الحركة القومية العربية معاركها معركة معركة. خرجت المقاومة من بيروت، وأُقصيَ الحزب الشيوعي عن الحكم، وهزمت العراق، ودخل العرب عهد الصلح مع العدو دون أن ينجزوا الحد الأدنى مما اتفقوا على ضرورة إنجازه- أعني الانسحاب من المناطق المحتلة عام 1967، وإذا كانت دولٌ بكاملها تغيرت فلماذا لا يتغير الموقف من الشعر. كان الشاعر يعتقد أنه مصلح وقائد، وأنه يستطيع من خلال شعره أن يُغيّر ويُثَوّر، ولكنه عجز عن ذلك، بل ورأى من يملكون القرار والإمكانيات أعجز من إنجاز ذلك، فلماذا إذَن لا يتخلى الشاعر عن اعتقاده السابق بدوره.
رابعا: تراجع مكانة الشعر:
لم يعد جمهور الشعر، الآن، كما كان سابقا. وليس هذا مقتصراً على الجمهور العربي، ومن يطالع ما يكتب عن دور الشعر وقرائه في العالم يعرف أن قلة قليلة من القراء هي من تحتفي بالشعر. ففي باريس مثلا لا يطبع من الديوان الواحد أكثر من ألف نسخة لأربعين مليون، وقد حدا هذا بكاتب عربي إلى أن يكتب قبل عشرين عاما مقالة عن تراجع مكانة الشعر لصالح الرواية وإلى التساؤل إن كانوا، الآن، يدقون آخر مسمار في نعش الشعر. وفي ألمانيا كتب ناقد ألماني قبل عام تقريبا – أي في 1999-، مقالة يظهر فيها أن ما يخيف الناشرين ويرعبهم هو طباعة مجموعات شعرية، ولم تشذ عن هذا سوى شاعرة ألمانية هي (أولا هان). ويمكن قول الشيء نفسه عن جمهور الشعر في العالم العربي، ومحمود درويش، بالإضافة إلى أسماء شعرية قليلة، يعد استثناءً، وحتى درويش نفسه لا يُقرأ إلا من جمهور معين، فلا الباعة ولا الفلاحون ولا صناعيو المدينة يقرأونه، وعليه فليس غريبا أن يكتب الشاعر ويطور ذائقته الشعرية، ساعيا في الوقت نفسه إلى تطوير ذائقة هذا الجمهور- أي الذين يحبون الشعر ويقرأونه.
وعلى الرغم من كل ما سبق، وهو كلام قابل لأن يناقش، تبقى عبارة محمود درويش "فإنني لا أخسر القراء، وإذا خسرت-كثمن لتطوري- فأنا مستعد لذلك. أفضل أن أتطور" تبقى عبارة خطيرة، ذلك أن الشاعر يفضل الشعر على الجمهور، أعني جمهور الشعر. وهذا يعني انحياز الشاعر للجمال، لا للإنسان، والسؤال الذي يثار هو: ما قيمة الجمال بلا إنسان يستمتع به؟، وهو سؤال يوجه للشاعر نفسه. حقا ما قيمة الجمال بلا إنسان يستمتع به، وما قيمة أجمل القصائد دون قراء، بل هل هناك من ضرورة للشعر الصافي دون أن يكون له قراء؟ ونظرية التلقي، وهي من أحدث النظريات النقدية، ترى أن لا قيمة للأدب ولا وجود له إلا من خلال قارئ يعطي الأشياء مكانتها وحضورها وقيمتها، إذ دونه ستظل الكلمات حروفا باردة ولا حياة فيها ولا نبض لها. آمل أن يفكر الشاعر الكبير بهذا، وأن يفكر أيضا بموضوع الجمهور جيدا، فجمهوره الذي يزداد، وقراؤه الذين يزدادون يشكون أيضا، أحيانا، من صعوبة شعره. ومع أنني شخصيا قد أنحاز لدرويش في بعض ما يذهب إليه، وبخاصة فيما يتعلق بضرورة تطوير القصيدة، إذ لا ضرورة لمئات القصائد المتشابهة، إلا أنني أحيانا، أرى أن من يقرأون الشعر، وهم طلاب قسم اللغة العربية في الجامعات، هم من يشكون من صعوبة استيعاب قصائد الشاعر، وأنهم لا يتذوقونها إلا بعد شرحي لها، وهذا طبيعي ومنطقي، فإذا ما تخلى درويش عن هؤلاء القراء فمن سيبقى له؟ وهل ستصبح قصائده مثل الشعار على الجدار؟ وحينئذ ما قيمتها؟
لدرويش أن يقول رأيه، ولنا أن نناقشه أيضا!! حقا ماذا تساوي شهادتي وثقافتي وأنا وحيد في قاعة الدرس؟ وما قيمة كتابتي هذه إذا لم تجد من ينشرها أولا ومن يقرأها ثانيا.
كنفاني ودرويش والقارئ