إبراهيم محمود - عبدالفتاح كيليطو، وكلام عن ابن رشد الذي لم يكن مترجماً

ابن رشد، فيلسوف قرطبة الذي عاش في القرن الثاني عشر، الأشهر من أن يعرَّف به، لا يعني أنه من خلال هذا التوصيف عصي على المساءلة عما كانت عليه حياته، وهو يؤلّف، وهو يساجل، وهو يلخّص مؤلفات آخرين، وهو يشرحها، سوى أنه مات وفي روحه حسرة من الترجمة، لحظة تقدير الحالة. ابن رشد لم يكن مترجماً أبداً، ورغم ذلك، فإن الذي بقي من آثاره في الموضوعات التي كانت الترجمة سبباً لها، الكثير، وفي هذا الكثير قيل الكثير من الكلام، كيلَ المديحُ له، إنما بقي ذلك الكلام الذي لا بد منه، وهو : كيف يمكن الحديث عن ابن رشد في صلته بالمترجَم وما له صلَة بأرسطو، الإنسان الكامل، أو " الإلهي " في تقديره، كما هو معروف عند أهل الفلسفة ومؤرّخيها؟
إن الشغف المضاعِف بموضوع، يخرجه عن نطاقه الواقعي، ويلبّسه ما لا ينتسب إليه، دون اسمه الفعلي واقعاً .
لعل كيليطو الذي تناوله، في موضوعات، وإشارات، وفي ما يشبه الشذرات، من بين هؤلاء الشغوفين بابن رشد، إلى جانب زملاء مغاربة ممن راهنوا، وإلى يومنا هذا على فرادة ابن رشد فيما قام به " ليس المفكر الراحل محمد عابد الجابري، هو الوحيد هنا " " 1 "، على الأقل من خلال عناوين تبرزه في هذا المصاف الفكري، البحثي، الاجتهادي والنقدي العالي، كما في " ترحيل ابن رشد " و" من شرفة ابن رشد ".
كاتبنا المغربي القدير عبدالفتاح كيليطو، لا يخفي تألمه بخصوص ابن رشد الذي لم يفلح في تفهُّم مفهوم " الشعر " وخطابه لدى أرسطو:ه، لم يفلح في إقامة علاقة فكرية، أو فلسفية وأدبية، كما كان عليه حال أرسطو، لم ينجح أبداً في نقل مقولتيّ " الكوميديا والتراجيديا " وهما اللتان أثارتا الكثير من النقاشات عربياً، وإشكالية العلاقة معهما، حيث وضِع المديح مقابِل التراجيديا: الطراغوديا، والهجاء مقابل الكوميديا: القوموديا. لقد خاب أمله في ابن رشد الذي يقرَب لدى كيليطو، بمعنى ما، وجرّاء هذا الشغف، من " الإلهي "، لكنه بقي نموذجاً جلياً في المكانة.
إنما هنا مفارقة كبيرة، يجب أن تسجَّل في الحال، وهي أن ابن رشد كان ما في وسعه في نطاق أرسطويته: شرح مؤلفاته، تلخيصها، والكتابة في ضوئها، مأخوذاً بشغفه الذي أنساه ما يتطلبه وضْع كهذا من دقة وحذر في المنقول إليه، وهو يزيد إلى ما هو منقول عبر آخرين، وهو يضيف ما لا يتحمل النص المنقول، وهوى النفس في حيازة مقولات آخرين إلى خانته الفكرية.
أما كيليطو، فقد تناول ابن رشد، من خلال كتابه " فن الشعر " ولم يتعداه، أي اكتفى بتحديد موقفه الفكري، البحثي، والنقدي منه، من خلاله فقط، ولو أنه تعدّاه، وهو موجود، لخف من وطأة " توجعاته "، ولكان لكتابته مسار آخر.
كيف تعامل مع ابن رشد:ه، في هذا الجانب ؟
لقد قدَّم ما فيه الكفاية، ليجد له مبرراً هنا وهناك، في زلله التاريخي ذلك، في غفلته عما أوقع نفسه فيه، حيث الترجمة العربية التي مثَّلت جسراً بين ثقافته العربية- الإسلامية، والثقافة اليونانية: الفلسفية منها بجلاء.
كيف جاء تلخيص ابن رشد لـ" فن الشعر "؟
يقول كيليطو ( يبدو لنا أن ابن رشد في تلخيصه غامضاً مضطرباً، ولكنه كان من جهته يعتبر فن الشعر مبهماً ملتبساً )، وليكون التبرير( إن أعظم فلاسفة القرون الوسطى، رغم ما اشتهر به من سعة علم وتنوع اهتمام، لم يفهم هذا الكتاب. والسبب في ذلك أنه كان يشرح كلاماً في الأدب اليوناني دون أن يكون على اطلاع بذلك الأدب، فلم يكن هناك بد، والحالة هذه، من سوء الفهم . ص ) " 2 "
" يبدو لنا "، هذه العبارة لا تمرَّر بيسر، أولاً، لأنها تعبّر عما لا يمكن التأكد، ربما هناك وهن، أو وهم ما يتلبس القول، وثانياً، ما يبدو ليس كما هي حقيقة ما وراءه داخلاً، وفي " لنا " تعميم القول وحكمه، أي ليس الأمر هكذا لكيليطو وحده، إنما لجمع معتبَر. وإذ أنوّه إلى هذه الطريقة في القول أو الكتابة، فلأن كيليطو دقيق في استعمالاته اللغوية ومراميها، مثلاً، لم تُستخدَم عبارة " تظهر لنا "، لو وضِعت هذه العبارة، لما كان اللاحق كما هو مسطور في الفقرة .
والتذكير بالسبب المحال عليه، موصول بـ" يبدو "، وربما بالأسلوب هذا، تمنَح براءة، بأكثر من معنى فيما توجَّه إليه ابن رشد.
يقول كيليطو، فيما بعد ( لقد فهم " أي ابن رشد " على الأقل أن فن الشعر، كما وصل إليه، غير كامل .ص146 )، وهو ملحَق بما سبق قوله على صعيد تخفيف المسئولية في الكتابة الرشدية، في ضوء المنقول إليه .
وفي فقرة تالية كذلك، هناك ما يضيء ساحته أكثر( وإذا كان شرح ابن رشد لا يفيدنا شيئاً في قراءة فن الشعر، فإنه يفيدنا كثيراً في فهم فيلسوف قرطبة، وفي تحديد أفقه ورسم حدود تفكيره. لم يكن ابن رشد يعرف إلا الشعر العربي.ص146).
لا يخفي كيليطو ذلك الجانب الذي يدعم حجته في الرهان على الجاحظ ذي المكانة الأخرى لديه، والموقف من الشعر ( الشعر العربي غير قابل للترجمة ...ص148 )، وهو ما توقف عنده الجاحظ كثيراً. ليس هناك إضاءة كافية لهذا التصور، الذي ينمُّ من وجهة نظري، عن خاصية عقيدية استئثارية، وفي ضوء ما هو ديني: إسلامي، حيث عرِف به العرب كثيراً، وأضفيَ على العربية الكثير من المزايا التي لا تتوافر في أي لغة أخرى، وربما، لأن " الشعر ديوان العرب " كان هذا " الامتياز المعطى له، وما في ذلك من مفاخرة أساءت إلى ثقافة كاملة، وإلى الموقع القيمي لمن نظَّروا لها عقائدياً في التاريخ .
الفلسفة اليونانية سهلة النقل، وهذا هو المهم، كما يلاحَظ، لكن هناك أكثر من مطب في الترجمة، وما نوقش هنا بصدد المسرح اليوناني، وكل من الكوميديا والتراجيديا، وصِلتهما بالذهنية اليونانية، وصلة هذه بالطبيعة وماوراء الطبيعة، وتعدديات الآلهة... كل ذلك كان غريباً على الذهنية العربية- الإسلامية، لا بل ومرفوضاً، وبالتالي، فإنه من السهل وضع الفلسفة اليونانية وصعوبة التعامل معها، مقابل : الشعر العربي وزعم صعوبة أو استحالة نقله إلى لغة أخرى، وما يترتب على تشديد كهذا، من لزوم تعلَّم العربية، وقراءة الشعر العربي بالعربية. الشرط الذي لا مفر منه. تلك أنفة أخرى.
في العودة إلى الشعر اليوناني وصلة ابن رشد به يشير كيليطو إلى قلقه ( أمام هذا الشعر المجهول، في الوقت الذي كان يشرح فيه فن الشعر. كان يدرك مقاومة الكتاب له ويصطدم في كل لحظة بعقبة منيعة. ص 148 ) .
كيليطو لم يتجنب التفاصيل فحسب، ذلك ليس من أسلوبه، أو طريقته في طرح فكرة معينة، من خلال جملة " مصاعد " مرجعية، ومهابط فكرية يموقعها في المحصلة أرضياً، وإنما لم يكلّف نفسه ولو مجرد التنويه إلى المحرّك الفعلي لهذه العقبة الكأداء، لم يشر، ولو بإشارة عابرة، إلى البعد العقيدي، والمكوّن الثقافي المركَّب في الفلسفة اليوناني أيضاً، وفي المجال نفسه، محتوى المسرح اليوناني وصلته بمجتمعه وتجلياته الأولمبية، إن جاز التعبير.
هناك ميزة معطاة للشعر العربي، وفي ضوء الثقافة العربية – الإٍسلامية، وهي التي أبقت ابن رشد بعيداً كلياً عن مضمون ما كان يشغله في الجانب الآخر.
يقول كيليطو( وأنا أكتب هذه السطور أشعر بشيء من الخجل، ذلك أنني، وبالرغم مني، أتحدث عن ابن رشد بنوع من الترفع. أشعر بالخجل لأنني أعرف ما كان يجهله!..ص 149 ).
هل يمكنني القول عن أن كيليطو، وكما أسلفت، يبحث في ابن رشد وعنه، كما يريد أن يعرفه، ومن خلال ما حدد لنفسه من نطاق بحثي ومرجعي كذلك .
والسؤال الممكن طرحه: هل حقاً أن ابن رشد لم يهتم بالشعر اليوناني " الأدب اليوناني " وأنه كان غريباً عليه ؟
لعلنا نجد الجواب المفيد لدى الباحث المغربي، ومترجم أعمال لكيليطو : عبدالكبير الشرقاوي.
هناك في متابعة موشورية لهذه العلاقة العربية- الإسلامية، في المنحى الثقافي، بما هو يوناني، وبالملحمة اليونانية: كيف برز ابن رشد ابن رشد، حيث الفضل الأكبر في ظهوره في نطاق التعامل مع الآخر: اليوناني، إلى مترجمين " مشارقة ": كما فيحال المترجم المعروف عن اليونانية ومن خلال السريانية: متى بن يونس، ودور الفلاسفة " المشرقيين ": الفارابي وابن سينا خاصة" أستخدم صيغة " المشرقيين " نظراً لأكثر من موقف منهم : مغاربياً ، وفي الواجهة موقف الجابري ، كما هو معروف لكل متابع لهذه التشعبات الفكرية ماضياً وحاضراً ".
بعيداً عن الاسترسال: في " تلخيص الخطابة " نجد ما لا نجده في " تلخيص الشعر ". يقول الشرقاوي( وقد سبق أن رأينا " في الفصول السابقة من كتاب الشرقاوي " أن الترجمة العربية القديمة لكتاب أرسطو في الخطابة جاءت حافلة بشواهد الشعر اليوناني عامة والهوميري خاصة، فلم يغفل ابن رشد هذه الشواهد والإشارات، فجاء تلخيصه أحفل النصوص الرشدية بالشعر اليوناني والإحالات على هوميروس، وهو في ذلك قد نهج سبيلاً مخالفاً لمَا سيسلكه في تلخيص كتاب الشعر الذيسيخلو تماماً من أسماء الشعراء اليونانيين وشواهدهم الشعرية.) " 3 ".
لماذا لم يتوقف كيليطو عند هذا الكتاب؟ أكان ارتباطه بفكرته تلك، هو المانع الفاتن للاطلاع عليه ؟ لن ندخل في رهانات المعاني التأويلية وإسقاطاتها الجانبية، إلا أن ثمة ثغرة، وهي كبيرة جداً، في طريقة تناول ابن رشد في موقعه ذاك.
الشرقاوي، لا ينسى أن يضيف إلى أن ابن رشد، في عملية " التلخيص " كان يعمد إلى وضع شواهد شعرية من عنده، لا صلة لها بالأصل" في النص المترجَم/ المنقول "، وغير ذلك من الإحالات المرجعية، والتصرفات الجانبية في النص، من خلال الاعتماد على شروحات وتفاسير لغيره" الفارابي وابن سينا "، وأحسب أنه لو كان ابن رشد كاتب اليوم، لكان هدفاً لهجومات وحتى اتهامات شتى، جهة التلاعب بنصوص الآخرين، والتصرف بأفكارهم . " 4 "
واللافت، أن الشرقاوي الباحث، يتجنب الإشارة إلى كيليطو في بحثه القيم، ولو كان مانحاً إياه مساحة معينة، ولو عدة أسطر، لكان لبحثه بعد اعتباري: جمالي، وفكري آخر، وهذا ما يدفع بي هنا، إلى أنه تعامل مع كيليطو، وهو الباحث المقتدر، العالم بأكثر من لغة، كما تعامل كيليطو مع ابن رشد، والخسارة الكبرى والمكلفة، هنا هي متعة الترجمة والكلام فيها.


إشارات:
1-تعرضت للعديد من النقاط ذات الصلة بابن رشد في كتابي: النقد والرغبة " في القول الفلسفي المعاصر " دار الحوار، اللاذقية، ط1، 2007، مثلاً في القسم الثاني ، الفصل الأول، صص 365-436، وكذلك، في الفصل الخامس، صص 559-578، والكتاب في عمومه، يدور حول الكتابات الفلسفية في المغرب.
2-كيليطو، عبدالفتاح: لن تتكلم لغتي، الأعمال، الجزء الأول، جدل اللغات، دار توبقال، الدار البيضاء، ط1، 2015، ص 146. وبصدد هذا الموضوع، كل الإشارات العائدة سوف توضع في المتن تالياً .
3-الشرقاوي، عبدالكبير: شعرية الترجمة " الملحمة اليونانية في الأدب العربي "، دار توبقال، الدار البيضاء، ط1، 2007، ص 247 .
4- لنتوسع في هذه النقطة، يمكن قراءة القسم المتعلق بابن رشد، صص 244-275 .
مثلاً حين يكتب المؤلف هنا( إن مثال هوميروس الذي يورده ابن رشد لا يوجد لا في النص الأصلي ولا في الترجمة العربية، وهو من إضافات الشارح الأندلسي .ص 248 ) ودون أي تعليق جانبي.
وما يخص إحالات ابن رشد ( فإذا عدنا إلى نص أرسطو، نفاجأ بأن لا وجود لهذه ألإحالات عند المترجم والشارح كليهما في نص الخطابة.... والخلاصة المحيَّرة هي إننا نصادف من جديد التجاوز في نص واحد عند شارح واحد بين جهل واضح بالمتن الهوميري، وإحالات واضحة تدل على معرفة بمحتواه، أو على الأقل ببعض محتواه..ص250)، وما يخص الاستبدال( وهذا الاستبدال يتناول كذلك الشواهد الهوميرية، فيظهر في تلخيص الخطابة ميل ابن رشد إلى البحث عن شواهد من الشعر العربي تسد مسدَّ الشواهد اليونانية وذلك حين يرى أن هذه الأخيرة غامضة أو صعبة الإدراك أو خاصة بقواعد اللغة اليونانية وثقافتها. ص 252)...الخ.
ذلك يتطلب دراسة مركَّبة، من جهة تركّز على البعد الثقافي النفسي لدى ابن رشد، ومن جهة أخرى، على صفة تعامل كاتبه أو " ناقده " معه في نطاق هذا النوع من الكتابة التي تتجنب أي " تجريح مشروع " نقدياً للمقروء رشدياً.
أعلى