د. جورج سلوم - الطب العاجز

وقد يظنُّ البعض من أنصار التقدم الطبي الحضاري ومهلّلي الحداثة الكاذبة أنّ الطبَّ يقدر ويقدر ، ويحيي العظام وهي رميم ، ولا ينفكّون يعدّدون إنجازاتٍ هنا وإعجازاتٍ ومعجزاتٍ هناك !

ولكن يبقى العجز الحقيقيّ ماثلاً مهما التفّوا حوله وأخفوه ، فيزّينون انتصارهم الوقتيّ في معركةٍ ما ، ويتعامَون عن الخسائر الفادحة في الحرب الكبرى ..حرب خلاص البشريّة من المرض القتّال ، وظلت إنجازات الطب محصورة في إطالة رمق الحياة قليلاً أو تحسين نوعيتها .

أين أبطالك الآن أيها الطب ؟.. ولماذا خبا نورهم ؟

وأبقراط صاحب القسم الشهير ، وجالينوس أبو التشريح ، وغيره ممّن تكنّى بأبي الجراحة وأبي العقاقير وأبي البلاسم وأبي اللبخات والدهون .. دعنا من الآباء ولننصرف إلى الأبناء فابن سينا وابن حيان وابن رشد وابن وابن .. ثم ذوو ياءات المتكلم كالكندي والإدريسي والرازي والغزالي وغيرهم .. ثم أتحفونا بأصحاب الثورات والفتوحات الطبية كباستور وكوخ وبافلوف وهارفي وشوارتز وغيرهم من حملة الرايات البيض وذوي الأيدي البيضاء الذين لا ننكر فضلهم عبر الأجيال ..ولكن !

ألا من فاتحٍ جديد اليوم ؟.. أو مجترحٍ لمعجزة تنقذ العالم من غزوة فيروس الكورونا !

وهل استسلم الطب رافعاً الراية البيضاء كمزقةٍ مهلهلةٍ من ثوبه ؟

وماذا فعل الطب والأطباء إبّان الجائحات في التاريخ ؟

لقد اكتفوا بفرض الكمامات أثناء غزوة الانفلونزا الإسبانية منذ قرن من الزمان ، وكذا فعلوا أمام غيرها من جائحات الانفلونزا .. وطبّقوا قانون التباعد الإجتماعي كعبارةٍ لطيفة عوضاً عن الأمر بالحجر والعزل وحظر التجوّل .

وكان موظفو الإحصاء مشغولين بتعداد إصاباتٍ هنا وهناك وتعداد الوفيات فقط ..وعجز حفّارو القبور عن القبور الفردية فاخترعوا المقابر الجماعية .. والمبتلون بالطاعون حرقوهم أمواتاً مع جرذانهم ، ولما كثروا عزلوهم وحرقوهم أحياء في قرى سُمّيت موبوءة .. حتى الصلاة عليهم كانت ممنوعة لأنّ أجسادهم مضمّخة بالخطايا .

والمناطق التي أصيبت بالكوليرا تركوا أهلها للموت بالتّجفاف في محميّاتٍ مغلقة ومسوّرة لتطهّر الأرض نفسها بنفسها .. والآن يطرحون علينا مناعة القطيع !

واللقاحات والمصول فعلت وما فعلت – ولا يمكننا إنكارها – ولكن الثمن كان غالياً ، وعجز تطور اللقاح عن مواكبة تطوّر الفيروسات والجراثيم .

وكان الحلّ لمعالجة جنون البقر قتل البقر ، وانفلونزا الطيور حرقهم في حفرٍ كبيرة أحياءً حيث اختلط بكاء الدجاج بالإوز والبط وما سكتت شهرزاد بالرّغم من صياح ملايين الديكة في قلب الأتون .. وما حزن أنسيٌّ على حيوان مريض عندما يتمّ استئصاله ، وما زال علاج الكلب المصاب بالسّعار قتله ، وإن كان القتل قد تطوّر من الذبح المباشر إلى الرمي بالسهام لتحقيق مبدأ التباعد إلى الرمي بالرصاص حالياً .

وقد نذكر طرد الأرواح الشريرة من الأجساد بالتعذيب والكي وكل وسائل ضرب الأجساد المبرّح ، حتى ليقع المريض مثخناً بالجراح ، وهكذا عالجوا البرص والجذام كأمراض جماعية ، ولن نتطرّق للأمراض الفردية لمن ألصقوا بهم تهمة مجانين وممسوسين ومسكونين بالشياطين .

وكأنّ الحلّ ـ المعجزة ـ لمعالجة المرض هو استئصاله ..كالسرطان الذي عجز الطب عنه وما زال يكتفي باستئصاله ، وما زال الطبيب الذي أقسم اليمين ممسكاً بالسكين ، ويلوّح بها ، ويحدّد بعدها للمريض موعد الوفاة المحتوم ، ولو بعد حين ، بالرغم من الجرعات الكيماوية والإشعاعية .

وجاءنا الإيدز مؤخّراً ، وعجزوا عنه واكتفوا بوضع الكمامات على الأعضاء التناسلية بما تُسمّى الواقيات الذكرية والأنثوية .

إنه العزل أيضاً والحجر والفصل بين المصاب واللامصاب .

لقد تعلّم السياسيون والقادة مبدأ العزل من الأطباء أو العكس لست أدري .. فأنشؤوا السجون لمن يُسمَّون بالخطرين في الجزر النائية إذ اعتبروا العنف مرضاً ينبغي استئصاله . وابتدعوا غوانتامو وسجن غزّة الكبير كمدينة مفصولة ومحجورة ولا يجوز اختراق حجرها .. ثم الجدار الفاصل بين الفلسطينيين المتمرّدين واليهود المسالمين !.. وحديثاً سيبنون الجدار بين المكسيكان الخطرين والأمريكان الوديعين .

ومنظمة الصحة العالمية أوصت بإغلاق الحدود أيضاً ، وإيقاف المطارات والموانئ ..وقادة البلدان فصلوا بين مدينة وأخرى .. لترك كلّ بلد يجترّ قتلاه ويولّد مناعة القطيع كإنجازٍ طبيّ فوق العادة .

إنه العزل والفصل الذي أمروا بأن يمتدّ وينسحب إلى الدوائر الصغيرة والبيوت حتى ..ويقولون عن فلان بأنه حجر وعزل نفسه راضياً مرضيّاً عليه ، ويكفي خيره شرّه .

وكأنهم عادوا بنا إلى العصور الوسطى ، والجاهلية عندما كانوا يتركون المصاب بالقروح والبثور من الجدري في خيمته ويرحلون عنه ليلقى حتفه ضعيفاً مدنفاً أمام الذئب المفترس . وعصور ما قبل التاريخ ، وعصر حمورابي الذي طبّق العزل والحرق والبتر ، وكان يأمر أن يُعزَل المرضى في ساحةٍ بمنتصف المدينة ، ويمرّ بهم المشاة والسّعاة ، فإن عرف أحدهم علاجاً لمريض طبّقوه عليه ، ومن بقي بدون علاج سيُترَك للإتلاف كإنسان بالٍ يموت ببليّته .

أسمَعْ .. أرى.. لا أتكلّم !

هو مبدأ سياسيٌّ للإنسان الأليف ومنصوحٌ به ..وفعلاً المطلوب أن تكمّ فاك ، وحتى قراءة الشفاه للصم والبكم لم يعد مسموحاً بها .. اكتفوا بحركات اليد والأصابع ، وقريباً سوف نقيّد أيديكم خلف ظهوركم لأنها معدية أيضاً وحاملة للجراثيم مهما غسلتموها بالمطهّرات .

هل العودة للنقاب مطلوبة ؟..وفعلا لن تمرّ الفيروسات من النقاب متعدّد الطبقات على شفافيتها وشفوفها ..ويديّ المرأة عورة ، ويجب تغطيتها وخاصة إن كانت مزيّنة برسوم الحنّاء وزخارفها ، وبالتالي لا تماس ولا إلتماس ولا تحساس ولا وسواس بين الناس .. يا جسّاس!

هيا إلى الكمامة ! .. فهي العلاج الوحيد والترياق والبلسم للكوفيد التاسع عشر .. وهو وليّ العهد للسارس والإيبولا من سلالة الإنفلونزا السائدة على الخلق في هذه الفترة ، وعلينا مبايعته طائعين .

تكمّموا واستعيذوا بالله في قلوبكم ، فقد سُدّت عليكم جميع المنافذ وأغلقت الحدود وأقفلت أبواب التّرحال ، ومخترق الحدود يسمى متسللاً ويتوجّب القبض عليه وحجره لأنه حامل بالحرام وخياشيمه حُبلى بالفيروس .. وويلك إن سعلت أو عطست على الملأ .. ولم يبق لديكم للتواصل إلا الانترنت ، وفيه ما فيه من الفيروسات والفراريس والكوابيس رغم استحداث المتاريس .

وما زال الكوفيد التاسع عشر في الميدان ، يخترق الأبدان ، ويصول ويجول في البلدان ، مجندلاً الآلاف والألوف ، وساقياً لهم كأس الحتوف ..إنها معركة ينتصر فيها الجبان المعزول بصومعته وخلف كمامته ، وينجو فيها من واظب على غسل يديه بما تيسّر من صابون .. اسمعوه ينادي متحدّياً :

-ألا من مبارز ..ألا من مناجز !.. أين أنتم أيها الأطباء الشجعان !؟

لقد كمّموا أعضاءكم التناسلية بسبب الإيدز .. وأفواهكم وأنوفكم بسبب الكورونا ..وقد يكمّون ويكمّمون عيونكم وآذانكم قريباً بأمر الطب الإعجازيّ والمُعجزاتيّ والعجزيّ والعجوز والعجائزيّ والعاجز .

د. جورج سلوم

تعليقات

لا توجد تعليقات.

هذا النص

أعلى