تصنّف رواية الطاعون لألبير كامي (1913-1960) Albert Camus ضمن سرديّات الأوبئة، وروايات ما بعد الحرب العالميّة الثانية؛ لأنّ العالم كما ورد في المحكي عرف ((من الطواعين ما عرف من الحروب))1؛ إذ مدار الأحداث فيها على تسريد الوباء الذي ألمَّ بمدينة وهران (…) 194. لقد شرع السارد في وصف المدينة وصفًا مجرّدًا من الإعجاب ليهيئ المرسل إليه لما سيحل بها من وباء. إنّ ((هناك مدنًا وبلدانًا تنجدك وتعاضدك في المرض، فتستطيع بعض الشيء أن تستسلم للقدر، إنّ المريض بحاجة إلى رقة، وهو يحبّ أن يعتمد على شيء، وهذا طبيعي جدًا. أمّا في وهران؛ فإنّ قسوة المناخ، وأهميّة الأشغال، وتفاهة المناظر، وسرعة الشفق، ومزيّة اللذائذ، كل ذلك يتطلّب الصحة الجيّدة. فالمريض يشعر فيها بالوحدة شعورًا عميقًا، فما بالك بشخص يشرف على الموت…إنّ من اليسير إذ ذاك فهم ما قد يكون مزعجًا في الموت حين يوافي صاحبه هكذا في مكان جاف، حتى ولو كان موتًا عصريًّا))2. تبدأ وقائع المحكي بتاريخ 16 أبريل بعثور الطبيب برنار ريو (Bernard Rieux) على جرذ ميت في وسط سطحيّة درج العمارة التي يقطنها، فأغلقت أبواب المدينة بعد التأكد من أنّ المرض صار وباء، فخضعت للحجر الصحيّ، فكان العزل الاجتماعيّ إحدى ثيمات الرواية الأبرز مثل تباعد الأجسام بين ريو وزوجته التي سافرت قبل انتشار الوباء للعلاج، وماتت قبل فتح المدينة، ورامبير (Rambert) الذي لم يستطع الالتحاق بصاحبته في باريس، وغران (Grand) الذي فارقته حبيبته منذ أمد بعيد. و((لقد كانوا يعتقدون أنّهم أحرار، ولن يكون أحد حرًّا ما دامت ثمّة بلايا))3. والبلايا هادمة لِلَّذات، وفاضحة للوعي المأزوم الذي كانت تعيشه الذات المتكلّمة.
خاض فريقٌ من المجتمع الروائيّ الذكوريّ الأوروبيّ من دون النساء والسكان الأصليّين معركة لا هوادة فيها لمحاصرة الوباء، وتولّى قيادتها الطبيب ريو وهو السارد الذي كتب القصة، فقام بتسريد الوباء بالوصف وبتحوير ما ورد في شهادة تارو (Tarrou) ودفاتره، ونقل عظات الأب بانولو (Paneloux) الذي كان في أوّل خطبته يصدع بأنّ الطاعون عقاب إلهيّ، وسرعان ما تزعزع يقينه في العظة الثانية بعد موت الطفل فيليب والصحفيّ رامبير وغران الموظف في البلدية وقاضي التحقيق أوتون والمهرّب كوتار (Cottard). لقد اختار السارد لقصته عنوانًا مجرّدًا من الزخرفة البلاغيّة لتكون تسريدًا للوباء.
اقتنعت هذه الشخصيّات المعقّدة بأنّ الإرادة الجماعيّة هي العامل الوحيد الذي يمكنه أن يهزم الشر الذي يأخذ طابعًا كونيًّا؛ وعليه احتكمت سيرورة المحكي إلى السرد والوصف والحوار في حبك الوقائع؛ ولكن السند الإيديولوجيّ للتسريد لا يكاد يخلو من تناقضات؛ إذ أثار هذا المحكي، وما زال يثير سجالًا حول أسانيده الجماليّة والميتافيزيقيّة والإيديولوجيّة، وذهبت فيه القراءات مذاهب شتى في ابتغاء التأويل مثل قراءة ولان بارت (Roland Barthes) للطاعون على أنّه رمز لمقاومة النازيّة4، وإقرار كامي بهذا التأويل في دفاتره.
يعد النسق الإيديولوجيّ من الوسائط (Médiations) التي تسمح بفهم طبيعة الاشتباك بين التخييليّ والمرجعيّ، والانفتاح على سيرورة الأنساق السيميائيّة المفتوحة. إنّ الحواريّة في المحكي التي تجسّدها خطابات الشخصيّات بلغاتها المتباينة والثريّة تمثّل الخصوصيّة الجماليّة وخصوبتها في المحكي، وترجّح القيم الرمزيّة لدلالات الطاعون المفتوحة كما ورد في حديث تارو5؛ ولم يجانب أُبريان (O’Brien) الصواب حينما لاحظ ((أنّ الاختيار ليس بريئًا، وأنّ الكثير مما في الحكايات…هو إمّا تسويغ مستتر أو لا واع للحكم الفرنسيّ، وإمّا محاولة عقائديّة لتجميله))6؛ بيد أنّ قراءته ركّزت على النزعة الفرديّة الكامويّة بخلاف قراءة إدوارد سعيد التي حرصت على التمثيل الثقافيّ الجمعيّ للإمبرياليّة. ولهذا لم تكن هذه السرديّات محايدة في عوالمها التخيليّة، وليست بريئة في مقاصدها الإيديولوجيّة إنْ على صعيد الوعي الفرديّ، وإنْ على صعيد الوعي الجمعيّ أو حتّى البعد الاستعماريّ اللا مفكر فيه.
لم يكن استعمال التخييل في المحكي خالصًا لوجه الخيال؛ وإنّما كان يضمر موقفًا استعماريًّا غير أخلاقيّ. إنّ سرديّاته غير المحايدة تعتمد منطق الاشتباه ليكون سندًا غير مباشر للمشروع الإيديولوجيّ الذي هو عبارة عن عقد ائتمانيّ مضمر بين السارد والذات المتكلّمة التي تملك فعليًّا السّنن الإيديولوجيّ، ويمكن العودة إلى دفاتر المؤلف للوقوف على تعليقاته بخصوص إيحاءات الطاعون ورمزيّتها.
يرجّح إدوارد سعيد مستندًا إلى أطاريح أُبريان أنّ ((سرديّات كامو عن المقاومة والمجابهة الوجوديّة، التي بدت ذات يوم متعلّقة بصدّ الفناء والنازيّة ومعارضتهما، فإنّها يمكن أن تقرأ الآن كجزء من المناظرة حول الثقافة والإمبرياليّة))7. وكان أُبريان8 محقًا في نقده للهيمنة الاستعماريّة التي لم ينتبه إليها النقد الأنجلوسكسونيّ في إبّانه.
يحصل في عمليّة التسريد ذلك التداخل بدرجات متفاوتة بين الخيال والواقع، أو بين العالم والرواية لخلق عالم اجتماعيّ9 فيه اشتباك جماليّ يسود ملفوظاته الإيديولوجيّة الغموض المقصود، ليلتبس مع الواقع والتاريخ؛ وبخاصة أنّ هذا الاشتباك لا تُدرك إستراتجيّته السرديّة خارج الخطاب وإيحاءاته. إنّ ((كتابة كامو مفعمة بحساسيّة استعماريّة متأخرة تأخرًا فائقًا، بل إنها بطريقة ما <حساسيّة> مشلولة، تقوم بأداء حركة إمبرياليّة ضمن (وعن طريق) شكلٍ، هو الرواية الواقعيّة))10. فالتسريد الإيديولوجيّ لا يستوي عوده، ولا تتحقق مشروعيّته بمجرد التعبير عن حساسيّة إمبرياليّة، بل عن نزعة واعية مأزومة في الخطاب؛ يخلقها النسق الإيديولوجيّ عبر الممكنات الدلاليّة التي تتيحها تمثيلات الخطاب وملفوظاته الإنجازيّة التي تعبّر عن رؤية العالم للذات المتكلّمة.
لم يخف كامي مواقفه السياسيّة التي لا تؤمن بوجود أمّة جزائريّة، فعارض قيام كيان الجزائر المستقلّة11، وهو لا يكاد يختلف عن ((مؤرخي الاستعمار الفرنسيّ، وحتى الليبراليّين منهم، نظرًا لاستخفافهم بالشخصيّة الجزائريّة لا يقرّون بهذا الأمر للجزائر))12، فكان يدافع عن تلك العدالة التي لا تتحقق فيها العدالة بعبارة دو بوفوار، وهذا مصدر الوعي المأزوم والانحراف الأخلاقيّ.
قرئ المحكي على أنّه مقاومة لشر النازية والنزعة الجبريّة (fatalisme)، وأنّ وهران هي فرنسا، وأنّ مجتمعها المتعدد يرمز إلى الأوروبيّين الذين كان يتهددهم خطر النازيّة. أمّا السكان الأصليّون فلا ذكر لهم. ثمّة إمكانات القول في سرديّاته إلى ما يبتغيه القارئ من تأويل؛ وذلك بطريقة تخييليّة أخرى كما أشار إلى ذلك ماشري13. وهذا يسمح لنا أيضًا أن نمارس حقّنا في التأويل في استنطاق المسكوت عنه واللا مفكر فيه لاستكشاف تجليّات الوعي المأزوم، والأزمة الأخلاقيّة التي أصابت الذات المتكلّمة، وجعلت وهران تدير ظهرها إلى البحر؛ لأنّ ما وراءه لم يكن سوى الغازي المستعمر.
وباء الاستعمار المفكّر فيه
دفع السارد بالأحداث ليكون هذا المحكي قصة رمزيّة أو أسطورة أو أداة إيديولوجيّة أو سردًا توثيقيًّا، وعنوانًا لاستعارات الموت والشرّ والتحدي والتمرّد الميتافيزيقيّ والانتصار لسيميولوجيا السلام بالمفهوم الطبيّ (semiology) الذي وقع على عاتقه محاربة الوباء؛ ولكن بدت الأبعاد السياسيّة للرواية ضعيفة على الصعيد الرمزيّ بشهادة رولان بارت. وبالإشارة إلى ما ورد في معجم السيميائيّات فإنّ نسق القيم مدخل لطيف لتفكيك الإيديولوجيا في سرديّات كامي التي لا ترى إلّا التاريخ الاستعماريّ محركًا للأحداث والوقائع، وهذا التاريخ وحده من يمنح الأسماء للفاعلين في مجتمع الرواية، ويسكت عن أخرى.
غاب في هذا المحكي الحديث عن العرب والبربر والزنوج، ولم تكن إلّا إشارات عابرات تجسدت في المهمة التي جاء رامبير من أجلها لكتابة تقرير عن أحوال العرب أو الأهالي في معرض الإجابة عن سؤال ريو، وهي إشارة ضد من يدافع على أنّ مجتمع وهران كان خاليًّا من سكّانه الأصليّين، حتى ولو كان الأمر كذلك؛ فإنّنا أمام عمل تخييليّ، وليس بمرجعيّ حتى يتقيّد الكاتب بالحقيقة التاريخيّة؛ ولا سيّما أنّ كامي عاين حياة الفقر مع عائلته في حي بَلْكُورْ الشعبيّ بالعاصمة، وكان يحس به في مراهقته مع أقرانه في الثانويّة. “فالعار، والعار أن تشعر بالعار”. وإن كانت هذه شجاعة لدى كاتب عالميّ؛ فمن العار أيضًا ألّا يشعر أنّ أمّه كانت تستعمر شعوبًا وقبائل، وتُذبِّح أهلها، وتستحيي نساءها وفي ذلك بلاء أخطر من وباء الطاعون.
أزمة سرديّات كامي الأخلاقيّة
سنخون مقولة كريماص (A. J. Greimas) “لا سلام خارج النص” بوعي وعن سبق إصرار، ولعلّنا نجد السلام خارجه، لكي يسمح لنا بالقول إنّ هناك وباء مضمرًا ومسكوتًا عنه غير وباء الطاعون الذي يقدّمه لنا المحكي. لقد كان ((كامو على قدر بالغ من الأهمية في <سياق> الاضطراب الاستعماريّ البشع الناتج من مخاض تفكيك الاستعمار الذي مرت به فرنسا في القرن العشرين. إنّه شخصيّة إمبرياليّة متأخرة جدًا لم يبق بعد انقضاء أوجّ الإمبراطورية فحسب، بل لا يزال باقيًا اليوم بوصفه كاتبًا “كونيّ النزوع” تضرب جذوره في عمليّة استعماريّة صارت الآن نسيًا منسيًّا))14. وهذا التفكيك “الاستعماريّ” لرؤية كامي الإيديولوجيّة هو سيمياء وعيه المأزوم الذي حملت لواءه سرديّاته في شرعنة هيمنة الاستعمار. فهويّته التي تنتمي إلى “الأقدام السوداء” دفعته إلى معادة وطنيّة جبهة التحرير والدعوة إلى جزائر فيديراليّة كما لاحظ أُبريان15، وتجرّده من إنسانيّته الكونيّة.
إنّ سند محكي الطاعون ماثل في نسقه الإيديولوجيّ، ولا يخفيه نهج أسلوب الكتابة البيضاء16 الذي وسم سرديّات ما بعد الحرب (كامي وبلانشو وكايرول وكينو)؛ بل إنّها تمثّل الحلقة الأخيرة من هشاشة وعي الكتابة البرجوازيّة وسلبيّتها؛ وإن كانت محايدة على صعيد جماليّات الأسلوب، فهي ليست كذلك على صعيد مضمرات النسق الإيديولوجيّ، بل إنّه ((أثر إيديولوجيّ لظلاميّة الإيديولوجيّ))17. ولا غرو أن تدعونا سيميائيّات جوليا كرستيفا (J. Kristeva) التحليليّة إلى نقد الإيديولوجيا وتفكيكها؛ وعليه فنحن كنا مضطرين غير باغين لفك الأقواس عن المؤلف، على الرغم من أنّ الفهم ينطلق من ((مشكلة انسجام النص الداخليّ، النص كلّه، وليس غيره))18 لتفكيك السند الإيديولوجيّ للمحكي، وحجتنا في ذلك ما توحي به رخاوة دلالاته المفتوحة في مدوّنة ما بعد الكولونياليّة.
وبناء على ما سلف يمكن القول إنّ هناك وباء الهيمنة الاستعماريّة الذي أغفله المحكي عن قصد إذا احتكمنا إلى الإحالة المرجعيّة للكاتب كامي “الوجه الإمبرياليّ المتأخر” وموقفه غير المشرّف من الثورة الجزائريّة ومن الاستقلال ودون أن ننسى مقولته الكولونياليّة الشهيرة التي تشبه الخطيئة الأصليّة، والدمامل التي لا ينفع معها مشرط ريو، ولا تمحوها صكوك الغفران التي يُحاول بعض المثقفين من العرب والعجم عبثًا أن يلتمسوها له: ((أؤمن بالعدالة؛ ولكن أدافع عن أمّي قبل العدالة))19 في ردّه على سؤال الشاب الجزائريّ سعيد كسال في 12 ديسمبر 1957، وهو يلقي كلمة أمام الطلبة السويديّين حول المسألة الجزائريّة على هامش تسلّمه لجائزة نوبل، التي دوّنها الصحفيّ دومينيك بيرمان (Dominique Birmann) في جريدة لوموند الفرنسيّة 14 ديسمبر 1957.
وبغض النظر عن التلاعب بالصيغة التي أجاب بها: (بين العدالة وأمّي، أختار أمّي)20 أو حتى السياق الذي قيلت فيه عندما كان يدين كما قال كل أشكال الرعب والعنف والقتل، ومنها وضع القنابل في الشوارع، فجاءت الصيغة على هذا النحو: (إذا كانت هذه هي العدالة، فأفضل أمّي)21. لقد اعترف صاحب “المنفى والملكوت” أنّ المنبع الذي كان ينهل منه تجربته في الحياة، ومنه يرسم رؤيته للوجود هو “عالم الفقر والنور الذي عاش فيه طويلًا”؛ إذ لم نر له تمثيلًا في محكي الطاعون. علمّا ((أنّ امتلاك الوعي لا يأتي عادة إلّا بعد الفعل))22. وهذا ما جعل وعيه وعيًا مأزومًا يغلب عليه الزيف والتضليل، بل العار الأخلاقيّ.
لا تثريب عليه أن يختار أمّه، ويدافع عنها قبل العدالة، وهو صادق فيما قال، وإن كان رمز الأم لغزًا أشد غموضًا في أدبه حيّر الباحثين والقرّاء على السواء، وخير من عبّرت عنه شخصيّة ميرسو في رواية (الغريب) ((اليوم ماتت أمّي، أو ربما أمس، لست أدري. تلقيت برقية من المأوى “الأمّ توفيّت والدفن غدًا”. وهذا لا يعني شيئًا..))23، فكل منّا يختار أمّه ولو كانت ظالمة، ولكن عليه أن ينصرها بأن يأخذ بيدها، ويصرفها عن الظلم؛ ومن ثمّ لنا الحق كل الحق أن نقول عنه مع القائلين إنّه كاتب ذو نزعة استعماريّة من دون تشنّج أو اعتساف، بل لا نراه رجلًا أخلاقيًّا في موقف غير أخلاقيّ على نحو ما ذهب إليه إدوارد سعيد بمجرّد أنّه كتب تقريره الشهير ما قبل الحرب عن بؤس حياة القبائل (Kabylie) في ظل الاستعمار الفرنسيّ24؛ لأنّه بالفعل انحاز كما قالت سيمون دو بوفوار إلى إيديولوجيا الأقدام السوداء، وطالب بالعدالة التي لا تعترف بعدالة المظلوم. وقد قدّم ميخائل فيلزير25 (M. Walzer) نقدًا اجتماعيًّا لكامي ليس بحدّة نقد أُبريان وسعيد في سياق علاقات الجزئيّ والكونيّ وتقاطعهما مع الأخلاق والسياسة من الوجهة العمليّة لا النظريّة.
لا فرق عندنا بين وباء الطاعون الذي كان يفتك بسكان وهران، ويفرّق بين المرء وزوجه، ويُفسد عليهم حريّتهم في عالم التخييل، ووباء الاستعمار الذي نكّل بسكان الجزائر، وشرد أهلها من مدنهم وقراهم في عالم الشهادة. وهذا كتابٌ موجّهٌ للذين لا يُبصِرون، وفي غيّهم الأخلاقيّ يعمهون، فضلّوا، وأضلّوا وهم يرافعون عن الاستعمار من دون تفويض، فلا قدرة لبلاغتهم على محو العار عنه. فهل يستوي الضحيّة والجلّاد؟ إنّها لقسمة ضيزى. وهذا لا يعني أنّنا كنّا نريده أن يكون مثل الشاعر جون سيناك (J. Sénac) أو فرانس فانون (F. Fanon) أو حتى بول سارتر (P. Sartre) وسيمون دو بوفوار (S. de Bouvoir) ليكون أديبًا ما بعد الكولونياليّة، وأنّ هذه القراءة ليس من مقاصدها الطعن على كامي في ذاته، أو التقليل من قيمته الأدبيّة العالميّة، وما ينبغي لها.
كان عليه فقط ألا يشوّه الحقائق حتى يستحق صفة الرجل الأخلاقيّ التي أُغدِقت عليه دون أن يستحقّها عن جدارة، بل لم يكن إدوارد سعيد في نظرنا موفقًا في تحليله عندما ردّ هذا الموقف إلى تركيز كامي على الإعلاء من شأن الذات إنْ في الغريب وإنْ في الطاعون26، ونحن لا نساير المقاربة المنهجيّة التي سلكها، والتي تبحث عن مسلك لطيف للتخفيف من قسوة النقد الذي وجّهه أُبريان لمحكيات كامي، فلا نحتاج إلى المقارنة بين سرديّات ما بعد الحرب في الرواية الفرنسيّة أو الأوروبيّة من جهة والأدب الجزائريّ ما بعد الاستقلال من جهة أخرى حتى نُدرك المبتغى من وجهة الدراسات الثقافيّة المقارنة؛ لأنّ ردود كامي المتشنّجة كانت تختزل بحقد ماكر كفاح الشعب الجزائريّ ونضاله في حمل “الحقائب الإرهابيّة” في ردّه على الفيلسوف فرنسين جونسون (F. Jeanson) المناضل الذي أدان خيانته لشرف تاريخ فرنسا الحرّ والديمقراطيّ.
لا يعنينا في شيء، بل لا يعني كامي نفسه في شيء ما إذا كان يُحسب على الأدب الجزائريّ أو على ما يُسمّى بالمدرسة الجزائريّة (بلد الشمس) في الأدب الفرنسيّ، وقد عرّف نفسه بنفسه أثناء تسلّمه جائزة نوبل 1956 في الأكاديميّة السويديّة، فيكفيه ويكفينا أنّه أديب عالميّ وصف نفسه بأنّه فنان يفكّر بالكلمات. وهي عبارة بول فاليري (P. Valéry) نفسها، فلا يكاد يتناطح على فنه عنزان، وهو لا يحتاج إلى من يعنت نفسه لتبرئته من وصمة الكولونياليّة، ولم يطلب من أحد أن يلتمس له الأعذار. إنّه كاتب عالميّ يتحمّل مسؤوليّة مواقفه الفكريّة والإيديولوجيّة؛ لأنّه خان إنسانيّته “الكونيّة”. فإذا لم تكن الكتابة منحازة إلى الشرف والعدالة والحريّة والكرامة الإنسانيّة فما عساها أن تكون سوى تسريد للوعي المأزوم بجماليّات توثيقيّة عديمة القيمة؟؟ّ!! وهذا الوعي ما هو إلّا امتداد للدعاية التي كان يقوم بها روائيّون ممجدون للهويّة القوميّة الفرنسيّة27 وإيديولوجيّتها الاستعماريّة.
الهوامش
1 – الطاعون، ص. 41.
2 – الطاعون، ص. 7.
3 – الطاعون، ص. 42.
4 – منذ اندلاع الحرب العالميّة الثانية انخرط كامي في المقاومة عبر سلسلة من المقالات باسم “رسائل إلى صديقيّ الألمانيّ، وترأس جريدة سريّة اسمها المعركة.
5 – الطاعون، ص. 248.
6 – إدوار سعيد، الثقافة والإمبرياليّة، تر. كمال أبو ديب، بيروت، دار الأديب، ط. 4، 2014، ص. 235.
7 – المرجع السابق، ص. 233.
8 – نفسه، ص. 333.
9 –
Voir Claude Duchet, sociocritiques, Paris, éd. Nathan, 1974, p. 05.
10 – إدوار سعيد، الثقافة والإمبرياليّة، تر. كمال أبو ديب، مرجع سابق، ص. 236.
11 –
Connie R. Anderson, Camus and the Colonial Tradition: Revisiting “L’Hôte, Dalhousie French Studies, Vol. 67 (Summer 2004), p. 90.
12 – مصطفى الأشرف، الجزائر: الأمة والمجتمع، تر. حنفي بن عيسى، الجزائر، دار القصبة، 2007، ص. 7.
13 –
P. Macherey, Pour une théorie de la production littéraire, Paris éd. F. Maspero, 1966, p.101.
14 – إدوار سعيد، الثقافة والإمبرياليّة، تر. كمال أبو ديب، مرجع سابق، ص. 233.
15 –
Conor Cruise O’Brien, Albert Camus, Paris, éd. Seghers, « Les Maîtres modernes », 1970, p.114.
16 –
Barthes, Roland, Le degré zéro de l’écriture [1953], Paris, éd. Seuil, 1976, p. 11.
17 –
Voir Charles Grivel, Production de l’intérêt romanesque, La Haye et Paris, éd. Mouton, 1973, p. 284.
18 –
Lucien Goldman, Marxisme et sciences humaines, p.62.
19 –
« Je crois à la Justice, mais je défendrai ma mère avant la Justice ».
Camus cité par Birmann dans « Polémique de Stockholm », Albert Camus Œuvres Complètes, IV, 2008, p.289.
20 – « Entre la justice et ma mère, je choisis ma mère. »
21 – « Si c’est cela, la justice, je préfère ma mère ».
22 – لوسيان غولدمان، العلوم الإنسانيّة والفلسفة، تر. يوسف الأنطاكي، مر. محمد برادة، القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة، 1996، ص. 122.
23 – Albert Camus, L’étranger,1942, p. 1.
24 – إدوار سعيد، الثقافة والإمبرياليّة، تر. كمال أبو ديب، بيروت، دار الأديب، ط. 4، 2014، ص. 234.
25 –
Voir Michael Walzer, La Critique sociale au XXe siècle, trad. fr., Paris, éd. Métailié, 1995.
26 – ينظر إدوار سعيد، الثقافة والإمبرياليّة، تر. كمال أبو ديب، مرجع سابق، ص. 234.
27 – نفسه، ص. 231.
خاض فريقٌ من المجتمع الروائيّ الذكوريّ الأوروبيّ من دون النساء والسكان الأصليّين معركة لا هوادة فيها لمحاصرة الوباء، وتولّى قيادتها الطبيب ريو وهو السارد الذي كتب القصة، فقام بتسريد الوباء بالوصف وبتحوير ما ورد في شهادة تارو (Tarrou) ودفاتره، ونقل عظات الأب بانولو (Paneloux) الذي كان في أوّل خطبته يصدع بأنّ الطاعون عقاب إلهيّ، وسرعان ما تزعزع يقينه في العظة الثانية بعد موت الطفل فيليب والصحفيّ رامبير وغران الموظف في البلدية وقاضي التحقيق أوتون والمهرّب كوتار (Cottard). لقد اختار السارد لقصته عنوانًا مجرّدًا من الزخرفة البلاغيّة لتكون تسريدًا للوباء.
اقتنعت هذه الشخصيّات المعقّدة بأنّ الإرادة الجماعيّة هي العامل الوحيد الذي يمكنه أن يهزم الشر الذي يأخذ طابعًا كونيًّا؛ وعليه احتكمت سيرورة المحكي إلى السرد والوصف والحوار في حبك الوقائع؛ ولكن السند الإيديولوجيّ للتسريد لا يكاد يخلو من تناقضات؛ إذ أثار هذا المحكي، وما زال يثير سجالًا حول أسانيده الجماليّة والميتافيزيقيّة والإيديولوجيّة، وذهبت فيه القراءات مذاهب شتى في ابتغاء التأويل مثل قراءة ولان بارت (Roland Barthes) للطاعون على أنّه رمز لمقاومة النازيّة4، وإقرار كامي بهذا التأويل في دفاتره.
يعد النسق الإيديولوجيّ من الوسائط (Médiations) التي تسمح بفهم طبيعة الاشتباك بين التخييليّ والمرجعيّ، والانفتاح على سيرورة الأنساق السيميائيّة المفتوحة. إنّ الحواريّة في المحكي التي تجسّدها خطابات الشخصيّات بلغاتها المتباينة والثريّة تمثّل الخصوصيّة الجماليّة وخصوبتها في المحكي، وترجّح القيم الرمزيّة لدلالات الطاعون المفتوحة كما ورد في حديث تارو5؛ ولم يجانب أُبريان (O’Brien) الصواب حينما لاحظ ((أنّ الاختيار ليس بريئًا، وأنّ الكثير مما في الحكايات…هو إمّا تسويغ مستتر أو لا واع للحكم الفرنسيّ، وإمّا محاولة عقائديّة لتجميله))6؛ بيد أنّ قراءته ركّزت على النزعة الفرديّة الكامويّة بخلاف قراءة إدوارد سعيد التي حرصت على التمثيل الثقافيّ الجمعيّ للإمبرياليّة. ولهذا لم تكن هذه السرديّات محايدة في عوالمها التخيليّة، وليست بريئة في مقاصدها الإيديولوجيّة إنْ على صعيد الوعي الفرديّ، وإنْ على صعيد الوعي الجمعيّ أو حتّى البعد الاستعماريّ اللا مفكر فيه.
لم يكن استعمال التخييل في المحكي خالصًا لوجه الخيال؛ وإنّما كان يضمر موقفًا استعماريًّا غير أخلاقيّ. إنّ سرديّاته غير المحايدة تعتمد منطق الاشتباه ليكون سندًا غير مباشر للمشروع الإيديولوجيّ الذي هو عبارة عن عقد ائتمانيّ مضمر بين السارد والذات المتكلّمة التي تملك فعليًّا السّنن الإيديولوجيّ، ويمكن العودة إلى دفاتر المؤلف للوقوف على تعليقاته بخصوص إيحاءات الطاعون ورمزيّتها.
يرجّح إدوارد سعيد مستندًا إلى أطاريح أُبريان أنّ ((سرديّات كامو عن المقاومة والمجابهة الوجوديّة، التي بدت ذات يوم متعلّقة بصدّ الفناء والنازيّة ومعارضتهما، فإنّها يمكن أن تقرأ الآن كجزء من المناظرة حول الثقافة والإمبرياليّة))7. وكان أُبريان8 محقًا في نقده للهيمنة الاستعماريّة التي لم ينتبه إليها النقد الأنجلوسكسونيّ في إبّانه.
يحصل في عمليّة التسريد ذلك التداخل بدرجات متفاوتة بين الخيال والواقع، أو بين العالم والرواية لخلق عالم اجتماعيّ9 فيه اشتباك جماليّ يسود ملفوظاته الإيديولوجيّة الغموض المقصود، ليلتبس مع الواقع والتاريخ؛ وبخاصة أنّ هذا الاشتباك لا تُدرك إستراتجيّته السرديّة خارج الخطاب وإيحاءاته. إنّ ((كتابة كامو مفعمة بحساسيّة استعماريّة متأخرة تأخرًا فائقًا، بل إنها بطريقة ما <حساسيّة> مشلولة، تقوم بأداء حركة إمبرياليّة ضمن (وعن طريق) شكلٍ، هو الرواية الواقعيّة))10. فالتسريد الإيديولوجيّ لا يستوي عوده، ولا تتحقق مشروعيّته بمجرد التعبير عن حساسيّة إمبرياليّة، بل عن نزعة واعية مأزومة في الخطاب؛ يخلقها النسق الإيديولوجيّ عبر الممكنات الدلاليّة التي تتيحها تمثيلات الخطاب وملفوظاته الإنجازيّة التي تعبّر عن رؤية العالم للذات المتكلّمة.
لم يخف كامي مواقفه السياسيّة التي لا تؤمن بوجود أمّة جزائريّة، فعارض قيام كيان الجزائر المستقلّة11، وهو لا يكاد يختلف عن ((مؤرخي الاستعمار الفرنسيّ، وحتى الليبراليّين منهم، نظرًا لاستخفافهم بالشخصيّة الجزائريّة لا يقرّون بهذا الأمر للجزائر))12، فكان يدافع عن تلك العدالة التي لا تتحقق فيها العدالة بعبارة دو بوفوار، وهذا مصدر الوعي المأزوم والانحراف الأخلاقيّ.
قرئ المحكي على أنّه مقاومة لشر النازية والنزعة الجبريّة (fatalisme)، وأنّ وهران هي فرنسا، وأنّ مجتمعها المتعدد يرمز إلى الأوروبيّين الذين كان يتهددهم خطر النازيّة. أمّا السكان الأصليّون فلا ذكر لهم. ثمّة إمكانات القول في سرديّاته إلى ما يبتغيه القارئ من تأويل؛ وذلك بطريقة تخييليّة أخرى كما أشار إلى ذلك ماشري13. وهذا يسمح لنا أيضًا أن نمارس حقّنا في التأويل في استنطاق المسكوت عنه واللا مفكر فيه لاستكشاف تجليّات الوعي المأزوم، والأزمة الأخلاقيّة التي أصابت الذات المتكلّمة، وجعلت وهران تدير ظهرها إلى البحر؛ لأنّ ما وراءه لم يكن سوى الغازي المستعمر.
وباء الاستعمار المفكّر فيه
دفع السارد بالأحداث ليكون هذا المحكي قصة رمزيّة أو أسطورة أو أداة إيديولوجيّة أو سردًا توثيقيًّا، وعنوانًا لاستعارات الموت والشرّ والتحدي والتمرّد الميتافيزيقيّ والانتصار لسيميولوجيا السلام بالمفهوم الطبيّ (semiology) الذي وقع على عاتقه محاربة الوباء؛ ولكن بدت الأبعاد السياسيّة للرواية ضعيفة على الصعيد الرمزيّ بشهادة رولان بارت. وبالإشارة إلى ما ورد في معجم السيميائيّات فإنّ نسق القيم مدخل لطيف لتفكيك الإيديولوجيا في سرديّات كامي التي لا ترى إلّا التاريخ الاستعماريّ محركًا للأحداث والوقائع، وهذا التاريخ وحده من يمنح الأسماء للفاعلين في مجتمع الرواية، ويسكت عن أخرى.
غاب في هذا المحكي الحديث عن العرب والبربر والزنوج، ولم تكن إلّا إشارات عابرات تجسدت في المهمة التي جاء رامبير من أجلها لكتابة تقرير عن أحوال العرب أو الأهالي في معرض الإجابة عن سؤال ريو، وهي إشارة ضد من يدافع على أنّ مجتمع وهران كان خاليًّا من سكّانه الأصليّين، حتى ولو كان الأمر كذلك؛ فإنّنا أمام عمل تخييليّ، وليس بمرجعيّ حتى يتقيّد الكاتب بالحقيقة التاريخيّة؛ ولا سيّما أنّ كامي عاين حياة الفقر مع عائلته في حي بَلْكُورْ الشعبيّ بالعاصمة، وكان يحس به في مراهقته مع أقرانه في الثانويّة. “فالعار، والعار أن تشعر بالعار”. وإن كانت هذه شجاعة لدى كاتب عالميّ؛ فمن العار أيضًا ألّا يشعر أنّ أمّه كانت تستعمر شعوبًا وقبائل، وتُذبِّح أهلها، وتستحيي نساءها وفي ذلك بلاء أخطر من وباء الطاعون.
أزمة سرديّات كامي الأخلاقيّة
سنخون مقولة كريماص (A. J. Greimas) “لا سلام خارج النص” بوعي وعن سبق إصرار، ولعلّنا نجد السلام خارجه، لكي يسمح لنا بالقول إنّ هناك وباء مضمرًا ومسكوتًا عنه غير وباء الطاعون الذي يقدّمه لنا المحكي. لقد كان ((كامو على قدر بالغ من الأهمية في <سياق> الاضطراب الاستعماريّ البشع الناتج من مخاض تفكيك الاستعمار الذي مرت به فرنسا في القرن العشرين. إنّه شخصيّة إمبرياليّة متأخرة جدًا لم يبق بعد انقضاء أوجّ الإمبراطورية فحسب، بل لا يزال باقيًا اليوم بوصفه كاتبًا “كونيّ النزوع” تضرب جذوره في عمليّة استعماريّة صارت الآن نسيًا منسيًّا))14. وهذا التفكيك “الاستعماريّ” لرؤية كامي الإيديولوجيّة هو سيمياء وعيه المأزوم الذي حملت لواءه سرديّاته في شرعنة هيمنة الاستعمار. فهويّته التي تنتمي إلى “الأقدام السوداء” دفعته إلى معادة وطنيّة جبهة التحرير والدعوة إلى جزائر فيديراليّة كما لاحظ أُبريان15، وتجرّده من إنسانيّته الكونيّة.
إنّ سند محكي الطاعون ماثل في نسقه الإيديولوجيّ، ولا يخفيه نهج أسلوب الكتابة البيضاء16 الذي وسم سرديّات ما بعد الحرب (كامي وبلانشو وكايرول وكينو)؛ بل إنّها تمثّل الحلقة الأخيرة من هشاشة وعي الكتابة البرجوازيّة وسلبيّتها؛ وإن كانت محايدة على صعيد جماليّات الأسلوب، فهي ليست كذلك على صعيد مضمرات النسق الإيديولوجيّ، بل إنّه ((أثر إيديولوجيّ لظلاميّة الإيديولوجيّ))17. ولا غرو أن تدعونا سيميائيّات جوليا كرستيفا (J. Kristeva) التحليليّة إلى نقد الإيديولوجيا وتفكيكها؛ وعليه فنحن كنا مضطرين غير باغين لفك الأقواس عن المؤلف، على الرغم من أنّ الفهم ينطلق من ((مشكلة انسجام النص الداخليّ، النص كلّه، وليس غيره))18 لتفكيك السند الإيديولوجيّ للمحكي، وحجتنا في ذلك ما توحي به رخاوة دلالاته المفتوحة في مدوّنة ما بعد الكولونياليّة.
وبناء على ما سلف يمكن القول إنّ هناك وباء الهيمنة الاستعماريّة الذي أغفله المحكي عن قصد إذا احتكمنا إلى الإحالة المرجعيّة للكاتب كامي “الوجه الإمبرياليّ المتأخر” وموقفه غير المشرّف من الثورة الجزائريّة ومن الاستقلال ودون أن ننسى مقولته الكولونياليّة الشهيرة التي تشبه الخطيئة الأصليّة، والدمامل التي لا ينفع معها مشرط ريو، ولا تمحوها صكوك الغفران التي يُحاول بعض المثقفين من العرب والعجم عبثًا أن يلتمسوها له: ((أؤمن بالعدالة؛ ولكن أدافع عن أمّي قبل العدالة))19 في ردّه على سؤال الشاب الجزائريّ سعيد كسال في 12 ديسمبر 1957، وهو يلقي كلمة أمام الطلبة السويديّين حول المسألة الجزائريّة على هامش تسلّمه لجائزة نوبل، التي دوّنها الصحفيّ دومينيك بيرمان (Dominique Birmann) في جريدة لوموند الفرنسيّة 14 ديسمبر 1957.
وبغض النظر عن التلاعب بالصيغة التي أجاب بها: (بين العدالة وأمّي، أختار أمّي)20 أو حتى السياق الذي قيلت فيه عندما كان يدين كما قال كل أشكال الرعب والعنف والقتل، ومنها وضع القنابل في الشوارع، فجاءت الصيغة على هذا النحو: (إذا كانت هذه هي العدالة، فأفضل أمّي)21. لقد اعترف صاحب “المنفى والملكوت” أنّ المنبع الذي كان ينهل منه تجربته في الحياة، ومنه يرسم رؤيته للوجود هو “عالم الفقر والنور الذي عاش فيه طويلًا”؛ إذ لم نر له تمثيلًا في محكي الطاعون. علمّا ((أنّ امتلاك الوعي لا يأتي عادة إلّا بعد الفعل))22. وهذا ما جعل وعيه وعيًا مأزومًا يغلب عليه الزيف والتضليل، بل العار الأخلاقيّ.
لا تثريب عليه أن يختار أمّه، ويدافع عنها قبل العدالة، وهو صادق فيما قال، وإن كان رمز الأم لغزًا أشد غموضًا في أدبه حيّر الباحثين والقرّاء على السواء، وخير من عبّرت عنه شخصيّة ميرسو في رواية (الغريب) ((اليوم ماتت أمّي، أو ربما أمس، لست أدري. تلقيت برقية من المأوى “الأمّ توفيّت والدفن غدًا”. وهذا لا يعني شيئًا..))23، فكل منّا يختار أمّه ولو كانت ظالمة، ولكن عليه أن ينصرها بأن يأخذ بيدها، ويصرفها عن الظلم؛ ومن ثمّ لنا الحق كل الحق أن نقول عنه مع القائلين إنّه كاتب ذو نزعة استعماريّة من دون تشنّج أو اعتساف، بل لا نراه رجلًا أخلاقيًّا في موقف غير أخلاقيّ على نحو ما ذهب إليه إدوارد سعيد بمجرّد أنّه كتب تقريره الشهير ما قبل الحرب عن بؤس حياة القبائل (Kabylie) في ظل الاستعمار الفرنسيّ24؛ لأنّه بالفعل انحاز كما قالت سيمون دو بوفوار إلى إيديولوجيا الأقدام السوداء، وطالب بالعدالة التي لا تعترف بعدالة المظلوم. وقد قدّم ميخائل فيلزير25 (M. Walzer) نقدًا اجتماعيًّا لكامي ليس بحدّة نقد أُبريان وسعيد في سياق علاقات الجزئيّ والكونيّ وتقاطعهما مع الأخلاق والسياسة من الوجهة العمليّة لا النظريّة.
لا فرق عندنا بين وباء الطاعون الذي كان يفتك بسكان وهران، ويفرّق بين المرء وزوجه، ويُفسد عليهم حريّتهم في عالم التخييل، ووباء الاستعمار الذي نكّل بسكان الجزائر، وشرد أهلها من مدنهم وقراهم في عالم الشهادة. وهذا كتابٌ موجّهٌ للذين لا يُبصِرون، وفي غيّهم الأخلاقيّ يعمهون، فضلّوا، وأضلّوا وهم يرافعون عن الاستعمار من دون تفويض، فلا قدرة لبلاغتهم على محو العار عنه. فهل يستوي الضحيّة والجلّاد؟ إنّها لقسمة ضيزى. وهذا لا يعني أنّنا كنّا نريده أن يكون مثل الشاعر جون سيناك (J. Sénac) أو فرانس فانون (F. Fanon) أو حتى بول سارتر (P. Sartre) وسيمون دو بوفوار (S. de Bouvoir) ليكون أديبًا ما بعد الكولونياليّة، وأنّ هذه القراءة ليس من مقاصدها الطعن على كامي في ذاته، أو التقليل من قيمته الأدبيّة العالميّة، وما ينبغي لها.
كان عليه فقط ألا يشوّه الحقائق حتى يستحق صفة الرجل الأخلاقيّ التي أُغدِقت عليه دون أن يستحقّها عن جدارة، بل لم يكن إدوارد سعيد في نظرنا موفقًا في تحليله عندما ردّ هذا الموقف إلى تركيز كامي على الإعلاء من شأن الذات إنْ في الغريب وإنْ في الطاعون26، ونحن لا نساير المقاربة المنهجيّة التي سلكها، والتي تبحث عن مسلك لطيف للتخفيف من قسوة النقد الذي وجّهه أُبريان لمحكيات كامي، فلا نحتاج إلى المقارنة بين سرديّات ما بعد الحرب في الرواية الفرنسيّة أو الأوروبيّة من جهة والأدب الجزائريّ ما بعد الاستقلال من جهة أخرى حتى نُدرك المبتغى من وجهة الدراسات الثقافيّة المقارنة؛ لأنّ ردود كامي المتشنّجة كانت تختزل بحقد ماكر كفاح الشعب الجزائريّ ونضاله في حمل “الحقائب الإرهابيّة” في ردّه على الفيلسوف فرنسين جونسون (F. Jeanson) المناضل الذي أدان خيانته لشرف تاريخ فرنسا الحرّ والديمقراطيّ.
لا يعنينا في شيء، بل لا يعني كامي نفسه في شيء ما إذا كان يُحسب على الأدب الجزائريّ أو على ما يُسمّى بالمدرسة الجزائريّة (بلد الشمس) في الأدب الفرنسيّ، وقد عرّف نفسه بنفسه أثناء تسلّمه جائزة نوبل 1956 في الأكاديميّة السويديّة، فيكفيه ويكفينا أنّه أديب عالميّ وصف نفسه بأنّه فنان يفكّر بالكلمات. وهي عبارة بول فاليري (P. Valéry) نفسها، فلا يكاد يتناطح على فنه عنزان، وهو لا يحتاج إلى من يعنت نفسه لتبرئته من وصمة الكولونياليّة، ولم يطلب من أحد أن يلتمس له الأعذار. إنّه كاتب عالميّ يتحمّل مسؤوليّة مواقفه الفكريّة والإيديولوجيّة؛ لأنّه خان إنسانيّته “الكونيّة”. فإذا لم تكن الكتابة منحازة إلى الشرف والعدالة والحريّة والكرامة الإنسانيّة فما عساها أن تكون سوى تسريد للوعي المأزوم بجماليّات توثيقيّة عديمة القيمة؟؟ّ!! وهذا الوعي ما هو إلّا امتداد للدعاية التي كان يقوم بها روائيّون ممجدون للهويّة القوميّة الفرنسيّة27 وإيديولوجيّتها الاستعماريّة.
الهوامش
1 – الطاعون، ص. 41.
2 – الطاعون، ص. 7.
3 – الطاعون، ص. 42.
4 – منذ اندلاع الحرب العالميّة الثانية انخرط كامي في المقاومة عبر سلسلة من المقالات باسم “رسائل إلى صديقيّ الألمانيّ، وترأس جريدة سريّة اسمها المعركة.
5 – الطاعون، ص. 248.
6 – إدوار سعيد، الثقافة والإمبرياليّة، تر. كمال أبو ديب، بيروت، دار الأديب، ط. 4، 2014، ص. 235.
7 – المرجع السابق، ص. 233.
8 – نفسه، ص. 333.
9 –
Voir Claude Duchet, sociocritiques, Paris, éd. Nathan, 1974, p. 05.
10 – إدوار سعيد، الثقافة والإمبرياليّة، تر. كمال أبو ديب، مرجع سابق، ص. 236.
11 –
Connie R. Anderson, Camus and the Colonial Tradition: Revisiting “L’Hôte, Dalhousie French Studies, Vol. 67 (Summer 2004), p. 90.
12 – مصطفى الأشرف، الجزائر: الأمة والمجتمع، تر. حنفي بن عيسى، الجزائر، دار القصبة، 2007، ص. 7.
13 –
P. Macherey, Pour une théorie de la production littéraire, Paris éd. F. Maspero, 1966, p.101.
14 – إدوار سعيد، الثقافة والإمبرياليّة، تر. كمال أبو ديب، مرجع سابق، ص. 233.
15 –
Conor Cruise O’Brien, Albert Camus, Paris, éd. Seghers, « Les Maîtres modernes », 1970, p.114.
16 –
Barthes, Roland, Le degré zéro de l’écriture [1953], Paris, éd. Seuil, 1976, p. 11.
17 –
Voir Charles Grivel, Production de l’intérêt romanesque, La Haye et Paris, éd. Mouton, 1973, p. 284.
18 –
Lucien Goldman, Marxisme et sciences humaines, p.62.
19 –
« Je crois à la Justice, mais je défendrai ma mère avant la Justice ».
Camus cité par Birmann dans « Polémique de Stockholm », Albert Camus Œuvres Complètes, IV, 2008, p.289.
20 – « Entre la justice et ma mère, je choisis ma mère. »
21 – « Si c’est cela, la justice, je préfère ma mère ».
22 – لوسيان غولدمان، العلوم الإنسانيّة والفلسفة، تر. يوسف الأنطاكي، مر. محمد برادة، القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة، 1996، ص. 122.
23 – Albert Camus, L’étranger,1942, p. 1.
24 – إدوار سعيد، الثقافة والإمبرياليّة، تر. كمال أبو ديب، بيروت، دار الأديب، ط. 4، 2014، ص. 234.
25 –
Voir Michael Walzer, La Critique sociale au XXe siècle, trad. fr., Paris, éd. Métailié, 1995.
26 – ينظر إدوار سعيد، الثقافة والإمبرياليّة، تر. كمال أبو ديب، مرجع سابق، ص. 234.
27 – نفسه، ص. 231.