يقول صالح جودت في مقالة له بمجلة الزهور (ملحق مجلة الهلال) العدد السادس يونيو/حزيران 1974: من الحكايات المأثورة عن الكاتب الإيرلندي العظيم جورج برنارد شو، إنه كان في أول شبابه ينتج ويرسل نتاجه إلى الصحف، فيرد إليه مع الاعتذار بضيق المجال، أي الرفض.
وكان شو لا يمزق ما يرفض من نتاجه، بل يحتفظ ويواصل تحريك قلمه في نتاج جديد، ويتكرر الرفض مرة وأخرى وثالثة، حتى جاء اليوم الذي انقلبت فيه الأوضاع، وأصبحت الصحف ترحب بنتاجه، وتألق اسم "برنارد شو"، وارتقى إلى المستوى العالمي، وأصبح اسمه ملء أسماع الوجود، وعندئذ أخرج من أضابير الماضي كل نتاجه - عندما كان شابا مغمورا - ونشره على الناس، واحتفى القراء وربح منه أكثر مما ربح من نتاجه الذي كتبه وهو مشهور، وهو يقول:
- إن الشهرة كالغانية، إذا جريت وراءها هربت منك، وإذا أدرت لها ظهرك، جرت وراءك.
وذكرني ذلك بما حدث بين الدكتور الطبيب محمد بشير صفار وأستاذه الدكتور يوسف عز الدين عيسى، فقد تقرب صفار من عز الدين عيسى، طالباً مشورته، بحكم أنه أهم كاتب إذاعي على مستوى البلاد العربية كلها، فأعطاه الرجل خبراته الفنية.
وقدم "صفار" تمثيلياته إلى إذاعة الإسكندرية، فرفضوها، فشكا ليوسف عز الدين عيسى، فقال له في هدوء شديد:
- لا تهتم، أرسل غيرها.
ثم أكمل مشددا:
- إياك أن تمزق التمثيليات المرفوضة، أحتفظ بها.
وأرسل صفار غيرها، فرُفضت أيضا، حتى كاد يمل الكتابة للإذاعة، لكنهم فجأة وافقوا على تمثيلية له، ثم أخرى وأخرى، وفي كل مرة يتحدث مع أستاذه – يوسف عز الدين عيسى في ذلك. وبعد أن اشتهر اسم "صفار"؛ قال يوسف عز الدين عيسى:
- أبدأ من الآن في إرسال التمثيليات التي سبق أن رفضوها.
وأرسل صفار التمثيليات التي سبق أن رفضتها الإذاعة، فرحبوا بها، وأثنوا عليها، وأذاعوها، حتى صار من أهم مؤلفي التمثيليات في إذاعة الإسكندرية.
وقد حكي خيري شلبي في مقالة له: إنه عرض قصة قصيرة له على يحيي حقي، ففكر حقي بعض الوقت ثم قال له:
- ماذا لو فعلت كذا، وغيرت كذا.
واقتنع خيري شلبي برأيه، وفي اللقاء التالي عرض عليه القصة بعد تعديلها، فقرأها حقي وأعجب بها، ثم سأله:
- أين القصة الأخرى؟
قال: مزقتها ورميتها.
فصاح حقي غاضبا:
- لا تمزق قصصاً كتبتها، فقد تكون القصة الأولى أفضل من الثانية.
وقد ذهبتُ مع السيد الهبيان إلى مجلة "الثقافة"، ولم أكن أعرف مكانها، ولا مكان أي مجلة للنشر، فقال الهبيان لي:
- استبشر خيرا من هذه الزيارة، فقد أخذت سعيد سالم معي في زيارة مماثلة، وها هو أصبح مشهورا.
ودخلنا على السكرتيرة، فطلبتْ منا أن ننتظر بعض الوقت، لكن الهبيان لم يعجبه هذا، وأمسك أكرة الباب ودخل إلى الدكتور عبدالعزيز الدسوقي - رئيس التحرير- وتبعته مضطرا. والسكرتيرة وزميلتها غاضبتان في الخارج.
يومها قال الهبيان للدسوقي:
- أنا الذي عرَّفت سعيد سالم بالمجلة، وأخذته معي ليعرف الطريق.
ودار حديث طويل، لم يرتح فيه الدسوقي للهبيان، فقال:
- لو نشرت قصة لكاتب مثل سعيد سالم، فهو المسئول عن مستواها.
وأخرج الهبيان قصة وأعطاها له، فقال الدسوقي إمعانا في مضايقته:
- سأعرض هذه القصة على سعيد سالم، لو أعجبته؛ سأنشرها لك .
وبمناسبة الدكتور عبدالعزيز الدسوقي، فقد قال أحد العاملين معه في مجلة الثقافة عنه:
- لا يستطيع أحد أن يذم غيره أمامه، فهو لا يتورع أن يُبلغ هذا للمتهم بالذم.
وكان مديرنا في العمل هكذا، لو جاءه نمام وقال له "فلان يقول عليك كذا"، تجده يثور، ويستدعي المتهم، ويصيح فيه غاضبا: أنت بتقول عليه كذا وكذا؟! فيسأله، "من أخبرك بذلك" فيقول "فلان" فيفتضح أمر النمام، ولا يقدر على فعل هذا ثانية.
ونشر الدسوقي قصة في المجلة لصديقنا محمود عوض عبدالعال. وجاء الكاتب السكندري اللواء سالم حقي من الإسكندرية لزيارة الدسوقي، وقال معترضاً على قصة محمود عوض:
- ما هذا الذي تنشرونه في المجلة، أنا لم أفهم شيئاً من قصة محمود عوض عبدالعال.
وأجاب الدسوقي بمفهومه للشهرة:
- محمود عوض أصبح في وضع يسمح له بأن يكون مسئولاً عن مستوى قصصه التي أنشرها له.
ومن سوء حظ اللواء سالم حقي، أن جاء محمود عوض في نفس الجلسة، فرحب الدسوقي به قائلا:
- اللواء سالم حقي لسه كان بيلومنا لأننا نشرنا قصتك الأخيرة.
فأحس سالم حقي بالخجل، ولم يجب بشيء.
وجاء الناقد الكبير رجاء النقاش إلى قصر ثقافة الحرية بالإسكندرية. فوقف الشاعر مهدي بندق ولامه لأنه لم ينشر أشعاره ومقالاته التي يرسلها إليه بصفته رئيسا لتحرير مجلة الهلال.
فقال النقاش: إنه لا يستطيع أن يقرأ كل الأعمال المرسلة إليه، وليس لديه العدد الكافي من المساعدين لمتابعة كل الرسائل الواردة إليه.
وذلك يذكرني بزيارتي لمكتب الشاعر الكبير فاروق جويدة منذ سنوات طويلة عندما كان ينشر قصصا وشعرا كل يوم أربعاء في باب "صالون الأربعاء" فوجدتُ مائدة كبيرة جدا، كلها ظروف مغلقة لم تفتح بعد.
وقد تقابل جويدة مع الصديق محمد عبدالله عيسى في الإسماعيلية، ودار حديث بينهما عن كتاب القصة بالإسكندرية، وأثني عيسى عليّ، فلفت نظره نحوي، مما جعله يفتح رسائلي التي سبق أن أرسلتها إليه ، وينشر لي كثيرا في هذا الباب.
وهذه مشكلة النشر في مصر والبلاد العربية كلها، فالش
وكان شو لا يمزق ما يرفض من نتاجه، بل يحتفظ ويواصل تحريك قلمه في نتاج جديد، ويتكرر الرفض مرة وأخرى وثالثة، حتى جاء اليوم الذي انقلبت فيه الأوضاع، وأصبحت الصحف ترحب بنتاجه، وتألق اسم "برنارد شو"، وارتقى إلى المستوى العالمي، وأصبح اسمه ملء أسماع الوجود، وعندئذ أخرج من أضابير الماضي كل نتاجه - عندما كان شابا مغمورا - ونشره على الناس، واحتفى القراء وربح منه أكثر مما ربح من نتاجه الذي كتبه وهو مشهور، وهو يقول:
- إن الشهرة كالغانية، إذا جريت وراءها هربت منك، وإذا أدرت لها ظهرك، جرت وراءك.
وذكرني ذلك بما حدث بين الدكتور الطبيب محمد بشير صفار وأستاذه الدكتور يوسف عز الدين عيسى، فقد تقرب صفار من عز الدين عيسى، طالباً مشورته، بحكم أنه أهم كاتب إذاعي على مستوى البلاد العربية كلها، فأعطاه الرجل خبراته الفنية.
وقدم "صفار" تمثيلياته إلى إذاعة الإسكندرية، فرفضوها، فشكا ليوسف عز الدين عيسى، فقال له في هدوء شديد:
- لا تهتم، أرسل غيرها.
ثم أكمل مشددا:
- إياك أن تمزق التمثيليات المرفوضة، أحتفظ بها.
وأرسل صفار غيرها، فرُفضت أيضا، حتى كاد يمل الكتابة للإذاعة، لكنهم فجأة وافقوا على تمثيلية له، ثم أخرى وأخرى، وفي كل مرة يتحدث مع أستاذه – يوسف عز الدين عيسى في ذلك. وبعد أن اشتهر اسم "صفار"؛ قال يوسف عز الدين عيسى:
- أبدأ من الآن في إرسال التمثيليات التي سبق أن رفضوها.
وأرسل صفار التمثيليات التي سبق أن رفضتها الإذاعة، فرحبوا بها، وأثنوا عليها، وأذاعوها، حتى صار من أهم مؤلفي التمثيليات في إذاعة الإسكندرية.
وقد حكي خيري شلبي في مقالة له: إنه عرض قصة قصيرة له على يحيي حقي، ففكر حقي بعض الوقت ثم قال له:
- ماذا لو فعلت كذا، وغيرت كذا.
واقتنع خيري شلبي برأيه، وفي اللقاء التالي عرض عليه القصة بعد تعديلها، فقرأها حقي وأعجب بها، ثم سأله:
- أين القصة الأخرى؟
قال: مزقتها ورميتها.
فصاح حقي غاضبا:
- لا تمزق قصصاً كتبتها، فقد تكون القصة الأولى أفضل من الثانية.
وقد ذهبتُ مع السيد الهبيان إلى مجلة "الثقافة"، ولم أكن أعرف مكانها، ولا مكان أي مجلة للنشر، فقال الهبيان لي:
- استبشر خيرا من هذه الزيارة، فقد أخذت سعيد سالم معي في زيارة مماثلة، وها هو أصبح مشهورا.
ودخلنا على السكرتيرة، فطلبتْ منا أن ننتظر بعض الوقت، لكن الهبيان لم يعجبه هذا، وأمسك أكرة الباب ودخل إلى الدكتور عبدالعزيز الدسوقي - رئيس التحرير- وتبعته مضطرا. والسكرتيرة وزميلتها غاضبتان في الخارج.
يومها قال الهبيان للدسوقي:
- أنا الذي عرَّفت سعيد سالم بالمجلة، وأخذته معي ليعرف الطريق.
ودار حديث طويل، لم يرتح فيه الدسوقي للهبيان، فقال:
- لو نشرت قصة لكاتب مثل سعيد سالم، فهو المسئول عن مستواها.
وأخرج الهبيان قصة وأعطاها له، فقال الدسوقي إمعانا في مضايقته:
- سأعرض هذه القصة على سعيد سالم، لو أعجبته؛ سأنشرها لك .
وبمناسبة الدكتور عبدالعزيز الدسوقي، فقد قال أحد العاملين معه في مجلة الثقافة عنه:
- لا يستطيع أحد أن يذم غيره أمامه، فهو لا يتورع أن يُبلغ هذا للمتهم بالذم.
وكان مديرنا في العمل هكذا، لو جاءه نمام وقال له "فلان يقول عليك كذا"، تجده يثور، ويستدعي المتهم، ويصيح فيه غاضبا: أنت بتقول عليه كذا وكذا؟! فيسأله، "من أخبرك بذلك" فيقول "فلان" فيفتضح أمر النمام، ولا يقدر على فعل هذا ثانية.
ونشر الدسوقي قصة في المجلة لصديقنا محمود عوض عبدالعال. وجاء الكاتب السكندري اللواء سالم حقي من الإسكندرية لزيارة الدسوقي، وقال معترضاً على قصة محمود عوض:
- ما هذا الذي تنشرونه في المجلة، أنا لم أفهم شيئاً من قصة محمود عوض عبدالعال.
وأجاب الدسوقي بمفهومه للشهرة:
- محمود عوض أصبح في وضع يسمح له بأن يكون مسئولاً عن مستوى قصصه التي أنشرها له.
ومن سوء حظ اللواء سالم حقي، أن جاء محمود عوض في نفس الجلسة، فرحب الدسوقي به قائلا:
- اللواء سالم حقي لسه كان بيلومنا لأننا نشرنا قصتك الأخيرة.
فأحس سالم حقي بالخجل، ولم يجب بشيء.
وجاء الناقد الكبير رجاء النقاش إلى قصر ثقافة الحرية بالإسكندرية. فوقف الشاعر مهدي بندق ولامه لأنه لم ينشر أشعاره ومقالاته التي يرسلها إليه بصفته رئيسا لتحرير مجلة الهلال.
فقال النقاش: إنه لا يستطيع أن يقرأ كل الأعمال المرسلة إليه، وليس لديه العدد الكافي من المساعدين لمتابعة كل الرسائل الواردة إليه.
وذلك يذكرني بزيارتي لمكتب الشاعر الكبير فاروق جويدة منذ سنوات طويلة عندما كان ينشر قصصا وشعرا كل يوم أربعاء في باب "صالون الأربعاء" فوجدتُ مائدة كبيرة جدا، كلها ظروف مغلقة لم تفتح بعد.
وقد تقابل جويدة مع الصديق محمد عبدالله عيسى في الإسماعيلية، ودار حديث بينهما عن كتاب القصة بالإسكندرية، وأثني عيسى عليّ، فلفت نظره نحوي، مما جعله يفتح رسائلي التي سبق أن أرسلتها إليه ، وينشر لي كثيرا في هذا الباب.
وهذه مشكلة النشر في مصر والبلاد العربية كلها، فالش