كنا ونحن صغار نسمع عن الصراع بين الشرق والغرب أنه صراع عسكري؛ تفوق أميركا بالطائرات، وروسيا بالصواريخ العابرة للقارات للهجوم، والمضادة للطائرات للدفاع. ولما كانت أميركا مع إسرائيل تعطيها كل شيء، فإننا كنا مع روسيا لتزويدنا بالسلاح. ثم أدركنا أنه ليس صراعًا عسكريًّا فقط بل هو أيضًا منافسة اقتصادية. يتفوق فيها الشرق لاستيراد ما نحتاجه من القمح. وروسيا تستورد منا القطن طويل التيلة الذي اشتهر به القطن المصري.
وعندما دخلنا الجامعة أدركنا أنه أيضًا صراع سياسي حول مناطق النفوذ في إفريقيا وأميركا اللاتينية، وتوسيع مناطق الأحلاف وانتشار القواعد العسكرية. ولما تخرجنا من الجامعة أدركنا أنه صراع ثقافي بين الكتلة الشرقية والحضارة الغربية. الأولى تعطي الأولوية للمجتمع على الفرد. والثانية تعطي الأولوية للفرد على المجتمع. وهو الصراع الأيديولوجي الشهير بين الشيوعية والرأسمالية، بين الحرية والخبز. وهو الصراع الذي انعكس لدينا في الوطن العربي. وآثرنا الخبز على الحرية بعد الثورات العربية الأخيرة منذ الخمسينيات في القرن الماضي بداية بالثورة المصرية في يوليو 1952م.
وبرزت الصين منذ الأربعينيات بعد المسيرة الطويلة من الغرب إلى الشرق وهزيمة شيانغ كاي تشيك، وانسحابه من الصين- القارة إلى جزيرة فورموزا. وظهر ماو تسي تونغ الزعيم الصيني العظيم قائدًا شعبيًّا، ماركسيًّا لينينيًّا، صلبًا لا يهادن. ووزعت الأرض على الفلاحين. وقامت بأكبر نهضة زراعية صناعية تجارية في تاريخ الصين، من شعب تجاوز الآن مليار نسمة أي سدس سكان العالم. وقد أدت ماركسية الصين إلى تقوية الشرق بالنسبة للغرب. ثم انضمت إلى الصين كوريا الشمالية، وفيتنام الشمالية، ثم الجنوبية فيما بعد، بعد هزيمة الغرب فيها، فرنسا ثم أميركا. ثم انضمت أوربا الشرقية إلى هذا المعسكر الاشتراكي الجديد. ولم تعد حلقة الوصل بين آسيا وأوربا، بين الشيوعية والرأسمالية.
ثم تقدمت الصين اقتصاديًّا، وغطت صادراتها كل آسيا، في الخليج خاصة، وإفريقيا. وصنـّعت كل ما كان الغرب يصنعه بأرخص الأثمان. فأصبحت الصين تغطي كل صادرات العالم حتى أوربا مهْد الرأسمالية. وبدأت الشركات الصينية للتنمية الزراعية والصناعية تَسُود كلَّ أرجاء الشرق في آسيا، والجنوب في إفريقيا. وأصبحت كل المنتجات الصينية تملأ الأسواق العربية بعد أن كانت أوربية ثم أميركية ثم ماليزية وإندونيسية وهندية أو جنوب إفريقية. وامتدت الثورة الاشتراكية إلى أميركا اللاتينية، إلى كوبا. وأصبحت أسماء كاسترو وجيفارا على كل لسان. والآن أميركا تخطب ودَّ كوريا الشمالية من أجل السيطرة على الصواريخ النووية العابرة للقارات والمحيطات التي يمكن إذا انطلقت أن تدمر أميركا في لحظات.
وسقط الستار الحديدي في أوربا الشرقية. وسقطت الاشتراكية التقليدية في الاتحاد السوفييتي. وجاءت أخرى أكثر تعاونًا مع الغرب الرأسمالي. وأصبح العالم ذا قطب واحد بدلًا من قطبين. وظهرت العولمة بوصفها الشكل الاقتصادي الوحيد الممكن للعالم. وهي شكل جديد من أشكال الرأسمالية القادرة على احتواء الآخر. وانقلب الوطن العربي مرة أخرى من الرأسمالية القديمة إلى الاشتراكية، ثم من الاشتراكية إلى العولمة حتى لا ينعزل بنفطه وتنميته عن نظام العالم الجديد.
وبدت الصين منعزلة عن كل هذه التغيرات. وبدا لها أن الغرب الأوربي والأميركي يعدّل من نفسه اقتصاديًّا وسياسيًّا ولكنه بقي ثقافيًّا رأسماليًّا. فأرادت أن تكسب الجولة بطريقة أخرى، بطريقة ضرب اليابان للأسطول الأميركي في بيرل هاربر في القطب الشمالي، وأميركا لا تتوقع ذلك، وضرب أميركا اليابان، هيروشيما ونجازاكي بالقنابل الذرية، واليابان لا تتوقع. وقد أدى ذلك إلى استسلام اليابان التام، وإغراق أسطولها الجوي في المحيط الهادي، وانتحار قادته رمزًا للبطولة والفداء.
الصين وفيروس كورونا
ثم خرج من الصين فيروس كورونا يمثل 1/1000 من الفيروسات العادية. لا يمكن السيطرة عليه بسهولة. ينتقل من حيث لا يدري المريض، أمن الهواء أم من لمس الأشياء أم من تنفس الآخرين؟
وانتشر بسرعة البرق من الصين إلى أوربا ثم إلى أميركا ﴿أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ﴾. ولم تنفع أساليب الوقاية ﴿وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ﴾. ولم ينفع معه علاج إلا الحجر الصحي، وعزلة الإنسان عن أخيه الإنسان. جذوره في الصين وفروعه في آسيا وأوربا وأميركا اللاتينية. نبْتُه في الصين وأُكُلهُ خارج الصين. وقد يكون غزوًا كونيًّا للأرض كلها. فلا مفر من الموت، يأتيكم من حيث لا تعلمون. وتتبادر أمثلة شعبية إلى الأذهان مثل: «يوضع سره في أضعف خلقه»، و«إن معظم النار من مستصغر الشرر». ووصل الفيروس اللعين لرؤساء الوزراء في ألمانيا، وإلى الوزراء في إيطاليا وإنجلترا وإلى بقية الشعوب في إيطاليا وألمانيا وإنجلترا وإسبانيا.
وأخيرًا ضرب الولايات المتحدة التي أصبحت الأولى في عدد الإصابات والوفيات التي تُقدَّر بالآلاف. ووقف الطب عاجزًا عن أن يفعل شيئًا. ولم يستطع حتى الآن إيجاد مصل لإيقاف هذا الغزو الميكروسكوبي. وأصبح الغرب الذي كان نموذجًا للحداثة التي كانت تقلدها الحضارات غير الأوربية نموذجًا للانهيار والوقوع في أية لحظة من دون استعمال الأسلحة النووية أو الهيدروجينية.
انتهى كل شيء في غمضة عين إلا من البقاء في المنازل ﴿وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ٱلْجَٰهِلِيَّةِ ٱلْأُولَىٰ﴾. فتحول الرجال إلى نساء. وسقط العلم الذي كانت تفخر به أوربا وأميركا. وانهارت الحداثة التي ظل الغرب يبنيها على مدى خمسة قرون، منذ الإصلاح الديني في القرن الخامس عشر، والدفاع عن الإنسان في القرن السادس عشر، وعن العقل في السابع عشر، والتنوير في الثامن عشر، والعلم في التاسع عشر. ثم بدأ الغرب يهدم حداثته بنفسه في التيارات المعادية للعقل والعلم والإنسان فيما بعد الحداثة، نظرًا لنهاية الحضارة الغربية بعد أن سادها الموت والعدم والقلق والهم ثم الانتحار. فجاء كورونا ليُساعِدهم على ما هم فيه.
الوطن العربي بين قطبين
وماذا عن الوطن العربي الذي يقع بين الشرق والغرب؟ لقد أصابه الوباء، ولكنه بصورة أقل فيما يبدو، نظرًا للإجراءات الوقائية الصارمة التي فرضتها الحكومات العربية على شعوبها مثل عدم الخروج من المنازل، وعدم لمس الأشخاص الغرباء أو الأشياء من دون تطهير. وضرورة لبس الكمامات لعدم استنشاق أي هواء غير نظيف، وارتداء قفازات اليد. وقد أُجِّلت الدراسة في المدارس والجامعات، وأُلغِيتْ كل التجمعات الثقافية في المكتبات والمراكز الثقافية. ومُنعت التجمعات الاجتماعية في النوادي والفنادق ومراكز التجمعات حتى لا تنتقل العدوى من شخص إلى آخر نظرًا للقرب الشديد بين الحاضرين، والقبلات والأحضان، والسلامات والأشواق. وبعد أن ظل الشعب المصري مطيعًا لهذه الإجراءات انتابه الملل. فخرج إلى الشرفات يغني بل يرقص جماعيًّا ليروح عن نفسه. فالبلاد النامية في إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية والبعيدة من مركز الحضارة في أوربا وأميركا مثل أستراليا ونيوزيلاندا هي أقل المناطق إصابة بالوباء. قد تكون الأرقام التي تعلنها الحكومات العربية لحالات الإصابة والوفاة غير صحيحة، أو أقل من الواقع، ولكن أرقام منظمة الصحة العالمية تفيد الشيء نفسه، أن الوطن العربي أقل إصابة من أوربا وأميركا، ربما لخوف الشعب العربي من حكوماته.
وقد يفسر بعضهم هذه الظاهرة بأن غضبًا إلهيًّا قد حل بالصين وبالغرب نظرًا لبعدهما من الدين. أما أمة محمد فهي ما زالت بخير بخلاف القلة التي قلدت الغرب أو الشرق في كل شيء؛ لذلك أصيب الغرب بعدوى الكورونا أكثر بكثير مما أصاب الأمة الإسلامية. وهي خير أمة أُخْرِجَتْ للناس. تأمُر بالمعروف وتَنهَى عن المنكر. على الرغم من أنها أغلقت المساجد في صلوات الجماعة. وأولها صلاة الجمعة. ومنعت العمرة خشية العدوى. وأغلقت بيت الله الحرام. ورمضان، الشهر الكريم، قادم. فماذا ستفعل الأمة في هذا الشهر الذي فيه موائد الرحمن للفقراء، وصلوات التراويح، والتهجد والتعبد ليلة نزول القرآن. وفيه العادات الشعبية الجماعية من الزيارات المتبادلة والأعياد والتراحم. وفيه التزاحم على شراء مستلزمات رمضان للإفطار والسحور.
ويقول المؤمنون المتفائلون: ستنتهي هذه الغمة قبل حلول الشهر الكريم. ويعود الناس إلى حياتهم اليومية في العمل لجلب الرزق. ويقول العلماء والأطباء ووزارات الصحة المسؤولة في الدول: قد يبقى الوباء شهرًا أو شهرين، والأكثر تشاؤمًا: سنة أو سنتين. فنحن ما زلنا في البداية.
ما حدث هو مجرد نذير لما سيأتي، جرس إنذار بأن الحياة الإنسانية هشة، وأن الحضارة الغربية أكثر هشاشة. ويقول فريق ثالث: سيتعود الناس على الوباء. كما تعودوا على الفقر والقهر، وغلاء الأسعار، وصعوبة الحياة اليومية، والاعتقال والاختفاء القسري. ولسان حالهم يقول: ما أراد الله وما شاء فعل، حسبي الله ونعم الوكيل، ويوكلون أمرهم لله. وهو المنتقم الجبار من الظالمين. وهو الرحيم الغفور للمؤمنين.
وعندما دخلنا الجامعة أدركنا أنه أيضًا صراع سياسي حول مناطق النفوذ في إفريقيا وأميركا اللاتينية، وتوسيع مناطق الأحلاف وانتشار القواعد العسكرية. ولما تخرجنا من الجامعة أدركنا أنه صراع ثقافي بين الكتلة الشرقية والحضارة الغربية. الأولى تعطي الأولوية للمجتمع على الفرد. والثانية تعطي الأولوية للفرد على المجتمع. وهو الصراع الأيديولوجي الشهير بين الشيوعية والرأسمالية، بين الحرية والخبز. وهو الصراع الذي انعكس لدينا في الوطن العربي. وآثرنا الخبز على الحرية بعد الثورات العربية الأخيرة منذ الخمسينيات في القرن الماضي بداية بالثورة المصرية في يوليو 1952م.
وبرزت الصين منذ الأربعينيات بعد المسيرة الطويلة من الغرب إلى الشرق وهزيمة شيانغ كاي تشيك، وانسحابه من الصين- القارة إلى جزيرة فورموزا. وظهر ماو تسي تونغ الزعيم الصيني العظيم قائدًا شعبيًّا، ماركسيًّا لينينيًّا، صلبًا لا يهادن. ووزعت الأرض على الفلاحين. وقامت بأكبر نهضة زراعية صناعية تجارية في تاريخ الصين، من شعب تجاوز الآن مليار نسمة أي سدس سكان العالم. وقد أدت ماركسية الصين إلى تقوية الشرق بالنسبة للغرب. ثم انضمت إلى الصين كوريا الشمالية، وفيتنام الشمالية، ثم الجنوبية فيما بعد، بعد هزيمة الغرب فيها، فرنسا ثم أميركا. ثم انضمت أوربا الشرقية إلى هذا المعسكر الاشتراكي الجديد. ولم تعد حلقة الوصل بين آسيا وأوربا، بين الشيوعية والرأسمالية.
ثم تقدمت الصين اقتصاديًّا، وغطت صادراتها كل آسيا، في الخليج خاصة، وإفريقيا. وصنـّعت كل ما كان الغرب يصنعه بأرخص الأثمان. فأصبحت الصين تغطي كل صادرات العالم حتى أوربا مهْد الرأسمالية. وبدأت الشركات الصينية للتنمية الزراعية والصناعية تَسُود كلَّ أرجاء الشرق في آسيا، والجنوب في إفريقيا. وأصبحت كل المنتجات الصينية تملأ الأسواق العربية بعد أن كانت أوربية ثم أميركية ثم ماليزية وإندونيسية وهندية أو جنوب إفريقية. وامتدت الثورة الاشتراكية إلى أميركا اللاتينية، إلى كوبا. وأصبحت أسماء كاسترو وجيفارا على كل لسان. والآن أميركا تخطب ودَّ كوريا الشمالية من أجل السيطرة على الصواريخ النووية العابرة للقارات والمحيطات التي يمكن إذا انطلقت أن تدمر أميركا في لحظات.
وسقط الستار الحديدي في أوربا الشرقية. وسقطت الاشتراكية التقليدية في الاتحاد السوفييتي. وجاءت أخرى أكثر تعاونًا مع الغرب الرأسمالي. وأصبح العالم ذا قطب واحد بدلًا من قطبين. وظهرت العولمة بوصفها الشكل الاقتصادي الوحيد الممكن للعالم. وهي شكل جديد من أشكال الرأسمالية القادرة على احتواء الآخر. وانقلب الوطن العربي مرة أخرى من الرأسمالية القديمة إلى الاشتراكية، ثم من الاشتراكية إلى العولمة حتى لا ينعزل بنفطه وتنميته عن نظام العالم الجديد.
وبدت الصين منعزلة عن كل هذه التغيرات. وبدا لها أن الغرب الأوربي والأميركي يعدّل من نفسه اقتصاديًّا وسياسيًّا ولكنه بقي ثقافيًّا رأسماليًّا. فأرادت أن تكسب الجولة بطريقة أخرى، بطريقة ضرب اليابان للأسطول الأميركي في بيرل هاربر في القطب الشمالي، وأميركا لا تتوقع ذلك، وضرب أميركا اليابان، هيروشيما ونجازاكي بالقنابل الذرية، واليابان لا تتوقع. وقد أدى ذلك إلى استسلام اليابان التام، وإغراق أسطولها الجوي في المحيط الهادي، وانتحار قادته رمزًا للبطولة والفداء.
الصين وفيروس كورونا
ثم خرج من الصين فيروس كورونا يمثل 1/1000 من الفيروسات العادية. لا يمكن السيطرة عليه بسهولة. ينتقل من حيث لا يدري المريض، أمن الهواء أم من لمس الأشياء أم من تنفس الآخرين؟
وانتشر بسرعة البرق من الصين إلى أوربا ثم إلى أميركا ﴿أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ﴾. ولم تنفع أساليب الوقاية ﴿وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ﴾. ولم ينفع معه علاج إلا الحجر الصحي، وعزلة الإنسان عن أخيه الإنسان. جذوره في الصين وفروعه في آسيا وأوربا وأميركا اللاتينية. نبْتُه في الصين وأُكُلهُ خارج الصين. وقد يكون غزوًا كونيًّا للأرض كلها. فلا مفر من الموت، يأتيكم من حيث لا تعلمون. وتتبادر أمثلة شعبية إلى الأذهان مثل: «يوضع سره في أضعف خلقه»، و«إن معظم النار من مستصغر الشرر». ووصل الفيروس اللعين لرؤساء الوزراء في ألمانيا، وإلى الوزراء في إيطاليا وإنجلترا وإلى بقية الشعوب في إيطاليا وألمانيا وإنجلترا وإسبانيا.
وأخيرًا ضرب الولايات المتحدة التي أصبحت الأولى في عدد الإصابات والوفيات التي تُقدَّر بالآلاف. ووقف الطب عاجزًا عن أن يفعل شيئًا. ولم يستطع حتى الآن إيجاد مصل لإيقاف هذا الغزو الميكروسكوبي. وأصبح الغرب الذي كان نموذجًا للحداثة التي كانت تقلدها الحضارات غير الأوربية نموذجًا للانهيار والوقوع في أية لحظة من دون استعمال الأسلحة النووية أو الهيدروجينية.
انتهى كل شيء في غمضة عين إلا من البقاء في المنازل ﴿وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ٱلْجَٰهِلِيَّةِ ٱلْأُولَىٰ﴾. فتحول الرجال إلى نساء. وسقط العلم الذي كانت تفخر به أوربا وأميركا. وانهارت الحداثة التي ظل الغرب يبنيها على مدى خمسة قرون، منذ الإصلاح الديني في القرن الخامس عشر، والدفاع عن الإنسان في القرن السادس عشر، وعن العقل في السابع عشر، والتنوير في الثامن عشر، والعلم في التاسع عشر. ثم بدأ الغرب يهدم حداثته بنفسه في التيارات المعادية للعقل والعلم والإنسان فيما بعد الحداثة، نظرًا لنهاية الحضارة الغربية بعد أن سادها الموت والعدم والقلق والهم ثم الانتحار. فجاء كورونا ليُساعِدهم على ما هم فيه.
الوطن العربي بين قطبين
وماذا عن الوطن العربي الذي يقع بين الشرق والغرب؟ لقد أصابه الوباء، ولكنه بصورة أقل فيما يبدو، نظرًا للإجراءات الوقائية الصارمة التي فرضتها الحكومات العربية على شعوبها مثل عدم الخروج من المنازل، وعدم لمس الأشخاص الغرباء أو الأشياء من دون تطهير. وضرورة لبس الكمامات لعدم استنشاق أي هواء غير نظيف، وارتداء قفازات اليد. وقد أُجِّلت الدراسة في المدارس والجامعات، وأُلغِيتْ كل التجمعات الثقافية في المكتبات والمراكز الثقافية. ومُنعت التجمعات الاجتماعية في النوادي والفنادق ومراكز التجمعات حتى لا تنتقل العدوى من شخص إلى آخر نظرًا للقرب الشديد بين الحاضرين، والقبلات والأحضان، والسلامات والأشواق. وبعد أن ظل الشعب المصري مطيعًا لهذه الإجراءات انتابه الملل. فخرج إلى الشرفات يغني بل يرقص جماعيًّا ليروح عن نفسه. فالبلاد النامية في إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية والبعيدة من مركز الحضارة في أوربا وأميركا مثل أستراليا ونيوزيلاندا هي أقل المناطق إصابة بالوباء. قد تكون الأرقام التي تعلنها الحكومات العربية لحالات الإصابة والوفاة غير صحيحة، أو أقل من الواقع، ولكن أرقام منظمة الصحة العالمية تفيد الشيء نفسه، أن الوطن العربي أقل إصابة من أوربا وأميركا، ربما لخوف الشعب العربي من حكوماته.
وقد يفسر بعضهم هذه الظاهرة بأن غضبًا إلهيًّا قد حل بالصين وبالغرب نظرًا لبعدهما من الدين. أما أمة محمد فهي ما زالت بخير بخلاف القلة التي قلدت الغرب أو الشرق في كل شيء؛ لذلك أصيب الغرب بعدوى الكورونا أكثر بكثير مما أصاب الأمة الإسلامية. وهي خير أمة أُخْرِجَتْ للناس. تأمُر بالمعروف وتَنهَى عن المنكر. على الرغم من أنها أغلقت المساجد في صلوات الجماعة. وأولها صلاة الجمعة. ومنعت العمرة خشية العدوى. وأغلقت بيت الله الحرام. ورمضان، الشهر الكريم، قادم. فماذا ستفعل الأمة في هذا الشهر الذي فيه موائد الرحمن للفقراء، وصلوات التراويح، والتهجد والتعبد ليلة نزول القرآن. وفيه العادات الشعبية الجماعية من الزيارات المتبادلة والأعياد والتراحم. وفيه التزاحم على شراء مستلزمات رمضان للإفطار والسحور.
ويقول المؤمنون المتفائلون: ستنتهي هذه الغمة قبل حلول الشهر الكريم. ويعود الناس إلى حياتهم اليومية في العمل لجلب الرزق. ويقول العلماء والأطباء ووزارات الصحة المسؤولة في الدول: قد يبقى الوباء شهرًا أو شهرين، والأكثر تشاؤمًا: سنة أو سنتين. فنحن ما زلنا في البداية.
ما حدث هو مجرد نذير لما سيأتي، جرس إنذار بأن الحياة الإنسانية هشة، وأن الحضارة الغربية أكثر هشاشة. ويقول فريق ثالث: سيتعود الناس على الوباء. كما تعودوا على الفقر والقهر، وغلاء الأسعار، وصعوبة الحياة اليومية، والاعتقال والاختفاء القسري. ولسان حالهم يقول: ما أراد الله وما شاء فعل، حسبي الله ونعم الوكيل، ويوكلون أمرهم لله. وهو المنتقم الجبار من الظالمين. وهو الرحيم الغفور للمؤمنين.