.
( الفصل الثامن عشر من رواية قصة الخلق )
أدرك تماما أن محمود أبو الجدايل كان يمارس الحب مع لمى قبل اعلان الزواج ، الذي لم يضف إلى العلاقة الجسدية بينهما ما هو جديد .. لكن ما لا أفهمه أن اشتهاء محمود لي في هذا اللقاء بعد الزواج ، قد انتفى تماما ، حتى أن معانقته لي كانت باردة وجافة وليست كما في كل مرة .. كنت أشعر أنه يتمتع بتقبيلي حين يصافحني .. أما اليوم فقد بدا وكأنه يؤدي واجبا تقليديا.. وهذا ما دفعني إلى التساؤل ما إذا كان الزواج قد دفعه إلى ذلك ،ولو من باب احترام شروط المؤسسة ، متخلياً عما كانت العلاقة الحرة تتيحه له .. حتى أنه لم يغازلني ولو بكلمة ، ولم يتحدث عن جمالي ، رغم أننا أمضينا بعض الوقت خارج الاستوديو ونحن نحتسي القهوة . ولم يبد عليه أنه يدرك أنني أشتهي ممارسة الحب معه ، وأنني قد أنتهز أية فرصة لأجعله يفعل ذلك .. المؤسف أن الفرصة لم تأت رغم مرور أشهر على تعارفنا وعملنا معا ..تمنيت لو أتيح لي أن أراقصه في حفل الزفاف .. كنت محرجة من المدير الطامح في معاشرتي رغم عدم رغبتي فيه. أعرف من كتابات محمود أنه ضد المؤسسة الزوجية ضمن الشروط القائمة. وأن إقدامه على الزواج من لمى دافعه تلبية رغبة لها لأنه أحبها ، ولأنها وقفت معه في ظروف صعبة وابتاعت لوحات له بأسعار جيدة . لا أشعر أن رغبتي فيه مفتعله بل نابعة من حب وشهوة حقيقية ، رغم سن الرجل ، الذي لا يشجع أي امرأة على التفكير فيه ، المشكلة أن محمود ابو الجدايل ليس أي رجل ، إنه رجل مختلف ، ولا شك أن ما يقدم عليه في الغرام مختلف ، وإلا ما هو السر في تعلق شابة جميلة كلمى به ؟ تخيلت نفسي للحظة في وضع جنسي مثير معه في السرير، ويبدو أنه تنبه إلى أنني سرحت بخيالي بعيدا، فسألني:
- ألن نبدأ الحوار اليوم؟
نفضت رأسي لأطرد صورة الوضع من خيالي .
- بلى لننهض .
دخلنا الاستوديو .. أخذنا أماكننا ..
- أستاذ محمود تطرقنا في الحلقة الماضية إلى بعض الجوانب في فهم ابن عربي لمذهب وحدة الوجود التي يختلف فيها عن فهمك أو يتفق. .. وفي هذه الحلقة نود لو نعرف بعض جوانب الاختلاف والاتفاق بينك وبين سبينوزا .
- لا شك أن سبينوزا شكل طفرة نوعية في الفكر الديني .. غير أنه وكمعظم الأفكار الصوفية وبعض الفلسفات الميتافيزيقية لم يقل لنا شيئا واضحا عن جوهر الإله ، فهل هو مادة أم طاقة ، وإذا كان مادة فما هي وما شكلها ، وهل يتجسد في كل شيء أم في شيء محدد أو أشياء محددة. وإذا كان طاقة فما هي، هل هي طاقة عقلانية أم غير عقلانية ، وهل هي طاقة كأي طاقة أخرى عرفها البشر أم أنها طاقة خالقة لم يكتشفها العقل البشري بعد . كما لم يقل كيف تتم عملية الخلق ، ولماذا هناك خلق ضار وخلق نافع . يلاحظ في بعض كتابات سبينوزا، أن الحديث يتم من خالق إلى مخلوق هو الإنسان " توقف عن الصلاة وعن ضرب صدرك ، فما أريده أن تفعل هو أن تخرج إلى العالم ، وأن تتمتع بالحياة . أريدك أن تتمتع وتغني وتعمل . أريدك أن تستمتع بكل ما قمت به من أجلك " ليس هناك خالق يتحدث عن نفسه . وهذا يعني أن الخالق منفصل عن المخلوق ، أي أن هناك طرفين. خالق ومخلوق ، وقرأت بعض الأبحاث التي تدافع عن سبينوزا والفهم الخاطئ عند البشر لمذهبه في وحدة الوجود ، فالله غير متحد بالوجود عند سبينوزا ، بل هو من خلقه ، وعند ابن عربي الوجود تجل للذات الإلهية لكنه ليس الله ، فابن عربي نزه الله عن الوجود ، وشجب الحلول الذي اعتقد به بعض المتصوفة ، حتى ابن عربي نفسه لم يتحد بالذات الإلهية .
ثمة مسائل أخرى في مذهب وحدة الوجود عند سبينوزا ، فلم يقل لنا سبينوزا ولا المتصوفة ما هي الغاية من الوجود وبالتالي ما هي الغاية من خلق الإنسان ، بل إن بعضهم كما قرأت عن سبينوزا ، أنه لا يرى غاية للوجود ولا يرى غاية من خلق الانسان ، وهذا يعني أن الوجود عبثي كما يرى الفلاسفة الماديون ، ليعش الانسان كما يريد ، إنها وجودية سارتر وغيره ، فأين خصوصية التصوف ؟
منذ أن أدرك الانسان وجوده وهو يفكر في الغاية من الوجود ومن القائم به وماهي الغاية من وجوده كإنسان .. لذلك نشأت المعتقدات التي رأت أن الغاية من الوجود هي الخلق ، وأن الغاية من المخلوقات والإنسان في مقدمتها هي خدمة الآلهة وعبادتها وإطاعتها وتنفيذ شرائعها، ولا أظن ان العقل البشري تخلى عن هذه الأسئلة حتى يومنا ، وإن أي فكر حديث يجب أن يقدم للوعي البشري ما يغني وعيه في هذه المسائل الجوهرية ، حتى لو كان الأمر مجرد اجتهاد ، وليس حقائق مطلقة ، لكنه يستند إلى المنطق والعلم ليقول ما هو أقرب إلى الحقيقة . لذلك قلنا : الخالق أو القائم بالخلق : طاقة خالقة عقلانية تسري في الكون والكائنات وتتجسد فيهما .. وفصلنا في ذلك كثيرا .. وأجبنا عن كل ما طرح من تساؤلات من قبل القراء ، في معظم المنتديات التي شاركنا فيها.. وفصلنا ذلك في بعض مؤلفاتنا المنشورة ورقيا أو على النت.
- يقال أنه حينما كان آينشتاين يلقي محاضراته في العديد من الجامعات الأمريكية ، كان السؤال الذي يتكرر من طرف الطلاب هو :
"سيد آينشتاين ، هل تؤمن بالله ؟ "
وكان جواب آينشتاين دائما هو : " أومن بإله سبينوزا " فما الذي فهمه آينشتاين من إله سبينوزا؟
- طبعا سبينوزا كان يبحث عن الإله المحب للحياة وللإنسان ، ويرفض العبادات التقليدية ، والمفاهيم التقليدية للألوهة، وحين يتحدث عن ألوهة تسكن الجبال والأشجاروالوديان والبحيرات والأنهار، نشعر أنه يتحدث عن طاقة سارية في الكون ، دون أن يعرف ذلك سوى أنه ألوهة.
لم يكن إله سبينوزا يرى في الجنس عملا قبيحا مثلا . من كلمات سبينوزا التي قد أتفق معه إلى حد كبير عليها، سأورد ما كتبه على لسان الله إلى الإنسان :
" توقف عن اتهامي بالمسؤولية عن فقرك . لم أقل لك أبداً أن هناك شيئا ما شريرا بداخلك ، كما لم يسبق لي أن قلت لك أنك ارتكبت الخطيئة .."
"لم يسبق لي أن قلت أن ممارستك الجنسية أو أن فرحك يشكل عملا قبيحا .. إذن لا توبخني على كل ما قيل لك أن تؤمن به .."
"توقف عن ترديد القراءات المقدسة التي لا علاقة لها بي ، فإذا لم تتمكن من قراءتي أثناء الفجر في منظر طبيعي ، في نظرة صديق ، في زوجتك ، في نظر طفلك ، في جارك ، في فقير دق على بابك ، فلن تتمكن من أن تجدني في أي كتاب .."
- يذكرني هذا الكلام بمقولة لي " ابحث عن الله في نفسك وفي قلبك فإن لم تعثر عليه ، لن تعثر عليه على الإطلاق"
" توقف عن الخوف مني ، فلن أحاكمك ، ولن أنتقدك . أنا لا أغضب ، ولا أعاقب .. أنا هو الحب الخالص .. ملأت قلبك بالإنفعالات ، بالرغبات ، بالأحاسيس ، وبالحاجيات غير المنسجمة .. وفي نفس الوقت منحتك الإرادة الحرة ، فكيف يمكن لي أن أوبخك حين تستجيب لما وضعته أنا فيك ؟ ..
كيف يمكن لي أن أعاقبك وأنت على هذا الحال الذي جعلتك عليه .. ؟ "
هل تفكر بشكل حقيقي وواقعي .. أنه يمكن لي أن أخلق مكاناً لأحرق فيه كل أبنائي ، وإلى ما تبقى من الأبدية ، الذين يتصرفون بشكل قبيح ؟ .. "
- لاحظي التنكر لجهنم . ولا حظي النظر إلى البشر كأبناء لله . وهذا تأثير مسيحي طبعا .
"أي نوع من الإله هذا والقادر على أن يقوم بذلك ..؟
فإن كنتُ بهذا الشكل فإنني لا أستحق أن أكون محترما ..
لو كنت أرغب فقط في أن أطاع ، لعمرت الأرض كلابا .."
" احترم الشبيه ، ولا تفعل ما لا تريده لنفسك ..
كل ما أطلبه منك هو أن تنتبه لحياتك ، وأن تكون إرادتك الحرة هي موجهك.
إنك تشكل مع الطبيعة عنصرا واحدا ، إذن لا تعتقد أن لك سلطة عليها ، إنك جزء منها ..
اعتن بها وستعتني بك "
" لقد وضعت فيك كل ما هو خير لك وجعلته في متناولك ، كما أني جعلت من الصعب الوصول إلى ما ليس كذلك .. فلا توظف عبقريتك عن ما هو سيء فيها لأجل الحفاظ على توازنها لصالحك ..
عليك بالحفاظ على هذا التوازن متماسكا ، فالطبيعة نفسها تعرف جيدا الحفاظ عليه ، فقط ينبغي عليك عدم إزعاجها "
" لقد جعلتك حرا بشكل مطلق . أنت حر في أن تخلق من حياتك جنة أو جحيما . لا أستطيع أن أقول لك إن كان شيء بعد هذه الحياة ، لكن أستطيع أن أعطيك نصيحة :
توقف عن الإيمان بي بهذا الشكل الذي أنت عليه والذي لقنوك إياه ، فأن تؤمن هو أن تفترض ، أن تتخيل ، وأن تتكهن .. "
" لا أريدك أن تؤمن بي .. أريدك أن تحس بي في ذاتك ، حين تهتم بأغنامي ، حين تحتضن طفلتك الصغيرة ، حين تداعب كلبك ، وحين تستحم في النهر ...."
"عبر عن فرحك ، وتعود أن تأخذ فقط ما تحتاجه .. "
" إن الشيء الوحيد اليقيني هو أنك هنا ، والآن ، وأنك حي ، وأن هذا العالم مليء بالعجائب التي بإمكانك أن تتعرف عليها ، وبشكل حقيقي ، على ما تحتاجه فيها .."
- لا تبحث عني بعيدا ، فلن تجدني .. إنني هنا : في الطبيعة ..
إن الكون هو أنا " ..
- يلاحظ من هذا التعبير" إن الكون هو أنا " انتفاء وجود خالق ومخلوق ، وخاصة خالق هو الله ،ومخلوق هو الإنسان . ومع ذلك لا تتوضح هذه الصورة في حديث الله الانسان .
- يبدو لي أن معظم المتصوفة قد وقعوا في هذه الإشكالية ولم يعرفوا كيف يمكن أن يتخلصوا منها . إنّ فكرة وجود خالق يخلق نفسه بنفسه لنفسه ، مهما تعددت أشكال الخلق ، كانت صعبة على فهمهم الفلسفي .. لاحظي أنني أعود لأذكرك حين نتحدث عن خلق وخالق أو عن خلق وإله ، أننا أمام خالق يخلق نفسه ولسنا أمام خالق ومخلوق ، وأننا نستخدم بعض المفردات كتعبير مجازي لا غير.
- صحيح.. لا حظت ان الفلاسفة الماديين لا يقتنعون بوجود غاية للإنسان من الحياة ، لأنه وجد نفسه على هذه الكرة، ولا إرادة أو دور له في ذلك. وسيغادرها،إذا لم ينتحر، ولا رغبة له في ذلك. كما يقول الاستاذ أحمد ماهر.
- الفلاسفة الماديون لا يقرون بوجود خالق ، فكيف إذا كان الوجود نفسه هو الخالق ؟ إن من لا يعرف الخالق لا يعرف الغاية من الوجود .
- ويا ليتهم يتساءلون كما تساءلت أنت ، فلماذا وجد الوجود أصلا إذا لم يكن له غاية ؟
- هل قرأت ردي على أحمد ماهر؟
- قرأته ؟
- هل أعجبك ؟
- كثيرا ! وخاصة حين قلت أن للوجود غاية ، وأن لوجود الإنسان غاية هي غاية الغايات كلها. بإقامة الحضارة الانسانية وتحقيق قيم الخير والعدل والمحبة والجمال. وطرحت رؤيتك لطريق ثالث في الفلسفة يفيد من العلوم والفلسفة بشقيها المثالي والمادي. وكذلك تساؤلاتك عن الغاية مما يصنعه الانسان.
وتأخذ أسيل ورقة من مجموعة أوراق كانت قد طبعتها ،وتقرأ :
"يبني الانسان المدن ، ويصنع الطائرات والسفن ، ويشق الجسور ويبني السدود ، ويقيم حضارة ، لا لغاية بل من أجل العبث !! فهو ليس في حاجة إلى حضارة ! غريب وعجيب هذا المنطق ، فلماذا الحضارة إذن ، ليبقى الانسان على العيش في الكهوف ، وركوب البغال والحمير ، والحياة على ضوء السراج ، بل ولماذا تم خلقه ووجوده في الأساس إذا لم يكن لوجوده غاية ؟ لينتحر ، أو يموت ، وليذهب إلى الجحيم . هذا هو منطق الفلسفة المادية ! لكن لماذا يطالب بعض الفلاسفة الماديين بالحرية والعدالة والمساواة بين البشر إذا لم لم يكن لوجود الإنسان غاية ؟ ولماذا يرى انسان مثلي أن لكل كائن في الكون غاية ، بدءا من الكون بشموسه وأقماره وكواكبه ونجومه ، مرورا بنباتاته وحيواناته وأنهاره وبحاره وجباله ،وأخيرا بإنسانه . لو كان الوجود عبثيا وبلا غاية لافتقر إلى النظام ،وافتقر إلى الجمال ، ودمر الكون والكائنات أو شوهت . ولما حرصت الوردة على أن تكون جميلة . ولما حرصت الشجرة على أن تمنحنا ثمارا ناضجة ، ولما حرص الانسان على ان يكون جميلا ، وأن يظهر بمظهر جميل.
لماذا لا تنبت الشجرة زقوما أو سماً، ولماذا لا تريد الورود أن تكون بشعة . لماذا تحرص الكائنات كلها على الجمال ، ليبدو الجمال وكأنه غاية لكل الكائنات، وهو كذلك بالفعل ، لما يبعثه في نفوسنا من أمل بحياة أجمل ، وراحة نفس، ومتعة نظر، وحب للحياة والأمن والسلام والمحبة ..
قد نتفق مع بعض العلماء حين يتنكرون لبعض حقائق العلوم لأنها تكاد تكون فوق مستوى العقل البشري ، فحين ثبت عبر الفيزياء الكوانتية أنه لا يمكن رؤية المرصود دون أن يكون هناك راصد له ، وأن حالاته تتغيربنوع الراصد، استغرب آينشتاين الأمر قائلا : هل يعقل أن يكون القمر غير موجود طالما لم أنظر إليه ؟ والأمر نفسه كان مع قصة الإلكترون الذي يمكن أن يكون في اكثر من مكان ، وأن هناك تناغما بين هذه الالكترونات وأن مايحدث لإلكترون منها يمكن أن يحدث للإلكترونات الأخرى في الوقت نفسه حتى لو كانت المسافة التي تفصل بين الالكترونات ضوئية !وهذا ما صدم آينشتاين لا عتقاده أن سرعة الضوء هي السرعة القصوى ، وهذا الأمر( التناغم اللحظي ) يعني أن هناك سرعة أكثر من سرعة الضوء ! ولم تتوقف الأمور مع آينشتاين عند هذا الحد ، فقد كان يعتقد أن معادلته في النسبية هي خاتمة المعادلات.. إلى أن جاء بول ديراك وكشف نقص المعادلة .. ولولا معادلة ديراك لما كنا نرى التلفاز والحاسوب والفيديو والراديو والهاتف كما هي عليه اليوم ..
هذا الأمر وارد في العلوم ومع ذلك تم تجاوز أو تطور معظم النظريات السابقة وما زال الأمر في تطور مستمر .. أما أن لا يتقبل الفيلسوف المادي فكرة أن للوجود غاية وأن لوجود الانسان غاية أيضا فهذا أمر لا يتقبله العقل .. لا يتقبل العقل المادي الغايات الدينية للخلق من عبادة وغيرها،وهذا أمر يمكن تقبله أمّا أن لا يتقبل الغايات الانسانية فهذه مأساة !"
- أشكرك أسيل .. لقد أرحتني من الإجابة بقراءتك هذه لما كتبته .
- العفو.. إذا تحب أن تضيف شيئا .ممكن.
- لا . كفيت ووفيت !
- وقد أدركنا الوقت .. شكرا أستاذ محمود . شكرا أعزاءنا المشاهدين .. وإلى اللقاء.
*****
( الفصل الثامن عشر من رواية قصة الخلق )
أدرك تماما أن محمود أبو الجدايل كان يمارس الحب مع لمى قبل اعلان الزواج ، الذي لم يضف إلى العلاقة الجسدية بينهما ما هو جديد .. لكن ما لا أفهمه أن اشتهاء محمود لي في هذا اللقاء بعد الزواج ، قد انتفى تماما ، حتى أن معانقته لي كانت باردة وجافة وليست كما في كل مرة .. كنت أشعر أنه يتمتع بتقبيلي حين يصافحني .. أما اليوم فقد بدا وكأنه يؤدي واجبا تقليديا.. وهذا ما دفعني إلى التساؤل ما إذا كان الزواج قد دفعه إلى ذلك ،ولو من باب احترام شروط المؤسسة ، متخلياً عما كانت العلاقة الحرة تتيحه له .. حتى أنه لم يغازلني ولو بكلمة ، ولم يتحدث عن جمالي ، رغم أننا أمضينا بعض الوقت خارج الاستوديو ونحن نحتسي القهوة . ولم يبد عليه أنه يدرك أنني أشتهي ممارسة الحب معه ، وأنني قد أنتهز أية فرصة لأجعله يفعل ذلك .. المؤسف أن الفرصة لم تأت رغم مرور أشهر على تعارفنا وعملنا معا ..تمنيت لو أتيح لي أن أراقصه في حفل الزفاف .. كنت محرجة من المدير الطامح في معاشرتي رغم عدم رغبتي فيه. أعرف من كتابات محمود أنه ضد المؤسسة الزوجية ضمن الشروط القائمة. وأن إقدامه على الزواج من لمى دافعه تلبية رغبة لها لأنه أحبها ، ولأنها وقفت معه في ظروف صعبة وابتاعت لوحات له بأسعار جيدة . لا أشعر أن رغبتي فيه مفتعله بل نابعة من حب وشهوة حقيقية ، رغم سن الرجل ، الذي لا يشجع أي امرأة على التفكير فيه ، المشكلة أن محمود ابو الجدايل ليس أي رجل ، إنه رجل مختلف ، ولا شك أن ما يقدم عليه في الغرام مختلف ، وإلا ما هو السر في تعلق شابة جميلة كلمى به ؟ تخيلت نفسي للحظة في وضع جنسي مثير معه في السرير، ويبدو أنه تنبه إلى أنني سرحت بخيالي بعيدا، فسألني:
- ألن نبدأ الحوار اليوم؟
نفضت رأسي لأطرد صورة الوضع من خيالي .
- بلى لننهض .
دخلنا الاستوديو .. أخذنا أماكننا ..
- أستاذ محمود تطرقنا في الحلقة الماضية إلى بعض الجوانب في فهم ابن عربي لمذهب وحدة الوجود التي يختلف فيها عن فهمك أو يتفق. .. وفي هذه الحلقة نود لو نعرف بعض جوانب الاختلاف والاتفاق بينك وبين سبينوزا .
- لا شك أن سبينوزا شكل طفرة نوعية في الفكر الديني .. غير أنه وكمعظم الأفكار الصوفية وبعض الفلسفات الميتافيزيقية لم يقل لنا شيئا واضحا عن جوهر الإله ، فهل هو مادة أم طاقة ، وإذا كان مادة فما هي وما شكلها ، وهل يتجسد في كل شيء أم في شيء محدد أو أشياء محددة. وإذا كان طاقة فما هي، هل هي طاقة عقلانية أم غير عقلانية ، وهل هي طاقة كأي طاقة أخرى عرفها البشر أم أنها طاقة خالقة لم يكتشفها العقل البشري بعد . كما لم يقل كيف تتم عملية الخلق ، ولماذا هناك خلق ضار وخلق نافع . يلاحظ في بعض كتابات سبينوزا، أن الحديث يتم من خالق إلى مخلوق هو الإنسان " توقف عن الصلاة وعن ضرب صدرك ، فما أريده أن تفعل هو أن تخرج إلى العالم ، وأن تتمتع بالحياة . أريدك أن تتمتع وتغني وتعمل . أريدك أن تستمتع بكل ما قمت به من أجلك " ليس هناك خالق يتحدث عن نفسه . وهذا يعني أن الخالق منفصل عن المخلوق ، أي أن هناك طرفين. خالق ومخلوق ، وقرأت بعض الأبحاث التي تدافع عن سبينوزا والفهم الخاطئ عند البشر لمذهبه في وحدة الوجود ، فالله غير متحد بالوجود عند سبينوزا ، بل هو من خلقه ، وعند ابن عربي الوجود تجل للذات الإلهية لكنه ليس الله ، فابن عربي نزه الله عن الوجود ، وشجب الحلول الذي اعتقد به بعض المتصوفة ، حتى ابن عربي نفسه لم يتحد بالذات الإلهية .
ثمة مسائل أخرى في مذهب وحدة الوجود عند سبينوزا ، فلم يقل لنا سبينوزا ولا المتصوفة ما هي الغاية من الوجود وبالتالي ما هي الغاية من خلق الإنسان ، بل إن بعضهم كما قرأت عن سبينوزا ، أنه لا يرى غاية للوجود ولا يرى غاية من خلق الانسان ، وهذا يعني أن الوجود عبثي كما يرى الفلاسفة الماديون ، ليعش الانسان كما يريد ، إنها وجودية سارتر وغيره ، فأين خصوصية التصوف ؟
منذ أن أدرك الانسان وجوده وهو يفكر في الغاية من الوجود ومن القائم به وماهي الغاية من وجوده كإنسان .. لذلك نشأت المعتقدات التي رأت أن الغاية من الوجود هي الخلق ، وأن الغاية من المخلوقات والإنسان في مقدمتها هي خدمة الآلهة وعبادتها وإطاعتها وتنفيذ شرائعها، ولا أظن ان العقل البشري تخلى عن هذه الأسئلة حتى يومنا ، وإن أي فكر حديث يجب أن يقدم للوعي البشري ما يغني وعيه في هذه المسائل الجوهرية ، حتى لو كان الأمر مجرد اجتهاد ، وليس حقائق مطلقة ، لكنه يستند إلى المنطق والعلم ليقول ما هو أقرب إلى الحقيقة . لذلك قلنا : الخالق أو القائم بالخلق : طاقة خالقة عقلانية تسري في الكون والكائنات وتتجسد فيهما .. وفصلنا في ذلك كثيرا .. وأجبنا عن كل ما طرح من تساؤلات من قبل القراء ، في معظم المنتديات التي شاركنا فيها.. وفصلنا ذلك في بعض مؤلفاتنا المنشورة ورقيا أو على النت.
- يقال أنه حينما كان آينشتاين يلقي محاضراته في العديد من الجامعات الأمريكية ، كان السؤال الذي يتكرر من طرف الطلاب هو :
"سيد آينشتاين ، هل تؤمن بالله ؟ "
وكان جواب آينشتاين دائما هو : " أومن بإله سبينوزا " فما الذي فهمه آينشتاين من إله سبينوزا؟
- طبعا سبينوزا كان يبحث عن الإله المحب للحياة وللإنسان ، ويرفض العبادات التقليدية ، والمفاهيم التقليدية للألوهة، وحين يتحدث عن ألوهة تسكن الجبال والأشجاروالوديان والبحيرات والأنهار، نشعر أنه يتحدث عن طاقة سارية في الكون ، دون أن يعرف ذلك سوى أنه ألوهة.
لم يكن إله سبينوزا يرى في الجنس عملا قبيحا مثلا . من كلمات سبينوزا التي قد أتفق معه إلى حد كبير عليها، سأورد ما كتبه على لسان الله إلى الإنسان :
" توقف عن اتهامي بالمسؤولية عن فقرك . لم أقل لك أبداً أن هناك شيئا ما شريرا بداخلك ، كما لم يسبق لي أن قلت لك أنك ارتكبت الخطيئة .."
"لم يسبق لي أن قلت أن ممارستك الجنسية أو أن فرحك يشكل عملا قبيحا .. إذن لا توبخني على كل ما قيل لك أن تؤمن به .."
"توقف عن ترديد القراءات المقدسة التي لا علاقة لها بي ، فإذا لم تتمكن من قراءتي أثناء الفجر في منظر طبيعي ، في نظرة صديق ، في زوجتك ، في نظر طفلك ، في جارك ، في فقير دق على بابك ، فلن تتمكن من أن تجدني في أي كتاب .."
- يذكرني هذا الكلام بمقولة لي " ابحث عن الله في نفسك وفي قلبك فإن لم تعثر عليه ، لن تعثر عليه على الإطلاق"
" توقف عن الخوف مني ، فلن أحاكمك ، ولن أنتقدك . أنا لا أغضب ، ولا أعاقب .. أنا هو الحب الخالص .. ملأت قلبك بالإنفعالات ، بالرغبات ، بالأحاسيس ، وبالحاجيات غير المنسجمة .. وفي نفس الوقت منحتك الإرادة الحرة ، فكيف يمكن لي أن أوبخك حين تستجيب لما وضعته أنا فيك ؟ ..
كيف يمكن لي أن أعاقبك وأنت على هذا الحال الذي جعلتك عليه .. ؟ "
هل تفكر بشكل حقيقي وواقعي .. أنه يمكن لي أن أخلق مكاناً لأحرق فيه كل أبنائي ، وإلى ما تبقى من الأبدية ، الذين يتصرفون بشكل قبيح ؟ .. "
- لاحظي التنكر لجهنم . ولا حظي النظر إلى البشر كأبناء لله . وهذا تأثير مسيحي طبعا .
"أي نوع من الإله هذا والقادر على أن يقوم بذلك ..؟
فإن كنتُ بهذا الشكل فإنني لا أستحق أن أكون محترما ..
لو كنت أرغب فقط في أن أطاع ، لعمرت الأرض كلابا .."
" احترم الشبيه ، ولا تفعل ما لا تريده لنفسك ..
كل ما أطلبه منك هو أن تنتبه لحياتك ، وأن تكون إرادتك الحرة هي موجهك.
إنك تشكل مع الطبيعة عنصرا واحدا ، إذن لا تعتقد أن لك سلطة عليها ، إنك جزء منها ..
اعتن بها وستعتني بك "
" لقد وضعت فيك كل ما هو خير لك وجعلته في متناولك ، كما أني جعلت من الصعب الوصول إلى ما ليس كذلك .. فلا توظف عبقريتك عن ما هو سيء فيها لأجل الحفاظ على توازنها لصالحك ..
عليك بالحفاظ على هذا التوازن متماسكا ، فالطبيعة نفسها تعرف جيدا الحفاظ عليه ، فقط ينبغي عليك عدم إزعاجها "
" لقد جعلتك حرا بشكل مطلق . أنت حر في أن تخلق من حياتك جنة أو جحيما . لا أستطيع أن أقول لك إن كان شيء بعد هذه الحياة ، لكن أستطيع أن أعطيك نصيحة :
توقف عن الإيمان بي بهذا الشكل الذي أنت عليه والذي لقنوك إياه ، فأن تؤمن هو أن تفترض ، أن تتخيل ، وأن تتكهن .. "
" لا أريدك أن تؤمن بي .. أريدك أن تحس بي في ذاتك ، حين تهتم بأغنامي ، حين تحتضن طفلتك الصغيرة ، حين تداعب كلبك ، وحين تستحم في النهر ...."
"عبر عن فرحك ، وتعود أن تأخذ فقط ما تحتاجه .. "
" إن الشيء الوحيد اليقيني هو أنك هنا ، والآن ، وأنك حي ، وأن هذا العالم مليء بالعجائب التي بإمكانك أن تتعرف عليها ، وبشكل حقيقي ، على ما تحتاجه فيها .."
- لا تبحث عني بعيدا ، فلن تجدني .. إنني هنا : في الطبيعة ..
إن الكون هو أنا " ..
- يلاحظ من هذا التعبير" إن الكون هو أنا " انتفاء وجود خالق ومخلوق ، وخاصة خالق هو الله ،ومخلوق هو الإنسان . ومع ذلك لا تتوضح هذه الصورة في حديث الله الانسان .
- يبدو لي أن معظم المتصوفة قد وقعوا في هذه الإشكالية ولم يعرفوا كيف يمكن أن يتخلصوا منها . إنّ فكرة وجود خالق يخلق نفسه بنفسه لنفسه ، مهما تعددت أشكال الخلق ، كانت صعبة على فهمهم الفلسفي .. لاحظي أنني أعود لأذكرك حين نتحدث عن خلق وخالق أو عن خلق وإله ، أننا أمام خالق يخلق نفسه ولسنا أمام خالق ومخلوق ، وأننا نستخدم بعض المفردات كتعبير مجازي لا غير.
- صحيح.. لا حظت ان الفلاسفة الماديين لا يقتنعون بوجود غاية للإنسان من الحياة ، لأنه وجد نفسه على هذه الكرة، ولا إرادة أو دور له في ذلك. وسيغادرها،إذا لم ينتحر، ولا رغبة له في ذلك. كما يقول الاستاذ أحمد ماهر.
- الفلاسفة الماديون لا يقرون بوجود خالق ، فكيف إذا كان الوجود نفسه هو الخالق ؟ إن من لا يعرف الخالق لا يعرف الغاية من الوجود .
- ويا ليتهم يتساءلون كما تساءلت أنت ، فلماذا وجد الوجود أصلا إذا لم يكن له غاية ؟
- هل قرأت ردي على أحمد ماهر؟
- قرأته ؟
- هل أعجبك ؟
- كثيرا ! وخاصة حين قلت أن للوجود غاية ، وأن لوجود الإنسان غاية هي غاية الغايات كلها. بإقامة الحضارة الانسانية وتحقيق قيم الخير والعدل والمحبة والجمال. وطرحت رؤيتك لطريق ثالث في الفلسفة يفيد من العلوم والفلسفة بشقيها المثالي والمادي. وكذلك تساؤلاتك عن الغاية مما يصنعه الانسان.
وتأخذ أسيل ورقة من مجموعة أوراق كانت قد طبعتها ،وتقرأ :
"يبني الانسان المدن ، ويصنع الطائرات والسفن ، ويشق الجسور ويبني السدود ، ويقيم حضارة ، لا لغاية بل من أجل العبث !! فهو ليس في حاجة إلى حضارة ! غريب وعجيب هذا المنطق ، فلماذا الحضارة إذن ، ليبقى الانسان على العيش في الكهوف ، وركوب البغال والحمير ، والحياة على ضوء السراج ، بل ولماذا تم خلقه ووجوده في الأساس إذا لم يكن لوجوده غاية ؟ لينتحر ، أو يموت ، وليذهب إلى الجحيم . هذا هو منطق الفلسفة المادية ! لكن لماذا يطالب بعض الفلاسفة الماديين بالحرية والعدالة والمساواة بين البشر إذا لم لم يكن لوجود الإنسان غاية ؟ ولماذا يرى انسان مثلي أن لكل كائن في الكون غاية ، بدءا من الكون بشموسه وأقماره وكواكبه ونجومه ، مرورا بنباتاته وحيواناته وأنهاره وبحاره وجباله ،وأخيرا بإنسانه . لو كان الوجود عبثيا وبلا غاية لافتقر إلى النظام ،وافتقر إلى الجمال ، ودمر الكون والكائنات أو شوهت . ولما حرصت الوردة على أن تكون جميلة . ولما حرصت الشجرة على أن تمنحنا ثمارا ناضجة ، ولما حرص الانسان على ان يكون جميلا ، وأن يظهر بمظهر جميل.
لماذا لا تنبت الشجرة زقوما أو سماً، ولماذا لا تريد الورود أن تكون بشعة . لماذا تحرص الكائنات كلها على الجمال ، ليبدو الجمال وكأنه غاية لكل الكائنات، وهو كذلك بالفعل ، لما يبعثه في نفوسنا من أمل بحياة أجمل ، وراحة نفس، ومتعة نظر، وحب للحياة والأمن والسلام والمحبة ..
قد نتفق مع بعض العلماء حين يتنكرون لبعض حقائق العلوم لأنها تكاد تكون فوق مستوى العقل البشري ، فحين ثبت عبر الفيزياء الكوانتية أنه لا يمكن رؤية المرصود دون أن يكون هناك راصد له ، وأن حالاته تتغيربنوع الراصد، استغرب آينشتاين الأمر قائلا : هل يعقل أن يكون القمر غير موجود طالما لم أنظر إليه ؟ والأمر نفسه كان مع قصة الإلكترون الذي يمكن أن يكون في اكثر من مكان ، وأن هناك تناغما بين هذه الالكترونات وأن مايحدث لإلكترون منها يمكن أن يحدث للإلكترونات الأخرى في الوقت نفسه حتى لو كانت المسافة التي تفصل بين الالكترونات ضوئية !وهذا ما صدم آينشتاين لا عتقاده أن سرعة الضوء هي السرعة القصوى ، وهذا الأمر( التناغم اللحظي ) يعني أن هناك سرعة أكثر من سرعة الضوء ! ولم تتوقف الأمور مع آينشتاين عند هذا الحد ، فقد كان يعتقد أن معادلته في النسبية هي خاتمة المعادلات.. إلى أن جاء بول ديراك وكشف نقص المعادلة .. ولولا معادلة ديراك لما كنا نرى التلفاز والحاسوب والفيديو والراديو والهاتف كما هي عليه اليوم ..
هذا الأمر وارد في العلوم ومع ذلك تم تجاوز أو تطور معظم النظريات السابقة وما زال الأمر في تطور مستمر .. أما أن لا يتقبل الفيلسوف المادي فكرة أن للوجود غاية وأن لوجود الانسان غاية أيضا فهذا أمر لا يتقبله العقل .. لا يتقبل العقل المادي الغايات الدينية للخلق من عبادة وغيرها،وهذا أمر يمكن تقبله أمّا أن لا يتقبل الغايات الانسانية فهذه مأساة !"
- أشكرك أسيل .. لقد أرحتني من الإجابة بقراءتك هذه لما كتبته .
- العفو.. إذا تحب أن تضيف شيئا .ممكن.
- لا . كفيت ووفيت !
- وقد أدركنا الوقت .. شكرا أستاذ محمود . شكرا أعزاءنا المشاهدين .. وإلى اللقاء.
*****