نمر سعدي - تأملات جماليَّة في قصيدة الشاعر فرحات فرحات

في الوقتِ الذي ينضبُ فيهِ الشعرُ ويتلاشى بريقُ معانيهِ ودلالاتهُ من حياتنا اليوميَّةِ الراكضةِ وراءَ تفاصيلِ الهمومِ اليوميَّةِ تزدادُ حاجتنا يوماً بعدَ يوم للقصائدِ الحقيقية المغسولةِ بالشغفِ وألقِ الكينونةِ.. يكبرُ توقنا الأبديُّ.. وتنمو فينا غواياتٌ طفوليَّةٌ تأخذنا إلى عالمِ مضاءٍ بالكلامِ الوجدانيِّ النابضِ.. المحلِّقِ في سماءِ المجازِ، على كثرةِ الشعراءِ وقلَّةِ الشعرِ.. فمن النادرِ أن أقرأ كتاباً شعريَّاً وأخرجَ من مناخاتهِ بحالةِ رضىً نفسي وشعورٍ بأنَّ القصيدةَ في بقعتنا الجليليَّةِ بخيرِ على كلِّ حالٍ، كحالي عندَ قراءتي لديوان الشاعر المبدع الصديق فرحات فرحات المعنونِ ب (جرافيتي على جدارِ القلبِ) فقد تركَ جرافيتي بألوانِ الطيفِ على جدرانِ روحي لفترةٍ ليستْ بالقصيرةِ.. احتشدتُ فيها بالغنائيَّةِ العذبةِ الرقيقةِ المموسقةِ الشفَّافة، المنبعثةِ من ناياتِ الوجدِ الشعريِّ في نداءاتِ رغبةِ الشاعرِ في قولهِ: لي رغبةٌ أن أمتطي ظهرَ الغيومِ إليكِ / أن أبقى رثاءً من رذاذٍ ناعماً يرنو من البلَّورِ كي يضفي قليلا من صفاءِ الحزنِ في عينيكِ أو عينيَّ / أن أدنو رهيفاً من عيونِ الكستناءِ / وأحملُ الذكرى كؤوساً من عصيرِ التمرِ أسكبها على خدٍّ توَّردَ كلَّما مرَّت على جنبيهِ حبَّاتُ النبيذْ.

يكتبُ الشاعرُ فرحات فرحات قصيدتهُ بثقةٍ عاليةٍ وحاسسيَّةٍ مرهفةٍ.. يقذفُ بها طازجةً.. خضراءَ.. شهيَّةً في وجهِ الوجودِ.. شفَّافةً متموجةً حيناً وجارحةً فارهةً بجمالها حيناً آخرَ.. كأنها أميرةٌ كنعانيَّةٌ تطلُّ على لازوردِ البحرِ غرباً حيثُ قريةُ الشاعرِ دالية الكرملِ وتستندُ على سحرِ واشراقِ سهولِ أعالي الجليلِ، هذا الشاعرُ المسكونُ بتجلِّياتِ الوجدِ والحبِّ يجيدُ قنصَ لحظتهِ الشعريَّةِ المنفلتةِ كالغزالةِ النافرةِ بمهارةِ وخفَّةٍ وذكاءٍ فطريٍّ، يقتربُ من اليوميِّ العابرِ والتفاصيلِ المهملةِ .. يزيحُ عنها غبارَ النسيانِ.. ينبشُ أدراجَ المجازِ ويقتفي أثرَ الضوءِ، ورائحةَ زهرِ اللوزِ والنعناعِ.. يُطلقُ القصيدةَ من القلبِ.. من أعماقِ النهرِ.. يقدِّمُ سيرةَ الحبِّ والأرضِ في نصوص شعريَّةٍ أشبه بهواجسَ يوميَّةٍ.. طافحةٍ بالفرح.. بالحياةِ والأملِ المتجدِّدِ.. ولكنهاضاجةٌ باللوعةِ ومذاقِ الألمِ والصبابةِ في أماكنَ كثيرةٍ.. يكتبها على بياضِ الروحِ وينتظرُ من يتلقَّفها بمحبة وسعادةٍ روحيَّةٍ لا يشوبها أرقٌ.

ومع أنَّ الشاعرَ يقولُ في احدى قصائدهِ العالية الجمالِ: لا شيءَ يحتملُ الغناءَ/ لا الصبحُ والقمرُ المضيءُ ولا ليالي الكستناءِ.. إلا أنَّهُ لا يكفُّ في ديوانهِ هذا عن الغناءِ وعن مواصلةِ نشيدهِ الجسديِّ الحسيِّ حيناً والعذريِّ الصافي حيناً آخرَ.
فقصيدتهُ في أبهى تجلياتها وانزياحاتها فسحةٌ من العبقِ الشعريِّ ومن نشيدِ الحبِّ المتواصلِ كالمطرِ، وهي لحظةٌ للارتفاعِ بمعاني الاشتهاءِ والرغبةِ إلى أبعدِ الحدودِ، نلمسُ في الديوانِ معانقاتٍ كثيرةً للأنوثةِ وتمثلاتها.. ونطربُ لقصائد غزليَّةٍ تذكرِّنا بغزلياتِ امرئ القيسِ وعمر ابن أبي ربيعةِ ولويس أراغون والسيَّابِ.. ولكنَّ الشاعرُ يؤكدُّ في موضعٍ آخرٍمن الديوانِ أنَّ المرأةَ التي خرجتْ من قصائدهِ ذاتَ مساءٍ لم تعدْ على حدِّ قولهِ: المرأةُ التي خرجتْ من قصائدي ذاتَ مساءْ / لم تعدْ / عشرونَ عاماً منذُ أن بزغتْ كصحنٍ طائرٍ وأنا أصوغُ قلائدَ الأشعارِ / مرآةً لأعناقِ النساءِ وسبحةً للعاشقين.

لا ينسى الشاعرُ أن يبعثَ رسالةَ مناجاةٍ رقيقة إلى حيفا المدينة البحريَّة الساحرةِ التي تغزَّلَ بها الكثيرُ من عشَّاقها وكأنها الحوريَّةُ التي تطلعُ لهم من ضفافِ القصائدِ، ولكنها رسالةُ عتبٍ موجعٍ محزونٍ ممزوجٍ بنوستالجيا شفيفة: باتتْ حيفا باردةً / صرتُ أتلكأُ في الوصولِ إليها / نوافذها ضيِّقةٌ وخدودها صفراءُ / طيورها بلا صوتٍ / وعيونها غارقةٌ في نقطةٍ ما / كأنها تبتهلُ قدومَ الشتاءِ أو تستنجدُ بجادةِ البحرِ أن تقصَّ عليها حكايةً قديمةً.

هذه قصائد تذكرنا بلغةِ الشعراءِ الكبار من حيث جودة النص ونفسِ الشعر الصافي.. والاستعارات المبتكرة.. والصورِ الفاتنةِ الخلَّابةِ.. هناك تتبُّعٌ قلق وحائرٌ للمفردات الناعمة البيضاء المشوبة بالغزل الأنيق، والمشغولة بالمعاني العميقة، والحنينِ للأنثى حتى ولو كانتْ سراباً أو حلماً..حيثُ بمقدور شاعر في حجمهِ أن يلتقط ورقة وردةٍ خريفيَّةٍ من على الأرضِ ويجعل منها شفاه امرأة جميلة فاتنة، أو يتأمَّلُ غصنَ شجرةِ تفَّاح ويتخيَّلهُ ذراع حبيبةٍ تستندُ على ظلِّ غيمةٍ في إحدى قصائدهِ، أو يناجي أمكنةً وكأنها ظلالُ حبيباتٍ منسيَّاتٍ، وهذا مجهودٌ جماليٌّ كبير يُحسبُ لهُ.
يعرفُ الشاعرُ كيفَ يوظِّفُ ايقاعات البحور الخليليَّة في قصائده ونجدهُ يطربُ للخببِ وللمتقارب.. البحرين المتجاورينِ الذين لا يكادُ يفصلُ بينهما برزخٌ مجازيٌّ، شأنهُ شأنُ الكثيرين من شعراءِ قصيدةِ التفعيلةِ، إذ أنهم يملكونَ أذناً موسيقيَّةً تعرفُ مواطن الجمالِ والعذوبةِ في تفعيلاتِ هذين البحرينِ المستعملينِ كثيراً في مواضعِ اللينِ والرقةِ واللهفةِ والعذوبةِ، لذلكَ فإنَّ أكثرَ ما نجد من قصائدِ الحبِّ في الشعر العربي الحديثِ مكتوبٌ على ايقاعيهما، فبالرغمِ من علوِّ وتيرةِ النبرةِ الشعريَّةِ في الديوان تتسلَّلُ نداءاتٌ خافتة لاستدعاءِ المرأة / العنقاءِ.. وهي ترتفعُ رويداً رويداً عن رمادِ الحرائقِ الشعريَّةِ الصاخبةِ في نصوصِ الشاعرِ.



نمر سعدي/ فلسطين

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى