من قديمٍ الحكي، والقصُّ وسيلتان لتفريغِ دواخلِ النفسِ، والتعبيرِ عن مكنونِ الصدورِ، وما يـَخْتلِجُ بـها من آلامٍ ومسرَّاتٍ، وساعاتِ عُسْرٍ، ولحظاتِ نشْوى.. فالقصة القصيرة حالةٌ من الحكي الماتعِ ..أخذتِ القصةُ القصيرةُ من القصيدةِ شعريتَها، وموسيقاها، وتكثيفَها، وأخذتْ من الروايةِ الحدثَ والشخصياتِ، ومن الـمسرحِ الحوارَ، والصراعَ السريعَ الخاطفَ.
القصةُ القصيرةُ فنَّ اللحظاتِ الـمفصليةِ في الحياةِ، فلا تتناولُ الحدثَ من خلالِ مساحتهِ الواسعةِ، وزمانهِ المطلقِ؛ بل تـختطفُ اللحظةَ كومضةٍ خاطفةٍ، كسهمٍ ينطلقُ سريعًا إلى هدفه.. هي إبداعٌ استثنائيٌّ، يكون فيها القاصُّ في مواجهةٍ مباشرةٍ مع الـمُتلقّي، عليه أن يُــتـقنَ سرْدَه جيدا.
القصّةُ القصيرةُ جدّا ابنةُ هذا العصرِ، خاصّة أنّ عالمَ يومياتِنا مليءٌ بالملاحظاتِ العابرةِ، باللّقطاتِ السّريعةِ، ورصْدِ الـمفارقاتِ والـمواقفِ؛ لذلك تكيّفتْ مع إيقاعِ العصرِ، فركبتْ لغةَ الاختزالِ، على أنّ الإنسانَ نفسَه لم يعدْ قادرًا على الإنصاتِ لكلِّ تفاصيلِ الحياةِ اليوميّةِ، ولـم يعدْ يـملكُ التّرفَ القِرائيَّ في ظلِّ التطوّرِ الرقميِّ، وانبثاقِ النّصِّ الشّبكيِّ، وتزايدِ الأزماتِ العالـميّةِ الـمتعدّدةِ المـتسارعةِ، وميلِ الإنسانِ المعاصرِ إلى تـجريبِ كتابةِ مـخالِفةٍ، تتلاءم مع تـحوّلاتِ الـمُعاصرة؛ لذلك كانتِ القصّةُ القصيرةُ جدّا مُـحاولةً فنيّةً ذاتَ دلالةٍ احتجاجيّةٍ. القصةُ القصيرةُ جدًّا مُصطلحٌ اختزاليٌّ لنصٍّ روائيٍّ، أو حكايةٍ، أو قصّةٍ بشكلٍ مُــوجزٍ جدًّا وتكون مُكثَّـــفةً وخاليةً من الزوائدِ، والحشْوِ الوصْفيِّ، والاستطراداتِ..
هي جنسٌ أدبيٌّ حديثٌ يـمتازُ بقصرِ الحجمِ، والإيحاءِ الُـمكَــثّــفِ، والانتــقاءِ الدقيقِ للّفظةِ، ووحدةِ المقطعِ، علاوة على الحكي الُـموجزِ، فضْلًا عن خاصية التلميح، والاقتضاب، والتجريب، واستعمال النَّــفَسِ الجُملي القصيرِ الـموْسومِ بالحركيةِ، والتَّــوتُّر الـمُضطرب، وتأَزُّمِ الـمواقفِ والأحداثِ.. إضافةً إلى سِـماتِ الحذْفِ، والاختزالِ، والإضمارٍ. من أهمِّ سماتِ القصةِ القصيرةِ جداً الجماليةُ، وأن تتّسمَ بالحكائيةِ حتى لا تتشابهَ مع قصيدةِ النثْــرِ، والاعتمادِ على الخاتمةِ الـمُتـوهّجة الواخزةِ، وطرافةِ اللقطةِ، واختيارِ العنوانِ الذي يـحفظُ للخاتـمةِ دهْشتَــها، ومُفارقـتَها للتوقّعِ.
ولئِنْ تبلورَ هذا الجنسُ الأدبيُّ المعاصرُ حسْب النُّقّادِ، والـُمتتبّعين له في دولِ الـمشرقِ العربيِّ بعد العالمِ الغربيِّ، وازدهرَ في دولِ الـمغربِ العربيِّ؛ فإنهم إنْ ركّزوا على الـمغربِ وتونسَ، وتغافلوا عن الجزائرِ، فإني أؤكّدُ أنّ هناك أسماءَ في الثمانيناتِ من القرنِ الـماضي، منهم الإعلاميُّ القاصُّ محمد الصالح حرز الله من أوائلِ مَنْ جرَّبوا كتابةَ القصّةِ القصيرةِ جداً، ونشْرَها، وقد كان رئيسَ تـحريرِ الصحيفةِ الأسبوعيةِ " أضواء "،إذْ تـميّــزَ بلغـــتِه، وطريقتِــه في الحكْي، كما في مجموعاتِه: " الابنُ الذي يـجمعُ شتاتَ الذاكرةِ "، و" النهارُ يرتسمُ في الـجرحِ " و" التحديقُ من خارجِ الرقــــــعةِ".
من ناحيتي قد جرّبتُ الكتابةَ في هذا الــفنّ السّرديِّ ، إذْ أدرجتُ خمس قصصٍ قصيرةٍ ضمْن مـجموعتي " القرص الأحمر" التي طبعـتْـها الُـمؤسسةُ الوطنيةُ للكتابِ سنة 1987، أسميتُــها في آخرِ الـمجْموعةِ " خمسُ قصصٍ قصيرةٍ جدّا" التي تضمُّ 12 قصًّة قصيرةَ. بطبيعة الحال لــم تتوفّر فيها الشروط التي توافق عليها النقّاد في أيّامنا هذه، إنـّما هي مبادرة تـجريبية استباقية. بكلِّ أسفٍ نـفـتـقدُ إلى بيولوغرافيا لكُتّابِ القصةِ في الجزائرِ، ومنهم كُتّابُ القصةِ القصيرةِ جدًّا، إنـّما في السنواتِ الأخيرةِ، وتحديدًا في هذا العقدِ الثاني من القرن الواحد والعشرين، ظهرتْ أسماءُ لـم تُـغْــرها الروايةُ، قد تـمرّستِ، واستمرّتْ في هذا الفنِّ السّرْديِّ الوامضِ، وطبعتْ أعمالاً منهم: يـنينة عبد الكريم، حفيظة طعام، عبد الحميد إيزة، سعيد موفّـق، يـحي أوهيبة، عبد القادر صيد، ونيسي بشير.. شلبي محرز، عبد الواحد بن عمر، نوار زكريا أسماء أخرى ظهرتْ أخيرا: مريم بغيـبـغ، فتيحة قصّاب، فائزة بركان، سلمان بومعزة،...تكتبُ وتُــبدعُ باقــتدارٍ.
ولئن كثْر كُتّاب عذا الجنس من القصة في عالمنا العربي؛ إلّا أني أجزم أن في المغرب الشقيق تواجدت، وفرضت نفسها إلى جانب الرواية، كثير الكتاب من يبدعون في القصة القصيرة جدا، كما أن لها فضاءات مميّزة خاصة بها: مواقع، مدوّنات، مجلّات ألكترونية، .. بحكم احتكاك الإبداع القصصي المغربي بغرب أوروبا مبكِّرًا: اسبانيا، هولاندا،بلجيكا، فرنسا....