مدينة خلقت من مناجم الفوسفاط في مطلع الثلاثين من القرن 20 ، لم يختر اهلها اسمها ولكن سميت آنذاك على اسم مستعمر فرنسي يقال إنه مهندس اكتشف الفوسفاط في المناجم وصارت تحمل اسمه "لويس جانتي" Louis Gentil حتى بداية الاستقلال السياسي. تم سميت مدينة اليوسفية من بعد، لا اعرف كيف تم اختيار اسمها، ولكن الشائع أنها سميت كما يقال باسم الملك بن يوسف العائد من المنفى آنذاك. هذه أمور يتم يتداولها بين أبنائها أبا عن جد كما يقال. وأذكر أن معلمي في الصف الابتدائي " الفقيه سي بوشعيب" لمن يتذكره، كان يردد على مسامعنا نحن الاطفال بفخر : أنا من اقترحت تسميتها، وكان أحيانا عندما يشتد حماسنا يقول مباشرة أنا من سميتها.
هذه مدينتي التي شهدت ولادتي وطفولتي وجزءا من شبابي الاول واحلامي ورعونتي مع اصدقائي وأقراني. وكنا نسميها فيما بيننا مدينة النحاس. لان سحنة ساكنتها تميل إلى لون الغبار يميل للأصفر الذي يتطاير في سمائها كل يوم، خاصة عندما يشتد الحر أو ينعدم سقوط المطر، وهو شحيح التساقط في مدينتي.
ما أعرفه عن مدينة اليوسفية قليل و هي ما تجمع لدي في فترة طفولتي و دراستي بالثانوية الاولى. بعد انتقالي لمدينة آسفي للدراسة بالثانوية الثانية في شعبة الاقتصاد تم الانتقال إلى جامعة مراكش كان انقطاعي الاول عن مدينة اليوسفية. و كنت عندما أعود إليها متسللا خوفا من الاعتقال بعد نشاطي النقابي والسياسي الطلابي، ألاحظ أن المدينة لا تغير من عاداتها و لا تكبر أو تعمر كباقي المدن التي كانت أصغر منها بكثير أو اكبر منها بقليل. فالعمل في المنجم هو الذي يحدد إيقاع المدينة و يشد الرحال إليها أو يشد بالبقاء فيها من أبناء جيلي. وكثير هم الذين تركوا المدرسة أو الثانوية وذهبوا للعمل في المنجم.
كان الاباء الذين عملوا بالمنجم وخلفهم أبناءهم خليط من جل مناطق المغرب بما فيهم ساكنة قبائل احمر باليوسفية ، وكان العيش في أحياء المدينة العمالية في غاية الانسجام بين هذا الخليط. أما الاطر المتوسطة والعليا العاملة التي خلفت الفرنسيين ،فغالبيتهم من مدن بعيدة. وكنا نعتبرهم نحن أجانب بيننا إلى أن يغادروا المدينة مع اسرهم لسبب التقاعد أو البحث عن تغيير المكان.
كان يتواجد بالمدينة حتى بداية السبعين من القرن الماضي ما تبقى من الاطر الاجنبية الفرنسيين إلى أن رحلوا .وبقيت الكنيسة و المقبرة المسيحية التي تأوي موتاهم، و حي الفيلات التي شيدوها لسكنهم، العلامات الباقية و الشاهدة على أنهم مروا من هنا. كنا نسمي حي الفيلات "ديور النصارى" و كانت تمثل لنا عالما خاصا لا يشبه المدينة ولا سحنة أهلها.
قطيعتي الثانية مع المدينة هي بعد اعتقالي وسجني لمدة تفوق عشر سنوات، وبعد خروجي من السجن في صيف 1994 ، كان إحساسي الاول الذي سيترسخ عندي فيما بعد هو أنني غريب وسط سكان المدينة و أن المدينة غريبة علي. وشعرت بأن كل شيء قد تغير ، جل أفراد أسرتي بعد موت الوالد غادروا المدينة للبحث عن سبل العيش، وسكان الحي لم أعد أعرف جلهم فقد غادروا الحي. وكما عدت ذات يوم غريبا للمدينة بعد خروجي من السجن، غادرتها في نفس السنة وأنا أحمل نفس الشعور.
عرفت من بعد بأن موسم الهجرات الكبيرة من مدينة اليوسفية قد بدأ في نهاية التمانينات من القرن الماضي، بعد أن قرر مسؤولو مملكة الفوسفاط إغلاق العمل بمناجم الاستغلال، ونقل العاملين إلى بنكرير المدينة الحديثة العهد باستغلال الفوسفاط، والبعض رحلوا للعمل في مدن مملكة الفوسفاط الجديدة وأسفي وخريبكة. تلك حكاية أخرى بدأ التخطيط لها بعد الاضراب العام للعمال في سنة 1986 الذي تمرد فيه العمال عن نظام الطاعة وظروف العمل القاسية بعد مدة طويلة.
إنهاء التجمعات العمالية التي أصبحت تشكل خطرا أمنيا، و تطوير تكنولوجيا استغلال الفوسفاط التي لا تعتمد على كثافة اليد العاملة كانت سببا لتغيير قدر المدينة. و تحولت الهجرة منها للخارج. في البداية كانت الهجرة لخارج الوطن خاصة إلى إيطاليا واسبانيا، تم إلى باقي المدن في المغرب بعد أن اشتدت محنة الهجرة لخارج الوطن.
تغيرت المدينة رأسا على عقب بعد أن تغيرت ساكنتها ورحلت، الذين أتوا من المدن البعيدة للعمل في المنجم رحلوا، وقلة بقيت واستمرت في العيش بالمدينة ولا أعرف السبب. لكنني متأكد أن المدينة لم تكن هي من أغرتهم بالبقاء، فلا شيء بعد العمل بالمنجم يغري بالبقاء في المدينة. وشبابها هم في هجرة دائمة إلى كل المناطق والمدن. والذين بقوا هم العمال المتقاعدين الذين بقوا لان الحياة في سن التقاعد غير مغرية من الاساس، يعيشون يومهم على ذاكرتهم.
أصبحت زيارتي للمدينة بعيدة وغير منتظمة، ومرة زرتها في فترة عيد الاضحى، وكانت شوارع وسط المدينة محتشدة، وعلمت من بعض اصدقائي أن أبناء المدينة وبناتها العاملين في المدن الاخرى يقضون فترة عطلة العيد بالمدينة، بل أن عطلة العمل السنوية عندهم أصبحت مرتبطة بعيد الاضحى. وهذا التقليد الجديد أصبح حتى عند العمال المهاجرين خارج الوطن. وغدت المدينة تلتقي مرة في السنة مع أبنائها في الهجرة وفي غيد الاضحى بالخصوص.
هذه السنة التي ربما ستحمل اسم " سنة كورونا" عند الناس، كانت المدينة خالية من أي إصابة بالفيروس، وبقيت خالية على وقع الاخبار اليومية. و ربما من المدن القليلة التي حافظت على نقائها من التلوث الوبائي. تعودت أن أبحث في تدفق الاخبار في فترة الحجر الكلي أو الجزئي صباح مساء عن اخبار المدينة، وأسعد لسماع استمرار صمود نقائها ضد تفشي الوباء.
بعد اقتراب يوم عيد الاضحى و مع الكوارث التي عرفتها البلاد والعباد جرار قرار السلطة التسلطي بمنع التنقل في ثمانية من أكبر المدن، أخبرني صديقي مصطفى ناقوس بأن حالتين في ضواحي المدينة سجلت إصابتهما بالوباء، وأن العديد من العاملات والعمال القادمين من مدينة البيضاء وبرشيد حيث اندلعت البؤر الكبيرة لتفشي وباء كورونا، دخلوا للمدينة.
أعرف أن عاملات وعمال المدينة المهاجرين داخل البلاد أو خارجها يودون أن يفعلوا المستحيل للعودة لمدينتهم وقضاء عطلة العيد بين اسرهم، التي أصبحت تقليدا لعطلتهم السنوية عن العمل ؛ و أن المدينة واهلها لن يتحفظوا في استقبال أبنائهم في هذه الظروف الخاصة. إنه عيد الاضحى بطعم وباء كورونا وتعسفات المخزن. ومهما يكن سأقول لأبناء وبناء بلدتي أين ما كنتم، كل عيد وأنتم في صحة جيدة.
سعيد كنيش
تمارة في 29/07/202
هذه مدينتي التي شهدت ولادتي وطفولتي وجزءا من شبابي الاول واحلامي ورعونتي مع اصدقائي وأقراني. وكنا نسميها فيما بيننا مدينة النحاس. لان سحنة ساكنتها تميل إلى لون الغبار يميل للأصفر الذي يتطاير في سمائها كل يوم، خاصة عندما يشتد الحر أو ينعدم سقوط المطر، وهو شحيح التساقط في مدينتي.
ما أعرفه عن مدينة اليوسفية قليل و هي ما تجمع لدي في فترة طفولتي و دراستي بالثانوية الاولى. بعد انتقالي لمدينة آسفي للدراسة بالثانوية الثانية في شعبة الاقتصاد تم الانتقال إلى جامعة مراكش كان انقطاعي الاول عن مدينة اليوسفية. و كنت عندما أعود إليها متسللا خوفا من الاعتقال بعد نشاطي النقابي والسياسي الطلابي، ألاحظ أن المدينة لا تغير من عاداتها و لا تكبر أو تعمر كباقي المدن التي كانت أصغر منها بكثير أو اكبر منها بقليل. فالعمل في المنجم هو الذي يحدد إيقاع المدينة و يشد الرحال إليها أو يشد بالبقاء فيها من أبناء جيلي. وكثير هم الذين تركوا المدرسة أو الثانوية وذهبوا للعمل في المنجم.
كان الاباء الذين عملوا بالمنجم وخلفهم أبناءهم خليط من جل مناطق المغرب بما فيهم ساكنة قبائل احمر باليوسفية ، وكان العيش في أحياء المدينة العمالية في غاية الانسجام بين هذا الخليط. أما الاطر المتوسطة والعليا العاملة التي خلفت الفرنسيين ،فغالبيتهم من مدن بعيدة. وكنا نعتبرهم نحن أجانب بيننا إلى أن يغادروا المدينة مع اسرهم لسبب التقاعد أو البحث عن تغيير المكان.
كان يتواجد بالمدينة حتى بداية السبعين من القرن الماضي ما تبقى من الاطر الاجنبية الفرنسيين إلى أن رحلوا .وبقيت الكنيسة و المقبرة المسيحية التي تأوي موتاهم، و حي الفيلات التي شيدوها لسكنهم، العلامات الباقية و الشاهدة على أنهم مروا من هنا. كنا نسمي حي الفيلات "ديور النصارى" و كانت تمثل لنا عالما خاصا لا يشبه المدينة ولا سحنة أهلها.
قطيعتي الثانية مع المدينة هي بعد اعتقالي وسجني لمدة تفوق عشر سنوات، وبعد خروجي من السجن في صيف 1994 ، كان إحساسي الاول الذي سيترسخ عندي فيما بعد هو أنني غريب وسط سكان المدينة و أن المدينة غريبة علي. وشعرت بأن كل شيء قد تغير ، جل أفراد أسرتي بعد موت الوالد غادروا المدينة للبحث عن سبل العيش، وسكان الحي لم أعد أعرف جلهم فقد غادروا الحي. وكما عدت ذات يوم غريبا للمدينة بعد خروجي من السجن، غادرتها في نفس السنة وأنا أحمل نفس الشعور.
عرفت من بعد بأن موسم الهجرات الكبيرة من مدينة اليوسفية قد بدأ في نهاية التمانينات من القرن الماضي، بعد أن قرر مسؤولو مملكة الفوسفاط إغلاق العمل بمناجم الاستغلال، ونقل العاملين إلى بنكرير المدينة الحديثة العهد باستغلال الفوسفاط، والبعض رحلوا للعمل في مدن مملكة الفوسفاط الجديدة وأسفي وخريبكة. تلك حكاية أخرى بدأ التخطيط لها بعد الاضراب العام للعمال في سنة 1986 الذي تمرد فيه العمال عن نظام الطاعة وظروف العمل القاسية بعد مدة طويلة.
إنهاء التجمعات العمالية التي أصبحت تشكل خطرا أمنيا، و تطوير تكنولوجيا استغلال الفوسفاط التي لا تعتمد على كثافة اليد العاملة كانت سببا لتغيير قدر المدينة. و تحولت الهجرة منها للخارج. في البداية كانت الهجرة لخارج الوطن خاصة إلى إيطاليا واسبانيا، تم إلى باقي المدن في المغرب بعد أن اشتدت محنة الهجرة لخارج الوطن.
تغيرت المدينة رأسا على عقب بعد أن تغيرت ساكنتها ورحلت، الذين أتوا من المدن البعيدة للعمل في المنجم رحلوا، وقلة بقيت واستمرت في العيش بالمدينة ولا أعرف السبب. لكنني متأكد أن المدينة لم تكن هي من أغرتهم بالبقاء، فلا شيء بعد العمل بالمنجم يغري بالبقاء في المدينة. وشبابها هم في هجرة دائمة إلى كل المناطق والمدن. والذين بقوا هم العمال المتقاعدين الذين بقوا لان الحياة في سن التقاعد غير مغرية من الاساس، يعيشون يومهم على ذاكرتهم.
أصبحت زيارتي للمدينة بعيدة وغير منتظمة، ومرة زرتها في فترة عيد الاضحى، وكانت شوارع وسط المدينة محتشدة، وعلمت من بعض اصدقائي أن أبناء المدينة وبناتها العاملين في المدن الاخرى يقضون فترة عطلة العيد بالمدينة، بل أن عطلة العمل السنوية عندهم أصبحت مرتبطة بعيد الاضحى. وهذا التقليد الجديد أصبح حتى عند العمال المهاجرين خارج الوطن. وغدت المدينة تلتقي مرة في السنة مع أبنائها في الهجرة وفي غيد الاضحى بالخصوص.
هذه السنة التي ربما ستحمل اسم " سنة كورونا" عند الناس، كانت المدينة خالية من أي إصابة بالفيروس، وبقيت خالية على وقع الاخبار اليومية. و ربما من المدن القليلة التي حافظت على نقائها من التلوث الوبائي. تعودت أن أبحث في تدفق الاخبار في فترة الحجر الكلي أو الجزئي صباح مساء عن اخبار المدينة، وأسعد لسماع استمرار صمود نقائها ضد تفشي الوباء.
بعد اقتراب يوم عيد الاضحى و مع الكوارث التي عرفتها البلاد والعباد جرار قرار السلطة التسلطي بمنع التنقل في ثمانية من أكبر المدن، أخبرني صديقي مصطفى ناقوس بأن حالتين في ضواحي المدينة سجلت إصابتهما بالوباء، وأن العديد من العاملات والعمال القادمين من مدينة البيضاء وبرشيد حيث اندلعت البؤر الكبيرة لتفشي وباء كورونا، دخلوا للمدينة.
أعرف أن عاملات وعمال المدينة المهاجرين داخل البلاد أو خارجها يودون أن يفعلوا المستحيل للعودة لمدينتهم وقضاء عطلة العيد بين اسرهم، التي أصبحت تقليدا لعطلتهم السنوية عن العمل ؛ و أن المدينة واهلها لن يتحفظوا في استقبال أبنائهم في هذه الظروف الخاصة. إنه عيد الاضحى بطعم وباء كورونا وتعسفات المخزن. ومهما يكن سأقول لأبناء وبناء بلدتي أين ما كنتم، كل عيد وأنتم في صحة جيدة.
سعيد كنيش
تمارة في 29/07/202