في آب من العام 1967 فارقت الكاتبة العكاوية الحياة. كان وضع الهزيمة على من عاش النكبة مرا وقاسيا. لقد كانت هزيمة 1967 استمرارا لنكبة 1948 ويبدو أن قلب الكاتبة لم يحتمل خسارتين كبيرتين كل واحدة أقسى من الثانية. لقد احتمل القلب النكبة وضعف عن احتمال الهزيمة ، فخان القلب صاحبته.
ما من عام يمر إلا تذكرت القاصة سميرة عزام، وأنا لا أنساها أصلا لأتذكرها، فنصوصها تحضر كل فصل دراسي لأدرسها نموذجا لأدب النكبة. وصارت بعض قصصها جزءا من المنهاج المدرسي الفلسطيني، بعد أن كانت جزءا من المنهاج الجامعي. أحب طلابي،ممن صاروا معلمين، نصوصها فأدرجوها في المنهاج " خبز الفداء"، فأخذت أدرس قصة " فلسطيني " ، ولا تغيب قصتها " لأنه يحبهم" عن ذهني. وفي المحاضرات أشير إلى قصتي " عام آخر " و" الثمن".
ثمة عبارات للقاصة -طبعا على لسان شخوصها- في بعض قصصها لا يغيب مضمونها عن الذاكرة. إنها عبارات دالة قوية مؤثرة، منها بعض عبارات قصة "لأنه يحبهم":
" يا إلاهي أي حجر تلقمنيه وأنت تقول بحكمتك الأجنبية: " في مثل ظروفكم يا صاحبي لا يدري المرء في أية لحظة يمكن أن يصبح لصا" و" حتى هذه تتجرأ على مال اللاجيء" -المقصود: الفئران، و " أعلمكم أن تجوعوا ليتمرد فيكم اليأس.. لتكبروا تكبروا على الرغيف الذليل"، وفي قصة فلسطيني " وينك يا ولد قل" للفلسطيني " أن يضع لي في السلة زجاجة كولا " وكان الفلسطيني صار فردا في قطيع وصارت فلسطينيته عبئا عليه فقرر "أن يتلبنن".
ومثل بعض عباراتها بعض عناوين قصصها.
في حزيران من العام 1966 نشرت القاصة ، في مجلة الآداب البيروتية، قصة عنوانها لافت " الحاج محمد باع حجته "، وكان الحاج ميسور الحال فحج سبع حجات ، وفي غمرة أحداث 1948 فقد أكثر أرضه وفقد ابنه فارس الذي تصدى لمجنزرة إسرائيلية أمطرته بعشر رصاصات، وكأن فارس مثال في لاوعي فارس عودة الذي تصدى في انتفاضة الأقصى -( اندلعت في 28 أيلول٢٠٠٠)- بجسده لدبابة إسرائيلية. ( هل كان فارس عودة قرأ قصة سميرة عزام المذكورة؟).
لم تدرج قصة " الحاج محمد.." في أية مجموعة من مجموعات القاصة، وكان وليد أبو بكر ألحقها بكتابه " أحزان في ربيع البرتقال: دراسة في فن سميرة عزام القصصي" (1985/ 1987).
تلفت القصة أنظار القراء الذين يبحثون عن أثر النكبة على المجتمع الفلسطيني. وكانت القاصة رصدت هذا في بعض قصصها التي أشار إليها يوسف اليوسف في كتابه " الشخصية والقيمة والأسلوب: دراسة في أدب سميرة عزام" ( د.ت) وفي القسم الثامن من دراسته توقف أمام قصة " لأنه يحبهم" وأورد عناوين القصص التي صورت القاصة فيها النكبة ولم يذكر قصة " الحاج محمد.." ولعله لم يطلع عليها.
يذهب اليوسف إلى أن قصة " لأنه يحبهم" أفضل قصص سميرة الوطنية لأنها تنبع " من صميم الكبد أو الوجدان" وهو، من وجهة نظري، لم يجاف الصواب.
ويمكن القول إن قصص الكاتبة ذات المضمون الوطني أقرب إلى القصيدة الغنائية التي تعبر عن تجربة صادقة حارة، ولهذا تمس شغاف القلب وتعيش مع قارئها طويلا.
وأنت تقرأ " الحاج محمد.." تتذكر قصة غسان كنفاني " أرض البرتقال الحزين".
أي ألم كابده اباؤنا و أجدادنا في أثناء تركهم وطنهم وعيشهم لاجئين؟
في " أرض البرتقال.." التي كتبت في الكويت في 1958 سرد عن الخروج الفلسطيني من يافا فعكا، وقد رأى بعض الدارسين في القصة سردا لتجربة شخصية لغسان وأبيه. في القصة نقرأ عبارات قاسية، وكان الأب فكر في قتل نفسه وفي الانتحار، لأنه يريد أن ينتهي، وكان يطلب من أبنائه الخروج من البيت لأنه ما عاد يحتمل.
الحاج محمد باع حجته وأخذ يهرب من واقعه المرير بتخمير العنب وملء الزجاجات به ليشرب وليغيب عن الوعي، بل وأخذ يوزع الزجاجات على غيره ليسكروا ولينسوا ما هم فيه.
في الأسابيع الأخيرة ألحت القاصة على ذهني، وقد تذكرتها لأسباب؛ لأن ذكرى وفاتها اقتربت، ولأنني قرأت روايات ذكرتني بعض أسطرها ببعض قصصها، ولأنني قرات بعض قصائد قديمة لمحمود درويش تذكر ببعض قصص سميرة.
يذكر درويش في إحدى قصائده أن وكالة الغوث لا تسال عن موته، وهو لم يعش في المخيم، وخلافا له القاصة في قصتها " لأنه يحبهم" فجاسوس المخيم يبلغ الوكالة عن الموتى حتى تشطب أسماءهم من قائمة المعونات، والقاصة معلوماتها أدق .
وكنت أقرأ في رواية الكاتبة التركية ( اليف شافاك) " لقيطة اسطنبول" فتذكرت " دموع للبيع".
في الصفحة 470 من الرواية وصف لما تقوم به الندابة/ اللطامة التي " أعطيت مبلغا من المال كي تأتي إلى منزل الميت وتندب من أجل أناس لم يسبق لها أن رأتهم ولو مرة واحدة. كان عويلها مؤثرا أدى إلى انهيار بقية النساء".
في قصة " دموع للبيع" تبيع خزنة في الأتراح دموعها لمن يعطيها المال حتى تندب ميته، ولكنها حين تموت ابنتها لم تستطع ذرف دمعة واحدة "بعضهم قال إنها جنت حتى بدت كالعقلاء، وقالوا لم يعد لديها دموع تبكي بها بعد أن استنفدتها في المآتم، كما لم يعدم الماتم من قال: خزنة لم تبك لأنها لم تقبض "هل من صلة أيضا بين قصة عزام وبين فكرة قصيدة السياب "حفار القبور"؟ ربما!
في قصيدة السياب نقرأ عن حفار قبور ينتظر جنازة ليقبض أجرة حفر قبر فيتمكن من العودة إلى البيت ومعه الطعام فيتعشى هو وزوجته، وتكون الجنازة جنازة زوجته. يا لها من مفاجأة! وفي القصة تموت ابنة الندابة التي تبيع دموعها فلا تتمكن الندابةمن ذرف دمعة واحدة على ابنتها . يا له من موقف!.
في آب ودعنا القاصة وأبرز أدبائنا وفنانينا: محمود درويش وناجي العلي وسميح القاسم وعبد اللطيف عقل.
الجمعة 3 آب 2018
ما من عام يمر إلا تذكرت القاصة سميرة عزام، وأنا لا أنساها أصلا لأتذكرها، فنصوصها تحضر كل فصل دراسي لأدرسها نموذجا لأدب النكبة. وصارت بعض قصصها جزءا من المنهاج المدرسي الفلسطيني، بعد أن كانت جزءا من المنهاج الجامعي. أحب طلابي،ممن صاروا معلمين، نصوصها فأدرجوها في المنهاج " خبز الفداء"، فأخذت أدرس قصة " فلسطيني " ، ولا تغيب قصتها " لأنه يحبهم" عن ذهني. وفي المحاضرات أشير إلى قصتي " عام آخر " و" الثمن".
ثمة عبارات للقاصة -طبعا على لسان شخوصها- في بعض قصصها لا يغيب مضمونها عن الذاكرة. إنها عبارات دالة قوية مؤثرة، منها بعض عبارات قصة "لأنه يحبهم":
" يا إلاهي أي حجر تلقمنيه وأنت تقول بحكمتك الأجنبية: " في مثل ظروفكم يا صاحبي لا يدري المرء في أية لحظة يمكن أن يصبح لصا" و" حتى هذه تتجرأ على مال اللاجيء" -المقصود: الفئران، و " أعلمكم أن تجوعوا ليتمرد فيكم اليأس.. لتكبروا تكبروا على الرغيف الذليل"، وفي قصة فلسطيني " وينك يا ولد قل" للفلسطيني " أن يضع لي في السلة زجاجة كولا " وكان الفلسطيني صار فردا في قطيع وصارت فلسطينيته عبئا عليه فقرر "أن يتلبنن".
ومثل بعض عباراتها بعض عناوين قصصها.
في حزيران من العام 1966 نشرت القاصة ، في مجلة الآداب البيروتية، قصة عنوانها لافت " الحاج محمد باع حجته "، وكان الحاج ميسور الحال فحج سبع حجات ، وفي غمرة أحداث 1948 فقد أكثر أرضه وفقد ابنه فارس الذي تصدى لمجنزرة إسرائيلية أمطرته بعشر رصاصات، وكأن فارس مثال في لاوعي فارس عودة الذي تصدى في انتفاضة الأقصى -( اندلعت في 28 أيلول٢٠٠٠)- بجسده لدبابة إسرائيلية. ( هل كان فارس عودة قرأ قصة سميرة عزام المذكورة؟).
لم تدرج قصة " الحاج محمد.." في أية مجموعة من مجموعات القاصة، وكان وليد أبو بكر ألحقها بكتابه " أحزان في ربيع البرتقال: دراسة في فن سميرة عزام القصصي" (1985/ 1987).
تلفت القصة أنظار القراء الذين يبحثون عن أثر النكبة على المجتمع الفلسطيني. وكانت القاصة رصدت هذا في بعض قصصها التي أشار إليها يوسف اليوسف في كتابه " الشخصية والقيمة والأسلوب: دراسة في أدب سميرة عزام" ( د.ت) وفي القسم الثامن من دراسته توقف أمام قصة " لأنه يحبهم" وأورد عناوين القصص التي صورت القاصة فيها النكبة ولم يذكر قصة " الحاج محمد.." ولعله لم يطلع عليها.
يذهب اليوسف إلى أن قصة " لأنه يحبهم" أفضل قصص سميرة الوطنية لأنها تنبع " من صميم الكبد أو الوجدان" وهو، من وجهة نظري، لم يجاف الصواب.
ويمكن القول إن قصص الكاتبة ذات المضمون الوطني أقرب إلى القصيدة الغنائية التي تعبر عن تجربة صادقة حارة، ولهذا تمس شغاف القلب وتعيش مع قارئها طويلا.
وأنت تقرأ " الحاج محمد.." تتذكر قصة غسان كنفاني " أرض البرتقال الحزين".
أي ألم كابده اباؤنا و أجدادنا في أثناء تركهم وطنهم وعيشهم لاجئين؟
في " أرض البرتقال.." التي كتبت في الكويت في 1958 سرد عن الخروج الفلسطيني من يافا فعكا، وقد رأى بعض الدارسين في القصة سردا لتجربة شخصية لغسان وأبيه. في القصة نقرأ عبارات قاسية، وكان الأب فكر في قتل نفسه وفي الانتحار، لأنه يريد أن ينتهي، وكان يطلب من أبنائه الخروج من البيت لأنه ما عاد يحتمل.
الحاج محمد باع حجته وأخذ يهرب من واقعه المرير بتخمير العنب وملء الزجاجات به ليشرب وليغيب عن الوعي، بل وأخذ يوزع الزجاجات على غيره ليسكروا ولينسوا ما هم فيه.
في الأسابيع الأخيرة ألحت القاصة على ذهني، وقد تذكرتها لأسباب؛ لأن ذكرى وفاتها اقتربت، ولأنني قرأت روايات ذكرتني بعض أسطرها ببعض قصصها، ولأنني قرات بعض قصائد قديمة لمحمود درويش تذكر ببعض قصص سميرة.
يذكر درويش في إحدى قصائده أن وكالة الغوث لا تسال عن موته، وهو لم يعش في المخيم، وخلافا له القاصة في قصتها " لأنه يحبهم" فجاسوس المخيم يبلغ الوكالة عن الموتى حتى تشطب أسماءهم من قائمة المعونات، والقاصة معلوماتها أدق .
وكنت أقرأ في رواية الكاتبة التركية ( اليف شافاك) " لقيطة اسطنبول" فتذكرت " دموع للبيع".
في الصفحة 470 من الرواية وصف لما تقوم به الندابة/ اللطامة التي " أعطيت مبلغا من المال كي تأتي إلى منزل الميت وتندب من أجل أناس لم يسبق لها أن رأتهم ولو مرة واحدة. كان عويلها مؤثرا أدى إلى انهيار بقية النساء".
في قصة " دموع للبيع" تبيع خزنة في الأتراح دموعها لمن يعطيها المال حتى تندب ميته، ولكنها حين تموت ابنتها لم تستطع ذرف دمعة واحدة "بعضهم قال إنها جنت حتى بدت كالعقلاء، وقالوا لم يعد لديها دموع تبكي بها بعد أن استنفدتها في المآتم، كما لم يعدم الماتم من قال: خزنة لم تبك لأنها لم تقبض "هل من صلة أيضا بين قصة عزام وبين فكرة قصيدة السياب "حفار القبور"؟ ربما!
في قصيدة السياب نقرأ عن حفار قبور ينتظر جنازة ليقبض أجرة حفر قبر فيتمكن من العودة إلى البيت ومعه الطعام فيتعشى هو وزوجته، وتكون الجنازة جنازة زوجته. يا لها من مفاجأة! وفي القصة تموت ابنة الندابة التي تبيع دموعها فلا تتمكن الندابةمن ذرف دمعة واحدة على ابنتها . يا له من موقف!.
في آب ودعنا القاصة وأبرز أدبائنا وفنانينا: محمود درويش وناجي العلي وسميح القاسم وعبد اللطيف عقل.
الجمعة 3 آب 2018