أدب السجون منقول - " الأوردي".. وثيقة إدانة للتعذيب السياسي

« الأوردي» سجن صغير ملحق ب»ليمان أبوزعبل«، يبعد عن المباني الرئيسية لليمان بحوالي كيلومتر، وفي الأوردي يعزل عادة عدد من نزلاء الليمان الأكثر خطرا. وقد وقع اختيار السلطات الحاكمة علي »الأوردي «ليكون معتقلا للشيوعيين مرتين أثناء حكم عبدالناصر، الأولي امتدت من نوفمبر 4591 الي يونيو 6591، والثانية من نوفمبر 9591 حتي سبتمبر 1991، هكذا يعرف المناضل سعد زهران »ليمان الأوردي« في كتابه المهم »الأوردي.. مذكرات سجين« والذي يعد سيرة ذاتية لكاتبه الذي كان نزيل الأوردي في هاتين المرتين اللتين ذكرهما سابقا، في ظروف صعبة علي حد تعبيره »حيث كانت ظروف الاعتقال في أوردي أبوزعبل أقسي ظروف عاشها المعتقلون الشيوعيون المصريون في تاريخ اضطهادهم الطويل الذي امتد علي أيدي كل من حكم مصر- 9591 الي سبتمبر 0691 هي اقسي فترات الأوردي. وهي الفترة التي نافس فيها الأوردي المستوي العالمي لأقسي معسكرات تعذيب المعتقلين السياسيين ولعل أهم ما يميز كتاب سعد زهران هو ما يحمله من صدق في الكتابة وموضوعية تناول الأحداث، التي عاشها ورأها بعينيه، لذا جاءت لغة الكتابة قريبة من اللغة اليومية التي عاشها المعتقلون السياسيون في »الأوردي« الذي أنشيء خصيصا لتعذيب المخالفين في الرأي سياسيا وثقافيا، فالتعذيب فيه مختلف عن أي سجن آخر، واقسي من اي تعذيب متخيل، فهو علي حد تعبير »زهران«: »لم يكن التعذيب فيه يهدف إلي انتزاع اعترافات، وانما كان اشد قسوة وهمجية كان يهدف الي تحطيم اللياقة الانسانية للخصوم السياسيين انه ذلك النوع من التعذيب الذي يجري باعصاب باردة وعلي فترات زمنية طويلة بهدف تحطيم الطاقات الفكرية والروحية للانسان، عن طريق التحطيم البطيء المحسوب، والضغط الدائم المرهق علي الوعاء الجسدي«.
وبموضوعية أكثر يبين »زهران« ان الشيوعيين لم يكونوا وحدهم في تلك المحنة اثناء الحكم الناصري، فهذا النوع من التعذيب لم ينج منه فريق واحد من الخصوم السياسيين الذين كان عبدالناصر يحسب لهم حسابا خاصا.
ويحلل المؤلف في مقدمته ايضا نوعية هذا التعذيب قائلا: من حسابات هذا النوع من التعذيب الا يصل الضحايا الي حد الموت الجسدي، انما تحرص السلطة علي الابقاء علي ضحاياها احياء جسديا، لكي لاتضبط في أي وقت متلبسة بجريمة قتل النفس البريئة بغير ذنب، وباسلوب مدان انسانيا وحضاريا، ولكي لايتحول الضحايا إلي شهداء، ولكنها تسعي الي القتل المعنوي والروحي. واعراض هذا القتل اما ان تكون سلبية خامدة، اي يخرج الضحايا عاجزين تماما عن التواصل مع الجماعة الانسانية التي ينتمون اليها (حزبا أو وطنا أو عقيدة...)، حيث يصل الفرد إلي الكفر بكل القيم والمعاني التي كانت تربطه بالجماعة، والتي كان يعتبرها في يوم من الأيام نبيلة وصحية، وينتهي الي حالة من السلبية والخمول والعزلة التعيسة، تغذيها كوابيس الرعب وركام المخاوف القادرة علي أحداث الشلل وجمود الموت في كل ما حوله من حوله من كائنات... وأخيرا إلي تسليم أقداره لأيدي معذبية«.
وقد تصل أعراض القتل المعنوي والروحي إلي ماهو أبعد من هذا، حيث يصل الفرد، وربما هذه الجماعة او تلك، ليس فقط الي حد تسليم قدرها ومصيرها لأيدي معذبيها ومضطهديها، وانما الي حد الاسهام النشيط في دعم سلطة هؤلاء المعذبين انفسهم. يتم هذا بدافع الذعر في البداية، ثم يصل- عبر سلسلة عمليات غريبة لخداع الذات وتبرير الضعف وتنظير اليأس، مستنذة إلي خلفية فكرية قاصرة ومتخلفة- الي حد الولع والامتنان بالمعذبين (بكسر الدال) الي حد الاعجاب للحاكم الهمجي ومحبته وقبول التضحية بالذات من اجله.
هذه الصورة القاسية- وللأسف انها صورة واقعية- التي يرسمها سعد زهران للأثر النفسي القاسي للتعذيب تمثل دمارا معنويا وروحيا، للمناضلين، ومن ناحية اخري فانها تخدم اهداف السلطة الاستبدادية.
ويري زهران ان هذا النوع القاسي من التعذيب لم يأت عفويا بل كان هناك تدريب للضباط الذين قاموا به فهو »تعذيب مخطط« حيث اوفدت السلطة الناصرية في الخمسينيات عددا من الضباط للتدريب في الولايات المتحدة الامريكية، من بينهم حسن منير، مأمور أوردي أبوزعبل. ولم يكن يرأس حسن منير في مهمته تلك سوي حسن المصيلحي، الذي كان في ذلك الحين مسئولا عن مكافحة الشيوعية في مصر، وكان المستشار الشخصي لعبدالناصر لشئون الأمن الداخلي.
وخطورة هذا التعذيب- كما اشرنا قبل ذلك -انه يركز علي »التشويه الوجداني« كما يسميه »زهران« فالانسان حين تطول به فترات العذاب والمهانة تترسب في اعماقه صنوف من المرارة والقسوة تجعل المعاناة الانسانية لاتعني بالنسبة اليه الكثير، ويمكن ان تنمي روحا انتقامية تستهين بآلام البشر.
وهذا التشويه المتعمد يكون اكثر وطأة علي نفسية المسجون السياسي، الذي هو بطبيعة الحال والتكوين الفكري من اكثر الحالمين بالجنة علي الأرض، واكثر الجميع استعدادا للتضحية من اجل المستقبل الموعود.. ولكن.. ماذا يبقي من الانسان بعد ان يقضي سنوات طويلة من ازهي سنوات العمر يأكل اشياء تعافها الكلاب الضالة، ويساق بالسوط في اشغال شاقة في جبل متوحش او صحراء مهلكة وهو حاف يرتدي اسمالا ممزقة وقد تغطي بالأتربة والأوساخ والجروح حتي لتخاله شبحا خارجا من تحت انقاض.
ولعل هذه المقدمة التي كتبها »سعد زهران« عام 9791 لكتابه الذي يعد وثيقة تاريخية علي واحدة من اهم فترات التعذيب السياسي والاعتقالات السياسية التي طالت السياسيين والمفكرين والأدباء المصريين في ظل القبضة الأمنية الرهيبة، لعل هذه المقدمة التي بها شديد الواقعية واخر شديد الفلسفة وثالث عميق في تحليل شخصية السجان وشخصية المسجون، تقدم لنا صورة واضحة وجلية كيف يبتكر الطغاة وسائل لتعذيب المخالفين، حيث لا احترام لمعارضة او صوت العقل.


نشر في أخبار الأدب يوم 09 - 04 - 2011

تعليقات

لا توجد تعليقات.

هذا النص

ملف
أدب السجون والمعتقلات
المشاهدات
684
آخر تحديث
أعلى