يقول المتنبي: أعز مكان فى الدنى سرجُ سابحٍ/ وخير جليسٍ فى الزمانِ كتابُ. ومن المؤكد أن هذا الشاعر عرف كلتا المتعتين. فشعره يدل على أنه كان فارسا؛ كما يدل على أنه كان يجالس الكتب، ولا سيما كتب الفلاسفة. ومن ثم كان وصفه بأنه شاعر حكيم. أما أنا فإنى لم أعرف متعة السباحة مع الخيل إلا مرة واحدة ولدقائق معدودات أصابنى خلالها الذعر خشية أن تطرحنى المهرة الحسناء أرضا. وكان ذلك نهاية عهدى بركوب الخيل. ولكن المتعة الأخرى مجالسة الكتب فقد عرفتها منذ طفولتى وأدمنتها طيلة حياتي.
من حسن حظى أنها كانت دائما فى متناول يدي. كانت مدرستى الابتدائية تحتفى أيما احتفاء باللغة العربية شعرا ونثرا. وكان لشوقى وطه حسين حضور قوى فيها. وكذلك كانت مدرستى الثانوية فى أبوكبير. يضاف إلى ذلك أن هذه المدرسة الأخيرة كانت تحتوى على مكتبة يسمح فيها بالاستعارة الخارجية. بل وكانت هناك أيضا مكتبة فى دوار عمدتنا، وكان العمدة يسمح لنا نحن أبناء القرى التابعة له بالاستعارة منها.
وكانت الفترة التى أعنيها فترة أواخر الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضى غنية بالمجلات الأدبية الراقية، ومن أبرزها: الرسالة التى كان يرأس تحريرها أحمد حسن الزيات؛ والثقافة التى كان يرأس تحريرها أحمد أمين؛ والكاتب المصرى التى كان يرأس تحريرها طه حسين؛ والكاتب التى كانت تصدرها دار المعارف ويرأس تحريرها عادل الغضبان. وكانت صحيفة المصرى تحت رئاسة محمد مندور تخصص مساحات كبيرة للأدب، وبخاصة أدب الشباب. فظهر فيها سعد مكاوي، وعبدالرحمن الخميسي، ويوسف إدريس، وصلاح عبدالصبور. ولا أعتقد أن مصر شهدت فى أى فترة من فترات نهضتها مثل ذلك الازدهار فى مجال الصحافة الأدبية، وكانت الكتب حينذاك توجد على قارعة الطريق. والحديث عن علاقة الكتب بالشوارع والأرصفة يذكرنى بأننى عندما كنت طالبا بالثانوية عثرت فى مكتبة للكتب المستعملة فى أبو كبير على ديوان المتنبى (مطبوعا بالحجر فى القرن التاسع عشر) وديوان مسلم بن الوليد (صريع الغواني) مع ترجمة باللاتينية، وكان مطبوعا فى مدينة لايدن المحروسة فى القرن الثامن عشر. فكيف سافر هذا الكتاب من هولندا إلى حارة موحلة من حوارى أبوكبير؟ أليس هذا ضربا من السحر؟
وعندما أقمت فى القاهرة فى فترة الدراسة الجامعية عرفت الكنوز التى كانت معروضة على سور حديقة الأزبكية. كما عرفت أن من يزور قهوة الفيشاوى يأتيه بائع للكتب ويعرض عليه ما لديه منها أو يطلب له ما يشاء أينما توافرت. وكان هناك سور آخر للكتب لا يعرفه إلا سكان شبرا. وأعنى بذلك سور مدرسة التوفيقية الثانوية. وكان بائع الكتب المعروضة على السور شابا يدعى إبراهيم الصيرفي. وقد التحق صاحبنا هذا بكلية الآداب جامعة عين شمس، وحصل على الليسانس، ثم عمل مخرجا فى البرنامج الثانى بإذاعة القاهرة.
ولا أنسى مسيرتى فى طريقى إلى الجامعة من شارع محمد على إلى السيدة زينب عبر الحلمية الجديدة. وفى شارع من شوارع هذا الحى الجميل اهتديت إلى مكتبة يديرها فنان فقير (يطلق لحيته ويرتدى البيريه)، وهناك اشتريت منه مجلدا ضخما بالانجليزية يحتوى على مقتطفات كبيرة من روائع الأدب والشعر من عصور ولغات مختلفة. وأذكر من بين هذه الروائع ترجمة إنجليزية لفصل من كتاب للفيلسوف الفرنسى دنيس ديديرو (القرن الثامن عشر) عنوانه ابن أخى رامو. ورامو مؤلف موسيقى فرنسي، وكان له فيما روى ديديرو ابن أخ صعلوك أدار معه الفيلسوف حوارا خياليا رائعا يكاد يكون مسرحية. واستطاع المؤلف الفيلسوف أن يرسم عن طريق ذلك الحوار صورة أخاذة لشخصية بوهيمية مركبة على نحو فريد. فقد كان مزيجا من الحكمة ونفاذ البصيرة والحماقة والفساد. وحظى العمل باهتمام عدد من كبار الأدباء والفلاسفة. ترجمه جوته إلى الألمانية وكتب عنه هيجل، وإنجلز، وفرويد. وعندما قرأت ذلك الفصل المقتطف خلب لبي. وذكرنى بأخبار الحمقى والطفيليين فى الأدب العربي. كما ذكرنى بمهرجى الملوك عند شكسبير. وابن أخى رامو كما صوره ديديرو تجسيم للقول الشائع عندنا، خذوا الحكمة من أفواه المجانين. يضاف إلى ذلك أن هذا الصعلوك كان عليما بالموسيقى ذواقا لها، وقادرا على نقدها وعزفها عن طريق التمثيل والمحاكاة. ثم مرت سنوات قبل أن أحصل على النص الكامل بالإنجليزية والفرنسية. وظلت تلك الشخصية العجيبة تلح على لسنوات طويلة. ولم يهدأ لى بال حتى ترجمت الكتاب.
ويذكرنى حديثى عن الكتب بأن العالم قد تغير. لم تعد الكتب تعرض فى الشوارع وعلى الأرصفة. بل ان متاجر الكتب المستعملة أصبحت فى طريقها إلى الانقراض، إن لم تكن قد انقرضت بالفعل. بل ويبدو أن الكتب الورقية أخذت تتوارى خلف الكتب الإلكترونية. فهل ستنقرض فى يوم من الأيام الكتب كما عرفتها وأحببتها، ويزول عن العالم سحرها؟ وأين ذهبت كتبي؟ أين ديوان صريع الغوانى المطبوع فى لايدن المحروسة؟ لقد بعته مع كل ما كان لدى من كتب قبل أن أسافر إلى انجلترا. فماذا حدث لهذا الكتاب النادر الذى دار فى أرجاء الأرض؟ وأين انتهى به المطاف؟
وهناك بالمناسبة كتاب آخر فى نحو اللغة اليونانية القديمة، وكان المعلم يشيد به ويدعى أن مؤلفه لم تفته شاردة ولا واردة فى ذلك الباب؛ وكان يتأسف لأن الكتاب الذى طبع فى سنة 1902 نفد ويصعب الحصول على نسخة منه. ثم دارت الأيام حتى وقعت معجزة. فقد حدث ذات يوم أن رأيت فى حى هاى جيت (بلندن) دكانا للكتب المستعملة، فلما دخلته انحنيت لأنظر فى الرفوف السفي، ولما اعتدلت كان فى يدى كتاب، وكان هو كتاب النحو الرائع الذى كنت أحلم به، واشتريته بنصف كراون (شلنين ونصف الشلن). ومما يعزينى شيئا ما عما فقدت من كتب، أن الكتاب المذكور نجا من عصف الزمان وما زال فى حوزتى أتبرك به كالأيقونة.
من حسن حظى أنها كانت دائما فى متناول يدي. كانت مدرستى الابتدائية تحتفى أيما احتفاء باللغة العربية شعرا ونثرا. وكان لشوقى وطه حسين حضور قوى فيها. وكذلك كانت مدرستى الثانوية فى أبوكبير. يضاف إلى ذلك أن هذه المدرسة الأخيرة كانت تحتوى على مكتبة يسمح فيها بالاستعارة الخارجية. بل وكانت هناك أيضا مكتبة فى دوار عمدتنا، وكان العمدة يسمح لنا نحن أبناء القرى التابعة له بالاستعارة منها.
وكانت الفترة التى أعنيها فترة أواخر الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضى غنية بالمجلات الأدبية الراقية، ومن أبرزها: الرسالة التى كان يرأس تحريرها أحمد حسن الزيات؛ والثقافة التى كان يرأس تحريرها أحمد أمين؛ والكاتب المصرى التى كان يرأس تحريرها طه حسين؛ والكاتب التى كانت تصدرها دار المعارف ويرأس تحريرها عادل الغضبان. وكانت صحيفة المصرى تحت رئاسة محمد مندور تخصص مساحات كبيرة للأدب، وبخاصة أدب الشباب. فظهر فيها سعد مكاوي، وعبدالرحمن الخميسي، ويوسف إدريس، وصلاح عبدالصبور. ولا أعتقد أن مصر شهدت فى أى فترة من فترات نهضتها مثل ذلك الازدهار فى مجال الصحافة الأدبية، وكانت الكتب حينذاك توجد على قارعة الطريق. والحديث عن علاقة الكتب بالشوارع والأرصفة يذكرنى بأننى عندما كنت طالبا بالثانوية عثرت فى مكتبة للكتب المستعملة فى أبو كبير على ديوان المتنبى (مطبوعا بالحجر فى القرن التاسع عشر) وديوان مسلم بن الوليد (صريع الغواني) مع ترجمة باللاتينية، وكان مطبوعا فى مدينة لايدن المحروسة فى القرن الثامن عشر. فكيف سافر هذا الكتاب من هولندا إلى حارة موحلة من حوارى أبوكبير؟ أليس هذا ضربا من السحر؟
وعندما أقمت فى القاهرة فى فترة الدراسة الجامعية عرفت الكنوز التى كانت معروضة على سور حديقة الأزبكية. كما عرفت أن من يزور قهوة الفيشاوى يأتيه بائع للكتب ويعرض عليه ما لديه منها أو يطلب له ما يشاء أينما توافرت. وكان هناك سور آخر للكتب لا يعرفه إلا سكان شبرا. وأعنى بذلك سور مدرسة التوفيقية الثانوية. وكان بائع الكتب المعروضة على السور شابا يدعى إبراهيم الصيرفي. وقد التحق صاحبنا هذا بكلية الآداب جامعة عين شمس، وحصل على الليسانس، ثم عمل مخرجا فى البرنامج الثانى بإذاعة القاهرة.
ولا أنسى مسيرتى فى طريقى إلى الجامعة من شارع محمد على إلى السيدة زينب عبر الحلمية الجديدة. وفى شارع من شوارع هذا الحى الجميل اهتديت إلى مكتبة يديرها فنان فقير (يطلق لحيته ويرتدى البيريه)، وهناك اشتريت منه مجلدا ضخما بالانجليزية يحتوى على مقتطفات كبيرة من روائع الأدب والشعر من عصور ولغات مختلفة. وأذكر من بين هذه الروائع ترجمة إنجليزية لفصل من كتاب للفيلسوف الفرنسى دنيس ديديرو (القرن الثامن عشر) عنوانه ابن أخى رامو. ورامو مؤلف موسيقى فرنسي، وكان له فيما روى ديديرو ابن أخ صعلوك أدار معه الفيلسوف حوارا خياليا رائعا يكاد يكون مسرحية. واستطاع المؤلف الفيلسوف أن يرسم عن طريق ذلك الحوار صورة أخاذة لشخصية بوهيمية مركبة على نحو فريد. فقد كان مزيجا من الحكمة ونفاذ البصيرة والحماقة والفساد. وحظى العمل باهتمام عدد من كبار الأدباء والفلاسفة. ترجمه جوته إلى الألمانية وكتب عنه هيجل، وإنجلز، وفرويد. وعندما قرأت ذلك الفصل المقتطف خلب لبي. وذكرنى بأخبار الحمقى والطفيليين فى الأدب العربي. كما ذكرنى بمهرجى الملوك عند شكسبير. وابن أخى رامو كما صوره ديديرو تجسيم للقول الشائع عندنا، خذوا الحكمة من أفواه المجانين. يضاف إلى ذلك أن هذا الصعلوك كان عليما بالموسيقى ذواقا لها، وقادرا على نقدها وعزفها عن طريق التمثيل والمحاكاة. ثم مرت سنوات قبل أن أحصل على النص الكامل بالإنجليزية والفرنسية. وظلت تلك الشخصية العجيبة تلح على لسنوات طويلة. ولم يهدأ لى بال حتى ترجمت الكتاب.
ويذكرنى حديثى عن الكتب بأن العالم قد تغير. لم تعد الكتب تعرض فى الشوارع وعلى الأرصفة. بل ان متاجر الكتب المستعملة أصبحت فى طريقها إلى الانقراض، إن لم تكن قد انقرضت بالفعل. بل ويبدو أن الكتب الورقية أخذت تتوارى خلف الكتب الإلكترونية. فهل ستنقرض فى يوم من الأيام الكتب كما عرفتها وأحببتها، ويزول عن العالم سحرها؟ وأين ذهبت كتبي؟ أين ديوان صريع الغوانى المطبوع فى لايدن المحروسة؟ لقد بعته مع كل ما كان لدى من كتب قبل أن أسافر إلى انجلترا. فماذا حدث لهذا الكتاب النادر الذى دار فى أرجاء الأرض؟ وأين انتهى به المطاف؟
وهناك بالمناسبة كتاب آخر فى نحو اللغة اليونانية القديمة، وكان المعلم يشيد به ويدعى أن مؤلفه لم تفته شاردة ولا واردة فى ذلك الباب؛ وكان يتأسف لأن الكتاب الذى طبع فى سنة 1902 نفد ويصعب الحصول على نسخة منه. ثم دارت الأيام حتى وقعت معجزة. فقد حدث ذات يوم أن رأيت فى حى هاى جيت (بلندن) دكانا للكتب المستعملة، فلما دخلته انحنيت لأنظر فى الرفوف السفي، ولما اعتدلت كان فى يدى كتاب، وكان هو كتاب النحو الرائع الذى كنت أحلم به، واشتريته بنصف كراون (شلنين ونصف الشلن). ومما يعزينى شيئا ما عما فقدت من كتب، أن الكتاب المذكور نجا من عصف الزمان وما زال فى حوزتى أتبرك به كالأيقونة.