لا يبدو سآرتر مجرد كاتب أو فيلسوف عادي ، بل هو إحدي العلامآت الفارقة في مسيرة القرن العشرين ، فهو ينتمي لتلك الطبقة من المثقفين العظام الذين وضعوا بصماتهم اللامعة علي سِفر الخلود ، لذلك فإنه سوف يبقي متصدراً المشهد زمانا طويلا ضمن عباقرة الأدب و الفكر من امثال شكسبير و دانتي و فاليري و غوته و ميخائيل باختين و تودورف و دستوفيسكي و غيرهم ممن كانت لهم اسهامات ضخمة علي صعيد الكتابة بكافة أشكالها ، ففكر الرجل ما فتيء مشتعلاً و لم تكد تخمد جذوتهِ طوآل العقود الماضية ، بل ظل ينمو و يزدهر في حدائق المعرفة الإنسانية بفعل الإجتراحات العميقة التي قام بها علي صعيد قضايا الفكر النقديً المعاصر و التي تصعب الإحاطة بها و فهمها علي نحو دقيق بالنسبة للقاريء العادي الذي قد لا يدرك كثيرا الابعاد المتصلة بجوهر الأدب من منظور الفلسفة الوجودية ، إضافة إلي جملة المباديء الوجودية العامة التي إستند عليها سآرتر كثيرا في ميدان النقد الأدبي.
إن ما نحن بصدده هنا ليس بالطبع دراسة شمولية لفكر سآرتر و ليس استقصاء مستفيضا لمساهماته في حقول المعرفة و النقد ، فذلك مما لا سبيل إليه هنا ، و لكننا سنحاول تسليط الضوء علي مسألة محددة تقع ضمن نطاق آطروحاته النقدية و هي بشكل اكثر تحديداً تتعلق بمآهية و هوية الجمهور الذي يتوجه إليه الكاتب باعتبار أن الكاتب أو المؤلف -و بحسب التوصيف الذي قدمه قدمه سآرتر لوظيفته الأجتماعية - يعتبر وسيطاً بين اطراف كثيرة و متعددة في المجتمع الذي يعيش فيه ، فجملة ارائهِ و افكاره و معتقداته تتقاطع دائما مع فئات و طبقات إجتماعية ذات مصالح متضاربة.
إن المسألة الجوهرية حول هذا الموضوع تتصل بمبدأ العلاقة بين النص من جهة و المتلقي من جهة أخري ، ففي حين يحاول بعض الكلاسيكيون الفصل بين هوية القاريء و بين النص الادبي بطريقة ميكانيكية ، ينهض سآرتر في المقابل ليكشف لنا و بجلاء –خلال الفصلين الثاني و الثالث من مؤلفهِ ذائع الصيت (ما الأدب) (1) –عن حقيقة ذلك الإرتباط الوجودي بين القراءة و الكتابة مؤكداً أن القاريء هو الذي يضفي علي النص صفة الوجود بإنتاجهِ إياه من خلال عملية القراءة ، وو فقا لهذا فإن النص الادبي لا يمكن إدراكه من خلال اللغة وحدها بل كذلك من خلال تمظهراته في وعي المتلقي و هكذا و بحسب سآرتر فإن جهود القاريء في سبيل تخليق النص لا يمكن أن تقلً عن جهود الكاتب نفسه. و من ناحية اخري فإن سآرتر و في خضم بحثه عن هذه الإشكالية المعقدة (علاقات القراءة و الكتابة ) في الفصل الثالث من كتاب (ما الأدب) و هو الفصل الذي خصصه بالكامل لمناقشة هوية جمهور الكتابة و الأدب، يميط اللثام عن حقيقة مفادها أن جميع الأعمال الادبية تحتوي بداخلها علي صورة القاريء الذي كتبت له و ذلك في معرض تحليله لشخصيات ميناليلك و ناتانايل المعروفة بصمت البحر ، و هو هنا أيضا و بإعلانه هذا ينجاوز كثيرا تلك الأطروحات الكلاسيكية العتيقة حول المفاهيم المتصلة بطبيعة العلاقة بين القاريء و الكاتب بوصفها مجرد علاقات منتج و مستهلك . و لا يكاد سآرتر يغفل أيضاً في ذات الفصل من الكتاب عن المسائل المتعلقة بإلتزام الكاتب و صلة ذلك الالنزام بقضايا حرية الآخرين من خلال تفاعل الكاتب مع مجتمعه الذي يقلده مكانته المستحقة و يسبغ عليه وظيفته الاجتماعية كمؤلف.
حول عالمية الكتابة و محليتها :
لا يكاد يكتب الكاتب إلا و في ذهنه جمهور محدد يسعي بالكتابةِ إليه و يرميِ إلي إحداث تأثير من نوع خاص علي وعيهِ و فكرهِ ، و لقد أوضح سآرتر و بجلاء أن الكاتب لا يتوجه في هذا الصدد إلي جمهور عالمي فهذا خطل كبير، فليست الكتابة فعلا جزافيا يتلقفه جميع الناس بلا استثناء ، بل هي نشاط تواصلي إدراكي موجه إلي قاريء في وطن خاص ،في موقف محدد و بالتالي فان الحديث عن الحرية و بحسب تعبير سآرتر (حرية الكاتب /القاريء) لا يجدي لأن فعل الحرية لا يدرك إلا من خلال موقف محدد تختبر فيه مدي فاعلية الكتابة .(2).
و تأسيساً علي هذا ، فإن سآرتر يقرر حقيقة مهمة و هي أن المؤلف و حتي إن تطلع إلي المجد الخالد عبر تبني قيم كلية و مباديء عامة مشتركة بين البشر سعيا للعالمية ، فانه و في نهاية الأمر لا يكاد يتحدث إلا الي معاصريه و مواطنيه و إخوانه من بني جنسه.
و ما دام المؤلف لا يحقق مشروعه في الكتابة الا من خلال قاريء محدد يشاطر الكاتب تبعية ثقافية و اجتماعية مشتركة ، فإن الكاتب بالتالي لا يجد نفسه مضطرا لقول كل شيء خلال الكتابة ،فاللغة ذات وظيفة اضمارية و طالما ان القاريء و الكاتب تجمعهما قرائن مشتركة فإن الإشارة وحدها من الكاتب قد تكفي أحيانا للدلالة علي كل شيء و لهذا فليس ثمة حاجة للإطالة في الكتابة ، و من ناحية أخري فان الكاتب يكتنز في وعيه الداخلي عن الموضوع الذي يكتب فيه أكثر بكثير مما يبوح به للمتلقي ، فهو لم يقل كل شيء و لا سبيل أمامه لقول كل شيء و بعبارة أخري فإن المؤلف و حسب تعبير سآرتر لا يفصح من خلال الكتابة عن كل ما يعرفه و ليس مطلوباً منه ذلك أيضا .
في ذات الإتجاه ، يعقد سآرتر مقارنة فيما يتعلق بمالوقف المضاد لموقف الكاتب و هو موقف القاريء ، و هو موقف يتأرجح بين الجهل التام و العلم المطلق تجاه نية و قصدية المؤلف مؤكدا أن إستجابات القراء و تفاعلاتهم مع كاتب النص الأدبي لا يمكن قراءتها و فهمها الا علي ضوء حقيقة مفادها أن جميع القراء و كما أسلفنا سابقا تجمعهم مع المؤلف تبعات مشتركة و أرضية ثقافية و حضارية واحدة و لتبسيط هذه المسألة يمضي سآرتر قائلا :
( أهل العصر الواحد و المجتمع الواحد الذين عاشوا نفس الأحداث ، وواجهوا أو تجنبوا نفس المسائل ، لهم في حلوقهم مذاق واحد و تجمعهم ذكريات موتي واحدة.)(3)
بناءا علي هذا ، فان الشيء الذي يساهم بدرجة كبيرة في مقروئية العمل الادبي هو مدي إرتباط ذلك العمل بقضايا مجتمع القراء ذوي القرائن المشتركة و المصيرالاإنساني الواحد و لا تبدو بالتالي عملية القراءة هنا الا بوصفها عملية تحررية انعكاسية يتم من خلال اعادة قراءة الذات و اكتشافها من خلال الادراك المتبادل و الحس المشترك بين الكاتب و جمهوره ، فالكاتب و بحسب هذه الفرضية لا يقدم الا صورة الذات الي الذات و صورة المجتمع الي المجتمع .
بيد أنه لا ينبغي أن يفهم من خلال هذا كله ، أن ليس ثمة كتابة عالمية و ان الكاتب ليس في مكنته أن يخاطب الناس علي الصعيد العالمي ، و لكن فقط سآرتر يود أن يقول أن للكتابة رسالتها العالمية و لكن هذه الرسالة لا يمكن ان تتحقق الا من خلال جمهور محلي خاص ذو طابع ثقافي انساني محدد يتشارك بيئة محلية ذات خصائص مشتركة ، فعالمية الجنس الإنساني من خلال الخطاب الأدبي علي حد تعبير سآرتر لا تكاد تظهر و تتجلي الا من خلال أفق الفئة المعينة التاريخية من القراء الذين يتشاطرون ظروفا انسانية مماثلة و تجمعهم ذكريات موتي واحدة .
الكتابة بإعتبارها فعلاً تحررياً :
ينتهي سآرتر اذن الي القول أن ثمة عالما كاملا يشترك فيه المؤلف مع القاريء ، و أن هذا العالم يقوم بالدرجة الأولى علي الوقائع المشتركة و التاريخ الواحد و التقاليد و القيم الموروثة و أن المهمة الأساسية التي ينبغي أن يضطلع بها الكاتب بناء علي هذا هي أن ينفث حياة جديدة في هذا العالم و ينفذ فيه حريته مثلما تحتم عليه مسؤوليته كذلك أن ينهض بوعي القاريء تجاه هذا العالم المشترك بغية مساعدته علي الانعتاق من ربقة العبودية للواقع و من اجل إحداث شكل من أشكال التغيير علي هذا الواقع و كل ذلك انما يتم من خلال التمظهر المباشر لفعل للحرية و هو (الرفض) فالرفض لدي سآرتر لا يمكن أن يصدر عن قوة تجريدية فليس من شأن القوة التجريدة أن تقول (كلا ) بل تصدر (كلا) في مجابهة موقف إنساني محدد تضطلع به ذات واعية و مدركة لعملية الرفض نفسها و لما يترتب عليه من تبعات .
لذلك كله فقد رأي سآرتر في الكتابة ميدانا لانجاز حرية الكاتب و القاريء عل حد سواء ، و إعتبر أن حرية الكاتب تتصل بحرية القاريء و أن ثمة تأثيرا مشتركا بينهما ، فالكاتب حين يختار بعض الظاهرات او الموضوعات المحددة كي يكتب عنها إنما يعبر عن حريته من خلال توجههه نحو طبقة معينة من القراء الذين يشاركونه الحماس و الاهتمام بذات الموضوعات ، و القاريء من الناحية الأخري حين يختار و يصطفي لنفسه كتابا معينيين يقرأ لهم فانه بالتالي ينحاز الي خطاب محدد من الممكن ان يسهم في بناء وعيه تجاه العالم بشكل أفضل ، و خلاصة القول هنا أن الكاتب و القاريء يتبادلان التأثير بينهما من ثنايا عالم واحد .
الجمهور الواقعي و الجمهور الإمكاني /
يبدو سآرتر أيضا مهموما خلال الفصل الثاني من كتابه الموسوم (ما الأدب ) بفحص مسألة أخري متعلقة بجماهيرية الكتابة و هي تتلخص حول أن ثمة إنقساما قد يحدث داخل مجتمع القراء الواحد الي طبقتين أو فئتين إحداهما أكثر تحفظا و معارضة تجاه ما يكتبه الكاتب (المجتمع الواقعي) و هي طبقة تناجز دعوات الكاتب للتحرر من ربقة ظروف اجتماعية و سياسية و اقتصادية معينة ،و فئة اخري داعمة للكاتب و توجهاته أطلق عليها سآرتر (الجمهور الإمكاني ) نافيا بذلك إمكانية تجانس مجتمع القراء .
و في سبيل شرح الفكرة برمتها ،فإن سآرتر يتوسل بمنهج تاريخي بائن لشرح منطق الكتابة و توضيح غايات كلا من المعسكرين (المجتمع الواقعي ) و (المجتمع الإمكاني) ، فيأخذنا في رحلة صوب القرن السابع عشر علي سبيل المثال مستكشفا عالم الكتابة و جمهورها خلال ذلك القرن الذي زعم سآرتر أن ليس ثمة جمهور إمكاني قد وجد من خلاله لأن الفنان أو الكاتب في ذاك العصر كان يعبر بالدرجة الأولي عن الطبقة الحاكمة و عن صفوة المجتمع و لم يكن معنيا بالتالي بالتعبير عن مواقف أو إتجاهات العوام و المسحوقين و معاناتهم فالكاتب كان صوتا للطبقات العليا في المجتمع ، متبنيا لمذاهب الصفوة الارستقراطية الفنية و الفكرية و لذلك يجب ان لا ينظر اليه الا كشريك لمشاريع جمهوره من النبلاء و الارستقراطيين بما فيها من عيوب ،فالكاتب في القرن السابع عشر باختصار كان معنيا بانتاج الأعمال التي من شأنها أن تبهج الصفوة و تتواءم مع ميولهم الفنية .، فهو بهذا –اي الكاتب- أدرك حقيقة أنه قد علا فوق مستوي طبقته فصار دون طبقة النبلاء و لكنه في ذات الوقت قد أضحي فوق مرتبة رجالات التعليم و التجار و بذلك فان رسالته لم تكن موجهة الي هؤلاء بل الي المجتمع الذي أسبغ عليه دوره ككاتب و هو مجتمع الصفوة .
هكذا إستمر الحال خلال القرن السابع عشر الذي تمثلت فيه صورة الكاتب كبرجوازي ذو شيم برجوازية متماهيا مع الطبقات العليا ، و لم يكد يبرز التباين و الاختلاف براي سآرتر بين جمهور القراء الا خلال القرن التالي و هو القرن الثامن عشر الذي أضحي فيه ممكنا وجود المجتمع الإمكاني للكاتب و ذلك حين حدث الانقسام الكبير بين طبقة النبلاء( و كانوا هم طبقة القراء ) و طبقة البرجوازية ( الذين شكلوا طبقة الكتاب في الأصل ). عندئذ ،و حينما وقع هذال الانقسام خلال القرن الثامن عشر أتيحت الفرصة للكتاب لأول مرة ان ينظروا لطبقتهم من الخارج فاستطاعوا ان يدركوها و يستجلوا حقيقتها علي نحو رائع ،ربما بصورة أفضل من البرجوازيين أنفسهم ،لان وجود الكتاب في هذه الطبقة لم يكن الا وجودا زائفا .
و كنتيجة حتمية لهذا كله ، فان الكتاب ادركوا انهم في الماضي كانوا يعيشون علي هامش مجتمع النبلاء فنهضوا مطالبين بحقوقهم الإنسانية ، في حين ووجهوا بالنبذ من قبل الطبقة الأخري التي رأت في وجودهم حملا ثقيلا عليها ،و هكذا فان طبقة الكتاب الجديدة في القرن الثامن عشر جوبهت بمعسكرين للقراء /مجتمع مضاد و اخر مواز يدعم حقوق الكاتب و يري فيها تماهيا مع حقوقه المشروعة و قد كان هؤلاء من العامة و المضطهدين الذي لم يكن يعبأ بهم الخطاب الادبي خلال القرن السابع عشر وقد شكلوا بالطبع ما يمكن تسميته بجمهور الكاتب الإمكاني فيما شكل المعسكر الأخر المجتمع المضاد لتوجهات الكتابة الجديدة .
أما فيما يتعلق برصد أحوال الكتابة خلال القرن التاسع عشر فان سآرتر أكد علي بروز جمهور إمكاني جديد خلال هذا القرن لكنه و في ذات الوقت نوه إلي جملة من العيوب التي إكتنفت الحركات و المذاهب الفنية و الأدبية التي ظهرت خلال هذه الحقبة التاريخية عقب إنهيار الحركة الرومانتيكية التي اذدهرت في القرن السابع عشر ، و قد أوضح في هذا المضمار أن ما يعيب حركات مثل الواقعية و السريالية و الرمزية هو أن كتابها و ناشطيها كانوا قد انغمسوا في طبقات إجتماعية غريبة عنهم الأمر الذي عمًق لديهم أحساس الإغتراب فسعوا بالتالي الي منطق النفيً المطلق .
خاتمة /
لا تبدو قراءة سآرتر في عمله المشآر إليه آنفاً (ما الأدب ) سهلة ،بل إنها تتطلب جهدا و صبرا عظيمين ،مثلما لا يجب أن يتوقع المرء أن بإمكانه الإحاطة بكافة جوانب الموضوعات التي طرحها الرجل من خلال هذا السفر ضربة لآزب ،فعملية قراءة سآرتر و إعادة قراءته تتطلب أيضا إستدعاء كامل مشروعه المعرفيً و الثقافي و النظر كذلك الي الظروف و المواقف التي كان ينطلق منها في سعيه الدؤوب نحو إعادة التعريفات الخاصة بالادب و دور الكتابة في المجتمعات التي إكتنفتها ظروف معقدة و أوضاع شائكة خلال القرن العشرين . لذلك كله فان هذه القراءة المتواضعة لسآرتر علي هذا الصعيد لا ينبغي النظر إليها الا علي أساس انها مجرد دعوة للقاريء لمزيد من الدرس و التدبر و التأمل في فكر هذا الفيلسوف العظيم .
هامش-----
إن ما نحن بصدده هنا ليس بالطبع دراسة شمولية لفكر سآرتر و ليس استقصاء مستفيضا لمساهماته في حقول المعرفة و النقد ، فذلك مما لا سبيل إليه هنا ، و لكننا سنحاول تسليط الضوء علي مسألة محددة تقع ضمن نطاق آطروحاته النقدية و هي بشكل اكثر تحديداً تتعلق بمآهية و هوية الجمهور الذي يتوجه إليه الكاتب باعتبار أن الكاتب أو المؤلف -و بحسب التوصيف الذي قدمه قدمه سآرتر لوظيفته الأجتماعية - يعتبر وسيطاً بين اطراف كثيرة و متعددة في المجتمع الذي يعيش فيه ، فجملة ارائهِ و افكاره و معتقداته تتقاطع دائما مع فئات و طبقات إجتماعية ذات مصالح متضاربة.
إن المسألة الجوهرية حول هذا الموضوع تتصل بمبدأ العلاقة بين النص من جهة و المتلقي من جهة أخري ، ففي حين يحاول بعض الكلاسيكيون الفصل بين هوية القاريء و بين النص الادبي بطريقة ميكانيكية ، ينهض سآرتر في المقابل ليكشف لنا و بجلاء –خلال الفصلين الثاني و الثالث من مؤلفهِ ذائع الصيت (ما الأدب) (1) –عن حقيقة ذلك الإرتباط الوجودي بين القراءة و الكتابة مؤكداً أن القاريء هو الذي يضفي علي النص صفة الوجود بإنتاجهِ إياه من خلال عملية القراءة ، وو فقا لهذا فإن النص الادبي لا يمكن إدراكه من خلال اللغة وحدها بل كذلك من خلال تمظهراته في وعي المتلقي و هكذا و بحسب سآرتر فإن جهود القاريء في سبيل تخليق النص لا يمكن أن تقلً عن جهود الكاتب نفسه. و من ناحية اخري فإن سآرتر و في خضم بحثه عن هذه الإشكالية المعقدة (علاقات القراءة و الكتابة ) في الفصل الثالث من كتاب (ما الأدب) و هو الفصل الذي خصصه بالكامل لمناقشة هوية جمهور الكتابة و الأدب، يميط اللثام عن حقيقة مفادها أن جميع الأعمال الادبية تحتوي بداخلها علي صورة القاريء الذي كتبت له و ذلك في معرض تحليله لشخصيات ميناليلك و ناتانايل المعروفة بصمت البحر ، و هو هنا أيضا و بإعلانه هذا ينجاوز كثيرا تلك الأطروحات الكلاسيكية العتيقة حول المفاهيم المتصلة بطبيعة العلاقة بين القاريء و الكاتب بوصفها مجرد علاقات منتج و مستهلك . و لا يكاد سآرتر يغفل أيضاً في ذات الفصل من الكتاب عن المسائل المتعلقة بإلتزام الكاتب و صلة ذلك الالنزام بقضايا حرية الآخرين من خلال تفاعل الكاتب مع مجتمعه الذي يقلده مكانته المستحقة و يسبغ عليه وظيفته الاجتماعية كمؤلف.
حول عالمية الكتابة و محليتها :
لا يكاد يكتب الكاتب إلا و في ذهنه جمهور محدد يسعي بالكتابةِ إليه و يرميِ إلي إحداث تأثير من نوع خاص علي وعيهِ و فكرهِ ، و لقد أوضح سآرتر و بجلاء أن الكاتب لا يتوجه في هذا الصدد إلي جمهور عالمي فهذا خطل كبير، فليست الكتابة فعلا جزافيا يتلقفه جميع الناس بلا استثناء ، بل هي نشاط تواصلي إدراكي موجه إلي قاريء في وطن خاص ،في موقف محدد و بالتالي فان الحديث عن الحرية و بحسب تعبير سآرتر (حرية الكاتب /القاريء) لا يجدي لأن فعل الحرية لا يدرك إلا من خلال موقف محدد تختبر فيه مدي فاعلية الكتابة .(2).
و تأسيساً علي هذا ، فإن سآرتر يقرر حقيقة مهمة و هي أن المؤلف و حتي إن تطلع إلي المجد الخالد عبر تبني قيم كلية و مباديء عامة مشتركة بين البشر سعيا للعالمية ، فانه و في نهاية الأمر لا يكاد يتحدث إلا الي معاصريه و مواطنيه و إخوانه من بني جنسه.
و ما دام المؤلف لا يحقق مشروعه في الكتابة الا من خلال قاريء محدد يشاطر الكاتب تبعية ثقافية و اجتماعية مشتركة ، فإن الكاتب بالتالي لا يجد نفسه مضطرا لقول كل شيء خلال الكتابة ،فاللغة ذات وظيفة اضمارية و طالما ان القاريء و الكاتب تجمعهما قرائن مشتركة فإن الإشارة وحدها من الكاتب قد تكفي أحيانا للدلالة علي كل شيء و لهذا فليس ثمة حاجة للإطالة في الكتابة ، و من ناحية أخري فان الكاتب يكتنز في وعيه الداخلي عن الموضوع الذي يكتب فيه أكثر بكثير مما يبوح به للمتلقي ، فهو لم يقل كل شيء و لا سبيل أمامه لقول كل شيء و بعبارة أخري فإن المؤلف و حسب تعبير سآرتر لا يفصح من خلال الكتابة عن كل ما يعرفه و ليس مطلوباً منه ذلك أيضا .
في ذات الإتجاه ، يعقد سآرتر مقارنة فيما يتعلق بمالوقف المضاد لموقف الكاتب و هو موقف القاريء ، و هو موقف يتأرجح بين الجهل التام و العلم المطلق تجاه نية و قصدية المؤلف مؤكدا أن إستجابات القراء و تفاعلاتهم مع كاتب النص الأدبي لا يمكن قراءتها و فهمها الا علي ضوء حقيقة مفادها أن جميع القراء و كما أسلفنا سابقا تجمعهم مع المؤلف تبعات مشتركة و أرضية ثقافية و حضارية واحدة و لتبسيط هذه المسألة يمضي سآرتر قائلا :
( أهل العصر الواحد و المجتمع الواحد الذين عاشوا نفس الأحداث ، وواجهوا أو تجنبوا نفس المسائل ، لهم في حلوقهم مذاق واحد و تجمعهم ذكريات موتي واحدة.)(3)
بناءا علي هذا ، فان الشيء الذي يساهم بدرجة كبيرة في مقروئية العمل الادبي هو مدي إرتباط ذلك العمل بقضايا مجتمع القراء ذوي القرائن المشتركة و المصيرالاإنساني الواحد و لا تبدو بالتالي عملية القراءة هنا الا بوصفها عملية تحررية انعكاسية يتم من خلال اعادة قراءة الذات و اكتشافها من خلال الادراك المتبادل و الحس المشترك بين الكاتب و جمهوره ، فالكاتب و بحسب هذه الفرضية لا يقدم الا صورة الذات الي الذات و صورة المجتمع الي المجتمع .
بيد أنه لا ينبغي أن يفهم من خلال هذا كله ، أن ليس ثمة كتابة عالمية و ان الكاتب ليس في مكنته أن يخاطب الناس علي الصعيد العالمي ، و لكن فقط سآرتر يود أن يقول أن للكتابة رسالتها العالمية و لكن هذه الرسالة لا يمكن ان تتحقق الا من خلال جمهور محلي خاص ذو طابع ثقافي انساني محدد يتشارك بيئة محلية ذات خصائص مشتركة ، فعالمية الجنس الإنساني من خلال الخطاب الأدبي علي حد تعبير سآرتر لا تكاد تظهر و تتجلي الا من خلال أفق الفئة المعينة التاريخية من القراء الذين يتشاطرون ظروفا انسانية مماثلة و تجمعهم ذكريات موتي واحدة .
الكتابة بإعتبارها فعلاً تحررياً :
ينتهي سآرتر اذن الي القول أن ثمة عالما كاملا يشترك فيه المؤلف مع القاريء ، و أن هذا العالم يقوم بالدرجة الأولى علي الوقائع المشتركة و التاريخ الواحد و التقاليد و القيم الموروثة و أن المهمة الأساسية التي ينبغي أن يضطلع بها الكاتب بناء علي هذا هي أن ينفث حياة جديدة في هذا العالم و ينفذ فيه حريته مثلما تحتم عليه مسؤوليته كذلك أن ينهض بوعي القاريء تجاه هذا العالم المشترك بغية مساعدته علي الانعتاق من ربقة العبودية للواقع و من اجل إحداث شكل من أشكال التغيير علي هذا الواقع و كل ذلك انما يتم من خلال التمظهر المباشر لفعل للحرية و هو (الرفض) فالرفض لدي سآرتر لا يمكن أن يصدر عن قوة تجريدية فليس من شأن القوة التجريدة أن تقول (كلا ) بل تصدر (كلا) في مجابهة موقف إنساني محدد تضطلع به ذات واعية و مدركة لعملية الرفض نفسها و لما يترتب عليه من تبعات .
لذلك كله فقد رأي سآرتر في الكتابة ميدانا لانجاز حرية الكاتب و القاريء عل حد سواء ، و إعتبر أن حرية الكاتب تتصل بحرية القاريء و أن ثمة تأثيرا مشتركا بينهما ، فالكاتب حين يختار بعض الظاهرات او الموضوعات المحددة كي يكتب عنها إنما يعبر عن حريته من خلال توجههه نحو طبقة معينة من القراء الذين يشاركونه الحماس و الاهتمام بذات الموضوعات ، و القاريء من الناحية الأخري حين يختار و يصطفي لنفسه كتابا معينيين يقرأ لهم فانه بالتالي ينحاز الي خطاب محدد من الممكن ان يسهم في بناء وعيه تجاه العالم بشكل أفضل ، و خلاصة القول هنا أن الكاتب و القاريء يتبادلان التأثير بينهما من ثنايا عالم واحد .
الجمهور الواقعي و الجمهور الإمكاني /
يبدو سآرتر أيضا مهموما خلال الفصل الثاني من كتابه الموسوم (ما الأدب ) بفحص مسألة أخري متعلقة بجماهيرية الكتابة و هي تتلخص حول أن ثمة إنقساما قد يحدث داخل مجتمع القراء الواحد الي طبقتين أو فئتين إحداهما أكثر تحفظا و معارضة تجاه ما يكتبه الكاتب (المجتمع الواقعي) و هي طبقة تناجز دعوات الكاتب للتحرر من ربقة ظروف اجتماعية و سياسية و اقتصادية معينة ،و فئة اخري داعمة للكاتب و توجهاته أطلق عليها سآرتر (الجمهور الإمكاني ) نافيا بذلك إمكانية تجانس مجتمع القراء .
و في سبيل شرح الفكرة برمتها ،فإن سآرتر يتوسل بمنهج تاريخي بائن لشرح منطق الكتابة و توضيح غايات كلا من المعسكرين (المجتمع الواقعي ) و (المجتمع الإمكاني) ، فيأخذنا في رحلة صوب القرن السابع عشر علي سبيل المثال مستكشفا عالم الكتابة و جمهورها خلال ذلك القرن الذي زعم سآرتر أن ليس ثمة جمهور إمكاني قد وجد من خلاله لأن الفنان أو الكاتب في ذاك العصر كان يعبر بالدرجة الأولي عن الطبقة الحاكمة و عن صفوة المجتمع و لم يكن معنيا بالتالي بالتعبير عن مواقف أو إتجاهات العوام و المسحوقين و معاناتهم فالكاتب كان صوتا للطبقات العليا في المجتمع ، متبنيا لمذاهب الصفوة الارستقراطية الفنية و الفكرية و لذلك يجب ان لا ينظر اليه الا كشريك لمشاريع جمهوره من النبلاء و الارستقراطيين بما فيها من عيوب ،فالكاتب في القرن السابع عشر باختصار كان معنيا بانتاج الأعمال التي من شأنها أن تبهج الصفوة و تتواءم مع ميولهم الفنية .، فهو بهذا –اي الكاتب- أدرك حقيقة أنه قد علا فوق مستوي طبقته فصار دون طبقة النبلاء و لكنه في ذات الوقت قد أضحي فوق مرتبة رجالات التعليم و التجار و بذلك فان رسالته لم تكن موجهة الي هؤلاء بل الي المجتمع الذي أسبغ عليه دوره ككاتب و هو مجتمع الصفوة .
هكذا إستمر الحال خلال القرن السابع عشر الذي تمثلت فيه صورة الكاتب كبرجوازي ذو شيم برجوازية متماهيا مع الطبقات العليا ، و لم يكد يبرز التباين و الاختلاف براي سآرتر بين جمهور القراء الا خلال القرن التالي و هو القرن الثامن عشر الذي أضحي فيه ممكنا وجود المجتمع الإمكاني للكاتب و ذلك حين حدث الانقسام الكبير بين طبقة النبلاء( و كانوا هم طبقة القراء ) و طبقة البرجوازية ( الذين شكلوا طبقة الكتاب في الأصل ). عندئذ ،و حينما وقع هذال الانقسام خلال القرن الثامن عشر أتيحت الفرصة للكتاب لأول مرة ان ينظروا لطبقتهم من الخارج فاستطاعوا ان يدركوها و يستجلوا حقيقتها علي نحو رائع ،ربما بصورة أفضل من البرجوازيين أنفسهم ،لان وجود الكتاب في هذه الطبقة لم يكن الا وجودا زائفا .
و كنتيجة حتمية لهذا كله ، فان الكتاب ادركوا انهم في الماضي كانوا يعيشون علي هامش مجتمع النبلاء فنهضوا مطالبين بحقوقهم الإنسانية ، في حين ووجهوا بالنبذ من قبل الطبقة الأخري التي رأت في وجودهم حملا ثقيلا عليها ،و هكذا فان طبقة الكتاب الجديدة في القرن الثامن عشر جوبهت بمعسكرين للقراء /مجتمع مضاد و اخر مواز يدعم حقوق الكاتب و يري فيها تماهيا مع حقوقه المشروعة و قد كان هؤلاء من العامة و المضطهدين الذي لم يكن يعبأ بهم الخطاب الادبي خلال القرن السابع عشر وقد شكلوا بالطبع ما يمكن تسميته بجمهور الكاتب الإمكاني فيما شكل المعسكر الأخر المجتمع المضاد لتوجهات الكتابة الجديدة .
أما فيما يتعلق برصد أحوال الكتابة خلال القرن التاسع عشر فان سآرتر أكد علي بروز جمهور إمكاني جديد خلال هذا القرن لكنه و في ذات الوقت نوه إلي جملة من العيوب التي إكتنفت الحركات و المذاهب الفنية و الأدبية التي ظهرت خلال هذه الحقبة التاريخية عقب إنهيار الحركة الرومانتيكية التي اذدهرت في القرن السابع عشر ، و قد أوضح في هذا المضمار أن ما يعيب حركات مثل الواقعية و السريالية و الرمزية هو أن كتابها و ناشطيها كانوا قد انغمسوا في طبقات إجتماعية غريبة عنهم الأمر الذي عمًق لديهم أحساس الإغتراب فسعوا بالتالي الي منطق النفيً المطلق .
خاتمة /
لا تبدو قراءة سآرتر في عمله المشآر إليه آنفاً (ما الأدب ) سهلة ،بل إنها تتطلب جهدا و صبرا عظيمين ،مثلما لا يجب أن يتوقع المرء أن بإمكانه الإحاطة بكافة جوانب الموضوعات التي طرحها الرجل من خلال هذا السفر ضربة لآزب ،فعملية قراءة سآرتر و إعادة قراءته تتطلب أيضا إستدعاء كامل مشروعه المعرفيً و الثقافي و النظر كذلك الي الظروف و المواقف التي كان ينطلق منها في سعيه الدؤوب نحو إعادة التعريفات الخاصة بالادب و دور الكتابة في المجتمعات التي إكتنفتها ظروف معقدة و أوضاع شائكة خلال القرن العشرين . لذلك كله فان هذه القراءة المتواضعة لسآرتر علي هذا الصعيد لا ينبغي النظر إليها الا علي أساس انها مجرد دعوة للقاريء لمزيد من الدرس و التدبر و التأمل في فكر هذا الفيلسوف العظيم .
هامش-----
- سآرتر ،جان بول ( ما الأدب ) –ترجمة محمد غنيمي هلال (2005) –دار نهضة مصر للطباعة و النشر.
- ذات المرجع السابق .
- المرجع السابق ص:73