التقت الكاتبة "منصورة عز الدين" مع ألف ليلة وليلة لقاءً مباشرًا في روايتها "جبل الزمرد" حيث ربطت بين إحدى قصصها وروايتها ربطا متلازما ... لكن في "مأوى الغياب" تصنع الكاتبة لياليها الخاصة بها في عمل يستفيد من الأصل ولا يشبهه، بل أضاف إليه حكايا "شهرزاد" الجديدة. وإذا كانت شهرذاد القديمة هربت من الغياب موتا برقاها الساحرة التي تحضّر بها الحكايا المتوالدة من بعضها على الأرض عفاريت من كلمات تمنحها الحياة ليلة بعد ليلة، فإن "شهرزاد" الجديدة دخلت عالم الغياب موتا وحياة؛ لتظل حية حاضرة بجوهرها لا بجسدها فقط. ورغم أن العنوان العام "مأوى الغياب"، فالعمل حكايا متوالدة من بعضها في عالم الغياب والحضور. إن كل ما هو خارج وعي وإدراك الكاتبة تراه غيبا حتى تثبت عكس ذلك. لكننا لا نستطيع أن نقول إن الكاتبة تتكلم عن الغياب بمفهوم الموت الذي نعرفه حقا بخروج الروح من الجسد، لكنه غياب يشبه التنويم المغناطيسي والإبحار في عوالم الذاكرة ببحارها وغاباتها؛ لمعرفة النفس وألامها ومحققاتها ومغيباتها. ولأن الذاكرة هي جوهر الوعي؛ جاء تيار الوعي منسابا لبث إشراقاتها، ولأن هذه الإشراقات تأتي خلاصات مركبة من بين المدركات العينية والحسية؛ فإن مأوى الغياب هو جوهر مأوى الحضور، إنه إبحار روحي مثل إبحار المتأمل المعتزل هذا العالم الغارق فيه! لهذا جاءت اللغة مثل لغة المتصوفين الكبار، لغة تحتاج إلى لغة للتعبير عن مدلولاتها. والكاتبة تعرف أنها داخلة على مغامرة "لا ينتمي إلى مأواي هذا إلا أصحاب العقول المراوغة. عاشقوا الغموض والالتباس، من يحدسون بسطو الأشباح بصمت الليل، ويقدرون الأوهام، ويحتقرون الحقائق، من يؤمنون بالخيال، ويقدسون الأوهام والضلالات" لكن الحذر كل الحذر في تلقي اللغة وإلا فإن المتلقي هنا مجرد مستعرض للجنون، فالكتابة تخبره أنه يتلقى لغة لا وجود لها خارج ذاتها، مجرد وسيط تخييلي على قدر المتاح من المعجم، وربما استعراضها لكتابات وكتاب كثيرين -في أول مقطوعاتها- كان نوع من التقريب للمراد توصيله عبر المثال مع الإشارة أن المثال نفسه مراوغ. مع التدليل والشرح للمتلقي كيف رأته مراوغا؟ بل رأته "مدينة هالكة" إنه التقاء الحياة بالموت ليحقق كل منهما الآخر.
رغم ذلك فالكاتبة تجاهد لاستخلاص الرؤيا من غابات الدلالة في حالة بين التجسد والتروّح أو التجلي إذا صح التعبير"ليس في جعبتي سوى تخمينات وتأويلات. وسيلة العاجز لترميم حطام الأحداث والبشر، المكان هنا( تقصد الأرض) حافل بالحكايات، إلا أنها، كعادة كل ماهو جدير بالاهتمام حكايات منقوصة ومبتورة". هذه هي نصف الرؤيا التي تلمسها الكاتبة في حالة التجسد، ولكي تكتمل الرؤيا عند التكامل بمشاعر الآخرين، وهنا يلزم الإنسان عبور مراوغة الكلمات والتخمين والإحداثيات والتمازج المباشر بالآخرين، أو ما يسميه المتصوفة التوحد "ومع هذا كانت تكتمل في رأسي. ليس تخمينا أو حدسا، بل اكتمال حقيقيفي غنى عن الكلمات. انتقلت مشاعر كل ما ومن صادفت هنا إليّ. احتلتني واستحوزت عليّ. شعرت أنني كثيرون في كيان واحد."
إن التوحد لا يتوقف عند حدود البشر كما قالت "وحده الرائي سيساعدني وأساعده"، فالحقيقة في الكون كله والذاكرة لا تقتصر على العقل الإنساني. "إن الجغرافيا ليست بريئة بل هي حاملة تاريخ الأرض" إذن الجعرافيا ذاكرة أيضا، والغابات هي ذاكرة العصور "عبر الدروب في الغابة كنت أتتبع مسيرة موت ما، طوابير من أناس مساقين إلى المجهول. حين تأملت الأشجار أبصرت رجالًا ونساء فتك بهم الجوع والعطش، يتشبسون بالجذوع كأن في مقدورها إنقاذهم" ربما يلفت وعي القارئ المدقق في هذه الفقرة أفعال: أتتبع، تأملت، أبصرت، أن الإبصار ترتب على البحث والتأمل، وهما الفعلان اللذان منحهما الروحانيون والماديون مكانة متميزة فيما توصلوا إليه من إشراقات محسوسة، أو حقائق ملموسة ترتبت عليها قوانين علمية. وربما حادث التفاحة الذي اكتشفت من خلاله قوانين الجاذبية كلنا نعرفه، وأحاديث العالم "آنشطين" عن فضل التأمل عليه يعرفها من اهتم بالعلم. كذلك يقول المتصوف أبو "حامد الغزالي" "من لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في متاهات العمى" والشك عند الكاتبة هو شك منهجي للوصول لجوهر الحقائق فهي وإن توصلت لا تجزم وهاهي من قمة الجبل ترى بحرا غير البحر التي رأته وهي تقف جواره مثلا؛ فكيف تصدق أن المعاني ثابتة؟ إن الرؤية تتغير بتغير البعد، والمعنى يتغير بتغير إمكانات المتلقي؛ وهكذا إن استخلاص رؤيا نقية هو ضرب من الجنون ولكنه غاية الغايات، وإلا لا معنى لشيء!. إن البطلة لم تترك شيئا في سبيل وضعها التراجيدي المفروض إلا وجربته فكما تجسدت وتوجدت وتوحدت أيضا تلاشت، ولكن تلاشيها لم يكن التلاشي المفني لكنه الذوبان في المعنى حتى تصير المعنى نفسه فهي لا تكتفي بالتعبير اللغوي ولا الرؤية ولا الاستبطان ولا القراءة لكي تعرف الحياة لابد أن تكونها "تراءى لي حين رأيت حجرا حادا كسكين، أن أستخدمه للتدوين على جسدي. أمسكته وهممت بالحفر على ذراعي، ففوجئت بأن لا ذراع لي، كنت كلما غرست طرفه الحاد في أي جزء من جسدي، أفاجأ بتلاشي هذا الجزء" ولكي تعرف ذاتها لا بد أن لا تكون نفسها "لم أعرف إن كان لي ذات من الأساس، أم أنني مجرد فكرة عابرة ... يصمت قبل أن يعاود فحيحه "لن تجدني إلا لو أضعت نفسك، إلا لو ضعت عنها وأنكرتها". التدقيق في المقطوعتين السابقتين يرى الرغبة العارمة في الوصول للحقيقة، والحقيقة تحتاج دائما إلى حياد، ولكن هل الحياد ممكن؟ هي محاولات .. وترى الكاتبة أن الوصول فردي ولا يمكن نقله للآخرين، وإن حدث فهو مقاربة تجذبهم للدخول في التجربة. فالشك الدائم في اللغة من سمات العمل تكرر كثيرا: "ناداني صوت مغوٍ وهمس في أذني بأغنية كئيبة مدوخة تنتمي إلى ما قبل اللغة والكلام والموسيقى". إن الكاتبة رغم التهرب الدائم من اللغة، بل من التعبيرات الصوتية بكل أنواعها، فمأوى الغياب هو شبكة خيوطها من اللغة لصيد المعنى.
إنه الإيمان بقيمة الكتابة والإبداع ودورهما في رسم صورة للعالم في قلعة الشمس "الرسومات المتكررة طلسم يحوي سحرا أسود، الدفاتر الملأى بالحروف والكلمات لعنة لا سبيل لحجب تأثيرها". وهو إيمان بالإنسان لكنه الإنسان الباحث دائما المتغير بوعيه المتجدد والمستمر والنامي" إحساسي بنقصاني دفعني إلى الإمعان في أن أصير كل ما لم يكن في إمكان أصلي أن يكونه" فإنسان المبدعة لا يقف على المظاهر ومعطياتها الشكلية، ولا يختصر الرؤيا في البديهيات، فالماء الذي يتبخر منه بفعل الشمس يعود إليه أمطارا، إن الإلحاح على لا مركزية الرؤية اللازمة للخلاص، والتكامل المعرفي سواء كان إدراك الذات لنفسها، أو أدراكها لما حولها، أوما وراء الطبيعة، أو تكامل الرؤى، شغل العمل الشاغل، ولا أريد أن أجزم وأقول جوهر العمل، وإلا فإنني لم استفد من قراءة العمل شيئا وأخطأت نفس الخطأ الأساسي لعالم الشجرة التي قالت عنهم" لم يفطنوا -وهم فوقي- إلي الاتجاه الذي عليهم التحديق فيه إذا مارغبوا في رؤية ما وراء الظاهر.لم يشرق عقلهم بفكرة أن الطريق الموصل لكل ما هو جوهري في الكون يمر عبر التحديق في الداخل"
رغم ذلك فالكاتبة تجاهد لاستخلاص الرؤيا من غابات الدلالة في حالة بين التجسد والتروّح أو التجلي إذا صح التعبير"ليس في جعبتي سوى تخمينات وتأويلات. وسيلة العاجز لترميم حطام الأحداث والبشر، المكان هنا( تقصد الأرض) حافل بالحكايات، إلا أنها، كعادة كل ماهو جدير بالاهتمام حكايات منقوصة ومبتورة". هذه هي نصف الرؤيا التي تلمسها الكاتبة في حالة التجسد، ولكي تكتمل الرؤيا عند التكامل بمشاعر الآخرين، وهنا يلزم الإنسان عبور مراوغة الكلمات والتخمين والإحداثيات والتمازج المباشر بالآخرين، أو ما يسميه المتصوفة التوحد "ومع هذا كانت تكتمل في رأسي. ليس تخمينا أو حدسا، بل اكتمال حقيقيفي غنى عن الكلمات. انتقلت مشاعر كل ما ومن صادفت هنا إليّ. احتلتني واستحوزت عليّ. شعرت أنني كثيرون في كيان واحد."
إن التوحد لا يتوقف عند حدود البشر كما قالت "وحده الرائي سيساعدني وأساعده"، فالحقيقة في الكون كله والذاكرة لا تقتصر على العقل الإنساني. "إن الجغرافيا ليست بريئة بل هي حاملة تاريخ الأرض" إذن الجعرافيا ذاكرة أيضا، والغابات هي ذاكرة العصور "عبر الدروب في الغابة كنت أتتبع مسيرة موت ما، طوابير من أناس مساقين إلى المجهول. حين تأملت الأشجار أبصرت رجالًا ونساء فتك بهم الجوع والعطش، يتشبسون بالجذوع كأن في مقدورها إنقاذهم" ربما يلفت وعي القارئ المدقق في هذه الفقرة أفعال: أتتبع، تأملت، أبصرت، أن الإبصار ترتب على البحث والتأمل، وهما الفعلان اللذان منحهما الروحانيون والماديون مكانة متميزة فيما توصلوا إليه من إشراقات محسوسة، أو حقائق ملموسة ترتبت عليها قوانين علمية. وربما حادث التفاحة الذي اكتشفت من خلاله قوانين الجاذبية كلنا نعرفه، وأحاديث العالم "آنشطين" عن فضل التأمل عليه يعرفها من اهتم بالعلم. كذلك يقول المتصوف أبو "حامد الغزالي" "من لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في متاهات العمى" والشك عند الكاتبة هو شك منهجي للوصول لجوهر الحقائق فهي وإن توصلت لا تجزم وهاهي من قمة الجبل ترى بحرا غير البحر التي رأته وهي تقف جواره مثلا؛ فكيف تصدق أن المعاني ثابتة؟ إن الرؤية تتغير بتغير البعد، والمعنى يتغير بتغير إمكانات المتلقي؛ وهكذا إن استخلاص رؤيا نقية هو ضرب من الجنون ولكنه غاية الغايات، وإلا لا معنى لشيء!. إن البطلة لم تترك شيئا في سبيل وضعها التراجيدي المفروض إلا وجربته فكما تجسدت وتوجدت وتوحدت أيضا تلاشت، ولكن تلاشيها لم يكن التلاشي المفني لكنه الذوبان في المعنى حتى تصير المعنى نفسه فهي لا تكتفي بالتعبير اللغوي ولا الرؤية ولا الاستبطان ولا القراءة لكي تعرف الحياة لابد أن تكونها "تراءى لي حين رأيت حجرا حادا كسكين، أن أستخدمه للتدوين على جسدي. أمسكته وهممت بالحفر على ذراعي، ففوجئت بأن لا ذراع لي، كنت كلما غرست طرفه الحاد في أي جزء من جسدي، أفاجأ بتلاشي هذا الجزء" ولكي تعرف ذاتها لا بد أن لا تكون نفسها "لم أعرف إن كان لي ذات من الأساس، أم أنني مجرد فكرة عابرة ... يصمت قبل أن يعاود فحيحه "لن تجدني إلا لو أضعت نفسك، إلا لو ضعت عنها وأنكرتها". التدقيق في المقطوعتين السابقتين يرى الرغبة العارمة في الوصول للحقيقة، والحقيقة تحتاج دائما إلى حياد، ولكن هل الحياد ممكن؟ هي محاولات .. وترى الكاتبة أن الوصول فردي ولا يمكن نقله للآخرين، وإن حدث فهو مقاربة تجذبهم للدخول في التجربة. فالشك الدائم في اللغة من سمات العمل تكرر كثيرا: "ناداني صوت مغوٍ وهمس في أذني بأغنية كئيبة مدوخة تنتمي إلى ما قبل اللغة والكلام والموسيقى". إن الكاتبة رغم التهرب الدائم من اللغة، بل من التعبيرات الصوتية بكل أنواعها، فمأوى الغياب هو شبكة خيوطها من اللغة لصيد المعنى.
إنه الإيمان بقيمة الكتابة والإبداع ودورهما في رسم صورة للعالم في قلعة الشمس "الرسومات المتكررة طلسم يحوي سحرا أسود، الدفاتر الملأى بالحروف والكلمات لعنة لا سبيل لحجب تأثيرها". وهو إيمان بالإنسان لكنه الإنسان الباحث دائما المتغير بوعيه المتجدد والمستمر والنامي" إحساسي بنقصاني دفعني إلى الإمعان في أن أصير كل ما لم يكن في إمكان أصلي أن يكونه" فإنسان المبدعة لا يقف على المظاهر ومعطياتها الشكلية، ولا يختصر الرؤيا في البديهيات، فالماء الذي يتبخر منه بفعل الشمس يعود إليه أمطارا، إن الإلحاح على لا مركزية الرؤية اللازمة للخلاص، والتكامل المعرفي سواء كان إدراك الذات لنفسها، أو أدراكها لما حولها، أوما وراء الطبيعة، أو تكامل الرؤى، شغل العمل الشاغل، ولا أريد أن أجزم وأقول جوهر العمل، وإلا فإنني لم استفد من قراءة العمل شيئا وأخطأت نفس الخطأ الأساسي لعالم الشجرة التي قالت عنهم" لم يفطنوا -وهم فوقي- إلي الاتجاه الذي عليهم التحديق فيه إذا مارغبوا في رؤية ما وراء الظاهر.لم يشرق عقلهم بفكرة أن الطريق الموصل لكل ما هو جوهري في الكون يمر عبر التحديق في الداخل"