شكيب كاظم - القاضي محمد نور الذي حاكم طه حسين عقل نيرّ وفكر حصيف

قال الدكتور طه حسين 1889- 1973 في مقدمة الطبعة الثانية من كتابه في الأدب الجاهلي المؤرخة في 11/ مايو/ 1927 ما يأتي ((هذا كتاب السنة الماضية حذف منه فصل، واثبت مكانه فصل، واضيفت اليه فصول، وغير عنوانه بعض تغيير، وأنا أرجو أن اكون قد وفقت في هذه الطبعة الثانية الى حاجة الذين يريدون أن يدرسوا الأدب العربي عامة، والجاهلي خاصة، من مناهج البحث وسبل التحقيق في الأدب وتأريخه)).

فلقد أصدر الدكتور طه حسين في بداية عام 1926 كتاباً أسماه في الشعر الجاهلي أحتفلت الاوساط الثقافية بالقاهرة صيف عام 1996 بمناسبة مرور سبعين عاماً على إصداره، تعرض فيه لبعض الموضوعات الحساسة جداً، مما أثار حفيظة الكثير من الناس، وذهب ببعضهم الامر الى رفع شكوى، لا بل شكاوى الى النيابة العامة بمصر، لغرض تقديم المؤلف الى المحكمة، كما أثار ثائرة عديد رجال الدين فضلاً عن الدارسين والباحثين، فألفوا كتباً بعينها للرد عليه، وموضوع الكتاب هذا يذكرني بكتاب الاســلام وأصول الحكم الذي كتبه الشيخ الأزهري علي عبد الرازق، 1888- 1967 وهو من قضاة المحاكم الشرعية بمصر، وصدرت طبعته الاولى سنة 1343 هـ = 1925 وهو بحث في الخلافة والحكومة في الاسلام، الذي أثار ضحة واسعة عند صدوره، لأنه ذكر أن نظام الخلافة جاءت به ظروف الحياة التي استجدت بعد وفاة الرسول الأعظم، ولم يكن أصلاً من أصول الحكم، واذ أحيل طه حسين الى المحاكم المدنية، وشاء حسن حظه أن يتولى الأمر، أمر محاكمته، العاقل الحصيف القاضي محمد نور، رئيس نيابة مصر، فأن علي عبد الرازق احيل الى هيئة من كبار رجال الأزهر، تولت محاكمته، فقررت عزله عن القضاء، وتجريده من شهادة العالمية، الشهادة التي يحصل عليها كل دارس في الجامع الأزهر! وقد قرأت الكتاب، ونصوص محاكمته، تولى تحقيقها، فضلاً عن دراسة قيمة بين يدي الكتاب كتبها الدكتور محمد عمارة، صدرت طبعته الاولى عن المؤسسة العربية للدارسات والنشر في بيروت عام 1972 واعادت نشر الكتاب دار الهلال سنة 2000 الدكتور محمد عمارة، الذي يسجل له فضل دراسة فكر المعتزلة الوسطي، القائل بالمنزلة بين المنزلتين، ونشره، تحول عمارة الى داعية متعصب في سنوات تلت ومكفر!

كما ان كتاب في الأدب الجاهلي يذكرنا بكتاب للدكتور صادق جلال العظم الذي أقام الدنيا، وأثار مشاعر الناس عنوانه نقد الفكر الديني قرأته لدى صدوره صيف عام 1969 فأنبرى للرد عليه عدد من الباحثين ورجال الدين، وما فتئ في الذاكرة، رد رجل الدين اللبناني الشيخ محمد جواد مغنية توفي 1979 الذي قرأت عديد كتبه مثل: فضائل الأمام علي. الشيعة والحاكمون. في التصوف والكرامات، في سنوات الفتاء والشباب الاولى.

ولقد كان هذا الباحث الفلسفي الرصين، صادق جلال العظم، مولعاً بكل مثير للجدل، فأصدر في ذلك الوقت، نهاية عقد الستين من القرن العشرين، كتاباً عنوانه (نقد فكر المقاومة) أي المقاومة الفلسطينية، فضلاً على كتاب عن إبليس، وله كتاب (ذهنية التحريم) و ما بعد ذهنية التحريم خصصهما للحديث عن تداعيات نشر رواية (آيات شيطانية) للروائي هندي الأصل بريطاني الجنسية، سلمان رشدي، واحتوى الثاني ما كتب عن رواية آيات شيطانية فكان، الكتاب، بمثابة وثيقة تاريخية، قرأت هذه الكتب كلها، فضلاً عن دراسته المثيرة للجدل- كذلك- يوم نشرت الصحف المصرية، فضلاً عن جريدة الأنوار اللبنانية، ما قيل في شهر مايس/ 1968 وكنا نحيا تحت وطأة وكابوس هزيمة الخامس من حزيران/ 1967 باحثين عن بارقة أمل ورجاء في ليل الهزيمة الدامس، فنشرت الجرائد، صورة خيال، قيل إنه خيال السيدة مريم العذراء، فوق إحدى الكنائس بمدينة الاسكندرية، وفسروا ظهورها بانه ايذان بنصر مقبل!فناقش العظم هذه الظاهرة مناقشة علمية بدراسة رصينة نشرتها مجلة (دراسات عربية) اللبنانية الرائعة والمحتجبة عن الصدور مع الأسف، نشرتها صيف تلك السنة 1968

أعود لأقول: إن كتاب في الشعر الجاهلي قد أثار ثائرة الناس التي- غالباً- لا تقرأ، بل تتبع الأقاويل والشائعات، حتى أن طه حسين، صرح في حينها بان ثمانية وتسعين بالمئة من هؤلاء المعترضين لم يقرأوا الكتاب!، فما شأن الدهماء بالقراءة والكتابة؟!

فتصدى للرد عليه عدد من الكتاب منهم: محمد فريد وجدي، 1878- 1954 في كتابه نقد كتاب في الشعر الجاهلي، وقد ذكر لنا احد أساتذتنا أيام الطلب في كلية أداب الجامعة المستنصرية بداية عقد السبعين من القرن العشرين، أن محمد فريد وجدي هذا، رتب كتابه بان يورد صفحة من كتاب في الشعر الجاهلي وفي الصفحة المقابلة رد وجدي، صفحة ازاء صفحة، وكذلك كتاب (نقض كتاب في الشعر الجاهلي) للمرحوم محمد الخضر حسين توفي في 28/ شباط/ 1958. وكتاب (الشهاب الراصد) لمحمد لطفي جمعة 1886- 1953 وغيرها كثير.لقد رفعت القضية الى النيابة العامة بمصر، للنظر في الشكاوى المقدمة ضد ما جاء في الكتاب هذا، ولقد اطلعت على حيثيات القرار الذي اصدرته النيابة العامة ممثلة بالسيد محمد نور، رئيس نيابة مصر في ذلك الوقت، والذي تولى تحقيــقها ونشرها الروائي المصري خيري شلبي 1938- 2011 في كتاب عنونه بـ (محاكمة طه حسين) اصدرت طبعته الاولى في شباط/ 1972 المؤسسة العربية للدراســـــات والنشر في بيروت.

لقد دل القرار، على ما يمتاز به القاضي محمد نور من عقل نير وفكر حصيف، وأبان أنه قارئ جيد، اطلع على كثير من المعارف والعلوم، لذلك ناقش طه حسين في آرائه الواردة في كتابه، وافحمه في مواضع متعددة، وانه رجع في مناقشاته الى المصادر القديمة العديدة، ومنها كتاب طبقات الشعراء) لأبي عبد الله محمد بن سلام الجمحي ت 232 هـ، اذ أن طه حسين أورَدَ قولا مشهوراً لأبي عمرو بن العلاء، ت. 154 هـ (ما لسان حمير بلساننا ولا لغتهم بلغتنا)، في محاولة من طه للدلالة على ان الشعر الجاهلي لا يمثل الحياة الدينية والعقلية عند عرب الجاهلية، وان هذا الشعر بعيد كل البعد، عن ان يمثل اللغة العربية في العصر الذي يزعم الرواة وجامعو الشعر أنه قيل فيه، الا أن الاستاذ محمد نور يصحح ما ذكره طه حسين من خلال رجوعه- كما قلت- الى كتاب (طبقات الشعراء) لينص على أن ما قاله أبو عمرو بن العلاء هو: مالسان حمير وأقاصي اليمن بلساننا ولا عربيتهم بعربيتنا.

ولا يخفى على الباحثين والقراء الجادين، أن أبا عمرو بن هو أحد القراء السبعة للقرآن الكريم.

القاضي محمد نور القارئ المدقق لما في بطون المظان، وصولاً الى الحقيقة التي هي رائدته، لا يقف عند هذا الحد، بل يقول: وقد يكون للمؤلف مأرب من وراء تغيير النص، على أن الذي نريد أن نلاحظه، هو أن أبن سلام قد ذكر قبيل هذه الرواية، في الصفحة نفسها ما يأتي: واخبرني يونس (ويعني أبن سلام أنه يونس بن حبيب الذي يعد من أوائل النحاة الذين درسوا نحو العرب)، قال: العرب كلها ولد اسماعيل الا حمير وبقايا جُزهُم.

وللدقة فان محمد نور يحيل من يهمه الامر الى الصفحة الثامنة من كتاب (طبقات الشعراء) طبعة مطبعة السعادة بمصر وتبلغ المحاجة ذروتها ليقول: فواجب على المؤلف اذن وقد اعتمد صحة العبارة الاولى أن يسلَّم بصحة العبارة الثانية، لأن الرواي واحد والمروي عنه واحد، وتكون نتيجة ذلك أنه فسر ما اعتمد عليه من أقوال أبي عمرو بن العلاء بغير ما أراده، بل فسره بعكس ما أراده، ويتعين اسقاط هذا الدليل.ويتألق القاضي محمد نور- رحمه الله- لدى مناقشته لطه حسين في موضوع القراءات السبع الواردة في كتابه، الامر الذي يدل على علو كعبه في العلم العسير هذا، فيرجع الى أمات المصادر والمراجع، يورد ما ورد فيها وأراء القراء، قراء القرآن الكريم، واهل العلم في ذلك.

ولولا الاطالة لعرَّجت على الموضوعين الثالث والرابع، بعد أن تحدثت عن الموضوعين الاول والثاني، اللذين ناقشهما القاضي محمد نور فأفحم طه حسين واسكته في مواطن كثيرة، لكنه لشدة احترامه لآراء الاخرين وعدم تزمته، فانه يتوصل الى أن المؤلف طه حسين وان كان قد أخطأ فيما كتب الا ان الخطأ المصحوب باعتقاد الصواب شيء، وتعمد الخطأ المصحوب بنية التعدي شيء آخر … لذا تحفظ الأوراق إدارياً.وتلك- لعمري- تخريجات مبهرة وحاذقة وذكية، تدل على حذق صاحبها وفكره الواسع وقراءاته الجيدة، وانها لمناسبة أن أذكر، أني بحثت في (كوكل) عن شيء يخص هذا القاضي النزيه، فما وجدتُ حرفاً يشير اليه، فواأسفاه!

رحم الله محمد نور رئيس نيابة مصر في العقد الثالث من القرن العشرين.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى