فإذا مر بك حديث فيه إفصاح بذكر عورة أو وصف فاحشة؛ فلا يحملنك الخشوع أو التخاشع علي أن تعرض بوجهك وتصعر خدك، فإن ذكر الأعضاء لا يؤثم وإنما المأثم في الكذب وقول الزور وأكل لحوم الناس بالغيب. هكذا قدم الفقيه المسلم ابن قتيبة (القرن الثالث الهجري) لكتابه في النساء محاولاً اتقاء نظرات المجتمع المسلم المحافظ لحديث يدور حول تصورات العرب لموضوع الجنس،
ذكر الأعضاء لا يؤثم وإنما المأثم في الكذب وقول الزور وأكل لحوم الناس بالغيب
· الإكثار من غشيان المحبوب أنفع من الدرياق
· لا تكثرن من الجماع فإنه ماء الحياة يراق في الأرحام
ولم يكن ابن قتيبة واحدًا في هذا التصور قطعًا؛ إنما هي حضارة كانت تتمتع وقتها بثقة شديدة في معارفها وفي المنتمين لها كذلك؛ وهو ما جعل موضوع الجنس من الموضوعات التي تم التطرق إليها في الحضارة العربية الإسلامية دون وجل أو خجل ومن غير واحد من مفكرينا الكبار من أمثال: الغزالي، والسيوطي، وابن سينا؛ وهو صاحب المخطوط النادر الذي نكشف عنه في هذه الحلقات المتتالية، الجماع هو موضوع المخطوط الذي ينشر للمرة الأولي.
(1)
منافع الجماع ومضاره
الجماع نافع للفتيان والشبان المعتادين له، وأصحاب الأبدان اللحيمة والمعتدلة الخصبة الواسعه العروق، والذين ألوانهم إلي الحمرة وينفع أصحاب الجنون الهائج والوسواس؛ الذين سبب وسواسهم احتقان المني في أبدانهم، واستحالته إلي الكيفية الردية، ومن جنونه لفقد قرين موافق أو خليل محبوب، والشبق الذي استفزه الكلف ممن لا يقدر عليه.
وأما نفع الجماع للفتيات اللواتي يعرض لهن المرض المعروف "الرحم" ،واللواتي يعرض لهن من احتباس المني صرع وجنون هائج؛ فهو نفع لا يعادله غيره، حتي إنه كالدرياق السريع النفع لهذه العلل.
فأما المشايخ فيسرع بهم إلي المرض والسقم، ويهدم بنيتهم، ويحدث بالناقة سوء مزاج، ويسوقه إلي المرض، ويعظم ضرره بأصحاب النقرس، وعرق النسا، وأوجاع الظهر، وأوجاع العين، وأصحاب ضعف البصر، ويضر بمن يجد خفقاناً في قلبه، واصفراراً في لونه، ووجعاً في كليته، وتيبساً في عينيه، ويستتبع غور العينين، ونقصان رطوبتهما، وصغرهما، ويذهب بشطر حسن العينين، ورونقهما، وينكي في أصحاب الجذام والسل والدق.
والإكثار منه ضار بمن كان صدره غير رحيب لاستعداده للسل، وما ذكرناه من أثره في العينين لا يكاد يظهر إلا في أصحاب الأمزجة الضعيفة أو عند الإكثارمنه، واستدامة الإفراط فيه؛ ولذلك قال أفلاطون:
"صاحب الجماع مستمد من ماء حياته، فإن شاء فليزد وإن شاء فلينقص".
ولبعض عقلاء المجانين:
لا تكثرن من الجماع فإنه ماء الحياة يراق في الأرحام
وقال أبو العلاء المعري:
والبآ مثل البآ يخفض للدنا أو تجسره
فأما المقدار القصد منه فغير ضار بالشبان والكهول المعتادين له، إذا هم راعوا علامات الضرر به، وتعمدوا به أوقات صدق شهوتهم له، وتجنبوه عند امتلاء المعدة بعد الاستحمام والرياضة المتعهدة، وعقيب تناول الأغذية الغليظة، والأغذية الباردة، وفصل الصيف.
ومن كان معتاداً للباه وتركه فربما استرخت ونقص اقتداره علي الباه وذلك أن في استعماله لا علي الدوام نوع رياضة للذكر، وتعويداً للطبيعة توفير المادة والقوت علي آلات التناسل.
ونفعه لأصحاب الفم علي الوجه الذي يشفي به لذغه، وهو شديد الضرر بالصائم اللغب الجائع إلا أن يتبعه بالطعام فإن نام بعد الجماع علي جوعه ذبل بدنه، وغارت عيناه، وهزل، وسهم لون وجهه، وإن جامع ثم أفطر ثم نام ترهل وجهه وجفونه، وتكدرت عيناه.
وأحوال الناس في الباه مختلفة كاختلافهم في غير ذلك من أحوالهم؛ لرب مترف ضعيف البطش، لا يستطيع مد قوس ضعيف وهو مع ذلك دائم الإنعاظ، يكاد يكسر الجوز بإحليله، وينفصل عن المرأة وآلته علي حالها في الصلابة.
ورب نبيل جسم، حسن القد واللون، وحاله علي خلاف ما ذكرنا، ورب قصير ذميم، يباري الحمار في عظم آلته، وبالضد.
ومستند كثرة الإنعاظ إلي أمرين:
أحدهما: اهتياج الشهوة من الكلي .
والثاني: قوة الأعصاب.
والسبب الأول هو الأصل، وأكثر ما يوجد من الشبان والأحداث، لشدة شوقهم إلي الجماع، والدليل علي هذا: أن من كان ضعيفاًعن الباه إذا استجد منكوحه تعجبه وجد من قوته علي الباه زيادة بينةً لاهتياج الشهوة من الكلي،بالتوقان إلي نكاح الحسناء الجديدة.
وكلما علت السن قل الانتفاع به، وكثر الضرر
(2)
تقدير الجماع إذا كان الفتي فيما بين
البلوغ وبين اثنتين وعشرين سنة
فهو في إفرادته الزهرة. . وفي هذه المدة يسمي غلاماً لأن الغلمة غالبة عليه، وشهوة المباضعة مستفزة له، وهذه المدة محتملة للإكثار من الباه، لا يتأذي الفتي فيها به أصلا، أعني أذي ظاهراً، فأما الأذي الباطني فلا ينفك عنه؛ لأن الطبيعة وإن كانت تختلف من الأغذية عوضاً عما يحلل وشبيهاً به فإنه لن يساويه، لأن الجوهر الذي خرج كانت الطبيعة قد حصلته بإنضاج تام علي التؤدة والهويني قبل أوان الاشتغال بتلك المجامعة.
فأما من جامع في ليلة عشر مرات أوأكثر من ذلك، فلا محالة أن الطبيعة تكون في فقر وفاقة إلي إخلاف ما تحلل والعوض عنه، فتسلب العروق الأغذية قبل كمال نضجها لتغتذي به الأعضاء لشدة الحاجة إلي الغذاء؛ لخلوها من الرطوبة التي استفرغها الجماع والحركة العنيفة، فتكون الرطوبة واللحم وغير ذلك مما تتكلف الطبيعة غرامته دون الأول في النضج والموافقة. فهذا هو القدر الذي يتطرق من الضرر علي من كان فيما بين البلوغ وبين اثنتين وعشرين سنة، إذا أكثر من الباه.
فأما ضرر ظاهر فلا يتطرق إليه بالإكثار ما دام صحيح اللون والبدن، لكنه يكره الإفراط فيه، لأنه يسرع بخروج اللحية قبل أوانها، ويجعل لها من الوجه مكانًا كثيرًا، والإفراط فيه أيضًا من دواعي الهزال.
فأما من كان فيما بين اثنتين وعشرين سنة وبين ثلاثين سنة، فأكثر ما ينبغي تناوله من الجماع مرتان، وغايته ثلاث مرات في زمانين متباعدين، إلا أن يكون الجماع مع محبوب معشوق، فإن الإكثار من غشيان المحبوب أنفع من الدرياق الفاروق ما دام لا يجد شيئًا من علامات الضرر به، وقد تقدم ذكرها.
فأما من كان بين ثلاثين سنة وبين الأربعين سنة فلا يصلح له أكثر من مرة في كل يوم، وأكثره ثلاث مرات في يومين.
وأما من كان فيما بين أربعين سنة وخمسين سنة فلا يصلح له أكثر من مرتين في كل ثلاثة أيام، فهذا هو المقدار الذي إذا دام عليه لم يحدث منه ضرر.
وأما من كان فيما بين الخمسين والستين فإنه يحتمل في كل أربعة أيام أو خمسة أيام مرة.
ومن كان بين الستين والسبعين، وكان صحيح المزاج، فإنه يحتمل في كل شهر ثلاث مرات، وغايته أربع مرات.
ومن كان فيما بين السبعين وخمس وسبعين جاز له ذلك في الشهر مرة أو مرتين بحسب قوته.
ومن كان فيما بين الخمس وسبعين والثمانين سنة فيجوز له ذلك في السنة مرة أو مرتين، وإن كانت قوته ونشاطه صحيحين، وشهوته موجودة، جاز له ذلك كل شهرين مرة.
ومن وصل إلي الثمانين فلا يصلح له الباه أصلاً، وسبيله أن يهجره هجرًا تامًا.
هذا التقدير بحسب المزاج القريب من الاعتدال في قوة التركيب وضعفه، وقد يتفق من يكون في عمر السبعين، وهو في قوة أبناء الأربعين، فذلك يصلح له ما رتبناه لأبناء الخمسين، وبالضد، وقد يتفق لبعض الناس أن تأتي عليه أربعون سنة من عمره لم يجامع كثيرًأ، فذلك تحتمل حاله ما رتبناه لأبناء الستين، وعلي أنه من أبناء الثلاثين فافهم ذلك. ودخل إلي بقلعة "روبين دز" حماها الله، في شعبان سنة اثنتين وستين وخمسمائة شيخ من كبراء حجاب تابك نصر الدولة والدين، يقال له: الحاجب ماهزو، وكان قد وصل إلي الثمانين سنة، فشكا إلي مرضًا كان به، فتقدمت إليه بما رأيت أنه قد تصلح معالجته به، فسألني عن الجماع؛ هل يضره، أم لا؟
وما كنت أتوهم ولا يسبق إلي ظني أن مثل ذلك الشيخ الهرم يحدث نفسه بالجماع وهو مريض، فلما نهيته عنه قال: إنه لا يمكنني ذلك، لأن عندي عشرة جوارٍ مثل الأقمار؛ فإلي أي جهة حوّلت وجهي في داري أري وجهًا صبيحًا، أو طرفًا فتانًا، أو قدًّا يقيم علي حدًّا، أو جارية تقيم قيامتي بقوامها وقامتها، فلو عاينت تلك العيون لعذرتني إذا لم أتوقَّ المنون.
فقلت: إنك شيخ مفتون - ولولا مراقبتي شيبته لا هيبته لأسمعته عوض المفتون مجنون - أما تشفق علي هذه الحشاشة التي قد قرب منها أوان الانطفاء، أما ترحم هذه البنية العجفاء، أما شغلك ما كُلِّفتَه وبلغته من مشقة الهرم المشنف، والسقم المدنف، وإدبار الطبيعة وعجزها عن القيام بما دهاها، ومقاومة ما أذاها عن مغازلة الفتيات، ومقانجة الجازر التركيات، وتعاطي ما لا قِبَلَ لك به؟!
فقال لي: ليس إلي ترك ذلك سبيل.
فعجبت من حاله، ولم تمض إلا أيام قلائل حتي بلغني خبر موته، فترحمت عليه، وذكرت ما قاله بعض الحكماء، إذ يقول: "لا ينبغي للشيخ أن يتخذ طباخاً حاذقًا ولا جارية حسناء؛ لأنه يكثر من الطعام فيسقم، ومن الجماع فيهرم".
وكذلك تؤكد الوصية بأنه لا ينبغي لمن بلغ ثمانين سنة أن يقتني جارية حسناء، ولا امرأة جميلة، ولا غلامًا صبيحًا، هذا إذا كان المزاج في غاية الصحة، وأصل التركيب في أكمل القوة.
فأما إن كان المزاج ضعيفًا فإن صاحبه يحتاج أن يفطم نفسه عن ذلك منذ الستين سنة.
(3)
السبب الذي لأجله رغب الناس في الباه
والعلة في التذاذهم به:
اعلم أن أعظم الموجودات في عالم الاستحالة إحساساً باللذة والألم هو الإنسان ؛ وذلك أن النبات له حياة ما بها بقاؤه نامياً، معتدياً مورقاً، فمورداً، فمثمراً، إلا أنه ليس من شأن النفس النباتية أن تشعر بالملائم ولا بالمؤذي المفسد لصورتها.
فأما الحيوان غير الناطق فإنه يشعر باللذة والألم، لكنه لا يشعر بشعوره. والإنسان يشعر بالملذ والمؤلم، ويشعر بشعوره بكل واحد منهما، فصار له بشعوره باللذة لذة زائدة في حال الالتذاذ، وصار له أيضاً بشعوره بالألم ألم زائد، لا يساويه في هذين شيء من الحيوانات.
وأيضاً فإن كمال كل واحد من هذه الأجسام النباتية والحيوانية والإنسانية هو بلوغه إلي حد الإيناع والإثمار، وأن يفضل من رطوباتها ما يستفضله الطبيعة ويضيفه منه، ليكون هيوليا، وبزراً لمثله ليصدر عنه مثله؛ لأنه لما استحال البقاء الدائم لهذه الموجودات المضمحلة بأشخاصها، واستحال أيضاً أن تفني أنواعها،انتزع من كل واحد منها ما يجيء منه بالتربية مثله ليكون خلفاً منه إذا اضمحل وتلف بالموت.
ولما كانت الآفات المفسدة للبزر والخلف كثيرة قبل قبوله الصورة، وفي حال قبوله، وبعد قبوله، وكانت الآفة ربما عرضت له فمنعت من كماله، انتزعت الطبيعة بإذن الله من كل واحد من هذه الأشخاص في عدة مرات ما لو سلم من هذه الآفات، وقبل الصورة، وكمل، لكان أضعافاً كثيرة للصور التي صدر عنها. واعلم أن هذا البزر الذي يقبل الصورة إنما يصدر عن الشجرة أو الحيوان في الوقت الذي يكون فيه علي أكمل حالاته وأتم صحته.
أما الحيوان فلا يوجد منه النشاط التام للسفاد والهيجان له، إلا إذا كان بدنه خصباً، ولحمه غزيراً، وقوته وصحته كاملتين، فحينئذ يبتدئ به الهيجان للسفاد.
وكذلك الإنسان؛ فإن المريض إذا كان به نوع من أنواع سوء المزاج لا يكاد يحبل منه أصلاً؛ فقد تبين أن خروج البذر من الشجرة أو الحيوان إنما هو كمالها، وحال إنماء هو يتهيأ لها مع السلامة من العلل والأدواء الردية.
فأما النبات فإنه يثمر في السنة مرةً واحدة أو مرتين، لا بإرادة، ولا في وقت غير معين.
وأما الحيوان فله أن يوجد نفسه هذه الحاله، وأن يستفضل بزره، ويخرج منيه بالسفاد بإرادته مرات غير محصورة، ومن شأنه أن يشعر بهذه الملاءمة فيلتذ.
وأما الإنسان فإنه أقوي الحيوانات علي المباضعة، وأكثرها منياً، لاعتدال طباعه، ووفور قوته المولدة للمني في بدنه، وليس في الحيوانات الكبيرة الأجسام ما يقوي علي الباه؛ فإن الجمل الهائج، والحصان المودق إذا ألقي منيه في وعاء الأنثي مرةً أومرتين في يوم انكسر نشاطه وضعف، فإن هو دام علي ذلك خمسة أيام يقفز في كل يوم ولو مرةً واحدة، غارت عيناه، وعظم ضره وهزاله.
والفتي من الناس ربما جامع في كل ليلة ثلاث مرات، وبقي علي ذلك سنة، لا يزداد فيها إلا قوة وجمالاًوخصباً في بدنه، وإن أجل الجماع ليلتين متواليتين فربما احتلم،
فأما إذا كان فيما بين الأربعة عشر عاماً والسبعة عشر، فربما جامع في أول الليل مرتين، واحتلم في آخر الليل مرتين، وهذا أدل علي رطوبة مزاج الآدمي وقوته علي الباه، وتوليد طبيعته للمني أكثر من سائر الحيوانات، فصار للإنسان من الالتذاذ بالجماع ما ليس لشئ من الحيوانات مثله لشعوره بهذه الحاله الملائمة، وشعوره بشعوره بها.
* نشر في صوت الأمة يوم 13 - 02 - 2009
ذكر الأعضاء لا يؤثم وإنما المأثم في الكذب وقول الزور وأكل لحوم الناس بالغيب
· الإكثار من غشيان المحبوب أنفع من الدرياق
· لا تكثرن من الجماع فإنه ماء الحياة يراق في الأرحام
ولم يكن ابن قتيبة واحدًا في هذا التصور قطعًا؛ إنما هي حضارة كانت تتمتع وقتها بثقة شديدة في معارفها وفي المنتمين لها كذلك؛ وهو ما جعل موضوع الجنس من الموضوعات التي تم التطرق إليها في الحضارة العربية الإسلامية دون وجل أو خجل ومن غير واحد من مفكرينا الكبار من أمثال: الغزالي، والسيوطي، وابن سينا؛ وهو صاحب المخطوط النادر الذي نكشف عنه في هذه الحلقات المتتالية، الجماع هو موضوع المخطوط الذي ينشر للمرة الأولي.
(1)
منافع الجماع ومضاره
الجماع نافع للفتيان والشبان المعتادين له، وأصحاب الأبدان اللحيمة والمعتدلة الخصبة الواسعه العروق، والذين ألوانهم إلي الحمرة وينفع أصحاب الجنون الهائج والوسواس؛ الذين سبب وسواسهم احتقان المني في أبدانهم، واستحالته إلي الكيفية الردية، ومن جنونه لفقد قرين موافق أو خليل محبوب، والشبق الذي استفزه الكلف ممن لا يقدر عليه.
وأما نفع الجماع للفتيات اللواتي يعرض لهن المرض المعروف "الرحم" ،واللواتي يعرض لهن من احتباس المني صرع وجنون هائج؛ فهو نفع لا يعادله غيره، حتي إنه كالدرياق السريع النفع لهذه العلل.
فأما المشايخ فيسرع بهم إلي المرض والسقم، ويهدم بنيتهم، ويحدث بالناقة سوء مزاج، ويسوقه إلي المرض، ويعظم ضرره بأصحاب النقرس، وعرق النسا، وأوجاع الظهر، وأوجاع العين، وأصحاب ضعف البصر، ويضر بمن يجد خفقاناً في قلبه، واصفراراً في لونه، ووجعاً في كليته، وتيبساً في عينيه، ويستتبع غور العينين، ونقصان رطوبتهما، وصغرهما، ويذهب بشطر حسن العينين، ورونقهما، وينكي في أصحاب الجذام والسل والدق.
والإكثار منه ضار بمن كان صدره غير رحيب لاستعداده للسل، وما ذكرناه من أثره في العينين لا يكاد يظهر إلا في أصحاب الأمزجة الضعيفة أو عند الإكثارمنه، واستدامة الإفراط فيه؛ ولذلك قال أفلاطون:
"صاحب الجماع مستمد من ماء حياته، فإن شاء فليزد وإن شاء فلينقص".
ولبعض عقلاء المجانين:
لا تكثرن من الجماع فإنه ماء الحياة يراق في الأرحام
وقال أبو العلاء المعري:
والبآ مثل البآ يخفض للدنا أو تجسره
فأما المقدار القصد منه فغير ضار بالشبان والكهول المعتادين له، إذا هم راعوا علامات الضرر به، وتعمدوا به أوقات صدق شهوتهم له، وتجنبوه عند امتلاء المعدة بعد الاستحمام والرياضة المتعهدة، وعقيب تناول الأغذية الغليظة، والأغذية الباردة، وفصل الصيف.
ومن كان معتاداً للباه وتركه فربما استرخت ونقص اقتداره علي الباه وذلك أن في استعماله لا علي الدوام نوع رياضة للذكر، وتعويداً للطبيعة توفير المادة والقوت علي آلات التناسل.
ونفعه لأصحاب الفم علي الوجه الذي يشفي به لذغه، وهو شديد الضرر بالصائم اللغب الجائع إلا أن يتبعه بالطعام فإن نام بعد الجماع علي جوعه ذبل بدنه، وغارت عيناه، وهزل، وسهم لون وجهه، وإن جامع ثم أفطر ثم نام ترهل وجهه وجفونه، وتكدرت عيناه.
وأحوال الناس في الباه مختلفة كاختلافهم في غير ذلك من أحوالهم؛ لرب مترف ضعيف البطش، لا يستطيع مد قوس ضعيف وهو مع ذلك دائم الإنعاظ، يكاد يكسر الجوز بإحليله، وينفصل عن المرأة وآلته علي حالها في الصلابة.
ورب نبيل جسم، حسن القد واللون، وحاله علي خلاف ما ذكرنا، ورب قصير ذميم، يباري الحمار في عظم آلته، وبالضد.
ومستند كثرة الإنعاظ إلي أمرين:
أحدهما: اهتياج الشهوة من الكلي .
والثاني: قوة الأعصاب.
والسبب الأول هو الأصل، وأكثر ما يوجد من الشبان والأحداث، لشدة شوقهم إلي الجماع، والدليل علي هذا: أن من كان ضعيفاًعن الباه إذا استجد منكوحه تعجبه وجد من قوته علي الباه زيادة بينةً لاهتياج الشهوة من الكلي،بالتوقان إلي نكاح الحسناء الجديدة.
وكلما علت السن قل الانتفاع به، وكثر الضرر
(2)
تقدير الجماع إذا كان الفتي فيما بين
البلوغ وبين اثنتين وعشرين سنة
فهو في إفرادته الزهرة. . وفي هذه المدة يسمي غلاماً لأن الغلمة غالبة عليه، وشهوة المباضعة مستفزة له، وهذه المدة محتملة للإكثار من الباه، لا يتأذي الفتي فيها به أصلا، أعني أذي ظاهراً، فأما الأذي الباطني فلا ينفك عنه؛ لأن الطبيعة وإن كانت تختلف من الأغذية عوضاً عما يحلل وشبيهاً به فإنه لن يساويه، لأن الجوهر الذي خرج كانت الطبيعة قد حصلته بإنضاج تام علي التؤدة والهويني قبل أوان الاشتغال بتلك المجامعة.
فأما من جامع في ليلة عشر مرات أوأكثر من ذلك، فلا محالة أن الطبيعة تكون في فقر وفاقة إلي إخلاف ما تحلل والعوض عنه، فتسلب العروق الأغذية قبل كمال نضجها لتغتذي به الأعضاء لشدة الحاجة إلي الغذاء؛ لخلوها من الرطوبة التي استفرغها الجماع والحركة العنيفة، فتكون الرطوبة واللحم وغير ذلك مما تتكلف الطبيعة غرامته دون الأول في النضج والموافقة. فهذا هو القدر الذي يتطرق من الضرر علي من كان فيما بين البلوغ وبين اثنتين وعشرين سنة، إذا أكثر من الباه.
فأما ضرر ظاهر فلا يتطرق إليه بالإكثار ما دام صحيح اللون والبدن، لكنه يكره الإفراط فيه، لأنه يسرع بخروج اللحية قبل أوانها، ويجعل لها من الوجه مكانًا كثيرًا، والإفراط فيه أيضًا من دواعي الهزال.
فأما من كان فيما بين اثنتين وعشرين سنة وبين ثلاثين سنة، فأكثر ما ينبغي تناوله من الجماع مرتان، وغايته ثلاث مرات في زمانين متباعدين، إلا أن يكون الجماع مع محبوب معشوق، فإن الإكثار من غشيان المحبوب أنفع من الدرياق الفاروق ما دام لا يجد شيئًا من علامات الضرر به، وقد تقدم ذكرها.
فأما من كان بين ثلاثين سنة وبين الأربعين سنة فلا يصلح له أكثر من مرة في كل يوم، وأكثره ثلاث مرات في يومين.
وأما من كان فيما بين أربعين سنة وخمسين سنة فلا يصلح له أكثر من مرتين في كل ثلاثة أيام، فهذا هو المقدار الذي إذا دام عليه لم يحدث منه ضرر.
وأما من كان فيما بين الخمسين والستين فإنه يحتمل في كل أربعة أيام أو خمسة أيام مرة.
ومن كان بين الستين والسبعين، وكان صحيح المزاج، فإنه يحتمل في كل شهر ثلاث مرات، وغايته أربع مرات.
ومن كان فيما بين السبعين وخمس وسبعين جاز له ذلك في الشهر مرة أو مرتين بحسب قوته.
ومن كان فيما بين الخمس وسبعين والثمانين سنة فيجوز له ذلك في السنة مرة أو مرتين، وإن كانت قوته ونشاطه صحيحين، وشهوته موجودة، جاز له ذلك كل شهرين مرة.
ومن وصل إلي الثمانين فلا يصلح له الباه أصلاً، وسبيله أن يهجره هجرًا تامًا.
هذا التقدير بحسب المزاج القريب من الاعتدال في قوة التركيب وضعفه، وقد يتفق من يكون في عمر السبعين، وهو في قوة أبناء الأربعين، فذلك يصلح له ما رتبناه لأبناء الخمسين، وبالضد، وقد يتفق لبعض الناس أن تأتي عليه أربعون سنة من عمره لم يجامع كثيرًأ، فذلك تحتمل حاله ما رتبناه لأبناء الستين، وعلي أنه من أبناء الثلاثين فافهم ذلك. ودخل إلي بقلعة "روبين دز" حماها الله، في شعبان سنة اثنتين وستين وخمسمائة شيخ من كبراء حجاب تابك نصر الدولة والدين، يقال له: الحاجب ماهزو، وكان قد وصل إلي الثمانين سنة، فشكا إلي مرضًا كان به، فتقدمت إليه بما رأيت أنه قد تصلح معالجته به، فسألني عن الجماع؛ هل يضره، أم لا؟
وما كنت أتوهم ولا يسبق إلي ظني أن مثل ذلك الشيخ الهرم يحدث نفسه بالجماع وهو مريض، فلما نهيته عنه قال: إنه لا يمكنني ذلك، لأن عندي عشرة جوارٍ مثل الأقمار؛ فإلي أي جهة حوّلت وجهي في داري أري وجهًا صبيحًا، أو طرفًا فتانًا، أو قدًّا يقيم علي حدًّا، أو جارية تقيم قيامتي بقوامها وقامتها، فلو عاينت تلك العيون لعذرتني إذا لم أتوقَّ المنون.
فقلت: إنك شيخ مفتون - ولولا مراقبتي شيبته لا هيبته لأسمعته عوض المفتون مجنون - أما تشفق علي هذه الحشاشة التي قد قرب منها أوان الانطفاء، أما ترحم هذه البنية العجفاء، أما شغلك ما كُلِّفتَه وبلغته من مشقة الهرم المشنف، والسقم المدنف، وإدبار الطبيعة وعجزها عن القيام بما دهاها، ومقاومة ما أذاها عن مغازلة الفتيات، ومقانجة الجازر التركيات، وتعاطي ما لا قِبَلَ لك به؟!
فقال لي: ليس إلي ترك ذلك سبيل.
فعجبت من حاله، ولم تمض إلا أيام قلائل حتي بلغني خبر موته، فترحمت عليه، وذكرت ما قاله بعض الحكماء، إذ يقول: "لا ينبغي للشيخ أن يتخذ طباخاً حاذقًا ولا جارية حسناء؛ لأنه يكثر من الطعام فيسقم، ومن الجماع فيهرم".
وكذلك تؤكد الوصية بأنه لا ينبغي لمن بلغ ثمانين سنة أن يقتني جارية حسناء، ولا امرأة جميلة، ولا غلامًا صبيحًا، هذا إذا كان المزاج في غاية الصحة، وأصل التركيب في أكمل القوة.
فأما إن كان المزاج ضعيفًا فإن صاحبه يحتاج أن يفطم نفسه عن ذلك منذ الستين سنة.
(3)
السبب الذي لأجله رغب الناس في الباه
والعلة في التذاذهم به:
اعلم أن أعظم الموجودات في عالم الاستحالة إحساساً باللذة والألم هو الإنسان ؛ وذلك أن النبات له حياة ما بها بقاؤه نامياً، معتدياً مورقاً، فمورداً، فمثمراً، إلا أنه ليس من شأن النفس النباتية أن تشعر بالملائم ولا بالمؤذي المفسد لصورتها.
فأما الحيوان غير الناطق فإنه يشعر باللذة والألم، لكنه لا يشعر بشعوره. والإنسان يشعر بالملذ والمؤلم، ويشعر بشعوره بكل واحد منهما، فصار له بشعوره باللذة لذة زائدة في حال الالتذاذ، وصار له أيضاً بشعوره بالألم ألم زائد، لا يساويه في هذين شيء من الحيوانات.
وأيضاً فإن كمال كل واحد من هذه الأجسام النباتية والحيوانية والإنسانية هو بلوغه إلي حد الإيناع والإثمار، وأن يفضل من رطوباتها ما يستفضله الطبيعة ويضيفه منه، ليكون هيوليا، وبزراً لمثله ليصدر عنه مثله؛ لأنه لما استحال البقاء الدائم لهذه الموجودات المضمحلة بأشخاصها، واستحال أيضاً أن تفني أنواعها،انتزع من كل واحد منها ما يجيء منه بالتربية مثله ليكون خلفاً منه إذا اضمحل وتلف بالموت.
ولما كانت الآفات المفسدة للبزر والخلف كثيرة قبل قبوله الصورة، وفي حال قبوله، وبعد قبوله، وكانت الآفة ربما عرضت له فمنعت من كماله، انتزعت الطبيعة بإذن الله من كل واحد من هذه الأشخاص في عدة مرات ما لو سلم من هذه الآفات، وقبل الصورة، وكمل، لكان أضعافاً كثيرة للصور التي صدر عنها. واعلم أن هذا البزر الذي يقبل الصورة إنما يصدر عن الشجرة أو الحيوان في الوقت الذي يكون فيه علي أكمل حالاته وأتم صحته.
أما الحيوان فلا يوجد منه النشاط التام للسفاد والهيجان له، إلا إذا كان بدنه خصباً، ولحمه غزيراً، وقوته وصحته كاملتين، فحينئذ يبتدئ به الهيجان للسفاد.
وكذلك الإنسان؛ فإن المريض إذا كان به نوع من أنواع سوء المزاج لا يكاد يحبل منه أصلاً؛ فقد تبين أن خروج البذر من الشجرة أو الحيوان إنما هو كمالها، وحال إنماء هو يتهيأ لها مع السلامة من العلل والأدواء الردية.
فأما النبات فإنه يثمر في السنة مرةً واحدة أو مرتين، لا بإرادة، ولا في وقت غير معين.
وأما الحيوان فله أن يوجد نفسه هذه الحاله، وأن يستفضل بزره، ويخرج منيه بالسفاد بإرادته مرات غير محصورة، ومن شأنه أن يشعر بهذه الملاءمة فيلتذ.
وأما الإنسان فإنه أقوي الحيوانات علي المباضعة، وأكثرها منياً، لاعتدال طباعه، ووفور قوته المولدة للمني في بدنه، وليس في الحيوانات الكبيرة الأجسام ما يقوي علي الباه؛ فإن الجمل الهائج، والحصان المودق إذا ألقي منيه في وعاء الأنثي مرةً أومرتين في يوم انكسر نشاطه وضعف، فإن هو دام علي ذلك خمسة أيام يقفز في كل يوم ولو مرةً واحدة، غارت عيناه، وعظم ضره وهزاله.
والفتي من الناس ربما جامع في كل ليلة ثلاث مرات، وبقي علي ذلك سنة، لا يزداد فيها إلا قوة وجمالاًوخصباً في بدنه، وإن أجل الجماع ليلتين متواليتين فربما احتلم،
فأما إذا كان فيما بين الأربعة عشر عاماً والسبعة عشر، فربما جامع في أول الليل مرتين، واحتلم في آخر الليل مرتين، وهذا أدل علي رطوبة مزاج الآدمي وقوته علي الباه، وتوليد طبيعته للمني أكثر من سائر الحيوانات، فصار للإنسان من الالتذاذ بالجماع ما ليس لشئ من الحيوانات مثله لشعوره بهذه الحاله الملائمة، وشعوره بشعوره بها.
* نشر في صوت الأمة يوم 13 - 02 - 2009