يشبعونك ضربا بأخماص البنادق، بالكابلات والأحذية وأشياء أخرى لا تكاد تميزها. قرأت الكثير عن السجون وتعذيبها، شاهدت الكثير من الأفلام والوثائقيات، لكنك لم تتخيل يوما أن قصتك أنت ستنتهي إلى مثل هذه النهاية التي وصلت إليها.
ليست هي النهاية بطبيعة الحال. ليس ما يحدث هو بالضبط ما تحدث نفسك به تماما. للخيال القدرة على إدارة الألم وهندسته. بإمكانك استشراف الضربة القادمة أو توقع موضعها بدقة لا تكاد تصدقها قبل أن تحدث، لكنك تحتمل وتستعد للتالية. تستطيع أن تخمّن وجهة سجانك ثقيل اليد، الشاب المفتول الذي يبدو أن ذراعه اليمنى أخذت تؤلمه من شدة تفانيه في ضربك. تحس بفتور اليد التي أخذت حدة ضرباتها تخف وتركيزها يتشتت. يستطيع حبس لهاثه عنك، يستطيع إخماد انتفاضات عروقه الرافضة -أو هكذا تتمنى- لما يفعله بك، لكنه لا يستطيع إخفاء ارتباك ضرباته ذاتها. تريد أن تتعايش مع الألم بتحييده قليلا. تريد أن تعتقد أن للغرفة المظلمة هذه نافذة. لا مجرد مصباح صيني بائس.
تنتهي جولة الضرب الصباحية. لا فرق بين صباح ومساء في هذا الظلام المستمر. تريد توزيع جولات الضرب على الأوقات التي تخمنها من نشاط الجلاوزة وتراخيهم، تريد الحفاظ على إحساسك بالزمن. يتفرّقون عنك، ينتقل بعضهم إلى زنازين أخرى. يتمتع البعض باستراحة قصيرة للإفطار والتدخين. يصر البعض على استكمال الجولة أو انتظار جولة تالية معك، تفهم هذا من تشابه أسلوبهم الرتيب.
لم ينجحوا في انتزاع شيء منك بعد. خبرتك القليلة تكفي لتدرك أنك في بداية الطريق فحسب. طريقتهم في الحديث معك وعنك. عدم إصرار كبيرهم على انتزاع كل شيء فورا يؤكدان لك أن ما ينتظرك أنكى وأمرّ.
تئن تحت أقدامهم وانفجارات أسئلتهم التي لا تدري كيف تجيب عنها، لديك قائمة مفتوحة من الأسماء التي لن تتردد في إلصاق شتّى التهم بها، لا يهمك أحد حقا. كل ما يهم أن تعجبهم أجوبتك لينتهي كل هذا.
لا تدري ما الذي عليك قوله بالضبط. ارتباكك يشي بأن لديك الكثير لتقوله لكنك تعلم أنّ كل ما لديك لا يساوي شيئا مما يتحدثون عنه. تخشى الإفصاح عن تفاهة ما تعرفه لئلا ينتهون منك بإطلاقة مسدس رخيصة. تصر على تقمص شخصية الغموض المربك لسجانيك. في لحظات الجزع، تريد أن تصرخ بكل شيء لكنك لا تستطيع. هذه مشكلتك دائما، الكثير من الكلام، ولا قدرة للتعبير عنه. لست من النوع الذي يستسهل الحديث. طالما كنت تحدث نفسك أن الكلام خيانة لتيار الفكر المتدفق. كيف تقول شيئا وأنت في لحظة القول تنتقل بفكرك إلى غيره!
مربك جدا أن تتواصل مع أحدهم. الضرب والاستجابة له أمر آخر. هناك تواصل أعمق بين جلاد وضحيته. هنالك لغة. توتر، توقع، شد، ذروة اصطدام، وتراخ، شعور بمرور الحدث وانتظار ما يليه.
لغة الضرب أكثر هندسة ووضوحا. أكثر دراماتيكية حتى. طرفان واضحان يتبادلان شفرة سلطة واضحة ومحددة. الكلام ملغّم أكثر. مربك الاحتمالات، مخاتل الأهداف ومستدق المعاني والإحالات. يمارس ضابط التحقيق سلطته باستجوابك. تمارس سلطة معاكسة وأنت تجيب عن أسئلته.
أن تقول شيئا للذي يستجوبك هو أن تمارس سلطة أيضا. تمتلك شيئا يريده منك. وفي الوقت الذي تخضع له بجسدك، فأنت تكاد تمتلكه بما يخفيه لسانك. لكنك تدرك أن هذا لعب بالكلام. هو من يملك السلطة، هذا الجلواز الذي يقف بينكما هو من يمارسها لسيده. تخادع نفسك بامتلاك القدرة على تحليل الموقف. تتخيل سلطة امتلاك الحق الذي يمثله لك إحساسك بالظلم. ضعفك أمامه قوة أمام ضميره. من قال إنه لا يمتلك ضميرا. يمارس ضعفك سلطة نخر شعوره الإنساني. أنت تفرغه من إنسانيته مع كل نوبة غضب تعتريه. أنت تقصر عمره الآدمي وتحجر روحه مع كل ضربة يتشنج لها جسدك. يحاصره أنينك في محاكمة الضمير أمام نفسه حين يخلو لها.
لكن الجلاوزة لا يختلون بأنفسهم. تكاد تجزم أنهم لا يفعلون ذلك. لا يمكن لمن تخلى عن ضميره أن يجالسه يوما. بإمكانه الهروب إلى أشياء أخرى دوما. بإمكانه مخادعة نفسه هنا وهناك، لكنه لا يجرؤ على مجالستها وحيدا.
تحلم بتبادل المقاعد والأدوار مع ضابط التحقيق الذي سوف يجلس قبالتك بعد قليل. تتمنى امتلاك القدرة على قراءة تيار وعيه، ما يحدّث به نفسه وهو يحاصرك بأسئلته. عليهم أن يطوروا تقنية لهذا. لا ينبغي أن تكون تقنية بيد السلطة فقط. من الواضح أنهم لم ينجحوا في فعل هذا لحد الآن، وإلا لما كان هناك داع لكل ما تمر به من تعذيب واستجواب.
بإمكان روائي ماهر أن يصل إلى ما لم يصل إليه علماء المخابرات وخبراء التحقيق ومحللو البيانات. لكن كلامه سيظل هواء في شباك. لا تكفي ترهات التيليباثي وتقنيات الباراسيكولوجي الكاذبة. هذه مهمة كاتب حذق. أجزم أن بإمكانه فعل هذا بإتقان متناه.
تنتبه إلى أنك تهرب مما بين يديك من موقف مضطرم إلى الحلم، هذا ما تفعل دائما. تريد من موقفك البائس هذا أن يأخذك إلى يوتوبيا الكتابة التي أوصلتك إلى ما أنت فيه.
“أريد أن أصبح كاتبا مهما”. قلت لصديقك وأنتما تخرجان من المدرسة الثانوية. يريد هو أن يكون محققا سريا، ضابط استخبارات، جاسوسا. يعشق الغموض والسرية التي تمنحها وظائف كهذه. يضحك من هوسك الأدبي دائما. تجاوز صاحبك مرحلة الشعر المراهق الذي جمعكما ذات يوم بنجاح، فيما تصر أنت على أنه الخلاص الوحيد. تتذكر كيف توقفت لسنين طويلة عن الحديث عن تغيير العالم بالكلمات والوعي في لقاءاتكما. تتذكر أنك كنت تخبّئ آراءك تلك في طي أحاديثك ونقاشاتك. كان واضحا فيما يريد ويفعل، فيما كنت تحافظ على ارتباك الأهداف وعدم وضوح السبل.
كان يفعل فيما تستمر أنت بالحديث عما تريد فعله. كانت تحوم حول نقاشاتكما التي أردت لها سمة النضج والمنطقية، أسئلتك الشعرية وأحلامك التي توقفت عن تسميتها أحلاما. بعد هذا العمر تدرك أنك لم تزل تحتفظ بسذاجة الطالب المراهق الذي كنته، السذاجة ذاتها التي كان صديقك يسخر منها في كل لقاء.
يطول انتظارك المتعمد في غرفة التحقيق الباردة. تفكر بصاحبك لقتل الوقت، ما الذي كان يفعله لو كان في مكاني الآن؟ تتساءل عمّا حلّ بصاحبك ذاك. من المؤكد أنه نضج كثيراً وأدرك أشياء أكثر أهمية من كتابة مقال يودي بصاحبه إلى السجن. من المؤكد أنه فعل أشياء أهم وأنجز أشياء أخرى. غيّر عالمه بالأفعال لا بالأقوال والأحلام. سمعت عنه كثيرا، تتبعت أخباره من طرف واحد بعدما توقف عن التواصل معك. أنت متأكد من ضيقه بآرائك الساذجة وفلسفتك المراهقة مؤخرا. توقفه عن التواصل معك مؤشر لك ربما لتفعل شيئا أهم بآرائك تلك بدل إطلاقها هنا وهناك في كل محفل ومع كل جدال تتصيده مع من تحادثهم. ربما يكون قد حقق حلم طفولته وأصبح ضابطا مهما. تنتبه إلى أن حلمك الساذج يريد الوصول بك إلى هذه النتيجة، تهز رأسك ساخرا من نفسك. حدثك في آخر اتصال لكما عن تدربه على التحقيق مع بعض المشتبهين، كان يعمل تطوعا لبعض الجماعات التي لم يفصح لك عنها. ساعدهم في نصب بعض أبراج الاتصالات، حدثهم عن مهاراته في استخلاص المعلومات ومقاطعتها مع بعض.
تتذكر مقاربته التي تمزج بين تخصصه العلمي في هندسة الكهرباء أو الاتصالات مع ذكائه الاجتماعي وقدراته في التواصل الإنساني والحديث، كان متحدثا لبقا فيما اكتفيت أنت بما كنت تظنّه فكرا أكثر عمقا. “الأدب نظام تواصل مشوش”. قال لك يوما. “ليست هناك مرجعية واضحة لفك الشفرة واقتناص المعنى في الأدب”. مقاربته في فهم التواصل الإنساني أكثر منطقية وعلمية مما تعتقده أنت.
كان يرى أن الناس يشبه بعضهم البعض كثيرا. علم الاتصال هو الحل. بالإمكان بناء منظومة شفرات لجميع ما يقولونه أو يفعلونه في مواقف متشابهة، كل ما نحتاجه هو برمجيات معالجة البيانات الضخمة. المسألة مسألة وقت قبل أن ينتهي كل شيء. الكمّ ينتج النوع ويقننه. ما تقوله أو تفعله نسبة مئوية معتبرة من الناس في مواقف متشابهة وظروف متقاربة يصلح أن يكون قاعدة تؤسس عليها فهمك للسلوك الإنساني ومنهجا للتواصل والسيطرة. بعد ذلك سنرمي بالأدب والعلوم الإنسانية إلى مزبلة التاريخ ومتاحفه.
سيغير علم معالجة البيانات الضخمة كل شيء. من المؤكد أن إحدى جماعات السلطة استولت على عقلية صاحبك هذا لتستفيد منه. أنت قبل غيرك تدرك أنه كنز بالنسبة إلى من يملك السلطة. رغم خلافاتكما التي لا تتذكر أسبابها، إلا أنكما تدركان أهمية بعضكما البعض. أو هذا ما تعتقده أنت على الأقل. ليست توجهاتكما السياسية وحدها هي التي تقاطعت. بل أخذت معطيات الخلافات تزداد. لم يكن لخيالك القدرة على تجسير الفجوة التي أخذت تكبر بينكما. لا تجسّر الفجوات من جانب واحد في النهاية، حتى لو أفرطت في التفكير بممكنات دوافعه وأسبابه، عما يريد أن يقوله بابتعاده، لا يكفي.
يستعيد خيالك جموحه وأنت تفكر بصاحبك فيما تنتظر جولة التحقيق العنيفة التالية. تطرد من ذهنك خاطراً لا منطقياً بالمرة. أو لعله منطقي تماما، من أنت لتتحدث عن المنطق! هو من سوف يحتل هذا المقعد بعد ثوان. صاحبك الذي تصر على التفكير به بلا سبب. من الغباء المفرط أن تعتقد أنه كان ليفعل بك كل هذا مزاحا فحسب. لم تكن هذه طريقتكما في المزاح أبدا. من الإفراط في التخيل أن تعتقد أن صديق طفولتك هو من يقوم بكل هذه الحبكة ليضفي على لقائكما الذي انتظرته طويلا تشويقا دراميا يقطع الأنفاس، ويلهب الظهر طبعا. لكن هذا كل ما تفعله وكل ما تتقن فعله. ليس لديك في موقف كهذا إلا أن تهرب إلى أرض الخيال الذي لم تعد تملك سواه.
الغرفة مظلمة جدا. تحس بظلمتها كثقل على كتفيك. لا تدري لماذا يضايقك ظلام الغرفة وأنت معصوب العينين في الحالتين. الظلام مربك أكثر. تنتظر اللحظة المتخيلة التالية بترقب ونفَس مشدود. ترى هل هي طريقته في الاحتفاء بقصيدتكما التي نشرتها أخيرا.
قصيدة كانت بذورها ولدت لحظة تشكل صداقتكما في غابر الذكريات. على مقعد مكسور إلى جانب نهر صغير نصف ميت. وسط بلدة تستعرضها ذاكرتك شارعا فشارعا وأنت تفكر به، وبما يكون قد فعله. تحدثتما عن الفكر والمستقبل، عن الله والثورة وأحلامكما الصغيرة، عن كل شيء. لم تكملا حديثكما أبدا. كان ينتهي في المنتصف دائما. هل هذه طريقته في إنهاء الحديث؟ حتى وإن كان موضوع الاعتقال لحد الآن وحسب ما قيل لك يدور عن قصيدة كتبتها أو مقال نشرته. ما الجديد في كتابة قصيدة خارجة قليلا؟ النظام ذاته من الذكاء بحيث يسمح لهوامش كهذه أن تتشكل وتنمو. نظام ذكي يدير هامش الخروج عليه ويخططه بدل أن يترك كل شيء للظروف والمؤثرات المختلفة. نظام ذكي يكفل لصديقك وأمثاله أن ينضمّوا إليه اعتقادا وممارسة، رغم رفضهم لكل ما يفعله ويؤمن به.
لا يؤمن النظام بشيء، “نحن من نشكل إيمانه وسلوكه،” لا تتذكر إن كان هو من قال هذا أم إنك صرت تلحق به آراء تلائم صورته التي صرت تتخيلها. لا تدري بالضبط أين الذكاء في كل هذا، ومن الأكثر غباء في موقفك المعقد هذا. تدرك بحس الكاتب ومخيلته أن الموقف ليس معقدا بصورة كافية. وأن نكتة ثقيلة قد تقف وراء ما يجري ببساطة. نكتة تقول لك إنك يا صديقي القديم الجديد، مازلت تفرّط في تصديق أحلامك، تستمتع في ملاحقتها إلى النهاية، فتمتع بهذه النهاية التي تريد.
تشعر بالتناقض. تستغرب أنك لا زلت تجل صديقك وتحترمه. تحترم النظام الذي تمقته، لأنه من الذكاء والاكتمال بحيث جعلك تغفر إخفاقاته، فقط لأنك تدرك أن الكمال يوتوبيا الناس الفارغين أمثالك. الذين لا يمتلكون إلا ملاحقة حلم، اصطياده، وإطلاقه قبل أن تحبسه اللغة التي لا يملكون غيرها. تدور في دوامة الحلم وعبثيته. لا تمتلك إلا أن تنتظر انجلاء الموقف.
تدرك أن هوسك بتخطيط الأحلام والركون لها هما ما يقودان تفكيرك إلى العقدة التي وصلتها. من العبث مسايرة الأحلام هكذا، في كل شيء وفي كل وقت. قلت لنفسك مرة لكنك عدت مؤكدا أن لا مشكلة في فعل هذا، فهذا هو ما تريده في النهاية. المزيد من الأحلام. المزيد من الانغماس فيها. ولكن المعضلة فيما تنتظره من الدقائق القادمة. لا تريد أن تعرف الآن.
تتلذذ بانتظار الأحداث وهي تكشف عن نفسها، تتلهف لكشف الشخصية التي غمرتها بالملامح والتفاصيل قبل أن تتكشف لك. تنتظر بلهفة ولادة حبكتك الحالمة أو سقوطها السريع والصادم. تتحاور اللغتان. حلمك المحلق، وجسدك القلق. يفرط الحلم في تعقده حتى تكاد تبوح به إلى السجان الذي يقف قربك.
خلاص، أنت متأكد لسبب ما أن الضابط الذي تنتظره صديقك، الضابط الذي يجلس قبالتك ويصر على إخفاء هويته. من الأفضل للسجان أن يغادر الغرفة قبل أن تنفجرا بالضحك أو البكاء. تكاد تطلب منه أن يغادر الغرفة المظلمة الآن. لكن لغة الترقب التي يتحاور جسدك بها مع سجانه تصر على الانحناء المترقب. شد، توقع مضطرب، انتظار. حكة خفيفة كتيار كهربائي متناه في الصغر على جلد ظهرك المستنفر. استكشاف لتزايد الضوء وتوهجه خلف رباط العينين المحكم. محاولة للتعرف على المكان والموقف بحواسك الأخرى. إصغاء.
يُفتح الباب بحركة ثقيلة. يتحرك الكرسي المقابل. تحبس أنفاسك بترقب. تنتظر حركة ما. تنتظر مناورته القادمة، بادرة من صاحبك الذي طال انتظاره. تحاول تحييد الحلم ثانية والتفكير منطقيا بموقفك لمرة واحدة فقط.
لا يساعد التفكير المنطقي في مواقف كهذه، ثم إنك لم تفعل ذلك منذ وقت طويل. احتمالان لا ثالث لهما ينتظرانك. ضحكة منفجرة يتبعها عناق، سلسلة من عتاب ونقاشات وذكريات، أو ضربة ثقيلة تطيح برقبتك التي حناها الضرب وأعياها الترقب. يستجيب جسدك لحركة الكرسي المقابل بحركة مشابهة لها. تمد رقبتك المنهكة بالانتظار. تستشرف ثقل الضربة المتوقعة وموضعها. تتنفس باختناق وأنت تتحسس الحلم الذي تغادره كحية تنسلخ من جلدها الشفاف. تتحسس ثقل الكابل النحاسي الذي يغلفه المطاط، لا يشبه حية تتلوى، لا يشبه الضرب شيئا آخر، يعجز الشعر عن ابتكار صورة للمشهد.
يرتخي موضع الضربة السابقة. يشتد مكان آخر على بعد إصبعين أو ثلاثة منه. تسري رعشة الكهرباء. تتذكر حديثه عن كلية الهندسة، عن الكهرباء، عن الاتصالات. يرتخي الجلد المكهرب. يقرأ لك مقاطع من قصيدة لم تعد تتذكرها. تستشعر اشتداد الضربة اللاحقة من نبرة قراءته. تريد تذكر الصوت. تشتد أطراف الأعصاب منتظرة زائرها الثقيل. يرتبك الدماغ وهو يحلل بيانات الأعصاب المشدودة. ترسل إشعاراتها كنداءات استغاثة وسط إعصار ضارب، كثير من البيانات، قليل من المعنى.
يسبح الدماغ في تيار وعي جديد. بإمكان علم معالجة البيانات أن يخلق بديلا لدماغ بشري لا تكفي سعة معالجته لما يمر به. بإمكان العلم أن يحل كل شيء. بإمكان الشعر أن يحل كل شيء. بإمكان الدماغ أن يزيف الحقيقة بسهولة. بإمكانه جعل كل هذا حقيقة أو محوه بسهولة. كل ما تحتاجه هو ذاكرة عشوائية كافية، والقليل من الكهرباء.
ما الذي جاء بالكهرباء لقصيدتك السخيفة؟ ما الذي يريد قوله. لا يريد أحد قول شيء، يفعلون فقط. تنعش رعشة الكهرباء الخفيفة جسدك المستنفر، يحاور الجسد صاحبه. الغرفة صامتة. الظلام لغة. انتظار، توقع، شد، اصطدام، استرخاء. “حبكة متكاملة”. يحدثك دماغك الغارق بإيعازات الأعصاب وإشاراتها مضطربة المعاني والمتباينة الدلالات. حبكة متكاملة هي التي بين يديك. هذا كل ما يهم. يغادر الأشخاص، لا تبقى سوى الحبكة في هذا النص. كهرباء خفيفة، توقع، شد، اصطدام، استرخاء. وانتظار.
غياث منهل
كاتب من العراق
ليست هي النهاية بطبيعة الحال. ليس ما يحدث هو بالضبط ما تحدث نفسك به تماما. للخيال القدرة على إدارة الألم وهندسته. بإمكانك استشراف الضربة القادمة أو توقع موضعها بدقة لا تكاد تصدقها قبل أن تحدث، لكنك تحتمل وتستعد للتالية. تستطيع أن تخمّن وجهة سجانك ثقيل اليد، الشاب المفتول الذي يبدو أن ذراعه اليمنى أخذت تؤلمه من شدة تفانيه في ضربك. تحس بفتور اليد التي أخذت حدة ضرباتها تخف وتركيزها يتشتت. يستطيع حبس لهاثه عنك، يستطيع إخماد انتفاضات عروقه الرافضة -أو هكذا تتمنى- لما يفعله بك، لكنه لا يستطيع إخفاء ارتباك ضرباته ذاتها. تريد أن تتعايش مع الألم بتحييده قليلا. تريد أن تعتقد أن للغرفة المظلمة هذه نافذة. لا مجرد مصباح صيني بائس.
تنتهي جولة الضرب الصباحية. لا فرق بين صباح ومساء في هذا الظلام المستمر. تريد توزيع جولات الضرب على الأوقات التي تخمنها من نشاط الجلاوزة وتراخيهم، تريد الحفاظ على إحساسك بالزمن. يتفرّقون عنك، ينتقل بعضهم إلى زنازين أخرى. يتمتع البعض باستراحة قصيرة للإفطار والتدخين. يصر البعض على استكمال الجولة أو انتظار جولة تالية معك، تفهم هذا من تشابه أسلوبهم الرتيب.
لم ينجحوا في انتزاع شيء منك بعد. خبرتك القليلة تكفي لتدرك أنك في بداية الطريق فحسب. طريقتهم في الحديث معك وعنك. عدم إصرار كبيرهم على انتزاع كل شيء فورا يؤكدان لك أن ما ينتظرك أنكى وأمرّ.
تئن تحت أقدامهم وانفجارات أسئلتهم التي لا تدري كيف تجيب عنها، لديك قائمة مفتوحة من الأسماء التي لن تتردد في إلصاق شتّى التهم بها، لا يهمك أحد حقا. كل ما يهم أن تعجبهم أجوبتك لينتهي كل هذا.
لا تدري ما الذي عليك قوله بالضبط. ارتباكك يشي بأن لديك الكثير لتقوله لكنك تعلم أنّ كل ما لديك لا يساوي شيئا مما يتحدثون عنه. تخشى الإفصاح عن تفاهة ما تعرفه لئلا ينتهون منك بإطلاقة مسدس رخيصة. تصر على تقمص شخصية الغموض المربك لسجانيك. في لحظات الجزع، تريد أن تصرخ بكل شيء لكنك لا تستطيع. هذه مشكلتك دائما، الكثير من الكلام، ولا قدرة للتعبير عنه. لست من النوع الذي يستسهل الحديث. طالما كنت تحدث نفسك أن الكلام خيانة لتيار الفكر المتدفق. كيف تقول شيئا وأنت في لحظة القول تنتقل بفكرك إلى غيره!
مربك جدا أن تتواصل مع أحدهم. الضرب والاستجابة له أمر آخر. هناك تواصل أعمق بين جلاد وضحيته. هنالك لغة. توتر، توقع، شد، ذروة اصطدام، وتراخ، شعور بمرور الحدث وانتظار ما يليه.
لغة الضرب أكثر هندسة ووضوحا. أكثر دراماتيكية حتى. طرفان واضحان يتبادلان شفرة سلطة واضحة ومحددة. الكلام ملغّم أكثر. مربك الاحتمالات، مخاتل الأهداف ومستدق المعاني والإحالات. يمارس ضابط التحقيق سلطته باستجوابك. تمارس سلطة معاكسة وأنت تجيب عن أسئلته.
أن تقول شيئا للذي يستجوبك هو أن تمارس سلطة أيضا. تمتلك شيئا يريده منك. وفي الوقت الذي تخضع له بجسدك، فأنت تكاد تمتلكه بما يخفيه لسانك. لكنك تدرك أن هذا لعب بالكلام. هو من يملك السلطة، هذا الجلواز الذي يقف بينكما هو من يمارسها لسيده. تخادع نفسك بامتلاك القدرة على تحليل الموقف. تتخيل سلطة امتلاك الحق الذي يمثله لك إحساسك بالظلم. ضعفك أمامه قوة أمام ضميره. من قال إنه لا يمتلك ضميرا. يمارس ضعفك سلطة نخر شعوره الإنساني. أنت تفرغه من إنسانيته مع كل نوبة غضب تعتريه. أنت تقصر عمره الآدمي وتحجر روحه مع كل ضربة يتشنج لها جسدك. يحاصره أنينك في محاكمة الضمير أمام نفسه حين يخلو لها.
لكن الجلاوزة لا يختلون بأنفسهم. تكاد تجزم أنهم لا يفعلون ذلك. لا يمكن لمن تخلى عن ضميره أن يجالسه يوما. بإمكانه الهروب إلى أشياء أخرى دوما. بإمكانه مخادعة نفسه هنا وهناك، لكنه لا يجرؤ على مجالستها وحيدا.
تحلم بتبادل المقاعد والأدوار مع ضابط التحقيق الذي سوف يجلس قبالتك بعد قليل. تتمنى امتلاك القدرة على قراءة تيار وعيه، ما يحدّث به نفسه وهو يحاصرك بأسئلته. عليهم أن يطوروا تقنية لهذا. لا ينبغي أن تكون تقنية بيد السلطة فقط. من الواضح أنهم لم ينجحوا في فعل هذا لحد الآن، وإلا لما كان هناك داع لكل ما تمر به من تعذيب واستجواب.
بإمكان روائي ماهر أن يصل إلى ما لم يصل إليه علماء المخابرات وخبراء التحقيق ومحللو البيانات. لكن كلامه سيظل هواء في شباك. لا تكفي ترهات التيليباثي وتقنيات الباراسيكولوجي الكاذبة. هذه مهمة كاتب حذق. أجزم أن بإمكانه فعل هذا بإتقان متناه.
تنتبه إلى أنك تهرب مما بين يديك من موقف مضطرم إلى الحلم، هذا ما تفعل دائما. تريد من موقفك البائس هذا أن يأخذك إلى يوتوبيا الكتابة التي أوصلتك إلى ما أنت فيه.
“أريد أن أصبح كاتبا مهما”. قلت لصديقك وأنتما تخرجان من المدرسة الثانوية. يريد هو أن يكون محققا سريا، ضابط استخبارات، جاسوسا. يعشق الغموض والسرية التي تمنحها وظائف كهذه. يضحك من هوسك الأدبي دائما. تجاوز صاحبك مرحلة الشعر المراهق الذي جمعكما ذات يوم بنجاح، فيما تصر أنت على أنه الخلاص الوحيد. تتذكر كيف توقفت لسنين طويلة عن الحديث عن تغيير العالم بالكلمات والوعي في لقاءاتكما. تتذكر أنك كنت تخبّئ آراءك تلك في طي أحاديثك ونقاشاتك. كان واضحا فيما يريد ويفعل، فيما كنت تحافظ على ارتباك الأهداف وعدم وضوح السبل.
كان يفعل فيما تستمر أنت بالحديث عما تريد فعله. كانت تحوم حول نقاشاتكما التي أردت لها سمة النضج والمنطقية، أسئلتك الشعرية وأحلامك التي توقفت عن تسميتها أحلاما. بعد هذا العمر تدرك أنك لم تزل تحتفظ بسذاجة الطالب المراهق الذي كنته، السذاجة ذاتها التي كان صديقك يسخر منها في كل لقاء.
يطول انتظارك المتعمد في غرفة التحقيق الباردة. تفكر بصاحبك لقتل الوقت، ما الذي كان يفعله لو كان في مكاني الآن؟ تتساءل عمّا حلّ بصاحبك ذاك. من المؤكد أنه نضج كثيراً وأدرك أشياء أكثر أهمية من كتابة مقال يودي بصاحبه إلى السجن. من المؤكد أنه فعل أشياء أهم وأنجز أشياء أخرى. غيّر عالمه بالأفعال لا بالأقوال والأحلام. سمعت عنه كثيرا، تتبعت أخباره من طرف واحد بعدما توقف عن التواصل معك. أنت متأكد من ضيقه بآرائك الساذجة وفلسفتك المراهقة مؤخرا. توقفه عن التواصل معك مؤشر لك ربما لتفعل شيئا أهم بآرائك تلك بدل إطلاقها هنا وهناك في كل محفل ومع كل جدال تتصيده مع من تحادثهم. ربما يكون قد حقق حلم طفولته وأصبح ضابطا مهما. تنتبه إلى أن حلمك الساذج يريد الوصول بك إلى هذه النتيجة، تهز رأسك ساخرا من نفسك. حدثك في آخر اتصال لكما عن تدربه على التحقيق مع بعض المشتبهين، كان يعمل تطوعا لبعض الجماعات التي لم يفصح لك عنها. ساعدهم في نصب بعض أبراج الاتصالات، حدثهم عن مهاراته في استخلاص المعلومات ومقاطعتها مع بعض.
تتذكر مقاربته التي تمزج بين تخصصه العلمي في هندسة الكهرباء أو الاتصالات مع ذكائه الاجتماعي وقدراته في التواصل الإنساني والحديث، كان متحدثا لبقا فيما اكتفيت أنت بما كنت تظنّه فكرا أكثر عمقا. “الأدب نظام تواصل مشوش”. قال لك يوما. “ليست هناك مرجعية واضحة لفك الشفرة واقتناص المعنى في الأدب”. مقاربته في فهم التواصل الإنساني أكثر منطقية وعلمية مما تعتقده أنت.
كان يرى أن الناس يشبه بعضهم البعض كثيرا. علم الاتصال هو الحل. بالإمكان بناء منظومة شفرات لجميع ما يقولونه أو يفعلونه في مواقف متشابهة، كل ما نحتاجه هو برمجيات معالجة البيانات الضخمة. المسألة مسألة وقت قبل أن ينتهي كل شيء. الكمّ ينتج النوع ويقننه. ما تقوله أو تفعله نسبة مئوية معتبرة من الناس في مواقف متشابهة وظروف متقاربة يصلح أن يكون قاعدة تؤسس عليها فهمك للسلوك الإنساني ومنهجا للتواصل والسيطرة. بعد ذلك سنرمي بالأدب والعلوم الإنسانية إلى مزبلة التاريخ ومتاحفه.
سيغير علم معالجة البيانات الضخمة كل شيء. من المؤكد أن إحدى جماعات السلطة استولت على عقلية صاحبك هذا لتستفيد منه. أنت قبل غيرك تدرك أنه كنز بالنسبة إلى من يملك السلطة. رغم خلافاتكما التي لا تتذكر أسبابها، إلا أنكما تدركان أهمية بعضكما البعض. أو هذا ما تعتقده أنت على الأقل. ليست توجهاتكما السياسية وحدها هي التي تقاطعت. بل أخذت معطيات الخلافات تزداد. لم يكن لخيالك القدرة على تجسير الفجوة التي أخذت تكبر بينكما. لا تجسّر الفجوات من جانب واحد في النهاية، حتى لو أفرطت في التفكير بممكنات دوافعه وأسبابه، عما يريد أن يقوله بابتعاده، لا يكفي.
يستعيد خيالك جموحه وأنت تفكر بصاحبك فيما تنتظر جولة التحقيق العنيفة التالية. تطرد من ذهنك خاطراً لا منطقياً بالمرة. أو لعله منطقي تماما، من أنت لتتحدث عن المنطق! هو من سوف يحتل هذا المقعد بعد ثوان. صاحبك الذي تصر على التفكير به بلا سبب. من الغباء المفرط أن تعتقد أنه كان ليفعل بك كل هذا مزاحا فحسب. لم تكن هذه طريقتكما في المزاح أبدا. من الإفراط في التخيل أن تعتقد أن صديق طفولتك هو من يقوم بكل هذه الحبكة ليضفي على لقائكما الذي انتظرته طويلا تشويقا دراميا يقطع الأنفاس، ويلهب الظهر طبعا. لكن هذا كل ما تفعله وكل ما تتقن فعله. ليس لديك في موقف كهذا إلا أن تهرب إلى أرض الخيال الذي لم تعد تملك سواه.
الغرفة مظلمة جدا. تحس بظلمتها كثقل على كتفيك. لا تدري لماذا يضايقك ظلام الغرفة وأنت معصوب العينين في الحالتين. الظلام مربك أكثر. تنتظر اللحظة المتخيلة التالية بترقب ونفَس مشدود. ترى هل هي طريقته في الاحتفاء بقصيدتكما التي نشرتها أخيرا.
قصيدة كانت بذورها ولدت لحظة تشكل صداقتكما في غابر الذكريات. على مقعد مكسور إلى جانب نهر صغير نصف ميت. وسط بلدة تستعرضها ذاكرتك شارعا فشارعا وأنت تفكر به، وبما يكون قد فعله. تحدثتما عن الفكر والمستقبل، عن الله والثورة وأحلامكما الصغيرة، عن كل شيء. لم تكملا حديثكما أبدا. كان ينتهي في المنتصف دائما. هل هذه طريقته في إنهاء الحديث؟ حتى وإن كان موضوع الاعتقال لحد الآن وحسب ما قيل لك يدور عن قصيدة كتبتها أو مقال نشرته. ما الجديد في كتابة قصيدة خارجة قليلا؟ النظام ذاته من الذكاء بحيث يسمح لهوامش كهذه أن تتشكل وتنمو. نظام ذكي يدير هامش الخروج عليه ويخططه بدل أن يترك كل شيء للظروف والمؤثرات المختلفة. نظام ذكي يكفل لصديقك وأمثاله أن ينضمّوا إليه اعتقادا وممارسة، رغم رفضهم لكل ما يفعله ويؤمن به.
لا يؤمن النظام بشيء، “نحن من نشكل إيمانه وسلوكه،” لا تتذكر إن كان هو من قال هذا أم إنك صرت تلحق به آراء تلائم صورته التي صرت تتخيلها. لا تدري بالضبط أين الذكاء في كل هذا، ومن الأكثر غباء في موقفك المعقد هذا. تدرك بحس الكاتب ومخيلته أن الموقف ليس معقدا بصورة كافية. وأن نكتة ثقيلة قد تقف وراء ما يجري ببساطة. نكتة تقول لك إنك يا صديقي القديم الجديد، مازلت تفرّط في تصديق أحلامك، تستمتع في ملاحقتها إلى النهاية، فتمتع بهذه النهاية التي تريد.
تشعر بالتناقض. تستغرب أنك لا زلت تجل صديقك وتحترمه. تحترم النظام الذي تمقته، لأنه من الذكاء والاكتمال بحيث جعلك تغفر إخفاقاته، فقط لأنك تدرك أن الكمال يوتوبيا الناس الفارغين أمثالك. الذين لا يمتلكون إلا ملاحقة حلم، اصطياده، وإطلاقه قبل أن تحبسه اللغة التي لا يملكون غيرها. تدور في دوامة الحلم وعبثيته. لا تمتلك إلا أن تنتظر انجلاء الموقف.
تدرك أن هوسك بتخطيط الأحلام والركون لها هما ما يقودان تفكيرك إلى العقدة التي وصلتها. من العبث مسايرة الأحلام هكذا، في كل شيء وفي كل وقت. قلت لنفسك مرة لكنك عدت مؤكدا أن لا مشكلة في فعل هذا، فهذا هو ما تريده في النهاية. المزيد من الأحلام. المزيد من الانغماس فيها. ولكن المعضلة فيما تنتظره من الدقائق القادمة. لا تريد أن تعرف الآن.
تتلذذ بانتظار الأحداث وهي تكشف عن نفسها، تتلهف لكشف الشخصية التي غمرتها بالملامح والتفاصيل قبل أن تتكشف لك. تنتظر بلهفة ولادة حبكتك الحالمة أو سقوطها السريع والصادم. تتحاور اللغتان. حلمك المحلق، وجسدك القلق. يفرط الحلم في تعقده حتى تكاد تبوح به إلى السجان الذي يقف قربك.
خلاص، أنت متأكد لسبب ما أن الضابط الذي تنتظره صديقك، الضابط الذي يجلس قبالتك ويصر على إخفاء هويته. من الأفضل للسجان أن يغادر الغرفة قبل أن تنفجرا بالضحك أو البكاء. تكاد تطلب منه أن يغادر الغرفة المظلمة الآن. لكن لغة الترقب التي يتحاور جسدك بها مع سجانه تصر على الانحناء المترقب. شد، توقع مضطرب، انتظار. حكة خفيفة كتيار كهربائي متناه في الصغر على جلد ظهرك المستنفر. استكشاف لتزايد الضوء وتوهجه خلف رباط العينين المحكم. محاولة للتعرف على المكان والموقف بحواسك الأخرى. إصغاء.
يُفتح الباب بحركة ثقيلة. يتحرك الكرسي المقابل. تحبس أنفاسك بترقب. تنتظر حركة ما. تنتظر مناورته القادمة، بادرة من صاحبك الذي طال انتظاره. تحاول تحييد الحلم ثانية والتفكير منطقيا بموقفك لمرة واحدة فقط.
لا يساعد التفكير المنطقي في مواقف كهذه، ثم إنك لم تفعل ذلك منذ وقت طويل. احتمالان لا ثالث لهما ينتظرانك. ضحكة منفجرة يتبعها عناق، سلسلة من عتاب ونقاشات وذكريات، أو ضربة ثقيلة تطيح برقبتك التي حناها الضرب وأعياها الترقب. يستجيب جسدك لحركة الكرسي المقابل بحركة مشابهة لها. تمد رقبتك المنهكة بالانتظار. تستشرف ثقل الضربة المتوقعة وموضعها. تتنفس باختناق وأنت تتحسس الحلم الذي تغادره كحية تنسلخ من جلدها الشفاف. تتحسس ثقل الكابل النحاسي الذي يغلفه المطاط، لا يشبه حية تتلوى، لا يشبه الضرب شيئا آخر، يعجز الشعر عن ابتكار صورة للمشهد.
يرتخي موضع الضربة السابقة. يشتد مكان آخر على بعد إصبعين أو ثلاثة منه. تسري رعشة الكهرباء. تتذكر حديثه عن كلية الهندسة، عن الكهرباء، عن الاتصالات. يرتخي الجلد المكهرب. يقرأ لك مقاطع من قصيدة لم تعد تتذكرها. تستشعر اشتداد الضربة اللاحقة من نبرة قراءته. تريد تذكر الصوت. تشتد أطراف الأعصاب منتظرة زائرها الثقيل. يرتبك الدماغ وهو يحلل بيانات الأعصاب المشدودة. ترسل إشعاراتها كنداءات استغاثة وسط إعصار ضارب، كثير من البيانات، قليل من المعنى.
يسبح الدماغ في تيار وعي جديد. بإمكان علم معالجة البيانات أن يخلق بديلا لدماغ بشري لا تكفي سعة معالجته لما يمر به. بإمكان العلم أن يحل كل شيء. بإمكان الشعر أن يحل كل شيء. بإمكان الدماغ أن يزيف الحقيقة بسهولة. بإمكانه جعل كل هذا حقيقة أو محوه بسهولة. كل ما تحتاجه هو ذاكرة عشوائية كافية، والقليل من الكهرباء.
ما الذي جاء بالكهرباء لقصيدتك السخيفة؟ ما الذي يريد قوله. لا يريد أحد قول شيء، يفعلون فقط. تنعش رعشة الكهرباء الخفيفة جسدك المستنفر، يحاور الجسد صاحبه. الغرفة صامتة. الظلام لغة. انتظار، توقع، شد، اصطدام، استرخاء. “حبكة متكاملة”. يحدثك دماغك الغارق بإيعازات الأعصاب وإشاراتها مضطربة المعاني والمتباينة الدلالات. حبكة متكاملة هي التي بين يديك. هذا كل ما يهم. يغادر الأشخاص، لا تبقى سوى الحبكة في هذا النص. كهرباء خفيفة، توقع، شد، اصطدام، استرخاء. وانتظار.
غياث منهل
كاتب من العراق