لم يزَل مُعتصِمًا بالإنكار، يُصرُ دفاعهُ على مُناقشة الشُهود، تَسري هَمهمةٌ في القاعة اعتراضًا من أهل القتيل، تُقابلها زَمجرةٌ مكتومة من أهل القاتل، العائلتان كبيرتان واحتدمَ النزاع، جاءت كلتاهما بما استطاع من مَشاهير المحامين.
يَتعجَّب القاضي في داخله لهذا العَددِ من الدفاع، القضية متكررة ولا تحتاج إلى مثل هذا الفريق، ربما المقصود هو استعراض القوة المادية لكلا الطرفين، يَستجيبُ لطلبات الدفاع ويَضربُ أجلاً لمناقشة الشهود.
خلافات تضرب بجذورها في عُمق تاريخ العائلتين، يُؤجِّجها كل حين وحين خُلُوّ مَنصب العُمُديَّة، ويُزكِّى نيرانها صِراع الترشُّح من جديد.
يَنشَبُ نزاعٌ بين القاتل والقتيل على حَدٍّ فاصل بين أرضيهما الزراعية، النفوس مَشحونة بالكراهية، تثور في نفس القاتل تراكمات حِقد السنين، يُهرَع إلى فأسه، يَنهالُ بها فوق رأس القتيل فيَلفظُ أنفاسه أمام الشهود.
ثلاثةٌ من الشهود حَسموا أمرهم، لم يَقوَوا على الشهادة ضد القاتل قريب العُمدة، قالوا هُرعنا إلى المكان بعد حصول القتل ولم نَرَه، أمَّا رابعهم كان مُنصِفًا، قال في التحقيقات إنه وأولئك الثلاثة كانوا حُضورًا والقاتل يَقتُل، تُواجهه النيابةُ بإنكارهم، يقول إنهم خائفون، أمَّا أنا فلا.
لاذَ به أهلُ القتيل، قصدوهُ في مسكنه بجَمْع غَفير، قال له كبيرهم: "أنتَ رجلٌ شَهم، شَهدتَ بالحق ولا تخاف أحدًا، ونَثقُ فيكَ مرةً أخرى أمام القاضي غدا".
لم يَنَم ليلتها، كان يَظُن الأمر قد انتهى بشهادته في النيابة، وبالمقاطعة التي ضَربَتها حوله عائلة العُمدة، ولكنه تَذكَر قول كبير العائلة الأخرى: "أنتَ رجلٌ شَهم ولا تخاف أحدًا"، كما أنه ليس حِمارًا كما كان يُناديه العُمدة طيلة عَمله عنده إلى أن سافَر ابنه إلى الخارج واشترى فدانًا منذ سنتين واستقل عنه وتَحرَّر من إهاناته له وضرَبه في أحيانٍ كثيرة، إنه يَشعر في هذه الليلة بالذات أنه أصبح مُهمَّا، ويزداد شُعورًا بالإحساس بالزَّهو كلما تَذكَّر أنَّ العُمدة نفسه لم يَقوَ حتى هذه اللحظة على أن يَطلب منه تَغيير شهادته.
يَناقش القاضي الشهود، لم يأتِ الثلاثة المراوغون بجديد، أمَّا الرابع الذي لم يَخَف فقد راح يَنظرُه وهو يُسائل نفسه: تُرى هل سَيظل هذا الرجل على شهادته، أم سَينحو مَنْحَى أهل الرِّيف بعد أن تهدأ نيران الحوادث ويَتصالحون، ثم يوجِّهون الشهود ليُشَيِّعوا الاتهام لدى مناقشتهم بجلسات المحاكمة.
يسأله عن اسمه وسِنِّه وصناعته، يُجيبُ وهو يلتفت ببطء إلى الجالسين من خلفه بعينين خائفتين وملامح مُرتعدة، يُلقى عليه صيغة اليمين، يَنطقُ منها بكلمتين ويُكمِل الباقي وهو يلتفت إليهم بذات الذُّعر مَرةً أخرى.
يلاحظ القاضي أنَّ أحدهم يَبتسمُ له كلما التفتَ إلى الخلف، يُنبه الشاهد إلى الثَّبات في مكانه والشهادة من دون خَوْف، يبدأ في سؤاله:
- ما معلوماتك؟
ترُوح عينا الرجل ذات اليمين وذات اليَسار ولا يَنبس بحرف، يَظَنَّه القاضي مُضطربًا فيُطمئنه، فيَنظر إليه ثم إلى الخلف، وإذا همَّ بالكلام أمسَكَ عنه.
صوتٌ يَصْدرُ من بين الجالسين يُخاطبه: قُل شَهادَتك يا عبد العاطي، يأمر القاضي بإحضار صاحب الصَّوت أمام المنصة، إنه العُمدة، وهو الذي كان يَبتسم لعبد العاطي كلما التفتَ إلى الخلف، يأمر بإدخاله القَفص، ويحبسه أربعًا وعشرين ساعة لإخلاله بنظام الجلسة.
يعودُ القاضي إلى عبد العاطي:
- هل شاهدْتَ القاتل وهو يقتل كما قُلتَ في تحقيقات النيابة؟ تروح عيناه تجاه القفص، ثم ترتدُ إلى القاضي زائغة، يُجيب:
- لم أرَهُ يَقتُل!!
يَتعجَّب القاضي في داخله لهذا العَددِ من الدفاع، القضية متكررة ولا تحتاج إلى مثل هذا الفريق، ربما المقصود هو استعراض القوة المادية لكلا الطرفين، يَستجيبُ لطلبات الدفاع ويَضربُ أجلاً لمناقشة الشهود.
خلافات تضرب بجذورها في عُمق تاريخ العائلتين، يُؤجِّجها كل حين وحين خُلُوّ مَنصب العُمُديَّة، ويُزكِّى نيرانها صِراع الترشُّح من جديد.
يَنشَبُ نزاعٌ بين القاتل والقتيل على حَدٍّ فاصل بين أرضيهما الزراعية، النفوس مَشحونة بالكراهية، تثور في نفس القاتل تراكمات حِقد السنين، يُهرَع إلى فأسه، يَنهالُ بها فوق رأس القتيل فيَلفظُ أنفاسه أمام الشهود.
ثلاثةٌ من الشهود حَسموا أمرهم، لم يَقوَوا على الشهادة ضد القاتل قريب العُمدة، قالوا هُرعنا إلى المكان بعد حصول القتل ولم نَرَه، أمَّا رابعهم كان مُنصِفًا، قال في التحقيقات إنه وأولئك الثلاثة كانوا حُضورًا والقاتل يَقتُل، تُواجهه النيابةُ بإنكارهم، يقول إنهم خائفون، أمَّا أنا فلا.
لاذَ به أهلُ القتيل، قصدوهُ في مسكنه بجَمْع غَفير، قال له كبيرهم: "أنتَ رجلٌ شَهم، شَهدتَ بالحق ولا تخاف أحدًا، ونَثقُ فيكَ مرةً أخرى أمام القاضي غدا".
لم يَنَم ليلتها، كان يَظُن الأمر قد انتهى بشهادته في النيابة، وبالمقاطعة التي ضَربَتها حوله عائلة العُمدة، ولكنه تَذكَر قول كبير العائلة الأخرى: "أنتَ رجلٌ شَهم ولا تخاف أحدًا"، كما أنه ليس حِمارًا كما كان يُناديه العُمدة طيلة عَمله عنده إلى أن سافَر ابنه إلى الخارج واشترى فدانًا منذ سنتين واستقل عنه وتَحرَّر من إهاناته له وضرَبه في أحيانٍ كثيرة، إنه يَشعر في هذه الليلة بالذات أنه أصبح مُهمَّا، ويزداد شُعورًا بالإحساس بالزَّهو كلما تَذكَّر أنَّ العُمدة نفسه لم يَقوَ حتى هذه اللحظة على أن يَطلب منه تَغيير شهادته.
يَناقش القاضي الشهود، لم يأتِ الثلاثة المراوغون بجديد، أمَّا الرابع الذي لم يَخَف فقد راح يَنظرُه وهو يُسائل نفسه: تُرى هل سَيظل هذا الرجل على شهادته، أم سَينحو مَنْحَى أهل الرِّيف بعد أن تهدأ نيران الحوادث ويَتصالحون، ثم يوجِّهون الشهود ليُشَيِّعوا الاتهام لدى مناقشتهم بجلسات المحاكمة.
يسأله عن اسمه وسِنِّه وصناعته، يُجيبُ وهو يلتفت ببطء إلى الجالسين من خلفه بعينين خائفتين وملامح مُرتعدة، يُلقى عليه صيغة اليمين، يَنطقُ منها بكلمتين ويُكمِل الباقي وهو يلتفت إليهم بذات الذُّعر مَرةً أخرى.
يلاحظ القاضي أنَّ أحدهم يَبتسمُ له كلما التفتَ إلى الخلف، يُنبه الشاهد إلى الثَّبات في مكانه والشهادة من دون خَوْف، يبدأ في سؤاله:
- ما معلوماتك؟
ترُوح عينا الرجل ذات اليمين وذات اليَسار ولا يَنبس بحرف، يَظَنَّه القاضي مُضطربًا فيُطمئنه، فيَنظر إليه ثم إلى الخلف، وإذا همَّ بالكلام أمسَكَ عنه.
صوتٌ يَصْدرُ من بين الجالسين يُخاطبه: قُل شَهادَتك يا عبد العاطي، يأمر القاضي بإحضار صاحب الصَّوت أمام المنصة، إنه العُمدة، وهو الذي كان يَبتسم لعبد العاطي كلما التفتَ إلى الخلف، يأمر بإدخاله القَفص، ويحبسه أربعًا وعشرين ساعة لإخلاله بنظام الجلسة.
يعودُ القاضي إلى عبد العاطي:
- هل شاهدْتَ القاتل وهو يقتل كما قُلتَ في تحقيقات النيابة؟ تروح عيناه تجاه القفص، ثم ترتدُ إلى القاضي زائغة، يُجيب:
- لم أرَهُ يَقتُل!!