مائة وخمسون خطوة هي الحيز الفاصل بين بيتي وبين عيادة الدكتور محمد مشالي ، يفرق شارعنا عنه مطلع " دحديرة صبري" وتعرج بسيط مؤدي إلى شارع جانبي . وطيلة ما انقضى من عمري بحسابات الأيام والسنين دام الوصل بيني وبين طبيب المبالي بمدينتي طنطا سر ووصل من نوع خاص قدر لي أن أكتبه الآن.
أبتدئ بالبداية التقليدية، شأني شأن كل أطفال الحارة تصطحبه الأم أثناء مرضه لعيادة الدكتور مشالي، كوب صغير تفرغ فيه بضع قطرات من مثانتك ، ثم تتمدد على ظهرك مستكينا ، في هذه اللحظة يكون تفكير الطفل بعيدا عن الألم والمرض وأوجاع منعت النوم عنه ،متمركزا و دائرا في نوع الحلوى التي سيهديها لي الدكتور مشالي ، وسبحان من أودع سر الطبابة في عبده ، جرعتان أو على الأكثر ثلاث جرعات ويتم الشفاء بإذن الله . إلى هنا كان تعامل الطفل مع الطبيب صاحب الأنف البارزة واللمسة الحانية ، والسر الذي لم أعرفه .
في المرحلة الجامعية وتحديدا في الفترة الأخيرة من التسعينيات ، كنت أواظب على حضور المؤتمرات الشعبية التي كانت تقيمها نقابة الأطباء بمدينتي طنطا ، إما كان المؤتمر لنصرة القدس أو إرسال بعثات طبية لبعض المنكوبين ، كنت أستمع الى خطب الأطباء الرنانة ، فصيل اليسار الذي جذبني في بداية التكوين الفكري للطالب الجامعي وحلم البروليتاريا والمطحونين في حياة افضل وتطبيب مواجعهم ، الدكتور يحيي شرباش بنزعته اليسارية التي كانت تجذب آذاننا ثم أشعار معين بسيسيو وأخيرا صورة المناضل الأرجنتيني جيفارا للحلم بعالم أفضل . وقتها تولد بداخلي صدام نفسي مع الدكتور محمد مشالي ، ولا أعلم سر هذا الصدام النفسي الذي نما خافتا ثم تأجج ليصبح أشبه ببركان لم أكن بقادر على تكميم فوهته ،فوجدتني ، أتوجه لعيادته ، أعاني من بعض الام القولونج وكان وقتها ثمن الكشف بضعة جنيهات لا تتجاوز الخمسة. لكن الحقيقة أنني لم أذهب إليه طلبا للعلاج بقدر ما كان ذهابي هو رغبة في المواجهة ، ولا أنسى ما حييت تفاصيل هذا اليوم.
كان الوقت ليلا ، دفعت رسوم الكشف خلال ذلك الرجل الطيب الذي يجلس على مكتب مستطيل ويبدو من ثيابه أنه ينتمي لقرية ريفية قريبة من المدينة ، ظل هذا الرجل لعقود مصاحبا للدكتور مشالي في عيادته ، وأزعم أنه أكثر من رافقه في عالم البشر . ودخلت على الطبيب ، الذي وجدته منهمكا في قراءة مقال في جريدة الوفد ، ودعني عزيزي القارئ أنقل لك بمشهد تصويري وضعية وسينوغرافيا غرفة الكشف ، حيث تجد على يمينك بمجرد الدخول، أكوام مكدسة من الكتب في مختلف المجالات ، مسرح وشعر وقصة قصيرة ورواية واجتماع سياسي وفلسفة ، كل هذه الكتب المكدسة والمتراصة بشكل طولي أشبه بالعمدان ، مغطاة بملاءة قماش بيضاء، فيما تتناثر مجموعة من الصحف على منضدة الكشف أمامه ، كان طبيبنا يقرأ ، وما إن دخلت حتى نحى الجريدة جانبا ، وتفحصني بعينه . كان الطبيب مقتضب الكلام جدا جدا ، لا يتحدث كثيرا ، يتفحصك ، ينتظرك ؛ لتخبره عما تشعر من ألم ، لكنني في هذه المرة تأملته في وضع تأهب للمواجهة ، ثم باغتني هو:
- " مم تشتكي؟"
وكانت هذه مواجهتي الأولى معه فقلت : " اسمع يا دكتور حضرتك مثقف ، واعتقد مهتم بقضايا الناس، لماذا لم تشارك في مؤتمر الأطباء الأخير وتسعى لمد يد العون؟
أجاب الطبيب مشالي : " وهل لخصت مساعدة الفقراء في خطب رنانة على منصات أمام قنوات التليفزيون؟
قلت له : " لكن الإنسان موقف وحضرتك بحاجة إلى اثبات موقف؟
قال لي : " الموقف الحقيقي أن تكون صادقا مع نفسك وتعامل ربنا ، وتترجم هذا الصدق في عمل فعلي"
ثم أنهي المحادثة بصوت به حزم وحسم ، " متهيئا لي نشوف أنت جاي تشتكي من ايه؟
خضعت لصوته وتمددت على الشيزلونج كماكنت أفعل في طفولتي ، وعبر تفحص من يده أخبرني أن المشكلة في القولونج الذي يتعصب ثم كتب لي ثلاثة أصناف من الدواء ، ويشهد الله أنها وقتها فعلت مفعول السحر لمداواة وتسكين الألم.
مرت سنوات العمر وكانت التساؤلات حول ذلك الرجل تثار بشكل به من التدافع والتتابع ما لم استطع عليه صبرا او تحملا ، والحق أنني وجدت أن أجعله الطبيب الخاص بي لكافة شكايتي والامي في كل التخصصات ، حساسية جلدية أذهب للدكتور مشالي ، ارتفاع في ضغط الدم اذهب لدكتور مشالي ، التهاب جيوب أنفية ، سعال الصدر الناتج عن التدخين ، اي شكاية كانت تأتيني من جسدي كان الدكتور محمد مشالي هو المستشفى الخاص بي ، وكلما ذهبت إليه كانت التساؤلات تعتصر ذهني أكثرفأكثر ،واقتربت من الرجل اقتراب محفوف بالمخاطر ، اقتراب به من التوجس والحيطة والحذر الكثير كونه مقتضب جدا جدا في الحديث ، اقطع الكشف وأدخل لأتفحص مجموعة الكتب التي لحقت بأخوتها ولم تلحق الملاءة البيضاء أن تداريها . لكني لم استطع فض السر واكتشافه.
ومنذ سنوات قاربت السبع أو يزيد التقيت بالأستاذ محمد الوصيف رحمه الله بالمقهى الأحمدي المجاور لسيدي أحمد البدوي ، كنا انتهينا وقتها من حضور حضرة دلائل الخيرات ، استمتع بالنظر إلى القوم وهم في دائرة وجدهم بذكر سيد الأنام ، كنت أجد في الجلوس ومراقبتهم نوعا من التطهر النفسي والروحي ، أنا لا انتمي للقوم ، وليس بمقدوري دفع مهر الوصال ، لذا أجلس مراقبا لهم ، دون حديث ، وفور انتهاء الوصيف من الحضرة اصطحبني للمقهى لتناول قهوتي ، وإذ بالدكتور مشالي يمر أمامنا ، فأجد الوصيف رحمه الله ، يقف ويضع يده على رأسه تبجيلا ويقول للرجل المار : " اتفضل يا سيدي محمد" يرقبه الرجل ثم يلوح له بيده ويمضي دون أن ينطق، مسرعا في خطوه كأنما يختبئ من الناس ويتخفى وسط حراكهم.
وقد استرعاني وشد انتباهي ما فعله الأستاذ الوصيف مع هذا الرجل فبادرته بالتساؤل : " لما قلت له سيدي محمد؟"
فرد على الأستاذ : " لأن الدكتور مشالي رجل من أهل الله وأوليائه"
فبادرته بالتساؤل : " لكنه لم يحضر مثلا حضرة دلائل الخيرات مثلك؟
هنا ضحك الوصيف رحمه الله واستطرد يحدثني " ألم تسمع قول الشاعر كل الناس مفتون بليلى ولكن ليلى مفتونة بمن؟"
قلت للوصيف رحمه الله : لا أفهمك .
فاستطرد : " ما الذي يدفع طبيب مثل الدكتور محمد مشالي أن يظل طيلة هذه الفترة مجاور الصاحب المقام سيدي أحمد البدوي؟
قلت له ربما ليس ميسور الحال ولا توجد بدائل لأن يقتني عيادة في مكان آخر ،فرد الوصيف : " بالعكس هو ميسور الحال جدا وأماكن الإيجار متواجدة ، وهو مشهور عند كل أهالي طنطا والجميع يتمنى أن يستأجر له عيادة في منزله.
سألته الوصيف مرة أخرى : " هل تعني بأن العيادة التي تجاور ضريح سيدي أحمد البدوي بها قرب ووصل لأن الدكتور مشالي متصوف مثلا ومحبا للسيد أحمد البدوي؟"
هنا ضحك الوصيف وقال : " هل لا يملك الدكتور مشالي ثمن ثياب راقية ومنمقة وسيارة يشتريها؟
قلت : " بالطبع يملك" فبادرني الوصيف : " إذن لما لم يعر الناس اهتماما ويسير بهذا الشكل؟
اومأت برأسي جهلا بالجواب فاجابني الوصيف رحمه الله : " الدكتور مشالي مجذوب القلب وهو رجل رأي ما لم نستطع نحن أهل الدنيا رؤيته ، هذه الجذبة جعلته في طور تحقق الرجال فرأي الأشياء على حقيقتها ، رأي أن الدنيا دار فناء ودار زخرف ، استمع معي إلى قوله تعالي : " وتلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض" والرجل لا يريد علوا في الأرض لأنه رأي الحقيقة بعين قلبه.
بادرت الوصيف بالتساؤل : " لكن لا أحد يعرفه أو يكتب عنه أو يعلم بجهده أو مجهوداته مع الفقراء ، على عكس آخرين يتصدرون المشاهد في مؤتمرات وندوات مساعدة الفقراء.
فرد الوصيف : " هذا اسمه الاخلاص مع الله ،أن تفعل ما تؤمن به دون ان تنتظر مديحا من أهل الدنيا ، واعلم يا ولدي ، أن رفعة الذكر هي نفحة ومنحة يهديها الله لخواص عباده ، تأمل معي قوله الكريم " ورفعنا لك ذكرك" هذه الهدية هي هدية من الله لخواص عباده.
استطاع الوصيف رحمه الله أن يغير زاوية رؤياي لهذا الرجل ، بت أنظرإليه بنوع من الدهشة والتساؤل والرغبة ، وكعادتي في فض الأظرف المغلقة ، وجدتني أقطع كشفا لأذهب لزيارة الطبيب الذي أناكف فيه ، ولما رأيته انحنيت برأسي على يده أقبلها ، لا أعلم لما فعلت هذا ، لا أعلم سببا جوهريا دفعني لهذا ،لكني لا أزال أذكر نظرته لي ، وقتها ، نظرة دفعتني أن اكتم فمي والتزم الصمت ، وتكررت زيارتي له وقت مرض مريم ، وفوجئت مريم بأني أقبل يد الرجل ، لكنها لم تسألني ، غير أنني وقت سيري إلى جوارها أخبرتها أن هذا الطبيب صاحب سر مع الله ، ولي مجذوب القلب ، فتعامل مع الدنيا واهلها بقانونه هو ، الحقيقة التي تيقن منها ، ومجاورته لصاحب المقام.
رحل الدكتور محمد مشالي ، لكنه لم يمت ،أثبت لي نظريته هو وفشل نظريتي أنا ، " ورفعنا لك ذكرك" الهدية الربانية طيلة عطاء هذا الرجل بصدقه ، القاصي والداني ذكر الرجل ، جداريته في المغرب العربي ، رثاء بابا الفاتيكان له ، تكريم رئيس وزراء بريطانيا لاسمه، أقصى بلاد الله بمختلف السنتهم ، عرفوا جاري الطيب الطبيب ، صاحب السر الخفي مع الله.
منذ ايام جمعني لقاء بالصديق شريف أنور وأعلم انه على صلة وثيقة بأبناء الطبيب الراحل ، أخبرني ان ابنه الأكبر كان يحضر له الثياب ذات الماركات العالمية ، يأخذها الدكتور مشالي ويعود ليخبر أبنائه أن اصحاب النصيب أخذوها ، فكان الابن الاكبر يضرب كفا على كف جراء فعل الأب . الأمر بحاجة إلى فهم من نوع مختلف ، فهم آخر بنظارة رؤية وعدسات مغايرة ، ذلك الطبيب الذي رأى الحقيقة ، حقيقة تلك الدنيا فتعامل بمنطق مجذوب القلب ، تلك الجذبة التي لها قاموسها الخاص ومفاهيمها الاشارية العصية على الفهم .رحل صاحب السر ، لكن لايزال سيل من التساؤلات يؤرق ذهني ، حيث لا مؤتمر سياسي شارك فيه ، لا صيحة مرتفعة للنضال من أجل الفقراء ، لا أحد كان يعلم عن كهفه لولا أن أعثر الله عليه " وكذلك أعثرنا عليهم" صوت من نوع مختلف قاد الناس لينقبوا عنه وعن صنيعه داخل كهفه أو عيادته ، صوت ليس له هو دخل في ترديده ، لم يسع لتصدر المشهد ، فقط تلك العطية الإلهية " ورفعنا لك ذكرك"
د. رامي المنشاوي
أبتدئ بالبداية التقليدية، شأني شأن كل أطفال الحارة تصطحبه الأم أثناء مرضه لعيادة الدكتور مشالي، كوب صغير تفرغ فيه بضع قطرات من مثانتك ، ثم تتمدد على ظهرك مستكينا ، في هذه اللحظة يكون تفكير الطفل بعيدا عن الألم والمرض وأوجاع منعت النوم عنه ،متمركزا و دائرا في نوع الحلوى التي سيهديها لي الدكتور مشالي ، وسبحان من أودع سر الطبابة في عبده ، جرعتان أو على الأكثر ثلاث جرعات ويتم الشفاء بإذن الله . إلى هنا كان تعامل الطفل مع الطبيب صاحب الأنف البارزة واللمسة الحانية ، والسر الذي لم أعرفه .
في المرحلة الجامعية وتحديدا في الفترة الأخيرة من التسعينيات ، كنت أواظب على حضور المؤتمرات الشعبية التي كانت تقيمها نقابة الأطباء بمدينتي طنطا ، إما كان المؤتمر لنصرة القدس أو إرسال بعثات طبية لبعض المنكوبين ، كنت أستمع الى خطب الأطباء الرنانة ، فصيل اليسار الذي جذبني في بداية التكوين الفكري للطالب الجامعي وحلم البروليتاريا والمطحونين في حياة افضل وتطبيب مواجعهم ، الدكتور يحيي شرباش بنزعته اليسارية التي كانت تجذب آذاننا ثم أشعار معين بسيسيو وأخيرا صورة المناضل الأرجنتيني جيفارا للحلم بعالم أفضل . وقتها تولد بداخلي صدام نفسي مع الدكتور محمد مشالي ، ولا أعلم سر هذا الصدام النفسي الذي نما خافتا ثم تأجج ليصبح أشبه ببركان لم أكن بقادر على تكميم فوهته ،فوجدتني ، أتوجه لعيادته ، أعاني من بعض الام القولونج وكان وقتها ثمن الكشف بضعة جنيهات لا تتجاوز الخمسة. لكن الحقيقة أنني لم أذهب إليه طلبا للعلاج بقدر ما كان ذهابي هو رغبة في المواجهة ، ولا أنسى ما حييت تفاصيل هذا اليوم.
كان الوقت ليلا ، دفعت رسوم الكشف خلال ذلك الرجل الطيب الذي يجلس على مكتب مستطيل ويبدو من ثيابه أنه ينتمي لقرية ريفية قريبة من المدينة ، ظل هذا الرجل لعقود مصاحبا للدكتور مشالي في عيادته ، وأزعم أنه أكثر من رافقه في عالم البشر . ودخلت على الطبيب ، الذي وجدته منهمكا في قراءة مقال في جريدة الوفد ، ودعني عزيزي القارئ أنقل لك بمشهد تصويري وضعية وسينوغرافيا غرفة الكشف ، حيث تجد على يمينك بمجرد الدخول، أكوام مكدسة من الكتب في مختلف المجالات ، مسرح وشعر وقصة قصيرة ورواية واجتماع سياسي وفلسفة ، كل هذه الكتب المكدسة والمتراصة بشكل طولي أشبه بالعمدان ، مغطاة بملاءة قماش بيضاء، فيما تتناثر مجموعة من الصحف على منضدة الكشف أمامه ، كان طبيبنا يقرأ ، وما إن دخلت حتى نحى الجريدة جانبا ، وتفحصني بعينه . كان الطبيب مقتضب الكلام جدا جدا ، لا يتحدث كثيرا ، يتفحصك ، ينتظرك ؛ لتخبره عما تشعر من ألم ، لكنني في هذه المرة تأملته في وضع تأهب للمواجهة ، ثم باغتني هو:
- " مم تشتكي؟"
وكانت هذه مواجهتي الأولى معه فقلت : " اسمع يا دكتور حضرتك مثقف ، واعتقد مهتم بقضايا الناس، لماذا لم تشارك في مؤتمر الأطباء الأخير وتسعى لمد يد العون؟
أجاب الطبيب مشالي : " وهل لخصت مساعدة الفقراء في خطب رنانة على منصات أمام قنوات التليفزيون؟
قلت له : " لكن الإنسان موقف وحضرتك بحاجة إلى اثبات موقف؟
قال لي : " الموقف الحقيقي أن تكون صادقا مع نفسك وتعامل ربنا ، وتترجم هذا الصدق في عمل فعلي"
ثم أنهي المحادثة بصوت به حزم وحسم ، " متهيئا لي نشوف أنت جاي تشتكي من ايه؟
خضعت لصوته وتمددت على الشيزلونج كماكنت أفعل في طفولتي ، وعبر تفحص من يده أخبرني أن المشكلة في القولونج الذي يتعصب ثم كتب لي ثلاثة أصناف من الدواء ، ويشهد الله أنها وقتها فعلت مفعول السحر لمداواة وتسكين الألم.
مرت سنوات العمر وكانت التساؤلات حول ذلك الرجل تثار بشكل به من التدافع والتتابع ما لم استطع عليه صبرا او تحملا ، والحق أنني وجدت أن أجعله الطبيب الخاص بي لكافة شكايتي والامي في كل التخصصات ، حساسية جلدية أذهب للدكتور مشالي ، ارتفاع في ضغط الدم اذهب لدكتور مشالي ، التهاب جيوب أنفية ، سعال الصدر الناتج عن التدخين ، اي شكاية كانت تأتيني من جسدي كان الدكتور محمد مشالي هو المستشفى الخاص بي ، وكلما ذهبت إليه كانت التساؤلات تعتصر ذهني أكثرفأكثر ،واقتربت من الرجل اقتراب محفوف بالمخاطر ، اقتراب به من التوجس والحيطة والحذر الكثير كونه مقتضب جدا جدا في الحديث ، اقطع الكشف وأدخل لأتفحص مجموعة الكتب التي لحقت بأخوتها ولم تلحق الملاءة البيضاء أن تداريها . لكني لم استطع فض السر واكتشافه.
ومنذ سنوات قاربت السبع أو يزيد التقيت بالأستاذ محمد الوصيف رحمه الله بالمقهى الأحمدي المجاور لسيدي أحمد البدوي ، كنا انتهينا وقتها من حضور حضرة دلائل الخيرات ، استمتع بالنظر إلى القوم وهم في دائرة وجدهم بذكر سيد الأنام ، كنت أجد في الجلوس ومراقبتهم نوعا من التطهر النفسي والروحي ، أنا لا انتمي للقوم ، وليس بمقدوري دفع مهر الوصال ، لذا أجلس مراقبا لهم ، دون حديث ، وفور انتهاء الوصيف من الحضرة اصطحبني للمقهى لتناول قهوتي ، وإذ بالدكتور مشالي يمر أمامنا ، فأجد الوصيف رحمه الله ، يقف ويضع يده على رأسه تبجيلا ويقول للرجل المار : " اتفضل يا سيدي محمد" يرقبه الرجل ثم يلوح له بيده ويمضي دون أن ينطق، مسرعا في خطوه كأنما يختبئ من الناس ويتخفى وسط حراكهم.
وقد استرعاني وشد انتباهي ما فعله الأستاذ الوصيف مع هذا الرجل فبادرته بالتساؤل : " لما قلت له سيدي محمد؟"
فرد على الأستاذ : " لأن الدكتور مشالي رجل من أهل الله وأوليائه"
فبادرته بالتساؤل : " لكنه لم يحضر مثلا حضرة دلائل الخيرات مثلك؟
هنا ضحك الوصيف رحمه الله واستطرد يحدثني " ألم تسمع قول الشاعر كل الناس مفتون بليلى ولكن ليلى مفتونة بمن؟"
قلت للوصيف رحمه الله : لا أفهمك .
فاستطرد : " ما الذي يدفع طبيب مثل الدكتور محمد مشالي أن يظل طيلة هذه الفترة مجاور الصاحب المقام سيدي أحمد البدوي؟
قلت له ربما ليس ميسور الحال ولا توجد بدائل لأن يقتني عيادة في مكان آخر ،فرد الوصيف : " بالعكس هو ميسور الحال جدا وأماكن الإيجار متواجدة ، وهو مشهور عند كل أهالي طنطا والجميع يتمنى أن يستأجر له عيادة في منزله.
سألته الوصيف مرة أخرى : " هل تعني بأن العيادة التي تجاور ضريح سيدي أحمد البدوي بها قرب ووصل لأن الدكتور مشالي متصوف مثلا ومحبا للسيد أحمد البدوي؟"
هنا ضحك الوصيف وقال : " هل لا يملك الدكتور مشالي ثمن ثياب راقية ومنمقة وسيارة يشتريها؟
قلت : " بالطبع يملك" فبادرني الوصيف : " إذن لما لم يعر الناس اهتماما ويسير بهذا الشكل؟
اومأت برأسي جهلا بالجواب فاجابني الوصيف رحمه الله : " الدكتور مشالي مجذوب القلب وهو رجل رأي ما لم نستطع نحن أهل الدنيا رؤيته ، هذه الجذبة جعلته في طور تحقق الرجال فرأي الأشياء على حقيقتها ، رأي أن الدنيا دار فناء ودار زخرف ، استمع معي إلى قوله تعالي : " وتلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض" والرجل لا يريد علوا في الأرض لأنه رأي الحقيقة بعين قلبه.
بادرت الوصيف بالتساؤل : " لكن لا أحد يعرفه أو يكتب عنه أو يعلم بجهده أو مجهوداته مع الفقراء ، على عكس آخرين يتصدرون المشاهد في مؤتمرات وندوات مساعدة الفقراء.
فرد الوصيف : " هذا اسمه الاخلاص مع الله ،أن تفعل ما تؤمن به دون ان تنتظر مديحا من أهل الدنيا ، واعلم يا ولدي ، أن رفعة الذكر هي نفحة ومنحة يهديها الله لخواص عباده ، تأمل معي قوله الكريم " ورفعنا لك ذكرك" هذه الهدية هي هدية من الله لخواص عباده.
استطاع الوصيف رحمه الله أن يغير زاوية رؤياي لهذا الرجل ، بت أنظرإليه بنوع من الدهشة والتساؤل والرغبة ، وكعادتي في فض الأظرف المغلقة ، وجدتني أقطع كشفا لأذهب لزيارة الطبيب الذي أناكف فيه ، ولما رأيته انحنيت برأسي على يده أقبلها ، لا أعلم لما فعلت هذا ، لا أعلم سببا جوهريا دفعني لهذا ،لكني لا أزال أذكر نظرته لي ، وقتها ، نظرة دفعتني أن اكتم فمي والتزم الصمت ، وتكررت زيارتي له وقت مرض مريم ، وفوجئت مريم بأني أقبل يد الرجل ، لكنها لم تسألني ، غير أنني وقت سيري إلى جوارها أخبرتها أن هذا الطبيب صاحب سر مع الله ، ولي مجذوب القلب ، فتعامل مع الدنيا واهلها بقانونه هو ، الحقيقة التي تيقن منها ، ومجاورته لصاحب المقام.
رحل الدكتور محمد مشالي ، لكنه لم يمت ،أثبت لي نظريته هو وفشل نظريتي أنا ، " ورفعنا لك ذكرك" الهدية الربانية طيلة عطاء هذا الرجل بصدقه ، القاصي والداني ذكر الرجل ، جداريته في المغرب العربي ، رثاء بابا الفاتيكان له ، تكريم رئيس وزراء بريطانيا لاسمه، أقصى بلاد الله بمختلف السنتهم ، عرفوا جاري الطيب الطبيب ، صاحب السر الخفي مع الله.
منذ ايام جمعني لقاء بالصديق شريف أنور وأعلم انه على صلة وثيقة بأبناء الطبيب الراحل ، أخبرني ان ابنه الأكبر كان يحضر له الثياب ذات الماركات العالمية ، يأخذها الدكتور مشالي ويعود ليخبر أبنائه أن اصحاب النصيب أخذوها ، فكان الابن الاكبر يضرب كفا على كف جراء فعل الأب . الأمر بحاجة إلى فهم من نوع مختلف ، فهم آخر بنظارة رؤية وعدسات مغايرة ، ذلك الطبيب الذي رأى الحقيقة ، حقيقة تلك الدنيا فتعامل بمنطق مجذوب القلب ، تلك الجذبة التي لها قاموسها الخاص ومفاهيمها الاشارية العصية على الفهم .رحل صاحب السر ، لكن لايزال سيل من التساؤلات يؤرق ذهني ، حيث لا مؤتمر سياسي شارك فيه ، لا صيحة مرتفعة للنضال من أجل الفقراء ، لا أحد كان يعلم عن كهفه لولا أن أعثر الله عليه " وكذلك أعثرنا عليهم" صوت من نوع مختلف قاد الناس لينقبوا عنه وعن صنيعه داخل كهفه أو عيادته ، صوت ليس له هو دخل في ترديده ، لم يسع لتصدر المشهد ، فقط تلك العطية الإلهية " ورفعنا لك ذكرك"
د. رامي المنشاوي