( فصل من رواية قصة الخلق )
" لا أنكر أنني اشتهي أسيل ، كما يمكن أن يشتهيها أي رجل آخر، فهي صبية جميلة تجسدت فيها الألوهة بأكبر قدر ممكن ، غير أن عمري وزواجي من لمى يحيلان دون تحقيق هذه الرغبة ، وهذا أمر ليس غريبا .. الغريب أن تشتهيني أسيل إلى هذا الحد الذي لم أتوقعه ، فأنا ككهل ليس فيّ ما يثير المرأة أو يرغبها فيّ ، وأشك أن ثقافتي االمحدودة تشكل دافعا لأي أنثى لأن تعشقني.. لمى عشقتني لأنها وجدت في رجلا مختلفا تفهم واقعها المؤلم ووقف معها وأعاد لها الثقة في نفسها .. فما الذي فعلته لأسيل لكي تحاول استدراجي إلى سريرها.. أكيد مجرد نزوة عابرة لن تدوم .. ولو أتيح لها أن تحظى بي ، لتخلت عني بعد أول لقاء، فلن تجد فيّ غير عجوز يحتاج إلى أنثى تتقبل وضعه وتعرف كيف تعامله، وهذا أمر لم يفهمه إلا لمى، وأشك في أن أنثى غيرها قادرة على فهمه... فاجأتني أكثر مما فاجأتني في لقائنا السابق.. استقبلتني بأحضانها في مكتبها، ضغطت بنهديها الجامحين على صدري وعبقت رائحة عطرها في أنفي وهي تقبلني من شفتي .. لم يكن عناق مصافحة .. كان عناق غرام، وكدت أن أدخل معها في قبلة عميقة ، بل وألج لساني في فمها، أو أدعها تلج لسانها في فمي ، لولا أنني كبحت رغبتي ورغبتها بأن اكتفيت بتقبيل شدقيها بشهوة ما.. تذوقت فيها لذة تقبيلها، ثم همست لها : يكفي يا مجنونة ! وأنا أدفع جسدها برفق ليفترق جسدانا.
جلسنا .. مرت لحظات دون أن يتفوه أحدنا بكلمة . بدت وكأنها مترددة في قول شيء ما ترغب في قوله ، غير أنها لم تقله ، وسألتني بدلا من ذلك إن كنت أريد قهوة . قلت:
" أجل بعد هذا الاستقبال أريد قهوة لأستعيد وعيي"
" أنا آسفة حبيبي .. لم أستطع اخفاء ما يعتلج في نفسي تجاهك "
وضغطت على زر جرس ليدخل شاب تطلب إليه فنجاني قهوة.
" أسيل أنا أكبر من أبيك على الأغلب.. ليكن حبنا أبوياً "
" سأحاول " قالتها على مضض!
دخل الشاب ليضع فنجاني القهوة على منضدة بيننا .
" عن ماذا سنتحدث اليوم "
" عن الحب والموت والحياة في فلسفتك "
" هذه ثلاثة مواضيع كل منها يحتاج إلى حلقة ، إذا أردنا أن نفيه حقه "
" سأحاول أن نختصر "
نجحت في تحويل الحوار إلى الحلقة ..احتسينا القهوة على عجل ونهضنا إلى الاستديو..
شرعت أسيل في الحديث:
" أعزاءنا المشاهدين . بعد أن تطرقنا في الحلقات السابقة إلى الوجود والغاية منه ومن جاء به ، وإلى مسائل مختلفة تتعلق بماهية الخالق والخلق ، ومذهب وحدة الوجود، يسعدني أن نطرح في هذه الحلقة من الحوار مع الأستاذ محمود أبو الجدايل بعض المسائل المهمة لكل انسان في الحياة ، تتعلق بالحب والحياة والموت . أستاذ محمود أهلا ومرحبا بك"
- أهلا بك وبالمشاهدين !
- أستاذ ما هو الحب وما الفرق بينه وبين المحبة ؟
- الحب عاطفة شعورية تجاه الآخر، يمارسها الانسان والكائنات الحية كلها، وهو أنواع . منه المحبة بمعنى المودة , وهي ما يحتاجه البشر تجاه بعضهم في علاقاتهم المختلفة ،ومنه العذري ، وهو ما يربط بين رجل وامرأة دون جنس ، ومنه الحب الجنسي ، القائم على الجنس ، ولذلك يعبر عن ممارسة الجنس بممارسة الحب لإضفاء معنى أجمل على العلاقة أو على الممارسة . هذه الأنواع الرئيسة من الحب ، وثمة تفرعات كثيرة تنتج عن كل نوع من هذه الانواع .
- هل هذا يعني أنه لا فرق بين الحب والمحبة ؟
- لا فرق إلا من حيث الحالة . فأن نقول حب البشرية نعني محبة البشر. أما أن نقول حب المرأة فقد لا نعني المودة فقط بل الجنس والأمومة أيضا ، أو أن نقول فلان يحب فلانه فهذا يعني أنه يعشقها..وأن نتحدث عن حب الآباء للأبناء أو العكس أو نتحدث عن حب الأقارب فهذا يعني المحبة .
- وماذا عن الحب العذري ؟ هل هناك حب عذري فعلا ؟
- أنا شخصيا أشك في المسألة .. ومعظم ما وصل إلينا من أشعار وقصص عن حب عذري تتعلق بحب بين محبوبين لم تسمح الظروف لهما بأن يلتقيا علناً أو يتزوجا، كقيس وليلى ، وجميل وبثينة ، وروت القصص أن جميل كان يلتقي بثينة سرا ، وهي من قبيلته ( عذرة ) التي جاءت تسمية الحب العذري منها ، والتي قيل أن أفرادها كانوا ينظمون الشعر العفيف والطاهر في المرأة ! وبثينة تزوجت من غير جميل بعد أن رفض أبوها تزويجها منه ، فراح يلتقي بها سرا ، فمن في مقدوره أن يعرف أنه لم يواقعها.. كما أنه لا يستطيع البوح بذلك في أشعاره حفاظا عليها ..
- أستاذ محمود سندخل في السؤال الأهم المتعلق بالحب الجنسي. وعلاقة الانسان بجسده وحاجته إلى هذا النوع من الحب . كيف يمكن النظر إلى هذا النوع من العلاقة؟ خاصة وأن المجتمعات البشرية قد أوجدت أشكالا مختلفة لهذه العلاقة ؟
- إن أردت رأيي يمكنني أن أبدأ من الآخر لأقول : إن حرية الانسان في جسده حق له ، فإذا كان الانسان لا يملك حرية حتى على جسده ، فهذا يعني أنه ليس حرا ، ولن يكون كذلك، فكيف يمكنه أن يلبي رغباته في الحب بأي طريقة يرتأيها دون أن يسيء إلى أحد . وهذا ما بدأت بعض المجتمعات البشرية تطبقه ولو بحدود قد تقتصر على فترة ما قبل الزواج، وإن كان هناك أفراد قلائل في بعض المجتمعات يطبقونه بحدود حتى بعد الزواج إنما وفق طقوس خاصة متفق عليها، أو حتى دون زواج على الاطلاق ، كالعلاقات الحرة أو المثلية .
- وماذا عن مجتمعاتنا العربية والمجتمعات الاسلامية وغيرها ..
- هذه مجتمعات مكتوب عليها أن تعيش الكبت الجنسي بشكل أوآخر. وخاصة على المرأة المحاصرة بأشكال مختلفة من الحصار، الذي بدأ بظهور الملكية الخاصة في التاريخ ، وتطور بتطورها ، ليحل نظام الأبوة محل نظام الأمومة إلى أن بلغ ذروته في العقائد الدينية المتزمتة ، التي منح بعضها الحرية للرجل بتعدد الزوجات وامتلاك الجواري.. وحرم ذلك على المرأة ، ما عدا البغاء ، لأن فيه متعة للرجل وحلاً لمشاكله الجنسية .
- مسكينة المرأة في مجتمعاتنا.. هل تعتقد أن المجتمعات البشرية قد تعود إلى عصور المشاعية ، التي كانت المرأة تسود فيها على القبيلة.. وهي من تختار الرجال الذين تمارس معهم الحب ؟
- يصعب أن تعود هذه الحقب ، فقد انتهت منذ أن تمرد جلجامش على عشتار وبدأ بسحب الألوهة منها ، ليبدأ عصر نزع الألوهة من الأنوثة لتحل في الذكورة التي توجت بتحويل المعتقدات كلها إلى آلهة ذكورية ، والتخلي شيئا فشيئا عن طقوس الجنس المقدس ، ليحل محلها طقوس تمجد الإله الذكرالقادر على كل شيئ ، وتمجد أنبياءه الذين أرشدوا الناس إليه !
- أليس من حل أمام المرأة؟
- الحل أن تثور إذا في استطاعتها.
- وإذا لا تستطيع ؟
- لتمارس بالسر ما يمكنها أن توفره لنفسها إن كانت في حاجة إليه .
- هل تعتقد أن العلاقة الزوجية تكفي لملء فراغ العاطفة أو الرغبة التي يحتاج إليها الرجل والمرأة ، خاصة في مجتمعات كمجتمعاتنا لا تعرف المرأة فيها الجنس قبل الزواج ؟ وربما بعض الرجال أيضا؟
- حتى في المجتمعات التي قطعت شوطا بعيدا في التحرر لا تكفي الحياة الزوجية لتملأ الحياة العاطفية أو الرغبة الجنسية لكلا الطرفين ، غير أن تقبل الوضع يكون أسهل في هذه المجتمعات ، سألت ذات يوم صديقة أوروبية عن عدد الشباب الذين مارست معهم الحب من سن المراهقة إلى أن تزوجت؟ قالت ستة عشر ! فتاة كهذه يمكن أن تكون علاقتها بزوجها كافية لها . والأمر نفسه ينطبق على الرجل الذي عاش مراهقته وشبابه بشكل طبيعي. لي قول حول المسألة يرد على لسان الملك لقمان في ملحمة " الملك لقمان " جاء فيه " ليس هناك امرأة تملأ حياة رجل وليس هناك رجل يملأ حياة امرأة، فالنفس تواقة دوما إلى الجمال، والجسد لا يسمو إلا بالمتعة والكمال، فنوّعوا النكاح ، ومارسوا الحب بالتراضي والقبول، ولا تحرموا أنفسكم وأجسادكم متعة الحياة ، فإنكم بذلك تتقربون إلى الله "
" وهنا بالضبط سرحت أسيل للحظة تخيلت نفسها عارية على سرير ومحمود أبو الجدايل يمارس صلاته متقرباً إلى الله عبر تقبيل كل جزء في جسدها.."
تنبه لها محمود وقد سرحت .. خاطبها :
- ألن ننتهي من الحب ؟
ابعدت الصورة من مخيلتها وهي تستجمع ذهنها:
- آه ممكن . لو لم يكن لدي سؤال..
- ما هو ؟
- إذا لم يكن هناك عودة إلى المشاعية فكيف ستكون عليه الحياة الجنسية في المستقبل .. بعد مائتي أو ثلاثمئة سنة مثلا ؟
- دون تحديد زمن . يمكن القول أن النموذج السائد في الغرب سيسود ، إنما بحرية أكثر ، قد تشمل الحياة الزوجية أيضا .
- كيف ستشمل الحياة الزوجية ؟ هل سيسمح بالخيانة الزوجية مثلا ؟
- المؤسسة الزوجية نفسها قد تنتهي بشكلها التقليدي، إلا من قبل فئات قد تتمسك بها .. وهي في الحقيقة بدأت تنتهي منذ اليوم في بعض المجتمعات.. قد يتشكل أنماط مختلفة من العلاقات الاجتماعية لا نستطيع أن نحددها منذ اليوم.. لكن في الامكان القول أنها تلبي رغبات الانسان بقدر ما.
- هل ننتقل بحوارنا إلى الموت ؟
- ممكن خاصة وأن مسألة الحب بعيدة نسبيا عن موضوعنا.
- استاذ محمود تقول في بعض مقالاتك أن الموت ضرورة لتجدد الحياة واستمرارها. فلماذا الموت ضرورة ؟
- كي تدركي ضرورة الموت تخيلي لو لم يكن هناك موت على الكرة الأرضية منذ أن تم خلق الكائنات الحية .
- تقصد منذ خلق آدم ؟
- آدم ، وبغض النظر عن عدم وجوده خارح المعتقدات الدينية ، ليس بداية الخلق ثمة كائنات حية سبقت خلقة بملايين السنين .
- لنقصر الأمر على الانسان لأنه ليس في الامكان تصور بقاء كل الكائنات الحية على قيد الحياة .
- ليكن يا ستي . تصوري عدم وجود موت منذ خلق آدم المفترض حتى يومنا . ماذا ستتخيلين ؟
- سيكون هناك مليارات البشر أضعاف أضعاف عددهم اليوم.
- وماذا أيضا ؟ هل تظنين أن كوكب الأرض سيتسع لهم ؟
- أكيد لا.
- وهل سيجد الجميع مأوى لهم ؟
- أكيد لا أيضا .
- وماذا سيأكلون ؟ هل يكون هناك غذاء يكفيهم ؟
- أيضا لا فالبشرية اليوم يعاني ملايين منها من نقص الغذاء رغم وجود الموت !
- وماذا عن كم المرضى والمقعدين والمسنين والعجزة هل سيكون هناك مأوى لهم ؟
- فعلا الوضع يكون مرعبا .
- الأمر لا يتوقف على هذا الأمر.
- ماذا أيضا ؟
الأرض تتغذى على جثث الموتى والكائنات الحية وما هو مستهلك من المنتجات البشرية، وحين لا يكون هناك موت ، ويكثر استخراج المعادن والصخور لبناء المدن والجسور، ستصبح الأرض فقيرة بموادها ، ويصبح منتوجها من الغذاء أكثر فقرا ، عدا أنه لا يكفي لاشباع عشرات المليارات .. وقد نصل إلى موت ليس البشر فقط ، بل الحياة نفسها . ولذلك نستنتج أن الموت ليس مسألة فائضة عن الحاجة ، بل ضروروة حتمية لا غنى عنها لاستمرار الحياة.
- فعلا إنه ضرورة لا بد منها .
- ومع ذلك يمر كوكب الأرض بأزمات مختلفة، كالمناخ نتيجة التلوث، والفائض في عدد سكان الكوكب ، والفقر في انتاج الغذاء الكافي ، ولا بد من معالجة كل هذه المسائل ، وتحديد النسل، لجعل سكان الكوكب في حدود خمسة مليارات..
- يا إلهي هل ستنقصهم مليارين؟
- إذا تبين أن الأمر ضرورة لا بد منها لتوفير غذاء للجميع ، يجب العمل على ذلك .
- أمر لا يصدق.
- وأن يموت ملايين البشر من الجوع كل عام أمرلا يصدق وغير مقبول أيضا .
- طيب في هذه الحال هل يمكن تصور مستقبل دون موت لسكان كوكب الأرض في المستقبل.
- ممكن بعد ملايين السنين إن لم يكن مليارات . وهذا يتطلب توفر شروط كثيرة .
- مثلا ؟
- أن يعرف الانسان أنه جزء لا يتجزأ من ذات عقلانية طاقوية كونية خالقة ، وأن الوجود واحد وليس وجودين ، وأن الغاية من وجوده أن يكون فاعلا في بناء الحضارة الانسانية وتحقيق قيم الخير والعدل والمحبة والجمال.
- هل هذا يعني أن يرى الانسان الألوهة في ذاته ؟
- أكيد .
- أي أن يكون الله .
- بل جزء يسير من ذات إلهية كونية ، سبق وأن تحدثنا عن الأمر يا أسيل!
- لكي نفيد المشاهد.
- ماذا أيضا يا أسيل ؟
- ما هي الشروط الأخرى التي ينبغي توفرها لتوقف الموت في المستقبل البعيد؟
- طبعا توقف الانجاب أو الحد منه ، إلا إذا كان في المقدور نقل فئة من البشر للإقامة على كوكب أو كواكب أخرى . حتى لا يختل توازن الكوكب ، وهو هنا كوكب الأرض كون الحديث عنه.
- وماذا عن أعمارهم ؟
- تقصدين من حيث الكبر؟
- يفترض أن لا يشيخوا ويبقوا في سن يبدون فيه شبابا !
- وماذا عن جمالهم ؟
- إذا كان جمال الخلق والانسان بشكل خاص قد فاق التصور في زمننا فما بالك بعد ملايين السنين ؟ سيكون الجمال خارق ، يبهر النظر.
- أتمنى أن يحيينا الله حينذاك لنعيش في هذا العالم . شكرا أستاذ محمود ، شكرا مشاهدينا .. طابت ليلتكم وإلى اللقاء .
***
" لا أنكر أنني اشتهي أسيل ، كما يمكن أن يشتهيها أي رجل آخر، فهي صبية جميلة تجسدت فيها الألوهة بأكبر قدر ممكن ، غير أن عمري وزواجي من لمى يحيلان دون تحقيق هذه الرغبة ، وهذا أمر ليس غريبا .. الغريب أن تشتهيني أسيل إلى هذا الحد الذي لم أتوقعه ، فأنا ككهل ليس فيّ ما يثير المرأة أو يرغبها فيّ ، وأشك أن ثقافتي االمحدودة تشكل دافعا لأي أنثى لأن تعشقني.. لمى عشقتني لأنها وجدت في رجلا مختلفا تفهم واقعها المؤلم ووقف معها وأعاد لها الثقة في نفسها .. فما الذي فعلته لأسيل لكي تحاول استدراجي إلى سريرها.. أكيد مجرد نزوة عابرة لن تدوم .. ولو أتيح لها أن تحظى بي ، لتخلت عني بعد أول لقاء، فلن تجد فيّ غير عجوز يحتاج إلى أنثى تتقبل وضعه وتعرف كيف تعامله، وهذا أمر لم يفهمه إلا لمى، وأشك في أن أنثى غيرها قادرة على فهمه... فاجأتني أكثر مما فاجأتني في لقائنا السابق.. استقبلتني بأحضانها في مكتبها، ضغطت بنهديها الجامحين على صدري وعبقت رائحة عطرها في أنفي وهي تقبلني من شفتي .. لم يكن عناق مصافحة .. كان عناق غرام، وكدت أن أدخل معها في قبلة عميقة ، بل وألج لساني في فمها، أو أدعها تلج لسانها في فمي ، لولا أنني كبحت رغبتي ورغبتها بأن اكتفيت بتقبيل شدقيها بشهوة ما.. تذوقت فيها لذة تقبيلها، ثم همست لها : يكفي يا مجنونة ! وأنا أدفع جسدها برفق ليفترق جسدانا.
جلسنا .. مرت لحظات دون أن يتفوه أحدنا بكلمة . بدت وكأنها مترددة في قول شيء ما ترغب في قوله ، غير أنها لم تقله ، وسألتني بدلا من ذلك إن كنت أريد قهوة . قلت:
" أجل بعد هذا الاستقبال أريد قهوة لأستعيد وعيي"
" أنا آسفة حبيبي .. لم أستطع اخفاء ما يعتلج في نفسي تجاهك "
وضغطت على زر جرس ليدخل شاب تطلب إليه فنجاني قهوة.
" أسيل أنا أكبر من أبيك على الأغلب.. ليكن حبنا أبوياً "
" سأحاول " قالتها على مضض!
دخل الشاب ليضع فنجاني القهوة على منضدة بيننا .
" عن ماذا سنتحدث اليوم "
" عن الحب والموت والحياة في فلسفتك "
" هذه ثلاثة مواضيع كل منها يحتاج إلى حلقة ، إذا أردنا أن نفيه حقه "
" سأحاول أن نختصر "
نجحت في تحويل الحوار إلى الحلقة ..احتسينا القهوة على عجل ونهضنا إلى الاستديو..
شرعت أسيل في الحديث:
" أعزاءنا المشاهدين . بعد أن تطرقنا في الحلقات السابقة إلى الوجود والغاية منه ومن جاء به ، وإلى مسائل مختلفة تتعلق بماهية الخالق والخلق ، ومذهب وحدة الوجود، يسعدني أن نطرح في هذه الحلقة من الحوار مع الأستاذ محمود أبو الجدايل بعض المسائل المهمة لكل انسان في الحياة ، تتعلق بالحب والحياة والموت . أستاذ محمود أهلا ومرحبا بك"
- أهلا بك وبالمشاهدين !
- أستاذ ما هو الحب وما الفرق بينه وبين المحبة ؟
- الحب عاطفة شعورية تجاه الآخر، يمارسها الانسان والكائنات الحية كلها، وهو أنواع . منه المحبة بمعنى المودة , وهي ما يحتاجه البشر تجاه بعضهم في علاقاتهم المختلفة ،ومنه العذري ، وهو ما يربط بين رجل وامرأة دون جنس ، ومنه الحب الجنسي ، القائم على الجنس ، ولذلك يعبر عن ممارسة الجنس بممارسة الحب لإضفاء معنى أجمل على العلاقة أو على الممارسة . هذه الأنواع الرئيسة من الحب ، وثمة تفرعات كثيرة تنتج عن كل نوع من هذه الانواع .
- هل هذا يعني أنه لا فرق بين الحب والمحبة ؟
- لا فرق إلا من حيث الحالة . فأن نقول حب البشرية نعني محبة البشر. أما أن نقول حب المرأة فقد لا نعني المودة فقط بل الجنس والأمومة أيضا ، أو أن نقول فلان يحب فلانه فهذا يعني أنه يعشقها..وأن نتحدث عن حب الآباء للأبناء أو العكس أو نتحدث عن حب الأقارب فهذا يعني المحبة .
- وماذا عن الحب العذري ؟ هل هناك حب عذري فعلا ؟
- أنا شخصيا أشك في المسألة .. ومعظم ما وصل إلينا من أشعار وقصص عن حب عذري تتعلق بحب بين محبوبين لم تسمح الظروف لهما بأن يلتقيا علناً أو يتزوجا، كقيس وليلى ، وجميل وبثينة ، وروت القصص أن جميل كان يلتقي بثينة سرا ، وهي من قبيلته ( عذرة ) التي جاءت تسمية الحب العذري منها ، والتي قيل أن أفرادها كانوا ينظمون الشعر العفيف والطاهر في المرأة ! وبثينة تزوجت من غير جميل بعد أن رفض أبوها تزويجها منه ، فراح يلتقي بها سرا ، فمن في مقدوره أن يعرف أنه لم يواقعها.. كما أنه لا يستطيع البوح بذلك في أشعاره حفاظا عليها ..
- أستاذ محمود سندخل في السؤال الأهم المتعلق بالحب الجنسي. وعلاقة الانسان بجسده وحاجته إلى هذا النوع من الحب . كيف يمكن النظر إلى هذا النوع من العلاقة؟ خاصة وأن المجتمعات البشرية قد أوجدت أشكالا مختلفة لهذه العلاقة ؟
- إن أردت رأيي يمكنني أن أبدأ من الآخر لأقول : إن حرية الانسان في جسده حق له ، فإذا كان الانسان لا يملك حرية حتى على جسده ، فهذا يعني أنه ليس حرا ، ولن يكون كذلك، فكيف يمكنه أن يلبي رغباته في الحب بأي طريقة يرتأيها دون أن يسيء إلى أحد . وهذا ما بدأت بعض المجتمعات البشرية تطبقه ولو بحدود قد تقتصر على فترة ما قبل الزواج، وإن كان هناك أفراد قلائل في بعض المجتمعات يطبقونه بحدود حتى بعد الزواج إنما وفق طقوس خاصة متفق عليها، أو حتى دون زواج على الاطلاق ، كالعلاقات الحرة أو المثلية .
- وماذا عن مجتمعاتنا العربية والمجتمعات الاسلامية وغيرها ..
- هذه مجتمعات مكتوب عليها أن تعيش الكبت الجنسي بشكل أوآخر. وخاصة على المرأة المحاصرة بأشكال مختلفة من الحصار، الذي بدأ بظهور الملكية الخاصة في التاريخ ، وتطور بتطورها ، ليحل نظام الأبوة محل نظام الأمومة إلى أن بلغ ذروته في العقائد الدينية المتزمتة ، التي منح بعضها الحرية للرجل بتعدد الزوجات وامتلاك الجواري.. وحرم ذلك على المرأة ، ما عدا البغاء ، لأن فيه متعة للرجل وحلاً لمشاكله الجنسية .
- مسكينة المرأة في مجتمعاتنا.. هل تعتقد أن المجتمعات البشرية قد تعود إلى عصور المشاعية ، التي كانت المرأة تسود فيها على القبيلة.. وهي من تختار الرجال الذين تمارس معهم الحب ؟
- يصعب أن تعود هذه الحقب ، فقد انتهت منذ أن تمرد جلجامش على عشتار وبدأ بسحب الألوهة منها ، ليبدأ عصر نزع الألوهة من الأنوثة لتحل في الذكورة التي توجت بتحويل المعتقدات كلها إلى آلهة ذكورية ، والتخلي شيئا فشيئا عن طقوس الجنس المقدس ، ليحل محلها طقوس تمجد الإله الذكرالقادر على كل شيئ ، وتمجد أنبياءه الذين أرشدوا الناس إليه !
- أليس من حل أمام المرأة؟
- الحل أن تثور إذا في استطاعتها.
- وإذا لا تستطيع ؟
- لتمارس بالسر ما يمكنها أن توفره لنفسها إن كانت في حاجة إليه .
- هل تعتقد أن العلاقة الزوجية تكفي لملء فراغ العاطفة أو الرغبة التي يحتاج إليها الرجل والمرأة ، خاصة في مجتمعات كمجتمعاتنا لا تعرف المرأة فيها الجنس قبل الزواج ؟ وربما بعض الرجال أيضا؟
- حتى في المجتمعات التي قطعت شوطا بعيدا في التحرر لا تكفي الحياة الزوجية لتملأ الحياة العاطفية أو الرغبة الجنسية لكلا الطرفين ، غير أن تقبل الوضع يكون أسهل في هذه المجتمعات ، سألت ذات يوم صديقة أوروبية عن عدد الشباب الذين مارست معهم الحب من سن المراهقة إلى أن تزوجت؟ قالت ستة عشر ! فتاة كهذه يمكن أن تكون علاقتها بزوجها كافية لها . والأمر نفسه ينطبق على الرجل الذي عاش مراهقته وشبابه بشكل طبيعي. لي قول حول المسألة يرد على لسان الملك لقمان في ملحمة " الملك لقمان " جاء فيه " ليس هناك امرأة تملأ حياة رجل وليس هناك رجل يملأ حياة امرأة، فالنفس تواقة دوما إلى الجمال، والجسد لا يسمو إلا بالمتعة والكمال، فنوّعوا النكاح ، ومارسوا الحب بالتراضي والقبول، ولا تحرموا أنفسكم وأجسادكم متعة الحياة ، فإنكم بذلك تتقربون إلى الله "
" وهنا بالضبط سرحت أسيل للحظة تخيلت نفسها عارية على سرير ومحمود أبو الجدايل يمارس صلاته متقرباً إلى الله عبر تقبيل كل جزء في جسدها.."
تنبه لها محمود وقد سرحت .. خاطبها :
- ألن ننتهي من الحب ؟
ابعدت الصورة من مخيلتها وهي تستجمع ذهنها:
- آه ممكن . لو لم يكن لدي سؤال..
- ما هو ؟
- إذا لم يكن هناك عودة إلى المشاعية فكيف ستكون عليه الحياة الجنسية في المستقبل .. بعد مائتي أو ثلاثمئة سنة مثلا ؟
- دون تحديد زمن . يمكن القول أن النموذج السائد في الغرب سيسود ، إنما بحرية أكثر ، قد تشمل الحياة الزوجية أيضا .
- كيف ستشمل الحياة الزوجية ؟ هل سيسمح بالخيانة الزوجية مثلا ؟
- المؤسسة الزوجية نفسها قد تنتهي بشكلها التقليدي، إلا من قبل فئات قد تتمسك بها .. وهي في الحقيقة بدأت تنتهي منذ اليوم في بعض المجتمعات.. قد يتشكل أنماط مختلفة من العلاقات الاجتماعية لا نستطيع أن نحددها منذ اليوم.. لكن في الامكان القول أنها تلبي رغبات الانسان بقدر ما.
- هل ننتقل بحوارنا إلى الموت ؟
- ممكن خاصة وأن مسألة الحب بعيدة نسبيا عن موضوعنا.
- استاذ محمود تقول في بعض مقالاتك أن الموت ضرورة لتجدد الحياة واستمرارها. فلماذا الموت ضرورة ؟
- كي تدركي ضرورة الموت تخيلي لو لم يكن هناك موت على الكرة الأرضية منذ أن تم خلق الكائنات الحية .
- تقصد منذ خلق آدم ؟
- آدم ، وبغض النظر عن عدم وجوده خارح المعتقدات الدينية ، ليس بداية الخلق ثمة كائنات حية سبقت خلقة بملايين السنين .
- لنقصر الأمر على الانسان لأنه ليس في الامكان تصور بقاء كل الكائنات الحية على قيد الحياة .
- ليكن يا ستي . تصوري عدم وجود موت منذ خلق آدم المفترض حتى يومنا . ماذا ستتخيلين ؟
- سيكون هناك مليارات البشر أضعاف أضعاف عددهم اليوم.
- وماذا أيضا ؟ هل تظنين أن كوكب الأرض سيتسع لهم ؟
- أكيد لا.
- وهل سيجد الجميع مأوى لهم ؟
- أكيد لا أيضا .
- وماذا سيأكلون ؟ هل يكون هناك غذاء يكفيهم ؟
- أيضا لا فالبشرية اليوم يعاني ملايين منها من نقص الغذاء رغم وجود الموت !
- وماذا عن كم المرضى والمقعدين والمسنين والعجزة هل سيكون هناك مأوى لهم ؟
- فعلا الوضع يكون مرعبا .
- الأمر لا يتوقف على هذا الأمر.
- ماذا أيضا ؟
الأرض تتغذى على جثث الموتى والكائنات الحية وما هو مستهلك من المنتجات البشرية، وحين لا يكون هناك موت ، ويكثر استخراج المعادن والصخور لبناء المدن والجسور، ستصبح الأرض فقيرة بموادها ، ويصبح منتوجها من الغذاء أكثر فقرا ، عدا أنه لا يكفي لاشباع عشرات المليارات .. وقد نصل إلى موت ليس البشر فقط ، بل الحياة نفسها . ولذلك نستنتج أن الموت ليس مسألة فائضة عن الحاجة ، بل ضروروة حتمية لا غنى عنها لاستمرار الحياة.
- فعلا إنه ضرورة لا بد منها .
- ومع ذلك يمر كوكب الأرض بأزمات مختلفة، كالمناخ نتيجة التلوث، والفائض في عدد سكان الكوكب ، والفقر في انتاج الغذاء الكافي ، ولا بد من معالجة كل هذه المسائل ، وتحديد النسل، لجعل سكان الكوكب في حدود خمسة مليارات..
- يا إلهي هل ستنقصهم مليارين؟
- إذا تبين أن الأمر ضرورة لا بد منها لتوفير غذاء للجميع ، يجب العمل على ذلك .
- أمر لا يصدق.
- وأن يموت ملايين البشر من الجوع كل عام أمرلا يصدق وغير مقبول أيضا .
- طيب في هذه الحال هل يمكن تصور مستقبل دون موت لسكان كوكب الأرض في المستقبل.
- ممكن بعد ملايين السنين إن لم يكن مليارات . وهذا يتطلب توفر شروط كثيرة .
- مثلا ؟
- أن يعرف الانسان أنه جزء لا يتجزأ من ذات عقلانية طاقوية كونية خالقة ، وأن الوجود واحد وليس وجودين ، وأن الغاية من وجوده أن يكون فاعلا في بناء الحضارة الانسانية وتحقيق قيم الخير والعدل والمحبة والجمال.
- هل هذا يعني أن يرى الانسان الألوهة في ذاته ؟
- أكيد .
- أي أن يكون الله .
- بل جزء يسير من ذات إلهية كونية ، سبق وأن تحدثنا عن الأمر يا أسيل!
- لكي نفيد المشاهد.
- ماذا أيضا يا أسيل ؟
- ما هي الشروط الأخرى التي ينبغي توفرها لتوقف الموت في المستقبل البعيد؟
- طبعا توقف الانجاب أو الحد منه ، إلا إذا كان في المقدور نقل فئة من البشر للإقامة على كوكب أو كواكب أخرى . حتى لا يختل توازن الكوكب ، وهو هنا كوكب الأرض كون الحديث عنه.
- وماذا عن أعمارهم ؟
- تقصدين من حيث الكبر؟
- يفترض أن لا يشيخوا ويبقوا في سن يبدون فيه شبابا !
- وماذا عن جمالهم ؟
- إذا كان جمال الخلق والانسان بشكل خاص قد فاق التصور في زمننا فما بالك بعد ملايين السنين ؟ سيكون الجمال خارق ، يبهر النظر.
- أتمنى أن يحيينا الله حينذاك لنعيش في هذا العالم . شكرا أستاذ محمود ، شكرا مشاهدينا .. طابت ليلتكم وإلى اللقاء .
***