حاميد اليوسفي - جَلّول.. قصة قصيرة

جلول فلاح ابن فلاح في الثلاثينات من العمر ، ينحدر من أسرة ميسورة تملك أراضي واسعة ، وقطعان من الأبقار والأغنام ، وثلاثة جياد عربية أصيلة . هو أصغر إخوته وأمهرهم في ركوب الخيل . قوي البنية فارع الطول ، يضع عمامة على رأسه بالأبيض والبرتقالي ، ويرتدي جلبابا من الصوف بخرقة رمادية خفيفة . يفضله الوالد على بقية أبنائه ، ويكلفه بالمهام الصعبة ، وينجح دائما في إنجازها . يحب عائلته وعلى الخصوص إخوته حد الموت ، ولا يسمح لأحد بمس شعرة منهم . يشتغل بهمة عالية طيلة السنة ، لكن عيبه الوحيد أنه يسكر في فصل الصيف ، فقط في فصل الصيف . عندما ينتهي موسم الحصاد ، ويبيعون الغلة ، ويكنزون الحبوب ، يتفرغ للهو ، ولا يدخل إلى البيت حتى تطلع الشمس . والده يعلم بذلك ، فهو أيضا عندما كان في سنه سار على نفس النهج .
بنى خيمة صغيرة من الطوب والخشب بعيدا عن الدوار بحوالي كيلوترين وسط جنان الخضر وربط ببابها كلبه الأرقط . هنا يقضي ليالي الأنس رفقة عدد محدود من أصدقائه لا يتجاوز ثلاثة ، وهو رابعهم . أربعة شبان يفيضون قوة وحيوية ، يجمع بينهم دم واحد ، وهم مفخرة القبيلة ، وفرسانها في (التبوريدة)* ، وأربع شيخات* ينضحن جمالا مثل غزلان البراري ، وعازف على الكمان . قنينات الخمر مفتوحة من منتصف الليل حتى طلوع الشمس . يقضون جزءا من العطلة بمعناها القروي النبيل الذي يضرب بجذوره في أعماق التاريخ .
وعادا عادا اجلول را ليترو محلول *
وراه نقصر مع جلول والصباح نرول*

صوت المغنية يصدح ويرتفع إلى السماء ويتناغم مع جرة الكمان ، والكأس تدور وسط الرقص وتبادل الضحكات والقبلات حتى مطلع الفجر .
الاحتفاء بانتهاء الموسم الفلاحي لا ينقصه سوى زيارة بعض المواسم القريبة من المنطقة .
يتدرب طيلة السنة مع والده ، ويركبان فرسيهما ويتسابقان ، ويعلما الخيل بعض الحركات التي يقتضيها مشهد التبوريدة في بدايته ، ويروضانها على الامتثال لحركاتهما ، ويكسبانها لياقة بدنية تسمح بإجراء ثلاث مسابقات أو أربع متتالية ، لا تفصل بينها إلا لحظات تكفي لالتقاط أنفاس الخيل والفرسان .
عندما يحين وقت الموسم ، ينادي الولي الصالح مولاي عبد الله أمغار الوجدان البدوي لتطهيره من التعب والشقاء . من يزور الولي مولاي عبد الله أمغار ، تضمن له فاطنة بنت الحسين* دخول الجنة بالنهار .
الخيمة الكبيرة ستُدق بجانب خيم العائلة ، وتنزل بها الأسرة . الشباب عليهم أن يتدبروا أمر خيمتهم ، ونصبها بعيدا عن الأهل .
الموسم يشبه السوق ، لكنه أكبر منه ، ويأتيه الناس من كل فج عميق . أبناء القبائل المجاورة يعرفون بعضهم بعضا خاصة الفرسان . فهم يلتقون دائما في الأسواق الأسبوعية للإقليم .
والد جلول من الأعيان المعروفين في المنطقة ، يتبرع للولي الصالح مولاي عبد الله أمغار بعجل وثلاثة خرفان بقرون مفتولة ، ويدعوه أن يحفظ أبناءه وبناته وباقي أفراد الأسرة ، ويبارك له في فلاحته وأغنامه وأبقاره .
النساء أيضا يزرن الأضرحة و يتبركن بالأولياء الصالحين ويقدمن الهدايا ويعدن بالذبائح إذا تحقق طلبهن في قدوم عرسان لبناتهن .
في المساء يتوضأ جلول ، ويصلي ركعتين . ويدعو الله والولي مولاي عبد الله وفاطنة بنت الحسين أن يقفوا بجانبه . هو هكذا يحب الله ورسوله ، ومولاي عبد الله أمغار ، وفاطنة بنت الحسين ، والحصان . يتخلى عن الشرب احتراما لوالده ولمقام الولي الصالح . يرتدي الجلباب الأسود والبرنوس الأبيض مثل والده عكس بقية الفرسان ، ويُحكم السرج على ظهر الفرس ، ويُقبّل ناصيته ، ويقوده رفقة والده ، وبجانبهما فلاحان من القرية ، يحملان البارود وبندقيتان .
يُجري ما بين ثلاث أو أربع سباقات في النصف الثاني من اليوم . ينادي عليه العلام والده من وسط الجموع ، فيدهش الناس بخروجه من وسط الفرقة ، وهم ينظرون إليه ، يتقدم ويرقص بالحصان ، ويتمنون لو كان لهم ابن فارس مثله . والده لا ينسى أن يوصيه بلبس القلادة . منذ رآه لأول مرة يركب حصانا انبهر ، وتنبأ له بأن يصبح من خيرة الفرسان ، فأهداه البندقية والقلادة اللتان ورثاهما عن جده . قلادة خمسة وخميس من الفضة ، فيها بركة الأجداد ، وتحفظ من العين الشريرة . يربطها في عنقه بخيط أسود من الحرير . الحصان يرقص ، وجلول يتراقص معه ، وكأنهما ذات واحدة . مثل هذه الحركات وبهذا الإيقاع الساحر تجعل الناس يتمنون لو طالت دهرا . ينشد العلام عيطته ، تتقدم الخيل وهي تتراقص ببطء ، ثم يوحي بالإشارة ، فتنطلق الفرقة وكأنها تطير ، وهي مشدودة إلى الأرض . جلول يتقدم بجانب والده ، ينهض ويجلس على ظهر الحصان ، ويحني رأسه حتى يكاد يلمس عنق الفرس ، ويلتفت يمينا وشمالا ، يركبه الحال ، يدير البندقية على أصبعه في الهواء مثل البهلوان ، تفك الريح شدة عمامته ، ويسقط جزء صغير منها على كتفه ، وترميه الريح وراء ظهره ، قوة خفية تجذبه إلى عالم غامض ، يختلف عن العالم الذي نعيش فيه . أخطر لحظة عندما يقترب من خط الوصول ، فيتراءى له طيف فاطنة بنت الحسين ويتردد صدى صوتها بقوة في أذنيه :
ورا البارود أي رولي*
كي التبروروي*
خيي وا خيي
يلمح والده للفرقة إلى بأن تضغط على الزناد وينطلق البارود من جميع البنادق في وقت واحد ، ثم ينحرف بحصانه شمالا في اتجاه والده وكأنه يريد أن يحييه بطريقته الخاصة ، فيوقف الحصان على قائمتيه الخلفيتين ، ونصف جسده الأمامي إلى أعلى . لا يعيده إلى عالم البشر سوى دخان البارود ، وصهيل الخيل ، وزغاريد النسوة ..
في منتصف الليل وبعد تناول وجبة العشاء بقليل ، يتفرغ جلول ويأخذ أمه وأخواته للتجول في الموسم والاستمتاع بعروض الغناء إلى وقت متأخر من الليل .
الموسم هو بحر وشاطئ أهل البادية الذين لا تسمح لهم التقاليد والأعراف بتعريض أجسادهم وأجساد أبنائهم وبناتهم للعري .
قضاء أسبوعين أو شهر بالكامل مدة كافية للتطهير من كل شرور الدنيا ، والاستعداد لاستقبال عام فلاحي جديد ، بنفس جديد يطبعه رضا وبركة الأولياء الصالحين .
...............................................
المعجم :
*التبوريدة : طقس فروسي قديم في المغرب يقام في المواسم . كل قبيلة تختار فرقة من فرسانها قد تفوق العشرين . وتستعمل بنادق تقليدية تعمل بالبارود ، ويقودها شيخ يدعى العلام وتقدم عرضا يبدأ بأهازيج ورقصات للأحصنة ثم تنطلق في سباق جنوني وقبل خط الوصول بأمتار معدودة يعطيها العلام إشارة الضغط على الزناد وضرب البارود إلى أعلى أو أسفل .
*لترو محلول : قنينة الخمر مفتوحة
*نقصر : نسهر / نرول : كلمة مأخوذة من اللغة الفرنسية تعني نذهب .
*البارود إي رولي : ينطلق
*التبروري : البرد أي الثلج الذي يتساقط من السماء على شكل حبات صغيرة .
*فاطنة بنت الحسين 1934 ـ 2005 : من مدينة سيدي بنور وتعد من أشهر مطربات العيطة بالمغرب ، تغمدها الله برحمته .

.........................................
مراكش 17 غشت 2020

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى