المقدمة
يمرّ الكثيرون، أثناء مسيرتهم الروحية، بمرحلة يفحصون فيها معتقداتهم ليتأكّدوا من مدى صحّتها. ونحن إذ نواجه اليوم، في عالمنا العربي، موجة التشكيك في حقيقة وجود الله ـ والتي من أحد أسبابها الرئيسية: الأفكار الإلحادية الغربية المستوردة ـ كان من المُحتّم تسليط الضوء على هذه الظاهرة، وأسبابها في الفكر الغربي المعاصر، ومن ثمّ، توضيح موقف الفكر العربي منها.
إنّ الإلحاد ظاهرة إنسانية شأنه في ذلك شأن الإيمان، ومن ثمّ يجب دراسته بموضوعية بعيدًا عن الانفعال والتعصب؛ لأجل فهم العالم الذي نعيش فيه.. ونحاول في هذا البحث تسليط الضوء على تلك الظاهرة، وموقف الفكر العربي منها ـ الدكتور رمسيس عوض كنموذج.
ولتغطية جوانب الموضوع، قسّمنا البحث إلى ثلاثة محاور، هي: التأصيل الدلالي لمفهوم الإلحاد (المبحث الأول)؛ أشكال وأسباب الإلحاد في الفكر الغربي المعاصر (المبحث الثاني)؛ موقف الفكر العربي من الإلحاد الغربي المعاصر (المبحث الثالث).
المبحث الأول: التأصيل الدلالي لمفهوم الإلحاد
أولًا: الإلحاد لغةً:
الإلحاد في اللغة العربية من الفعل لَحَدَ. وَأَلْحَدَ: مَالَ وعَدَلَ، وقيل: مَالَ وجَارَ.([1]) وأَلْحَدَ في دين الله، أي حَادَ عنه وعَدَلَ.([2]) ويرى ابن السكيت أنّ المُلْحِدُ هو العادِلُ عن الحقّ المُدْخِلُ فيه ما ليس فيه، يُقال قد ألْحَدَ في الدّين ولَحَدَ: أيْ حَادَ عنه. ورُوِيَ عن الأحْمَرِ: لَحدْتُ جُرْتُ ومِلْتُ، وألْحَدْتُ مارَيْتُ وجادلْتُ. وقال ابنُ برِّي: معنى الإلحاد في اللغة المَيْلُ عَنِ القَصْدِ.([3])
وفي قوله تعالى: "لِسَانُ الَّذي يُلْحِدُون إليه"(النحل: 103)، قال ابن السِّكِّيت: أيْ يحيدون. وقال الفرَّاء: فمَن قرأ يُلْحِدُون أراد يَعْتَرِضون. وقال الزَّجَّاج في قوله تعالى: "ومَن يُرِدْ فيه بإلحادٍ"(الحج: 26)؛ قيل: الإلحادُ فيه الشَّكُّ في الله.([4])
والإلحاد في اللغات الأجنبية Athéisime ـ Atheism، مأخوذ من اليونانية، ويحتوي على مقطعين: (ẚ) وتعني سلب ونفي، و (oÇέθ) وتعني إله. ومن هنا، كان معناه الاشتقاقي: نفي الله.([5]) وذلك خلافًا لدلالة اللفظ في اللغة العربية، والتي تعني انحرف أو حاد عن. ومن هنا، فليس ثمّة تطابق دقيق بين دلالة اللفظ عربيًا وغربيًا. وخلال هذا البحث، سنقتصر على الدلالة الغربية للمصطلح.
ثانيًا: الإلحاد اصطلاحًا:
الإلحادية في ظاهرها تعليم يُقرّ عدم وجود الله. وثمّة ملاحدة يدعمون هذا الزعم بالبراهين، بيد أنّ براهينهم عادةً ما تكون مُوجّهة ضدّ المفهوم المسيحي لله، وتكاد لا تتعلّق بأيّة آلهة ممكنة أخرى، لذا يُفضّل فهم قطاع كبير من الإلحادية الغربية بوصفه تعليمًا يُقرّ أنّ إله المسيحية لا وجود له.([6])
ولكن الناس يُطلقون الإلحاد تارة على إنكار وجود الله، وتارة على إنكار علمه، وعنايته، أو قدرته، وإرادته، ويكفي أن يُنكر المرء أصلًا من أصول الدين، أو اعتقادًا من الاعتقادات المألوفة، أو رأيًا من الآراء الشائعة حتى يُتّهم بالإلحاد.([7])
وفي التاريخ أمثلة كثيرة تدلُّ على أنّ العلماء، الذين يأتون بالغريب وغير المألوف من الآراء، يُمتهنون، ويُتّهمون بالكفر والإلحاد والزندقة، ويكاد يكون تطوّر معنى الإلحاد مُوازيًا لتطوّر فكرة التعصّب؛ فكلّما زاد التعصّب كثر عدد الملحدين في نظر الناس، والعكس بالعكس.([8]) فسقراط اتُّهم بالإلحاد، وحُكم عليه بالموت، بالرغم من قوله بوجود إله واحد، وكذلك أفلاطون، وأرسطو، وابن سينا، وابن رشد، وديكارت، واسبينوزا، وكانط، لم يسلموا، على اختلاف مذاهبهم، من تهمة الإلحاد لمخالفتهم آراء أهل زمانهم. وهذا كلُّه يدلّ على أنّ مفهوم الإلحاد يختلف باختلاف تصوّرات الناس واعتقاداتهم، فإذا كان المذهب مُخالفًا لاعتقاداتهم عدّوه إلحادًا، وإذا كان مُوافقًا لهم عدُّوه دينًا وإيمانًا.
إنّ معنى الإلحاد حسب الدلالة الغربية يتضمّن عدة مقاصد، هي: هناك أولًا التمييز بين الإلحاد العملي، والإلحاد النظريّ. الأول هو موقف مَن يتصرّف كما لو لم يكن هناك إله، فهو يُقرّ بوجود إله، ولكنّه يُنكر الله في سلوكه في الحياة؛ أمّا الإلحاد النظري فهو نوعان: المُطلق، لا يُقر بوجود إله ولا بوجود أمور إلهية.. وينقسم بدوره إلى سلبي وإيجابي: السلبي ينكر وجود الله والأمور الإلهية، إمّا عن جهل بالله (متل "المتوحّش" عند جان جاك روسو)، أو لعدم اكتراث بالله (مثل موقف هيدجر وبندتو وكروتشه)، والموقف الإيجابي هو الذي يُنكر وجود الله لأسباب يتذرّع بها (مثل موقف الماديين أمثال أبيقور ولا متري وفيورباخ وماركس ونيتشه). وهناك الإلحاد النظري النسبي الذي لا يُقرّ بوجود الله، ولكنّه يُقررّ بوجود أمور إلهية (المذهب الوضعي، وموقف اسبينوزا في بعض التأويلات، ومذهب القائلين بوحدة الوجود، ومذهب المُؤلهة اللذين يقعان على حافة الإلحاد والإيمان بالله)،([9]) وقد أورد أفلاطون تحليل ذلك في المقالة العاشرة من كتابه النواميس.
إنّ مصطلح الإلحاد لا يبدو مُشتملًا إلا على قيمة تاريخية، ينبغي تحديدها في كلّ حالة خاصة، هذا من جانب، ومن جانب آخر، فإنّ اللفظ لا يحمل دلالة نظريّة مُحدّدة؛ فما هو تأكيد للألوهة عند البعض، يمكنه أن يكون إلحادًا عند البعض الآخر.([10]) وبذلك يتّضح، أنّ هذا اللفظ، تاريخيًّا، لا يحمل معنى محدود ثابت لاختلاف مفهومه باختلاف الزمان والمكان، ولاختلاف حال العلماء من الجُهّال.
والفرق بين الملحد واللا أدري، أنّ الملحد مُنكرٌ لله، قاطعٌ في إنكاره، ومُتعصّب لهذا الإنكار؛ بينما اللا أدري يُعلّق الحكم على وجوده أو عدمه، فهو لا يعرف، وغير واثق، ويُفضّل ألّا يقضي في الأمر برأي.([11])
وربّما كان أحسن تحديد للفظ الإلحاد، إطلاقه على المذهب الذي يُنكر وجود الله، لا على المذاهب التي تُنكر بعض صفات الله، أو تُخالف مُعتقدًا دينيًّا أو رأيًا اجتماعيًّا مُقرّرًا.
المبحث الثاني: أسباب الإلحاد الغربي المعاصر وأشكاله
أولًا: أشكال الإلحاد الغربي المعاصر
إنّ من أشكال الإلحاد الغربي المعاصر: التحليل النفسي الفرويدي؛ لأنّه يُفسّر فكرة الوجود الأعلى بأنّها مُستمدّة من ثنائية الاتجاه العاطفي المُؤلّفة من الحبّ والخوف، والحاضرة في العلاقة بين الابن والوالد. أيضًا، الوضعية المنطقية عند كارناب، ومدرسة فيينا بعامة؛ إذ يرون أنّ كلمة "الله" هي مجموع الحروف، ويُقرّرون أنّ قولنا "الله موجود" يُساوي تمامًا قولنا "الله غير موجود"؛ لأنّ كلتا العبارتين خلوٌّ من المعنى.([12])
ثانيًا: أسباب الإلحاد الغربي المعاصر
تطرّق الدكتور رمسيس عوض،(*) في الشقّ الثاني من كتابه، ملحدون محدثون ومعاصرون، لخمسة عشر ملحدًا من الملحدين المعاصرين؛ عرض خلاله، في عُجالة، بعض أسباب اعتناقهم الإلحاد، ورأيهم فيه، وموقفهم المعارض للدين السائد، ونظرتهم لله وأدلة وجوده، وآراء بعضهم حول علاقة الأخلاق بالدين.. ويمكن إجمال تلك الأسباب في عدة نقاط كما يلي.
أ- أسباب دينية
وصف ريتشارد روبنسون (1902 ـ ) ـ في كتابه (قيم الملحد) ـ الكتاب المقدّس بأنّه غامض ومشوّش وغير أكيد، كما اتّهم تعاليم المسيح الأخلاقية بالغلطة المفعّمة والقسوة الشديدة، وأنّها تهدّدنا دومًا بالبكاء وصرير الأسنان، ويذكّرنا بأنّ المسيح لا يخفي نشره للفرقة بين الأبناء والآباء.([13])
ب- أسباب شخصية
ذهب عالم النفس الأمريكي بول ڤيتز (1935 ـ ) إلى وجود عدة أسباب رئيسية وراء إلحاده، من بينها: عوامل شخصية اجتماعية عامة (كالانتماء إلى طبقة متوسطة بائسة محبطة)، وعوامل شخصية اجتماعية خاصة؛ والاستقلال الذاتي؛ والملاءمة والارتياح الشخصيين في مجتمع علماني وثني.([14])
ج – أسباب نفسية
من أهمّ العوامل النفسيّة وراء تبنّي الإلحاد "منظور التقصير الأبوي"، الذي يتبنّى أنّ الإنسان يعتبر الإله النموذج المطلق للقوّة والسلطة، كما يرى في أبيه التجسيد البشري لهذا النموذج. ومن ثمّ، فمَن يفقدون الأب (وفاة/ هجر للأسرة)، أو مَن يتميّز آباؤهم بالضعف (الجُبن)، أو أساءوا معاملتهم (بدنيًّا – نفسيًّا – جنسيًّا) يُعانون صعوبات في تبنِّي الإيمان بالإله.
كذلك، فقد طرح علماء النفس نظرية "الارتباط"، والتي تتبنّى أنّ طبيعة الرابطة بين الطفل وأمّه (الرمز الأمومي) تُمثّل النموذج الذي ستكون عليه العلاقة بين هذا الشخص في المستقبل وبين الآخرين، ويمتدّ هذا النموذج حتى يُؤثّر في العلاقة بالإله. وبديهي أنّ الكثير من الحالات الملحدة، يجتمع فيها التقصير الأبوي مع اختلال رمز الأمّ.([15])
د- أسباب عقليّة
ذهب جورج هـ سميث (1949 ـ ) (في كتابه الإلحاد القضية ضدّ الله)، إلى أنّ الإلحاد موقف عقلاني، وأنّ الإيمان بالله أمرٌ لا يستند إلى العقلانية، وأنّ الدين المؤمن بوجود إله قائم على الزيف، فضلًا عن أنّه شيء ضار.. وأضاف مايكل مارتن (1932ـ ) من خلال كتابه (الإلحاد ومُبرّره الفلسفي) إلى هذا الرأي قوله: أنّ المحاجات الكلاسيكية للتدليل على وجود الله غير صحيحة، وأنّ التجربة الدينية لا يمكن أن تنهض كأساس لصحّة المعتقدات الدينية، وأنّه من الخطأ التدليل على صحّة الدين بِصحّة ما ورد فيه من خوارق ومعجزات.. كذلك، فقد اعتبر تادس كليمنتس (1922 ـ ) في كتابه (العلم مقابل الدين) أنّ الإيمان بوجود الله إهانة للعقل البشري. كما يرى أنّ كثيرًا من المؤمنين بوجود الله ـ رغم أنّهم لا يقولون ذلك ـ يعتقدون الشيء نفسه؛ لأنّهم يمتدحون الإيمان كفضيلة فقط إذا وجدوها تتعارض مع مبادئ الإدراك السليم، أي حين يعتقدون أنّ هذا الإيمان يُجافي أحكام العقل. ([16])
وفي هذا السياق، أظهرت دراسة أجريت في جامعتين كنديتين([17]) على أكثر من أربعة آلاف طالب جامعي، أنّ أسباب الإلحاد لدى المبحوثين تتلخّص في أنّ المرتدّين قد تركوا الدين بعد أن أدركوا أنّه "من المستحيل الاقتناع بأنّ المعتقدات الدينية صحيحة". ومن ثمّ، يتعارض الإيمان بالدين مع المنطق والعقل. وقد أعلن هؤلاء أنّ المفاهيم الدينية، وكذلك علاقاتهم بأسرهم وأصدقائهم، ليست عندهم أهمّ من الحرية والأمانة والصدق مع النفس.([18])
هـ - أسباب عضوية
ذهبت العديد من الدراسات الحديثة([19]) إلى أنّ أصحاب التوحّد الوظيفي يكونون أكثر ميلًا للإلحاد بأشكاله، وأنّ الإلحاد يكون أكثر شيوعًا بين مَن يقومون بأعمال تتطلّب ملكات تنظيمية ذكورية، ولكن هذا لا يعني أنّ الإلحاد يقف وراء التوحّد، ولا أنّ المتوحدّين لا يمكن أن يؤمنوا.([20])
و- أسباب شخصيّة اجتماعية
اعتقد والتر كوفمان (1921- 1980م) في كتابه (نقد الدين والفلسفة) أنّ الإلحاد قد يكون نتيجة احتجاج غير المتأقلمين مع مجتمعاتهم، أو نتيجة الرغبة في صدم مشاعر الآخرين، أو إيذائهم، أو الظهور بمظهر النضوج والاستنارة والتعقيد الفكري والأمانة.([21])
ز- أسباب اجتماعية ثقافية
تأثّر كاي نيلسن (1925 ـ ) في مطلع حياته بآراء شوبنهور ونيتشه وأفلاطون وأرسطو وتوماس الأكويني، وحين ازدادت شكوكه الدينية، نبذ الإيمان بوجود الله. كذلك فقد تأثّر بعدد من الفلاسفة المتشكّكين والملحدين أمثال جورج سنتيانا وسبينوزا وجون ديوي وكارل ماركس، كما تركت الفلسفة التحليلية المعاصرة بصماتها الواضحة على تفكيره، كما تأثّر تأثّرًا كبيرًا بالوضعية المنطقية. وذهب إلى أنّ استمرار العقيدة الدينية في النظم الاجتماعية المعاصرة القائمة في المجتمعات الصناعية لدليل على انتفاء العقلانية والكفاية الأخلاقية من هذه النظم الاجتماعية. ويتمسك بقوله: أنّه من غير المعقول أن يؤمن إنسان يملك أيّة استعدادات فلسفية وعلمية أو يملك قدرة على التفكير في الأمور المُعقّدة ـ بالدّين.([22])
وفي هذا السياق الخاص بتأثير مشاهير الملحدين في الفضاء الفكري العام، ذهب رافي زكراياس إلى أنّ أبطال مجتمعنا من أساتذة الجامعات والمشاهير يفوزون بجائزة نوبل أو بأوسمة أكاديمية، ثمّ يستغلّون ذلك في شنّ هجوم عنيف على القانون الأخلاقي. فكيف يمكن لرجل الشارع أن يجابه فائزًا بجائزة نوبل أو نجمًا من نجوم هوليود؟.([23]) لذلك، فأناس مثل برتراند رسل، وجان بول سارتر، وكذلك وودي آلن كان لهم تأثير عميق على المجتمع بمحّاجتهم ضدّ وجود الله واستهزائهم بأحكامه. وقد يظنّ المرء أنّ عمالقة الفكر أمثال هؤلاء كانوا سيخرجون بحجّة جذابة تؤيّد فلسفتهم الأخلاقية، إلا أنّها لم تظهر حتى الآن.
ولكن يمكننا القول: لم تكن حجج المفكرين هي المصدر الوحيد لما أتى على المجتمع من تأثير سلبي، ولكن المؤثّر الأقوى كان أسلوب حياتهم، وحياة قادة التيارات الفكرية الذي أضفى مزيدًا من القبول على فكرة القيم الشخصية، أعني اختلاف القيم من فرد لآخر.. وقد تطرّقنا لذلك ـ وإنْ جاء في إطار مختلف قليلًا ـ في مقال سابق؛ حيث أشرنا إلى وجود علاقة وطيدة بين البرامج الحوارية المرئية لمشاهير المجتمع، وبثّ القيم داخل المجتمع،([24]) وبمعنى أوضح، أفاد المقال أنّ البرامج الحوارية المرئية أحد الأدوات الناجعة في بث القيم بين أفراد المجتمع، من خلال حياة المشاهير، باعتبارهم قدوة لشريحة واسعة من أفراده.
ولنا أن نتساءل هنا: إذا كان للإلحاد أسبابه النفسية (التنشئة)، والشخصية، والاجتماعية، بالإضافة إلى أسبابه العضوية (التوحّد)، فهل يعني ذلك أنّ الإنسان مُسيّر في تبنّيه الإيمان أو الإلحاد؟!..
يّجيب بول ڤيتز عن هذا السؤال من خلال شخصية هتلر فيقول: "كان الكُره يملأ هتلر، هذا الكُره الذي وقف وراء ما أنزل بالبشرية من مصائب. وإذا كان تقصير أبيه الشديد تجاهه، والإساءة إليه كطفل، قد أسهم في نشأة هذا الكُره، حتى إنّه صار يكره نفسه، فقناعتنا أنّ هتلر <قد اختار> أن يُنمِّي ما بداخله من كُره، بدلًا من أن يعمل على كبته أو التعامل مع ما يُسبّبه له من معاناة".([25]) ومعنى ذلك، باختصار، أنّ كلّ شخص يستطيع بإرادته الحُرّة واختياره أن يتوجّه إلى الإله، أو أن يبتعد عنه، أو أن يقف ضدّه..
إنّ ما نلاحظه على أسباب الإلحاد سالفة الذكر، أنّها تدور، في عمومها، في فضاء تمجيد العقل مقابل الغموض والإبهام الذي يكتنف الكتاب المقدس، وأنّ البعض الآخر، من تلك الأسباب، قد جاء بسبب تأثّر بعض الملحدين بكتابات الملحدين الآخرين. أو بسبب ظروف نفسية تربويّة (كالتقصير الأبوي)؛ أو شخصية (كالبؤس والإحباط الاجتماعي)؛ أو قد تكون عضوية.
ثالثًا: آراء الملحدين الغربيين المعاصرين في علاقة الأخلاق بالدين
ذهب جورا الهندي (1902- 1975م) في كتابه "الإلحاد الإيجابي" إلى أنّ الإلحاد هو الطريقة الآمنة والمستقرّة لمُحاربة المظالم واستئصال العوز والفقر. كما رأى أنّ التقدّم الثابت يمكن أن يتحقّق لو أنّ المجتمع تبنىّ فكرة الإلحاد تبنّيًا كاملًا. أبعد من ذلك، إذ اعتقد أنّ الإلحاد الصريح ضرورة لبناء الإنسان الأخلاقي صحيحًا ومكتملًا.. وأنّ الوضوح والصراحة يقضيان على المواقف الطائفية، ومن ثمّ، فهما لا يسمحان بممارسة الظلم والعنف.([26])
أيضًا، حلّل جون ل ماكاي (1917- 1981م) طبيعة الأخلاق، وقسّمها إلى أربعة أنواع متباينة؛ الأخلاق الدينية، الناهضة على فكرة الثواب والعقاب. والأخلاق العقلانية الكانطية أو الحدسية. والأخلاق السليمة موضوعيًّا، وأنّ الله هو الذي خلقها ودعم وجودها. والنوع الرابع يصفه بأنه ذاتي أو طبيعي، وهو يدين به، ويرى أنّه ما دام لها مثل هذا المصدر المستقلّ عن الدين فإنّه من المؤكد أنّ الأخلاق سوف تبقى وتستمرّ حتى إذا أصاب الدين التفكّك والاضمحلال.. ولأجل ذلك، ذهب إلى أنّ المسح الإحصائي نفسه يعجز عن أن يبيّن أنّ إيمان الإنسان بالدين أو ابتعاده عنه من شأنه أن يشجّع على الفضيلة أو الرذيلة.([27])
كذلك، تنبّأ جواتشيم كاهل (1941 ـ )، كملحد ماركسي تقليدي، باندثار الدين عندما يُرفع الظلم عن البشر وترتفع العدالة بينهم. والغريب في تفكيره، أنّه تنبّأ أيضًا باندثار الإلحاد من العالم؛ لأنّه عندما يختفي الدين من سطح الأرض لن تكون هناك حاجة إلى الإلحاد، وعندئذٍ سوف تمرّ الإنسانية بفترة يسود فيها المذهب الإنساني الذي يتجاوز حدود الإيمان بوجود الله، ويتجاوز أيضًا حدود الإلحاد.([28])
إضافةً لما سبق، يرفض كاي نيلسن، الاعتقاد بأنّ الأخلاق لا يمكن أن تقوم لها قائمة بدون الإيمان بوجود الله؛ إذ هناك أغراض في حياة البشر، وهناك أشياء نحرص عليها في حالة خُلُوّ العالم من وجود الله.. كما أنّ الصداقة والتضامن والحبّ وتحقيق المرء لاحترام الذات ـ أشياء إنسانية صالحة حتى في عالم يخلو تمامًا من وجود الله.([29])
وفي سياق مناهض، ذهب مالكوم مجريدج، إلى أنّ فلاسفتنا، مهما كان حُسْن نيّتهم، قتلوا الأخلاق في محاولتهم أن ينفخوا فيها نسمة حياة بالانفصال عن الله.([30])
ولنا أن نقول ما يلي: ليس كلّ الملحدين لا أخلاقيين، ولكن الأخلاق باعتبارها الصلاح لا يمكن تبريرها بالمقتضيات الإلحادية. فيمكن أن يكون للملحد عقلية أخلاقية، ولكن، كلّ ما في الأمر، أنّه بالصدفة يعيش حياة أفضل من عقيدته بشأن الطبيعة البشرية وما تستلزمه. فقد تكون عنده قيم أخلاقية شخصية، ولكن يستحيل أن يكون لديه أيّ شعور بالإلزام أو الالتزام الأخلاقي العام؛ لأنّ الواجب الأخلاقي لا يمكن أن يعمل منطقيًّا في غياب القانون الأخلاقي، وليس من قانون أخلاقي في عالم لا أخلاقي.
المبحث الثالث: موقف الفكر العربي من الإلحاد الغربي المعاصر ـ رمسيس عوض نموذجًا
يؤمن الدكتور رمسيس عوض، أنّ الإلحاد ظاهرة إنسانية، شأنه في ذلك شأن الإيمان، ومن ثمّ، يجب دراسته بموضوعية وحيدة بعيدًا عن الانفعال والتشنّج.. وإذا كنّا نريد أن نفهم العالم الذي نعيش فيه، فإنّ إغماض العين عن هذه الظاهرة لا يعني عدم وجودها.
ويستشهد بأنّ الإنسانية قد جرّبت فيما مضى قتل وإحراق المهرطقين والخارجين على الأعراف الدينية، ثمّ اكتشفت عدم جدوى العنف والاضطهاد وممارسة القمع. ولذلك، يؤكّد أنّ أحد أوجه الاستفادة البشرية من دروس الماضي، هو إدراك أنّ أسلوب الإقناع والجدال بالحسنى هو أفضل وسيلة للتفاهم المتحضّر بين البشر.
وقد وضع رمسيس عوض كتابًا بعنوان "الإلحاد في الغرب"، سعى من خلاله إلى تتبّع هذه الظاهرة منذ عصر الإغريق حتى القرن التاسع عشر، واستكمله بكتابه الثاني "ملحدون محدثون ومعاصرون"، والذي واصل من خلاله معالجة الإلحاد منذ نهاية القرن التاسع عشر حتى يومنا الراهن ـ بحدّ قوله.
إنّ ما دفع رمسيس عوض إلى تأليف هذين الكتابين، هو اقتناعه ـ حسب تعبيره ـ الراسخ بأنّ الإيمان الحقّ يقتضي منّا الاقتناع عن إهدار دمّ كلّ مَن يُخالفنا في الرأي، وأن نتعلّم كيفية التعايش مع الأفكار المرفوضة والمقيتة دون أن يُفقدنا ذلك الوثوق بأنفسنا، وهو وثوق ينبغي أن ينهض على أساس العلم بما يدور حولنا، وليس على أساس الجهل به.([31])
وفي لفتة ذكية منه، ذهب رمسيس عوض إلى أنّنا إذا كنّا في عالمنا العربي نعاني من الإرهاب الفكري والديني، وندفع ثمنه غاليًا؛ فهذا يرجع إلى أنّنا لم نتعلّم بعد أدب الحوار، ونفضّل عليه البلطجة الفكرية والفيزيقية.
واختتم موقفه من الإلحاد قائلًا: إنّ الإلحاد ليس الكلمة الأخيرة، ويمكن للمؤمن الذكي أن يستوعب مجادلاته ويتمثّلها قبل أن يتصدى لدحضه أو تفنيده.
الخاتمـــة
- الإلحاد في الفكر الغربي يعني: نفي الله. وذلك خلافًا لدلالته في اللغة العربية، والتي تعني انحرف أو حاد عن. ومن هنا، فليس ثمّة تطابق دقيق بين دلالة اللفظ عربيًا وغربيًا.
- اصطلاحًا، يختلف معنى الإلحاد باختلاف تصوّرات الناس واعتقاداتهم، فإذا كان المذهب مُخالفًا لاعتقاداتهم عدّوه إلحادًا، وإذا كان مُوافقًا لهم عدُّوه دينًا وإيمانًا.
- يتضمّن معنى الإلحاد حسب الدلالة الغربية عدة مقاصد، هي: هناك أولًا التمييز بين الإلحاد العملي، والإلحاد النظريّ. الأول هو موقف مَن يتصرّف كما لو لم هناك إله؛ أمّا الإلحاد النظري فهو نوعان: المُطلق، وينقسم بدوره إلى سلبي وإيجابي. وهناك الإلحاد النظري النسبي الذي لا يُقرّ بوجود الله، ولكنّه يُقررّ بوجود أمور إلهية.
- إنّ لفظ الإلحاد، تاريخيًّا، لا يحمل معنى محدود ثابت لاختلاف مفهومه باختلاف الزمان والمكان، ولاختلاف حال العلماء من الجُهّال.
- أحسن تحديد للفظ الإلحاد، إطلاقه على المذهب الذي يُنكر وجود الله، لا على المذاهب التي تُنكر بعض صفات الله، أو تُخالف مُعتقدًا دينيًّا أو رأيًا اجتماعيًّا مُقرّرًا.
- من أشكال الإلحاد الغربي المعاصر: التحليل النفسي الفرويدي، والوضعية المنطقية عند كارناب، ومدرسة فيينا بعامة؛ إذ ترى الأخيرة أنّ كلمة "الله" هي مجموع الحروف، ويُقرّرون أنّ قولنا "الله موجود" يُساوي تمامًا قولنا "الله غير موجود".
- أسباب الإلحاد في الفكر الغربي المعاصر، تدور في عمومها، في فضاء تمجيد العقل مقابل الغموض والإبهام الذي يكتنف الكتاب المقدس، وأنّ بعضها جاء بسبب تأثّر بعض الملحدين بكتابات الملحدين الآخرين. أو بسبب ظروف نفسية تربويّة (كالتقصير الأبوي)؛ أو شخصية (كالبؤس والإحباط الاجتماعي)؛ أو عضوية.
- إنّ أسباب الإلحاد، كما مرّ بنا، ليست أسبابًا موضوعية (علمية أو منطقية) في معظم الأحيان، لكنّها أسباب ذاتية (نفسية ـ شخصية ـ اجتماعية) في المقام الأوّل، ومهما قدّم الملحدون من أسباب علمية ومنطقية لإلحادهم، ستبقى تلك الأسباب قناعًا تختفي وراءه دوافعهم الذاتية الواعية وغير الواعية.
- برغم تصدّر العوامل الذاتية لقبول أو رفض الإيمان، والتي توحي بالحتميّة، إلا أنّ الإنسان يتمتّع بالإرادة الحرة، والقدرة على الاختيار في أن يصير مؤمنًا أو ملحدًا.
- إنّ الأبّ الحقيقي للإلحاد الغربي المعاصر هو الفكر المادي، الذي أعاد إحياء الفلسفة الوضعية المنطقية بعد موتها ـ تلك الفلسفة التي تتطلّب لكلّ مسألة برهانًا تجريبيًّا أو رياضيًّا أو منطقيًّا مباشرًا، فكان من الطبيعي أن ترفض تلك الفلسفة جميع العلوم الإنسانية أو الدينية التي لا تقوم على هذه البراهين.
- يرى الملحدون أنّ الإلحاد هو الطريقة الآمنة لمُحاربة المظالم واستئصال العوز. وأنّه ضرورة لاكتمال البناء الأخلاقي للإنسان.. أيضًا، فإنّ الصداقة والتضامن والحبّ وتحقيق المرء لاحترام الذات ـ أشياء إنسانية صالحة حتى في عالم يخلو تمامًا من وجود الله.. كذلك، ما دامت الأخلاق لها مثل هذا المصدر المستقلّ عن الدين، فإنّه من المؤكد أنّها سوف تبقى وتستمرّ حتى إذا أصاب الدين التفكّك والاضمحلال.. ولكنّنا نرى أنّ الواجب الأخلاقي لا يمكن أن يعمل منطقيًّا في غياب القانون الأخلاقي، وليس من قانون أخلاقي في عالم لا أخلاقي.
- جاء الموقف العربي من الإلحاد الغربي المعاصر، مُتمثّلًا في رأي الدكتور رمسيس عوض ـ موضوعيًّا؛ لفهم العالم الذي نعيش فيه، دونما إجحاف، أو إرهاب فكري، مؤكّدًا على أهمية الاستفادة من الماضي، وتبنِّي أسلوب الجدال والإقناع بالحُسْنى، كي نستوعب مجادلاته ونتمثّلها قبل أن نتصدى لدحضه أو تفنيده.
منتهى القول: وبعد أن تمثّلنا مجادلات الإلحاد، ينبغي التعامل مع الشكوك التي تعمل في نفوس البعض بالحوار اللين، لا بالزجر والتأنيب والإقصاء، ولأجل ذلك، ينبغي أن تمتدّ جذور الحوار إلى سائر أطياف المجتمع، إذ الآراء الصحيحة الصريحة الحرة وحدها القادرة على دحض حجج الإلحاد..
كما نؤكد على ضرورة التزام الدعاة الإلمام بالخطوط العريضة للفلسفات المادية وكيفية تفنيدها ودحضها، إلى جانب الإلمام بالمفاهيم العلمية وكيفية استنباط أدلة الألوهية منها، وهي ـ ما نعتقدها نقلة فكرية مرجوّة، ومن أهمّ جوانب تجديد الفكر الديني والأخلاقي التي ندعو إليها..
أخيرًا، ربّما حان الوقت لنوجّه سؤالًا للمجادلين والمُتشكّكين: إنّ الديانات الإبراهيمية لا تُحقّق من رغبات الإنسان ـ كما يدّعي الملحدون ـ إلاّ "وعدًا بالخلود"، في مقابل التضحية بالرغبات والمتع الحالية "المضمونة"، كما أنّ "الخلود" ليس مضمونًا أن يكون في النعيم، بل ربّما يكون في الجحيم، فكيف يخلق الإنسان إلهًا، أو يضع دينًا يقف حجر عثرة في، بل سدًّا منيعًا أمام تحقيق رغباته ومتعه الراهنة المضمونة؟!..
[1] ) ابن منظور، لسان العرب، دار المعارف، القاهرة، د.ت، المجلد الخامس، باب اللام، فصل الحاء والداء.
[2] ) إسماعيل بن حماد الجوهري، الصحاح، تاج اللغة وصحاح العربية، تحقيق/ أحمد عبد الغفور عطّار، دار العلم للملايين، بيروت، ط2، 1979م، ج2، باب الدال، فصل اللام.
[3] ) ابن منظور، المجلد الخامس، باب اللام، فصل الحاء والداء، مرجع سابق.
[4] ) ابن منظور، مرجع سابق.
[5] ) عبد الرحمن بدوي، موسوعة الفلسفة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 1984م، ج1، ص219.
[6] ) دليل أكسفورد للفلسفة، تحرير/ تد هوندرتش، ت/ نجيب الحصادي، منشورات المكتب الوطني للبحث والتطوير، طرابلس، ليبيا، ط1، 2005م، ج1، ص90. انظر كذلك: أندريه لالاند، موسوعة لالاند الفلسفية، تعريب/ خليل أحمد خليل، منشورات عويدات، بيروت، باريس، ط2، 2001م، المجلد الأول، ص107- 108.
[7] ) جميل صليبا، المعجم الفلسفي، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1982م، ج1، ص119.
[8] ) المرجع السابق، ص120.
[9] ) عبد الرحمن بدوي، مرجع سابق، ص219.
[10] ) أندريه لالاند، مرجع سابق، ص108.
[11] ) عبد المنعم الحفني، موسوعة الفلسفة والفلاسفة، مكتبة مدبولي، القاهرة، ط2، 1999م، ج1، ص182.
[12] ) عبد الرحمن بدوي، مرجع سابق، ص221.
* ) رمسيس عوض (1929- 2018م): أحد أهم المفكرين المصريين، قدّم للمكتبة العربية أكثر من ثمانين كتابًا، في مختلف نواحي الأدب، بخلاف المقالات، وحصل على العديد من الجوائز، أهمها وسام الاستحقاق من الطبقة الأولى في عيد العلم عام 1996م.
[13] ) رمسيس عوض، ملحدون محدثون ومعاصرون، دار سينا للنشر، ومؤسسة الانتشار العربي، لندن، بيروت، القاهرة، ط1، 1998م، ص77.
[14] ) عمرو شريف، الإلحاد مشكلة نفسية ـ علم نفس الإلحاد، نيو بوك للنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 2016م، ص192- 193.
[15] ) عمرو شريف، المرجع السابق، ص125 وما بعدها.
[16] ) رمسيس عوض، مرجع سابق، ص85؛ ص80؛ ص96 على التوالي.
[17] ) جامعتي Maniloba & Wilfried Caurier
[18] ) عمرو شريف، مرجع سابق، ص393 وما بعدها.
[19] ) من بين هذه الدراسات ما يلي:
- Q. Deeley, "Cognitive style, spirituality and Religious Understanding: The case of Autism", Journal of Religious, Disability and Health 13 (2009): 77- 82.
- Caldwell- Harriset al. "Religious Belief Systems", 2012, p.3362.
- Norenzayan er al., Mentalising deficits constrain belief in a Personal god, Plos one7, no5 (2012).
[20] ) عمرو شريف، مرجع سابق، ص211.
[21] ) رمسيس عوض، مرجع سابق، ص89.
[22] ) رمسيس عوض، المرجع السابق، ص99- 100.
[23] ) رافي زكراياس، الوجه الحقيقي للإلحاد، ت/ ماريانا كتكوت، رؤية للطباعة، القاهرة، 2014م، ص65.
[24] ) محمد عرفات حجازي، البرامج الحوارية وبثّ القيم، مقال منشور على موقع المثقف www.almothaqaf.com بتاريخ 13/ 9/ 2018م.
[25] ) عمرو شريف، مرجع سابق، ص214.
[26] ) رمسيس عوض، مرجع سابق، ص79.
[27] ) رمسيس عوض، المرجع السابق، ص83.
[28] ) رمسيس عوض، المرجع السابق، ص98.
[29] ) المرجع نفسه، ص102.
[30] ) رافي زكراياس، مرجع سابق، ص67.
[31] ) رمسيس عوض، مرجع سابق، المقدمة.
يمرّ الكثيرون، أثناء مسيرتهم الروحية، بمرحلة يفحصون فيها معتقداتهم ليتأكّدوا من مدى صحّتها. ونحن إذ نواجه اليوم، في عالمنا العربي، موجة التشكيك في حقيقة وجود الله ـ والتي من أحد أسبابها الرئيسية: الأفكار الإلحادية الغربية المستوردة ـ كان من المُحتّم تسليط الضوء على هذه الظاهرة، وأسبابها في الفكر الغربي المعاصر، ومن ثمّ، توضيح موقف الفكر العربي منها.
إنّ الإلحاد ظاهرة إنسانية شأنه في ذلك شأن الإيمان، ومن ثمّ يجب دراسته بموضوعية بعيدًا عن الانفعال والتعصب؛ لأجل فهم العالم الذي نعيش فيه.. ونحاول في هذا البحث تسليط الضوء على تلك الظاهرة، وموقف الفكر العربي منها ـ الدكتور رمسيس عوض كنموذج.
ولتغطية جوانب الموضوع، قسّمنا البحث إلى ثلاثة محاور، هي: التأصيل الدلالي لمفهوم الإلحاد (المبحث الأول)؛ أشكال وأسباب الإلحاد في الفكر الغربي المعاصر (المبحث الثاني)؛ موقف الفكر العربي من الإلحاد الغربي المعاصر (المبحث الثالث).
المبحث الأول: التأصيل الدلالي لمفهوم الإلحاد
أولًا: الإلحاد لغةً:
الإلحاد في اللغة العربية من الفعل لَحَدَ. وَأَلْحَدَ: مَالَ وعَدَلَ، وقيل: مَالَ وجَارَ.([1]) وأَلْحَدَ في دين الله، أي حَادَ عنه وعَدَلَ.([2]) ويرى ابن السكيت أنّ المُلْحِدُ هو العادِلُ عن الحقّ المُدْخِلُ فيه ما ليس فيه، يُقال قد ألْحَدَ في الدّين ولَحَدَ: أيْ حَادَ عنه. ورُوِيَ عن الأحْمَرِ: لَحدْتُ جُرْتُ ومِلْتُ، وألْحَدْتُ مارَيْتُ وجادلْتُ. وقال ابنُ برِّي: معنى الإلحاد في اللغة المَيْلُ عَنِ القَصْدِ.([3])
وفي قوله تعالى: "لِسَانُ الَّذي يُلْحِدُون إليه"(النحل: 103)، قال ابن السِّكِّيت: أيْ يحيدون. وقال الفرَّاء: فمَن قرأ يُلْحِدُون أراد يَعْتَرِضون. وقال الزَّجَّاج في قوله تعالى: "ومَن يُرِدْ فيه بإلحادٍ"(الحج: 26)؛ قيل: الإلحادُ فيه الشَّكُّ في الله.([4])
والإلحاد في اللغات الأجنبية Athéisime ـ Atheism، مأخوذ من اليونانية، ويحتوي على مقطعين: (ẚ) وتعني سلب ونفي، و (oÇέθ) وتعني إله. ومن هنا، كان معناه الاشتقاقي: نفي الله.([5]) وذلك خلافًا لدلالة اللفظ في اللغة العربية، والتي تعني انحرف أو حاد عن. ومن هنا، فليس ثمّة تطابق دقيق بين دلالة اللفظ عربيًا وغربيًا. وخلال هذا البحث، سنقتصر على الدلالة الغربية للمصطلح.
ثانيًا: الإلحاد اصطلاحًا:
الإلحادية في ظاهرها تعليم يُقرّ عدم وجود الله. وثمّة ملاحدة يدعمون هذا الزعم بالبراهين، بيد أنّ براهينهم عادةً ما تكون مُوجّهة ضدّ المفهوم المسيحي لله، وتكاد لا تتعلّق بأيّة آلهة ممكنة أخرى، لذا يُفضّل فهم قطاع كبير من الإلحادية الغربية بوصفه تعليمًا يُقرّ أنّ إله المسيحية لا وجود له.([6])
ولكن الناس يُطلقون الإلحاد تارة على إنكار وجود الله، وتارة على إنكار علمه، وعنايته، أو قدرته، وإرادته، ويكفي أن يُنكر المرء أصلًا من أصول الدين، أو اعتقادًا من الاعتقادات المألوفة، أو رأيًا من الآراء الشائعة حتى يُتّهم بالإلحاد.([7])
وفي التاريخ أمثلة كثيرة تدلُّ على أنّ العلماء، الذين يأتون بالغريب وغير المألوف من الآراء، يُمتهنون، ويُتّهمون بالكفر والإلحاد والزندقة، ويكاد يكون تطوّر معنى الإلحاد مُوازيًا لتطوّر فكرة التعصّب؛ فكلّما زاد التعصّب كثر عدد الملحدين في نظر الناس، والعكس بالعكس.([8]) فسقراط اتُّهم بالإلحاد، وحُكم عليه بالموت، بالرغم من قوله بوجود إله واحد، وكذلك أفلاطون، وأرسطو، وابن سينا، وابن رشد، وديكارت، واسبينوزا، وكانط، لم يسلموا، على اختلاف مذاهبهم، من تهمة الإلحاد لمخالفتهم آراء أهل زمانهم. وهذا كلُّه يدلّ على أنّ مفهوم الإلحاد يختلف باختلاف تصوّرات الناس واعتقاداتهم، فإذا كان المذهب مُخالفًا لاعتقاداتهم عدّوه إلحادًا، وإذا كان مُوافقًا لهم عدُّوه دينًا وإيمانًا.
إنّ معنى الإلحاد حسب الدلالة الغربية يتضمّن عدة مقاصد، هي: هناك أولًا التمييز بين الإلحاد العملي، والإلحاد النظريّ. الأول هو موقف مَن يتصرّف كما لو لم يكن هناك إله، فهو يُقرّ بوجود إله، ولكنّه يُنكر الله في سلوكه في الحياة؛ أمّا الإلحاد النظري فهو نوعان: المُطلق، لا يُقر بوجود إله ولا بوجود أمور إلهية.. وينقسم بدوره إلى سلبي وإيجابي: السلبي ينكر وجود الله والأمور الإلهية، إمّا عن جهل بالله (متل "المتوحّش" عند جان جاك روسو)، أو لعدم اكتراث بالله (مثل موقف هيدجر وبندتو وكروتشه)، والموقف الإيجابي هو الذي يُنكر وجود الله لأسباب يتذرّع بها (مثل موقف الماديين أمثال أبيقور ولا متري وفيورباخ وماركس ونيتشه). وهناك الإلحاد النظري النسبي الذي لا يُقرّ بوجود الله، ولكنّه يُقررّ بوجود أمور إلهية (المذهب الوضعي، وموقف اسبينوزا في بعض التأويلات، ومذهب القائلين بوحدة الوجود، ومذهب المُؤلهة اللذين يقعان على حافة الإلحاد والإيمان بالله)،([9]) وقد أورد أفلاطون تحليل ذلك في المقالة العاشرة من كتابه النواميس.
إنّ مصطلح الإلحاد لا يبدو مُشتملًا إلا على قيمة تاريخية، ينبغي تحديدها في كلّ حالة خاصة، هذا من جانب، ومن جانب آخر، فإنّ اللفظ لا يحمل دلالة نظريّة مُحدّدة؛ فما هو تأكيد للألوهة عند البعض، يمكنه أن يكون إلحادًا عند البعض الآخر.([10]) وبذلك يتّضح، أنّ هذا اللفظ، تاريخيًّا، لا يحمل معنى محدود ثابت لاختلاف مفهومه باختلاف الزمان والمكان، ولاختلاف حال العلماء من الجُهّال.
والفرق بين الملحد واللا أدري، أنّ الملحد مُنكرٌ لله، قاطعٌ في إنكاره، ومُتعصّب لهذا الإنكار؛ بينما اللا أدري يُعلّق الحكم على وجوده أو عدمه، فهو لا يعرف، وغير واثق، ويُفضّل ألّا يقضي في الأمر برأي.([11])
وربّما كان أحسن تحديد للفظ الإلحاد، إطلاقه على المذهب الذي يُنكر وجود الله، لا على المذاهب التي تُنكر بعض صفات الله، أو تُخالف مُعتقدًا دينيًّا أو رأيًا اجتماعيًّا مُقرّرًا.
المبحث الثاني: أسباب الإلحاد الغربي المعاصر وأشكاله
أولًا: أشكال الإلحاد الغربي المعاصر
إنّ من أشكال الإلحاد الغربي المعاصر: التحليل النفسي الفرويدي؛ لأنّه يُفسّر فكرة الوجود الأعلى بأنّها مُستمدّة من ثنائية الاتجاه العاطفي المُؤلّفة من الحبّ والخوف، والحاضرة في العلاقة بين الابن والوالد. أيضًا، الوضعية المنطقية عند كارناب، ومدرسة فيينا بعامة؛ إذ يرون أنّ كلمة "الله" هي مجموع الحروف، ويُقرّرون أنّ قولنا "الله موجود" يُساوي تمامًا قولنا "الله غير موجود"؛ لأنّ كلتا العبارتين خلوٌّ من المعنى.([12])
ثانيًا: أسباب الإلحاد الغربي المعاصر
تطرّق الدكتور رمسيس عوض،(*) في الشقّ الثاني من كتابه، ملحدون محدثون ومعاصرون، لخمسة عشر ملحدًا من الملحدين المعاصرين؛ عرض خلاله، في عُجالة، بعض أسباب اعتناقهم الإلحاد، ورأيهم فيه، وموقفهم المعارض للدين السائد، ونظرتهم لله وأدلة وجوده، وآراء بعضهم حول علاقة الأخلاق بالدين.. ويمكن إجمال تلك الأسباب في عدة نقاط كما يلي.
أ- أسباب دينية
وصف ريتشارد روبنسون (1902 ـ ) ـ في كتابه (قيم الملحد) ـ الكتاب المقدّس بأنّه غامض ومشوّش وغير أكيد، كما اتّهم تعاليم المسيح الأخلاقية بالغلطة المفعّمة والقسوة الشديدة، وأنّها تهدّدنا دومًا بالبكاء وصرير الأسنان، ويذكّرنا بأنّ المسيح لا يخفي نشره للفرقة بين الأبناء والآباء.([13])
ب- أسباب شخصية
ذهب عالم النفس الأمريكي بول ڤيتز (1935 ـ ) إلى وجود عدة أسباب رئيسية وراء إلحاده، من بينها: عوامل شخصية اجتماعية عامة (كالانتماء إلى طبقة متوسطة بائسة محبطة)، وعوامل شخصية اجتماعية خاصة؛ والاستقلال الذاتي؛ والملاءمة والارتياح الشخصيين في مجتمع علماني وثني.([14])
ج – أسباب نفسية
من أهمّ العوامل النفسيّة وراء تبنّي الإلحاد "منظور التقصير الأبوي"، الذي يتبنّى أنّ الإنسان يعتبر الإله النموذج المطلق للقوّة والسلطة، كما يرى في أبيه التجسيد البشري لهذا النموذج. ومن ثمّ، فمَن يفقدون الأب (وفاة/ هجر للأسرة)، أو مَن يتميّز آباؤهم بالضعف (الجُبن)، أو أساءوا معاملتهم (بدنيًّا – نفسيًّا – جنسيًّا) يُعانون صعوبات في تبنِّي الإيمان بالإله.
كذلك، فقد طرح علماء النفس نظرية "الارتباط"، والتي تتبنّى أنّ طبيعة الرابطة بين الطفل وأمّه (الرمز الأمومي) تُمثّل النموذج الذي ستكون عليه العلاقة بين هذا الشخص في المستقبل وبين الآخرين، ويمتدّ هذا النموذج حتى يُؤثّر في العلاقة بالإله. وبديهي أنّ الكثير من الحالات الملحدة، يجتمع فيها التقصير الأبوي مع اختلال رمز الأمّ.([15])
د- أسباب عقليّة
ذهب جورج هـ سميث (1949 ـ ) (في كتابه الإلحاد القضية ضدّ الله)، إلى أنّ الإلحاد موقف عقلاني، وأنّ الإيمان بالله أمرٌ لا يستند إلى العقلانية، وأنّ الدين المؤمن بوجود إله قائم على الزيف، فضلًا عن أنّه شيء ضار.. وأضاف مايكل مارتن (1932ـ ) من خلال كتابه (الإلحاد ومُبرّره الفلسفي) إلى هذا الرأي قوله: أنّ المحاجات الكلاسيكية للتدليل على وجود الله غير صحيحة، وأنّ التجربة الدينية لا يمكن أن تنهض كأساس لصحّة المعتقدات الدينية، وأنّه من الخطأ التدليل على صحّة الدين بِصحّة ما ورد فيه من خوارق ومعجزات.. كذلك، فقد اعتبر تادس كليمنتس (1922 ـ ) في كتابه (العلم مقابل الدين) أنّ الإيمان بوجود الله إهانة للعقل البشري. كما يرى أنّ كثيرًا من المؤمنين بوجود الله ـ رغم أنّهم لا يقولون ذلك ـ يعتقدون الشيء نفسه؛ لأنّهم يمتدحون الإيمان كفضيلة فقط إذا وجدوها تتعارض مع مبادئ الإدراك السليم، أي حين يعتقدون أنّ هذا الإيمان يُجافي أحكام العقل. ([16])
وفي هذا السياق، أظهرت دراسة أجريت في جامعتين كنديتين([17]) على أكثر من أربعة آلاف طالب جامعي، أنّ أسباب الإلحاد لدى المبحوثين تتلخّص في أنّ المرتدّين قد تركوا الدين بعد أن أدركوا أنّه "من المستحيل الاقتناع بأنّ المعتقدات الدينية صحيحة". ومن ثمّ، يتعارض الإيمان بالدين مع المنطق والعقل. وقد أعلن هؤلاء أنّ المفاهيم الدينية، وكذلك علاقاتهم بأسرهم وأصدقائهم، ليست عندهم أهمّ من الحرية والأمانة والصدق مع النفس.([18])
هـ - أسباب عضوية
ذهبت العديد من الدراسات الحديثة([19]) إلى أنّ أصحاب التوحّد الوظيفي يكونون أكثر ميلًا للإلحاد بأشكاله، وأنّ الإلحاد يكون أكثر شيوعًا بين مَن يقومون بأعمال تتطلّب ملكات تنظيمية ذكورية، ولكن هذا لا يعني أنّ الإلحاد يقف وراء التوحّد، ولا أنّ المتوحدّين لا يمكن أن يؤمنوا.([20])
و- أسباب شخصيّة اجتماعية
اعتقد والتر كوفمان (1921- 1980م) في كتابه (نقد الدين والفلسفة) أنّ الإلحاد قد يكون نتيجة احتجاج غير المتأقلمين مع مجتمعاتهم، أو نتيجة الرغبة في صدم مشاعر الآخرين، أو إيذائهم، أو الظهور بمظهر النضوج والاستنارة والتعقيد الفكري والأمانة.([21])
ز- أسباب اجتماعية ثقافية
تأثّر كاي نيلسن (1925 ـ ) في مطلع حياته بآراء شوبنهور ونيتشه وأفلاطون وأرسطو وتوماس الأكويني، وحين ازدادت شكوكه الدينية، نبذ الإيمان بوجود الله. كذلك فقد تأثّر بعدد من الفلاسفة المتشكّكين والملحدين أمثال جورج سنتيانا وسبينوزا وجون ديوي وكارل ماركس، كما تركت الفلسفة التحليلية المعاصرة بصماتها الواضحة على تفكيره، كما تأثّر تأثّرًا كبيرًا بالوضعية المنطقية. وذهب إلى أنّ استمرار العقيدة الدينية في النظم الاجتماعية المعاصرة القائمة في المجتمعات الصناعية لدليل على انتفاء العقلانية والكفاية الأخلاقية من هذه النظم الاجتماعية. ويتمسك بقوله: أنّه من غير المعقول أن يؤمن إنسان يملك أيّة استعدادات فلسفية وعلمية أو يملك قدرة على التفكير في الأمور المُعقّدة ـ بالدّين.([22])
وفي هذا السياق الخاص بتأثير مشاهير الملحدين في الفضاء الفكري العام، ذهب رافي زكراياس إلى أنّ أبطال مجتمعنا من أساتذة الجامعات والمشاهير يفوزون بجائزة نوبل أو بأوسمة أكاديمية، ثمّ يستغلّون ذلك في شنّ هجوم عنيف على القانون الأخلاقي. فكيف يمكن لرجل الشارع أن يجابه فائزًا بجائزة نوبل أو نجمًا من نجوم هوليود؟.([23]) لذلك، فأناس مثل برتراند رسل، وجان بول سارتر، وكذلك وودي آلن كان لهم تأثير عميق على المجتمع بمحّاجتهم ضدّ وجود الله واستهزائهم بأحكامه. وقد يظنّ المرء أنّ عمالقة الفكر أمثال هؤلاء كانوا سيخرجون بحجّة جذابة تؤيّد فلسفتهم الأخلاقية، إلا أنّها لم تظهر حتى الآن.
ولكن يمكننا القول: لم تكن حجج المفكرين هي المصدر الوحيد لما أتى على المجتمع من تأثير سلبي، ولكن المؤثّر الأقوى كان أسلوب حياتهم، وحياة قادة التيارات الفكرية الذي أضفى مزيدًا من القبول على فكرة القيم الشخصية، أعني اختلاف القيم من فرد لآخر.. وقد تطرّقنا لذلك ـ وإنْ جاء في إطار مختلف قليلًا ـ في مقال سابق؛ حيث أشرنا إلى وجود علاقة وطيدة بين البرامج الحوارية المرئية لمشاهير المجتمع، وبثّ القيم داخل المجتمع،([24]) وبمعنى أوضح، أفاد المقال أنّ البرامج الحوارية المرئية أحد الأدوات الناجعة في بث القيم بين أفراد المجتمع، من خلال حياة المشاهير، باعتبارهم قدوة لشريحة واسعة من أفراده.
ولنا أن نتساءل هنا: إذا كان للإلحاد أسبابه النفسية (التنشئة)، والشخصية، والاجتماعية، بالإضافة إلى أسبابه العضوية (التوحّد)، فهل يعني ذلك أنّ الإنسان مُسيّر في تبنّيه الإيمان أو الإلحاد؟!..
يّجيب بول ڤيتز عن هذا السؤال من خلال شخصية هتلر فيقول: "كان الكُره يملأ هتلر، هذا الكُره الذي وقف وراء ما أنزل بالبشرية من مصائب. وإذا كان تقصير أبيه الشديد تجاهه، والإساءة إليه كطفل، قد أسهم في نشأة هذا الكُره، حتى إنّه صار يكره نفسه، فقناعتنا أنّ هتلر <قد اختار> أن يُنمِّي ما بداخله من كُره، بدلًا من أن يعمل على كبته أو التعامل مع ما يُسبّبه له من معاناة".([25]) ومعنى ذلك، باختصار، أنّ كلّ شخص يستطيع بإرادته الحُرّة واختياره أن يتوجّه إلى الإله، أو أن يبتعد عنه، أو أن يقف ضدّه..
إنّ ما نلاحظه على أسباب الإلحاد سالفة الذكر، أنّها تدور، في عمومها، في فضاء تمجيد العقل مقابل الغموض والإبهام الذي يكتنف الكتاب المقدس، وأنّ البعض الآخر، من تلك الأسباب، قد جاء بسبب تأثّر بعض الملحدين بكتابات الملحدين الآخرين. أو بسبب ظروف نفسية تربويّة (كالتقصير الأبوي)؛ أو شخصية (كالبؤس والإحباط الاجتماعي)؛ أو قد تكون عضوية.
ثالثًا: آراء الملحدين الغربيين المعاصرين في علاقة الأخلاق بالدين
ذهب جورا الهندي (1902- 1975م) في كتابه "الإلحاد الإيجابي" إلى أنّ الإلحاد هو الطريقة الآمنة والمستقرّة لمُحاربة المظالم واستئصال العوز والفقر. كما رأى أنّ التقدّم الثابت يمكن أن يتحقّق لو أنّ المجتمع تبنىّ فكرة الإلحاد تبنّيًا كاملًا. أبعد من ذلك، إذ اعتقد أنّ الإلحاد الصريح ضرورة لبناء الإنسان الأخلاقي صحيحًا ومكتملًا.. وأنّ الوضوح والصراحة يقضيان على المواقف الطائفية، ومن ثمّ، فهما لا يسمحان بممارسة الظلم والعنف.([26])
أيضًا، حلّل جون ل ماكاي (1917- 1981م) طبيعة الأخلاق، وقسّمها إلى أربعة أنواع متباينة؛ الأخلاق الدينية، الناهضة على فكرة الثواب والعقاب. والأخلاق العقلانية الكانطية أو الحدسية. والأخلاق السليمة موضوعيًّا، وأنّ الله هو الذي خلقها ودعم وجودها. والنوع الرابع يصفه بأنه ذاتي أو طبيعي، وهو يدين به، ويرى أنّه ما دام لها مثل هذا المصدر المستقلّ عن الدين فإنّه من المؤكد أنّ الأخلاق سوف تبقى وتستمرّ حتى إذا أصاب الدين التفكّك والاضمحلال.. ولأجل ذلك، ذهب إلى أنّ المسح الإحصائي نفسه يعجز عن أن يبيّن أنّ إيمان الإنسان بالدين أو ابتعاده عنه من شأنه أن يشجّع على الفضيلة أو الرذيلة.([27])
كذلك، تنبّأ جواتشيم كاهل (1941 ـ )، كملحد ماركسي تقليدي، باندثار الدين عندما يُرفع الظلم عن البشر وترتفع العدالة بينهم. والغريب في تفكيره، أنّه تنبّأ أيضًا باندثار الإلحاد من العالم؛ لأنّه عندما يختفي الدين من سطح الأرض لن تكون هناك حاجة إلى الإلحاد، وعندئذٍ سوف تمرّ الإنسانية بفترة يسود فيها المذهب الإنساني الذي يتجاوز حدود الإيمان بوجود الله، ويتجاوز أيضًا حدود الإلحاد.([28])
إضافةً لما سبق، يرفض كاي نيلسن، الاعتقاد بأنّ الأخلاق لا يمكن أن تقوم لها قائمة بدون الإيمان بوجود الله؛ إذ هناك أغراض في حياة البشر، وهناك أشياء نحرص عليها في حالة خُلُوّ العالم من وجود الله.. كما أنّ الصداقة والتضامن والحبّ وتحقيق المرء لاحترام الذات ـ أشياء إنسانية صالحة حتى في عالم يخلو تمامًا من وجود الله.([29])
وفي سياق مناهض، ذهب مالكوم مجريدج، إلى أنّ فلاسفتنا، مهما كان حُسْن نيّتهم، قتلوا الأخلاق في محاولتهم أن ينفخوا فيها نسمة حياة بالانفصال عن الله.([30])
ولنا أن نقول ما يلي: ليس كلّ الملحدين لا أخلاقيين، ولكن الأخلاق باعتبارها الصلاح لا يمكن تبريرها بالمقتضيات الإلحادية. فيمكن أن يكون للملحد عقلية أخلاقية، ولكن، كلّ ما في الأمر، أنّه بالصدفة يعيش حياة أفضل من عقيدته بشأن الطبيعة البشرية وما تستلزمه. فقد تكون عنده قيم أخلاقية شخصية، ولكن يستحيل أن يكون لديه أيّ شعور بالإلزام أو الالتزام الأخلاقي العام؛ لأنّ الواجب الأخلاقي لا يمكن أن يعمل منطقيًّا في غياب القانون الأخلاقي، وليس من قانون أخلاقي في عالم لا أخلاقي.
المبحث الثالث: موقف الفكر العربي من الإلحاد الغربي المعاصر ـ رمسيس عوض نموذجًا
يؤمن الدكتور رمسيس عوض، أنّ الإلحاد ظاهرة إنسانية، شأنه في ذلك شأن الإيمان، ومن ثمّ، يجب دراسته بموضوعية وحيدة بعيدًا عن الانفعال والتشنّج.. وإذا كنّا نريد أن نفهم العالم الذي نعيش فيه، فإنّ إغماض العين عن هذه الظاهرة لا يعني عدم وجودها.
ويستشهد بأنّ الإنسانية قد جرّبت فيما مضى قتل وإحراق المهرطقين والخارجين على الأعراف الدينية، ثمّ اكتشفت عدم جدوى العنف والاضطهاد وممارسة القمع. ولذلك، يؤكّد أنّ أحد أوجه الاستفادة البشرية من دروس الماضي، هو إدراك أنّ أسلوب الإقناع والجدال بالحسنى هو أفضل وسيلة للتفاهم المتحضّر بين البشر.
وقد وضع رمسيس عوض كتابًا بعنوان "الإلحاد في الغرب"، سعى من خلاله إلى تتبّع هذه الظاهرة منذ عصر الإغريق حتى القرن التاسع عشر، واستكمله بكتابه الثاني "ملحدون محدثون ومعاصرون"، والذي واصل من خلاله معالجة الإلحاد منذ نهاية القرن التاسع عشر حتى يومنا الراهن ـ بحدّ قوله.
إنّ ما دفع رمسيس عوض إلى تأليف هذين الكتابين، هو اقتناعه ـ حسب تعبيره ـ الراسخ بأنّ الإيمان الحقّ يقتضي منّا الاقتناع عن إهدار دمّ كلّ مَن يُخالفنا في الرأي، وأن نتعلّم كيفية التعايش مع الأفكار المرفوضة والمقيتة دون أن يُفقدنا ذلك الوثوق بأنفسنا، وهو وثوق ينبغي أن ينهض على أساس العلم بما يدور حولنا، وليس على أساس الجهل به.([31])
وفي لفتة ذكية منه، ذهب رمسيس عوض إلى أنّنا إذا كنّا في عالمنا العربي نعاني من الإرهاب الفكري والديني، وندفع ثمنه غاليًا؛ فهذا يرجع إلى أنّنا لم نتعلّم بعد أدب الحوار، ونفضّل عليه البلطجة الفكرية والفيزيقية.
واختتم موقفه من الإلحاد قائلًا: إنّ الإلحاد ليس الكلمة الأخيرة، ويمكن للمؤمن الذكي أن يستوعب مجادلاته ويتمثّلها قبل أن يتصدى لدحضه أو تفنيده.
الخاتمـــة
- الإلحاد في الفكر الغربي يعني: نفي الله. وذلك خلافًا لدلالته في اللغة العربية، والتي تعني انحرف أو حاد عن. ومن هنا، فليس ثمّة تطابق دقيق بين دلالة اللفظ عربيًا وغربيًا.
- اصطلاحًا، يختلف معنى الإلحاد باختلاف تصوّرات الناس واعتقاداتهم، فإذا كان المذهب مُخالفًا لاعتقاداتهم عدّوه إلحادًا، وإذا كان مُوافقًا لهم عدُّوه دينًا وإيمانًا.
- يتضمّن معنى الإلحاد حسب الدلالة الغربية عدة مقاصد، هي: هناك أولًا التمييز بين الإلحاد العملي، والإلحاد النظريّ. الأول هو موقف مَن يتصرّف كما لو لم هناك إله؛ أمّا الإلحاد النظري فهو نوعان: المُطلق، وينقسم بدوره إلى سلبي وإيجابي. وهناك الإلحاد النظري النسبي الذي لا يُقرّ بوجود الله، ولكنّه يُقررّ بوجود أمور إلهية.
- إنّ لفظ الإلحاد، تاريخيًّا، لا يحمل معنى محدود ثابت لاختلاف مفهومه باختلاف الزمان والمكان، ولاختلاف حال العلماء من الجُهّال.
- أحسن تحديد للفظ الإلحاد، إطلاقه على المذهب الذي يُنكر وجود الله، لا على المذاهب التي تُنكر بعض صفات الله، أو تُخالف مُعتقدًا دينيًّا أو رأيًا اجتماعيًّا مُقرّرًا.
- من أشكال الإلحاد الغربي المعاصر: التحليل النفسي الفرويدي، والوضعية المنطقية عند كارناب، ومدرسة فيينا بعامة؛ إذ ترى الأخيرة أنّ كلمة "الله" هي مجموع الحروف، ويُقرّرون أنّ قولنا "الله موجود" يُساوي تمامًا قولنا "الله غير موجود".
- أسباب الإلحاد في الفكر الغربي المعاصر، تدور في عمومها، في فضاء تمجيد العقل مقابل الغموض والإبهام الذي يكتنف الكتاب المقدس، وأنّ بعضها جاء بسبب تأثّر بعض الملحدين بكتابات الملحدين الآخرين. أو بسبب ظروف نفسية تربويّة (كالتقصير الأبوي)؛ أو شخصية (كالبؤس والإحباط الاجتماعي)؛ أو عضوية.
- إنّ أسباب الإلحاد، كما مرّ بنا، ليست أسبابًا موضوعية (علمية أو منطقية) في معظم الأحيان، لكنّها أسباب ذاتية (نفسية ـ شخصية ـ اجتماعية) في المقام الأوّل، ومهما قدّم الملحدون من أسباب علمية ومنطقية لإلحادهم، ستبقى تلك الأسباب قناعًا تختفي وراءه دوافعهم الذاتية الواعية وغير الواعية.
- برغم تصدّر العوامل الذاتية لقبول أو رفض الإيمان، والتي توحي بالحتميّة، إلا أنّ الإنسان يتمتّع بالإرادة الحرة، والقدرة على الاختيار في أن يصير مؤمنًا أو ملحدًا.
- إنّ الأبّ الحقيقي للإلحاد الغربي المعاصر هو الفكر المادي، الذي أعاد إحياء الفلسفة الوضعية المنطقية بعد موتها ـ تلك الفلسفة التي تتطلّب لكلّ مسألة برهانًا تجريبيًّا أو رياضيًّا أو منطقيًّا مباشرًا، فكان من الطبيعي أن ترفض تلك الفلسفة جميع العلوم الإنسانية أو الدينية التي لا تقوم على هذه البراهين.
- يرى الملحدون أنّ الإلحاد هو الطريقة الآمنة لمُحاربة المظالم واستئصال العوز. وأنّه ضرورة لاكتمال البناء الأخلاقي للإنسان.. أيضًا، فإنّ الصداقة والتضامن والحبّ وتحقيق المرء لاحترام الذات ـ أشياء إنسانية صالحة حتى في عالم يخلو تمامًا من وجود الله.. كذلك، ما دامت الأخلاق لها مثل هذا المصدر المستقلّ عن الدين، فإنّه من المؤكد أنّها سوف تبقى وتستمرّ حتى إذا أصاب الدين التفكّك والاضمحلال.. ولكنّنا نرى أنّ الواجب الأخلاقي لا يمكن أن يعمل منطقيًّا في غياب القانون الأخلاقي، وليس من قانون أخلاقي في عالم لا أخلاقي.
- جاء الموقف العربي من الإلحاد الغربي المعاصر، مُتمثّلًا في رأي الدكتور رمسيس عوض ـ موضوعيًّا؛ لفهم العالم الذي نعيش فيه، دونما إجحاف، أو إرهاب فكري، مؤكّدًا على أهمية الاستفادة من الماضي، وتبنِّي أسلوب الجدال والإقناع بالحُسْنى، كي نستوعب مجادلاته ونتمثّلها قبل أن نتصدى لدحضه أو تفنيده.
منتهى القول: وبعد أن تمثّلنا مجادلات الإلحاد، ينبغي التعامل مع الشكوك التي تعمل في نفوس البعض بالحوار اللين، لا بالزجر والتأنيب والإقصاء، ولأجل ذلك، ينبغي أن تمتدّ جذور الحوار إلى سائر أطياف المجتمع، إذ الآراء الصحيحة الصريحة الحرة وحدها القادرة على دحض حجج الإلحاد..
كما نؤكد على ضرورة التزام الدعاة الإلمام بالخطوط العريضة للفلسفات المادية وكيفية تفنيدها ودحضها، إلى جانب الإلمام بالمفاهيم العلمية وكيفية استنباط أدلة الألوهية منها، وهي ـ ما نعتقدها نقلة فكرية مرجوّة، ومن أهمّ جوانب تجديد الفكر الديني والأخلاقي التي ندعو إليها..
أخيرًا، ربّما حان الوقت لنوجّه سؤالًا للمجادلين والمُتشكّكين: إنّ الديانات الإبراهيمية لا تُحقّق من رغبات الإنسان ـ كما يدّعي الملحدون ـ إلاّ "وعدًا بالخلود"، في مقابل التضحية بالرغبات والمتع الحالية "المضمونة"، كما أنّ "الخلود" ليس مضمونًا أن يكون في النعيم، بل ربّما يكون في الجحيم، فكيف يخلق الإنسان إلهًا، أو يضع دينًا يقف حجر عثرة في، بل سدًّا منيعًا أمام تحقيق رغباته ومتعه الراهنة المضمونة؟!..
[1] ) ابن منظور، لسان العرب، دار المعارف، القاهرة، د.ت، المجلد الخامس، باب اللام، فصل الحاء والداء.
[2] ) إسماعيل بن حماد الجوهري، الصحاح، تاج اللغة وصحاح العربية، تحقيق/ أحمد عبد الغفور عطّار، دار العلم للملايين، بيروت، ط2، 1979م، ج2، باب الدال، فصل اللام.
[3] ) ابن منظور، المجلد الخامس، باب اللام، فصل الحاء والداء، مرجع سابق.
[4] ) ابن منظور، مرجع سابق.
[5] ) عبد الرحمن بدوي، موسوعة الفلسفة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 1984م، ج1، ص219.
[6] ) دليل أكسفورد للفلسفة، تحرير/ تد هوندرتش، ت/ نجيب الحصادي، منشورات المكتب الوطني للبحث والتطوير، طرابلس، ليبيا، ط1، 2005م، ج1، ص90. انظر كذلك: أندريه لالاند، موسوعة لالاند الفلسفية، تعريب/ خليل أحمد خليل، منشورات عويدات، بيروت، باريس، ط2، 2001م، المجلد الأول، ص107- 108.
[7] ) جميل صليبا، المعجم الفلسفي، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1982م، ج1، ص119.
[8] ) المرجع السابق، ص120.
[9] ) عبد الرحمن بدوي، مرجع سابق، ص219.
[10] ) أندريه لالاند، مرجع سابق، ص108.
[11] ) عبد المنعم الحفني، موسوعة الفلسفة والفلاسفة، مكتبة مدبولي، القاهرة، ط2، 1999م، ج1، ص182.
[12] ) عبد الرحمن بدوي، مرجع سابق، ص221.
* ) رمسيس عوض (1929- 2018م): أحد أهم المفكرين المصريين، قدّم للمكتبة العربية أكثر من ثمانين كتابًا، في مختلف نواحي الأدب، بخلاف المقالات، وحصل على العديد من الجوائز، أهمها وسام الاستحقاق من الطبقة الأولى في عيد العلم عام 1996م.
[13] ) رمسيس عوض، ملحدون محدثون ومعاصرون، دار سينا للنشر، ومؤسسة الانتشار العربي، لندن، بيروت، القاهرة، ط1، 1998م، ص77.
[14] ) عمرو شريف، الإلحاد مشكلة نفسية ـ علم نفس الإلحاد، نيو بوك للنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 2016م، ص192- 193.
[15] ) عمرو شريف، المرجع السابق، ص125 وما بعدها.
[16] ) رمسيس عوض، مرجع سابق، ص85؛ ص80؛ ص96 على التوالي.
[17] ) جامعتي Maniloba & Wilfried Caurier
[18] ) عمرو شريف، مرجع سابق، ص393 وما بعدها.
[19] ) من بين هذه الدراسات ما يلي:
- Q. Deeley, "Cognitive style, spirituality and Religious Understanding: The case of Autism", Journal of Religious, Disability and Health 13 (2009): 77- 82.
- Caldwell- Harriset al. "Religious Belief Systems", 2012, p.3362.
- Norenzayan er al., Mentalising deficits constrain belief in a Personal god, Plos one7, no5 (2012).
[20] ) عمرو شريف، مرجع سابق، ص211.
[21] ) رمسيس عوض، مرجع سابق، ص89.
[22] ) رمسيس عوض، المرجع السابق، ص99- 100.
[23] ) رافي زكراياس، الوجه الحقيقي للإلحاد، ت/ ماريانا كتكوت، رؤية للطباعة، القاهرة، 2014م، ص65.
[24] ) محمد عرفات حجازي، البرامج الحوارية وبثّ القيم، مقال منشور على موقع المثقف www.almothaqaf.com بتاريخ 13/ 9/ 2018م.
[25] ) عمرو شريف، مرجع سابق، ص214.
[26] ) رمسيس عوض، مرجع سابق، ص79.
[27] ) رمسيس عوض، المرجع السابق، ص83.
[28] ) رمسيس عوض، المرجع السابق، ص98.
[29] ) المرجع نفسه، ص102.
[30] ) رافي زكراياس، مرجع سابق، ص67.
[31] ) رمسيس عوض، مرجع سابق، المقدمة.