بالأمس القريب، كان الخدم يصعدون بالأطباق النحاسية المحملة بالأكباش المشوية و المحمرة إلى الوزير ” المقري”، و من بعد إلى الأمراء و الأميرات، قبل أن تصبح دار ” المقري ” مسماة ( بالشفيرة ) عند الشرطة المركزية السرية ” ب. ف. 2 “.
لم نر النور ليل نهار، لأن أعيننا كانت معصوبة بعصابات سوداء. كنا ممتدين جنبا إلى جنب، كل واحد على غطائه المفروش فوق الإسمنت، ونشيد الطيور في الطبيعة و طقطقات خافتة للصحون المعدنية التي كنا نشرب فيها الحساء…
كل هذه الأصوات التي كانت تبدو آتية من بعيد، كانت تؤذن بقرب وصول الجلادين و أصوات الحرس التي أصبحت معروفة لدينا مع مرور الزمن، كانت تأمر بتناول الفطور، فيستوي من كان قادرا على الإستواء، في صليل من القيود والسلاسل، لأن الأيدي كانت مغلولة.. ثم تمسك يد بالكتف، تارة بلطف و أخرى بعنف، لتنبه إلى وجود الصحن عند القدمين.. و الكثير كان يزدرد الحساء ليقضي على ذوق الصابون الذي أشرب له بالأمس.. و البعض منا لم تكن له شهية الأكل لأسباب ليس من الصعب تصورها، و آخرون كانت أذرعهم مشلولة، لأنهم بقوا معلقين ساعات… و لعدة أيام على التوالي، حتى أن الحراس هم الذين يطعمونهم بأنفسهم.
أما الذين سمعوا أو حتى عاشوا تجربة المناضلين الذين سبق لهم أن نزلوا ضيوفا في هذه القاعة، من الطابق الأول من دار المقري، الواقعة في مزرعة على بعد 9 تسعة كلم من الرباط في طريق “زعير”، قد فرضوا على أنفسهم إمساكا مطولا عن الطعام، آملين أن يغمى عليهم خلال التعذيب، و لو أن هذا الإغماء غالبا ما كان يتعذر بالرغم من قساوة التعذيب.
يرن الجرس الكهربائي، وتهتز معه قلوبنا و أمعاؤنا و كل أعصابنا.. بنفس السرعة.. لقد وصلوا، فلم يبق أي وقت للتفكير، و يحدث الفراغ في رؤوسنا و العدم في نفوسنا، كأننا من عالم آخر… و في كل صباح كنا نتساءل بمنتهى الفزع: لمن تقرع “الأجراس”؟
لمن تقرع الأجراس؟
لم يكن لدينا في مواجهة هذا الموت البطيء، الذي كان يرفض بكل خبث وتعنت أن يصل إلى نهايته، إلا عقيدتنا الثورية وعزيمتنا و إيماننا الراسخ بالشعب و الجماهير.. و كان المرء يتمنى بدافع من غزيرة البقاء، التي يمليها علينا الجسد أكثر من العقل، أن يقرع الجرس لغيره.
“انهض يا فلان” يقولها بعض الحراس بنغمة من الأسى أحيانا، وغالبا بنغمة التشفي والتهكم.. ثم يدير المفتاح في القفل الذي يثبت السلسلة في أحد قضبان النافذة. ثم صليل الحديد الرهيب يبتعد شيئا فشيئا مع خطوات المعذب المكبل الرجلين، حتى يتلاشى في الدروج الملتوية المؤدية إلى القبو. ثم يرن الجرس مرة ثانية.. و ثالثة.. مرات متكررة.. حتى تبقى القاعة نصف فارغة.
وها خليط من الأصوات يندلع كالرعد من كل جانب، طرقات حادة تحدثها الهراوات عندما تنزل بكل ما لدى الجلادين من قوة على أخماص الأقدام.. و صيحات طويلة و صرخات و أنين و حشرجات و آهات و جعجعات… تقسم يمينا أنها منبعثة من حنجرة جمل يمر عليها السكين.
أما الذين لم يقرع الجرس بالنسبة إليهم بعد، فقد كانوا يتكبدون نفسيا عذاب رفاقهم و لو كانوا يخبئون رؤوسهم تحت الملاءات. غير أن دورهم لا يفتأ أن يصل، حيث كانت القضية دائما تنحصر في بعض الدقائق…
المجزرة المعتمة:
والقبو كان معملا حقيقيا للتعذيب، يشتغل فيه الجلادون بتسلسل، كل واحد حسب اختصاصاته. و كانت بسقف القبو حلقات مثبتة تتدلى منها حبال التعذيب.. اليدان و الرجلان موثقة وراء الظهر، معلقة بالحبل المدلى من الحلقة، والوجه متجه نحو الأرض. عشرون أنسانا كانوا يتركون في هذا الوصع لمدة ساعات متتالية كأكباش مهيأة للسلخ.
وبعد أقل من خمس دقائق من بداية التعذيب كان أنين التعذيب يبدأ بالتصاعد، لأن المرء كان يشعر أن ذراعيه تنفصلان عن جسده، و أن خناجر تطعنه وتمزق لحمه.. و عندما لا تبقى أي حلقة شاغرة للتعليق، يمدد المعذبون على مقاعد طويلة و يلفون بالحبال، كي تثبت أجسادهم عليها بإحكام.. وبعدما يقيد: المعصمان، والرسغان، والذراعان يعتنقان الركبيتن المثنيتين، يدخل قضيب حديدي بين انثناء الذراعين و الإبطين، و بعدما يرفع القضيب و يوضع على كرسيين أو على أي شيء يمكنه أن يحدث فراغ متر أو أكثر من العلو، يجد المعذب نفسه معلقا في الهواء، منثنيا على نفسه، و ذقنه على ركبتيه، و قدماه متجهتان نحو السقف، و رأسه على الأرض..
وحينما يحتل كل واحد مكانه، يشرع في التعذيب ب: الماء والخرقة ” الجفاف”، والصابون، والكهرباء، والضرب على أخماص الأقدام، و كان الضرب والجلد هو التعذيب المفضل لدى الجلادين الذين كانوا يجدون فيه نشوة هستيرية..
وذات صباح كان أحد الرفاق في قاعة الطابق الأرضي، التي تنفذ إليها جميع الأصوات المنبعثة من القبو، قد بدا في عد الضربات بالهراوة، والصرخات التي كانت تصحب كل ضربة يتلقاها أحد إخوانه، كان يعرف صوته جيدا، فوصل إلى عدد 375، قبل أن تغرورق عيناه بالدموع… فاستمرت الضربات طويلا بعد ذلك، لكن الصراخ انقطع..
وبعد الجلد يأتي التبريد والخنق بالماء، فيرتفع المقعد الطويل من جهة القدمين، لكي يصبح رأس و صدر المعذب المربوط على المقعد، منغمسين كليا في جفنة ماء، يبقى الرأس غارقا في الماء الذي يبدأ مستواه في الانخفاض بعد 30 ثانية أو أقل.. و حينما يشرب المعذب كمية لا بأس بها من: ماء، و كريزيل، و بول رجال الشرطة، وقيء من سبقوه إلى الجفنة، يعيد الجلادون المقعد إلى وضعه الأول، لكي يصبح الرأس في الهواء الطلق.. ولكن ما يفتأ المعذب أن يشهق حتى ينغمس رأسه في الجفنة من جديد، وبمجرد ما يستنفذ القليل من الهواء الذي تمكن من استنشاقه، سرعان ما يعود إلى الاحتفال بصبره وعناده و روح تضحيته بشرب الكوكتيل تلو الكوكتيل حتى الانهيار التام، ثم يعود المقعد إلى وضعه الأول، فتزعزعه يدان قويتان، ليتقيأ المعذب ما ابتلعه من ماء ممزوج بالقاذورات، ثم الضرب على الأقدام، ثم الكهرباء في الأذن و أصابع القدم و الجهاز التناسلي…ثم جفنة الماء من جديد، و أحيانا الجفنة والكهرباء في آن واحد، ثم الجلد من جديد وهكذا دواليك…
الخلود في الجحيم:
أما الدرجة الثانية فهي التعليق على قضيب الحديد، وكان أثره المباشر هو شل الذراعين والرجلين، ثم بطبيعة الحال الضرب على أخمص القدمين و الفخذين، ثم الكهرباء الذي يصعق جسم المعذب، الذي يهتز بقوة حتى يسقط على الرأس، لأن قضيب الحديد لم يثبت بإحكام على قاعدتيه..
ولكن أقسى ما في العملية هو الخنق بالخرقة والصابون، بحيث يوضع “الجفاف” على فم وأنف المعذب، الذي يكاد يلفظ نفسه الأخير، قبل أن تكف اليد الآثمة عن ضغطها لتترك شيئا من الهواء يتسرب من بين خيوط الجفاف.. لكن بمجرد ما يبدأ المعذب بالرجوع إلى الحياة ـ الموت ـ تفرغ اليد الآثمة الماء من زجاجة على الجفاف، وتحك الصابون الذي كانت قد ذرته عليه، ليعطي رغوته الكثيفة، والمعذب آنذاك يبدأ في ابتلاع رغوة “التيد” بعد استنشاق الهواء.. وحينما يحلو للجلادين أن يرفعوا الخرقة، فكأنهم فتحوا زجاجة الشمبانيا لتخرج رغوة الصابون كأنها حمم بيضاء لبركان ثائر، لأن المجال الحيوي للمعدة و الأمعاء والرئتين الملتهبتين أضيق بكثير من أن تسع كل هذه الرغوة المتكاثفة.
وإن الوطنيين والتقدميين والثوريين سيذهبون دوما روادا للفضاء، على متن سفينة ” أبولو ” التي صنعتها لهم أيها الملك العصري، الذي يشجع العلوم و الآداب و الفنون.. و أقول ” أبولو ” لأن هذا هو الاسم الذي أطلقه جلادوك على الدرجة الثالثة، و الأكثر همجية من كل عمليات التعذيب السابقة، حيث يبقى المعذب معلقا لمدة ساعات من ذراعيه و رجليه بواسطة حبل، كأنه كبش مذبوح ينتظر السلخ، وكأن ملايين السكاكين كانت تنغرز في لحمنا و تقطعه إربا إربا، وكل خلية من خلايا أجسادنا، وكل ليفة من ألياف عضلاتنا كانت تتمزق تحت وطأة عذاب لا يعرف حدا، وغالبا ما كان الضرب في ” أبولو” تعذيبا مضادا، لأنه كان يحول آلام كل الجسم إلى الأقدام وحدها، لكن الجلادين تفننوا في هذه العملية، لدرجة أنهم كانوا يشرحون أخمص الأقدام المنتفخة بشفرات الحلاقة، ويذرون الملح في الأخاديد المنهمرة بالدم، ويروونها بالكحول، و بعد هذه المجزرة البربرية.. كانوا يستأنفون ضربهم و جلدهم على هذا اللحم البشري الملتهب نارا و المسحوق سحقا.. و كان الدم يتناثر تحت صدمة الهراوة الصاعقة على وجه الجلادين، الشيء الذي كان يضاعف من شراستهم و هياجهم، و كانوا يضيفون على المعلق الذي قد يبدو لهم (صلب الرأس)، كرة حديدية يزيد وزنها على 20 كغ، و كرسيا يجعل الذراعين يشكلان زاوية قائمة مع الظهر.. و كانت الدقيقة الواحدة من التعليق في ” أبولو” تبدو لنا خلودا في الجحيم…
وكانت تصل بهم وحشيتهم حتى إلى جر تلك الأجساد المنهارة المتألمة، من الأرجل للصعود بها، ورؤوسها تصطدم بكل درج.. و عندما يتكدس المعذبون من جديد في الصالون، و لم يصل إليه أي ضجيج من الخارج إلا نقيق الضفادع، كنا ننسى معه أنين يوم آخر من عذابنا..
و في كل مساء يأتي ”الدكتور”، الذي هو في الحقيقة ممرض ضابط شرطة يحمل اسم “الحسوني”… والذي كان يتبجح بأنه ساهم مساهمة فعالة في اختطاف واغتيال المهدي بنبركة، لمعالجة المعذبين، لتهيئتهم للعمليات التي كانت تنتظرهم في الغد.. و غالبا ما كان الدواء أكثر ألما من الداء، إذ كانت الأقدام المنتفخة و المتقطرة بالدم، تغمس في أوان من الماء الساخن، تشعر به كأنه حامض الكبريت، والأفخاذ تغرز بإبر ”البينيسيلين”، وضد ”الطيطانوس” و ضد التعفن…
أما الظهر و البطن و الصدر وأجزاء أخرى من الجسم الموشومة بالسياط، والمكوية بجمرة السجائر و السيكار، فكان علاجها الوحيد هو الكحول، الذي يحدث فيها التهابا إضافيا.
أما الممرض البيطري، فحينما كان ينهي دورته كان يعلن لنا بنغمة متواضعة خبيثة، قبل أن ينسحب إلى قاعة، أخرى: ” هذا ما بوسعي أن أفعله لمعالجتكم، أما غدا في الصباح الباكر إن شاء ألله فستعالجون بأكثر فعالية “.
وبالفعل كان نشيد البلابل يعلن دائما وأبدا بدون انقطاع، يوم تعذيب آخر.. و كنا نسمع نفس الصرخات و نفس الأنين و نفس الخليط من الأصوات، و ذلك لمدة شهور متتالية، لدرجة أننا كنا نسمع يوم الأحد ـ الذي كان يوم راحة بالنسبة إلينا كذلك ـ أبناء الحراس القاطنين بجوار بناية ”دار المقري” في مزرعة الليمون، يلعبون لعبة التعذيب و يقلدون استنطاقات رجال البحث، و صرخات مختلفة للمعذبين.. لكن غالبا ما كنا نسمعهم في نفس الوقت يتشاجرون للتسابق على تمثيل دور المناضل المعذب..
أعدها للنشر: يوسف الطاهري
صحح بعض الأخطاء المعجمية، مع إضافة علامات ترقيم: مصطفى بوهو
http://www.achpress.com/?p=85088&fbclid=IwAR1QjgozDBuwtxNTbPm1i_Ek7ZISPxhqj42j9k80v_Cr0eHzR0T3sK-ue78
لم نر النور ليل نهار، لأن أعيننا كانت معصوبة بعصابات سوداء. كنا ممتدين جنبا إلى جنب، كل واحد على غطائه المفروش فوق الإسمنت، ونشيد الطيور في الطبيعة و طقطقات خافتة للصحون المعدنية التي كنا نشرب فيها الحساء…
كل هذه الأصوات التي كانت تبدو آتية من بعيد، كانت تؤذن بقرب وصول الجلادين و أصوات الحرس التي أصبحت معروفة لدينا مع مرور الزمن، كانت تأمر بتناول الفطور، فيستوي من كان قادرا على الإستواء، في صليل من القيود والسلاسل، لأن الأيدي كانت مغلولة.. ثم تمسك يد بالكتف، تارة بلطف و أخرى بعنف، لتنبه إلى وجود الصحن عند القدمين.. و الكثير كان يزدرد الحساء ليقضي على ذوق الصابون الذي أشرب له بالأمس.. و البعض منا لم تكن له شهية الأكل لأسباب ليس من الصعب تصورها، و آخرون كانت أذرعهم مشلولة، لأنهم بقوا معلقين ساعات… و لعدة أيام على التوالي، حتى أن الحراس هم الذين يطعمونهم بأنفسهم.
أما الذين سمعوا أو حتى عاشوا تجربة المناضلين الذين سبق لهم أن نزلوا ضيوفا في هذه القاعة، من الطابق الأول من دار المقري، الواقعة في مزرعة على بعد 9 تسعة كلم من الرباط في طريق “زعير”، قد فرضوا على أنفسهم إمساكا مطولا عن الطعام، آملين أن يغمى عليهم خلال التعذيب، و لو أن هذا الإغماء غالبا ما كان يتعذر بالرغم من قساوة التعذيب.
يرن الجرس الكهربائي، وتهتز معه قلوبنا و أمعاؤنا و كل أعصابنا.. بنفس السرعة.. لقد وصلوا، فلم يبق أي وقت للتفكير، و يحدث الفراغ في رؤوسنا و العدم في نفوسنا، كأننا من عالم آخر… و في كل صباح كنا نتساءل بمنتهى الفزع: لمن تقرع “الأجراس”؟
لمن تقرع الأجراس؟
لم يكن لدينا في مواجهة هذا الموت البطيء، الذي كان يرفض بكل خبث وتعنت أن يصل إلى نهايته، إلا عقيدتنا الثورية وعزيمتنا و إيماننا الراسخ بالشعب و الجماهير.. و كان المرء يتمنى بدافع من غزيرة البقاء، التي يمليها علينا الجسد أكثر من العقل، أن يقرع الجرس لغيره.
“انهض يا فلان” يقولها بعض الحراس بنغمة من الأسى أحيانا، وغالبا بنغمة التشفي والتهكم.. ثم يدير المفتاح في القفل الذي يثبت السلسلة في أحد قضبان النافذة. ثم صليل الحديد الرهيب يبتعد شيئا فشيئا مع خطوات المعذب المكبل الرجلين، حتى يتلاشى في الدروج الملتوية المؤدية إلى القبو. ثم يرن الجرس مرة ثانية.. و ثالثة.. مرات متكررة.. حتى تبقى القاعة نصف فارغة.
وها خليط من الأصوات يندلع كالرعد من كل جانب، طرقات حادة تحدثها الهراوات عندما تنزل بكل ما لدى الجلادين من قوة على أخماص الأقدام.. و صيحات طويلة و صرخات و أنين و حشرجات و آهات و جعجعات… تقسم يمينا أنها منبعثة من حنجرة جمل يمر عليها السكين.
أما الذين لم يقرع الجرس بالنسبة إليهم بعد، فقد كانوا يتكبدون نفسيا عذاب رفاقهم و لو كانوا يخبئون رؤوسهم تحت الملاءات. غير أن دورهم لا يفتأ أن يصل، حيث كانت القضية دائما تنحصر في بعض الدقائق…
المجزرة المعتمة:
والقبو كان معملا حقيقيا للتعذيب، يشتغل فيه الجلادون بتسلسل، كل واحد حسب اختصاصاته. و كانت بسقف القبو حلقات مثبتة تتدلى منها حبال التعذيب.. اليدان و الرجلان موثقة وراء الظهر، معلقة بالحبل المدلى من الحلقة، والوجه متجه نحو الأرض. عشرون أنسانا كانوا يتركون في هذا الوصع لمدة ساعات متتالية كأكباش مهيأة للسلخ.
وبعد أقل من خمس دقائق من بداية التعذيب كان أنين التعذيب يبدأ بالتصاعد، لأن المرء كان يشعر أن ذراعيه تنفصلان عن جسده، و أن خناجر تطعنه وتمزق لحمه.. و عندما لا تبقى أي حلقة شاغرة للتعليق، يمدد المعذبون على مقاعد طويلة و يلفون بالحبال، كي تثبت أجسادهم عليها بإحكام.. وبعدما يقيد: المعصمان، والرسغان، والذراعان يعتنقان الركبيتن المثنيتين، يدخل قضيب حديدي بين انثناء الذراعين و الإبطين، و بعدما يرفع القضيب و يوضع على كرسيين أو على أي شيء يمكنه أن يحدث فراغ متر أو أكثر من العلو، يجد المعذب نفسه معلقا في الهواء، منثنيا على نفسه، و ذقنه على ركبتيه، و قدماه متجهتان نحو السقف، و رأسه على الأرض..
وحينما يحتل كل واحد مكانه، يشرع في التعذيب ب: الماء والخرقة ” الجفاف”، والصابون، والكهرباء، والضرب على أخماص الأقدام، و كان الضرب والجلد هو التعذيب المفضل لدى الجلادين الذين كانوا يجدون فيه نشوة هستيرية..
وذات صباح كان أحد الرفاق في قاعة الطابق الأرضي، التي تنفذ إليها جميع الأصوات المنبعثة من القبو، قد بدا في عد الضربات بالهراوة، والصرخات التي كانت تصحب كل ضربة يتلقاها أحد إخوانه، كان يعرف صوته جيدا، فوصل إلى عدد 375، قبل أن تغرورق عيناه بالدموع… فاستمرت الضربات طويلا بعد ذلك، لكن الصراخ انقطع..
وبعد الجلد يأتي التبريد والخنق بالماء، فيرتفع المقعد الطويل من جهة القدمين، لكي يصبح رأس و صدر المعذب المربوط على المقعد، منغمسين كليا في جفنة ماء، يبقى الرأس غارقا في الماء الذي يبدأ مستواه في الانخفاض بعد 30 ثانية أو أقل.. و حينما يشرب المعذب كمية لا بأس بها من: ماء، و كريزيل، و بول رجال الشرطة، وقيء من سبقوه إلى الجفنة، يعيد الجلادون المقعد إلى وضعه الأول، لكي يصبح الرأس في الهواء الطلق.. ولكن ما يفتأ المعذب أن يشهق حتى ينغمس رأسه في الجفنة من جديد، وبمجرد ما يستنفذ القليل من الهواء الذي تمكن من استنشاقه، سرعان ما يعود إلى الاحتفال بصبره وعناده و روح تضحيته بشرب الكوكتيل تلو الكوكتيل حتى الانهيار التام، ثم يعود المقعد إلى وضعه الأول، فتزعزعه يدان قويتان، ليتقيأ المعذب ما ابتلعه من ماء ممزوج بالقاذورات، ثم الضرب على الأقدام، ثم الكهرباء في الأذن و أصابع القدم و الجهاز التناسلي…ثم جفنة الماء من جديد، و أحيانا الجفنة والكهرباء في آن واحد، ثم الجلد من جديد وهكذا دواليك…
الخلود في الجحيم:
أما الدرجة الثانية فهي التعليق على قضيب الحديد، وكان أثره المباشر هو شل الذراعين والرجلين، ثم بطبيعة الحال الضرب على أخمص القدمين و الفخذين، ثم الكهرباء الذي يصعق جسم المعذب، الذي يهتز بقوة حتى يسقط على الرأس، لأن قضيب الحديد لم يثبت بإحكام على قاعدتيه..
ولكن أقسى ما في العملية هو الخنق بالخرقة والصابون، بحيث يوضع “الجفاف” على فم وأنف المعذب، الذي يكاد يلفظ نفسه الأخير، قبل أن تكف اليد الآثمة عن ضغطها لتترك شيئا من الهواء يتسرب من بين خيوط الجفاف.. لكن بمجرد ما يبدأ المعذب بالرجوع إلى الحياة ـ الموت ـ تفرغ اليد الآثمة الماء من زجاجة على الجفاف، وتحك الصابون الذي كانت قد ذرته عليه، ليعطي رغوته الكثيفة، والمعذب آنذاك يبدأ في ابتلاع رغوة “التيد” بعد استنشاق الهواء.. وحينما يحلو للجلادين أن يرفعوا الخرقة، فكأنهم فتحوا زجاجة الشمبانيا لتخرج رغوة الصابون كأنها حمم بيضاء لبركان ثائر، لأن المجال الحيوي للمعدة و الأمعاء والرئتين الملتهبتين أضيق بكثير من أن تسع كل هذه الرغوة المتكاثفة.
وإن الوطنيين والتقدميين والثوريين سيذهبون دوما روادا للفضاء، على متن سفينة ” أبولو ” التي صنعتها لهم أيها الملك العصري، الذي يشجع العلوم و الآداب و الفنون.. و أقول ” أبولو ” لأن هذا هو الاسم الذي أطلقه جلادوك على الدرجة الثالثة، و الأكثر همجية من كل عمليات التعذيب السابقة، حيث يبقى المعذب معلقا لمدة ساعات من ذراعيه و رجليه بواسطة حبل، كأنه كبش مذبوح ينتظر السلخ، وكأن ملايين السكاكين كانت تنغرز في لحمنا و تقطعه إربا إربا، وكل خلية من خلايا أجسادنا، وكل ليفة من ألياف عضلاتنا كانت تتمزق تحت وطأة عذاب لا يعرف حدا، وغالبا ما كان الضرب في ” أبولو” تعذيبا مضادا، لأنه كان يحول آلام كل الجسم إلى الأقدام وحدها، لكن الجلادين تفننوا في هذه العملية، لدرجة أنهم كانوا يشرحون أخمص الأقدام المنتفخة بشفرات الحلاقة، ويذرون الملح في الأخاديد المنهمرة بالدم، ويروونها بالكحول، و بعد هذه المجزرة البربرية.. كانوا يستأنفون ضربهم و جلدهم على هذا اللحم البشري الملتهب نارا و المسحوق سحقا.. و كان الدم يتناثر تحت صدمة الهراوة الصاعقة على وجه الجلادين، الشيء الذي كان يضاعف من شراستهم و هياجهم، و كانوا يضيفون على المعلق الذي قد يبدو لهم (صلب الرأس)، كرة حديدية يزيد وزنها على 20 كغ، و كرسيا يجعل الذراعين يشكلان زاوية قائمة مع الظهر.. و كانت الدقيقة الواحدة من التعليق في ” أبولو” تبدو لنا خلودا في الجحيم…
وكانت تصل بهم وحشيتهم حتى إلى جر تلك الأجساد المنهارة المتألمة، من الأرجل للصعود بها، ورؤوسها تصطدم بكل درج.. و عندما يتكدس المعذبون من جديد في الصالون، و لم يصل إليه أي ضجيج من الخارج إلا نقيق الضفادع، كنا ننسى معه أنين يوم آخر من عذابنا..
و في كل مساء يأتي ”الدكتور”، الذي هو في الحقيقة ممرض ضابط شرطة يحمل اسم “الحسوني”… والذي كان يتبجح بأنه ساهم مساهمة فعالة في اختطاف واغتيال المهدي بنبركة، لمعالجة المعذبين، لتهيئتهم للعمليات التي كانت تنتظرهم في الغد.. و غالبا ما كان الدواء أكثر ألما من الداء، إذ كانت الأقدام المنتفخة و المتقطرة بالدم، تغمس في أوان من الماء الساخن، تشعر به كأنه حامض الكبريت، والأفخاذ تغرز بإبر ”البينيسيلين”، وضد ”الطيطانوس” و ضد التعفن…
أما الظهر و البطن و الصدر وأجزاء أخرى من الجسم الموشومة بالسياط، والمكوية بجمرة السجائر و السيكار، فكان علاجها الوحيد هو الكحول، الذي يحدث فيها التهابا إضافيا.
أما الممرض البيطري، فحينما كان ينهي دورته كان يعلن لنا بنغمة متواضعة خبيثة، قبل أن ينسحب إلى قاعة، أخرى: ” هذا ما بوسعي أن أفعله لمعالجتكم، أما غدا في الصباح الباكر إن شاء ألله فستعالجون بأكثر فعالية “.
وبالفعل كان نشيد البلابل يعلن دائما وأبدا بدون انقطاع، يوم تعذيب آخر.. و كنا نسمع نفس الصرخات و نفس الأنين و نفس الخليط من الأصوات، و ذلك لمدة شهور متتالية، لدرجة أننا كنا نسمع يوم الأحد ـ الذي كان يوم راحة بالنسبة إلينا كذلك ـ أبناء الحراس القاطنين بجوار بناية ”دار المقري” في مزرعة الليمون، يلعبون لعبة التعذيب و يقلدون استنطاقات رجال البحث، و صرخات مختلفة للمعذبين.. لكن غالبا ما كنا نسمعهم في نفس الوقت يتشاجرون للتسابق على تمثيل دور المناضل المعذب..
أعدها للنشر: يوسف الطاهري
صحح بعض الأخطاء المعجمية، مع إضافة علامات ترقيم: مصطفى بوهو
http://www.achpress.com/?p=85088&fbclid=IwAR1QjgozDBuwtxNTbPm1i_Ek7ZISPxhqj42j9k80v_Cr0eHzR0T3sK-ue78