أجلسُ في خلوة مع نفسي، أراجع ما جمعته من متاع الحياة إلى الآن، أطمئن على الدروس التي درّستني إيّاها مدرسة الدُنيا وعلى شظايا الظروف التي علّمت على جبيني وعلى آثار التجارب التي رسمت في لوحة شخصيتي. ألامس وجهي وأتبع ملامحه على أمل أن توصلني إلى المكان الذي كُنت قد تركت فيه عيناي وفمي، أراقب أنفاسي إن ما زالت تركض بعشوائية المراهق كما قبل، أم صارت متريثة هادئة عميقة تحترم مسافة الطلوع والنزول.
أجلس تائهة في هذا العالم الذي تزداد غرابته يومًا بعد يوم، وتتعرى عيوبه وتسقط أقنعته وتتلاطم دوّاماته. لا أجد لنفسي مكانًا مناسبًا أستقرّ فيه بين انحطاط العلاقات الاجتماعية، وانعكاس الأدوار البيولوجية، واختلال الوظائف الفطرية. لذلك أحاول السير محافظةً على توازني فوق حبل متلاشٍ تكاد تضمحلّ عقدته. لا أحمل معي سوى إيمان في داخلي وشيء من المعتقدات التي أعكز بها حين تشتدّ عليّ قوة الرياح المضادة. لا أجرؤ حتى على النظر إلى ما حولي أو تحتي لأنّي أخشى فقدان التوازن والسقوط في القعر، ذلك القعر المكتظ والمُخيف والمظلم، أخشى الاختناق فيه والموتَ قبل موتي.
بعد أن استوعبت أنّ مشاكل العالم أكبر بكثير من حجم قدرتي، وأنّ تغيير الناس للأفضل ليست مهمّتي وأنّ الحكم عليهم واتهامهم ليس من حدّي، استغليتُ جهديَ العشريني في التركيز على ذاتي وفهم دوافع داخلي. كانت رحلةً مليئة بالمدّ والجزر، لم أفوّت لنفسي موقفًا إلا وحلّلته وحفرت في جذوره ووزنته على إيقاع عقلي كي أفهم لماذا وكيف ومنذ متى. كنتُ أقضي ليال وأيام مُطالبة بالشرح ومصرّة على المنطق. أُعادي نفسي وأغضب منها عندما لا تُقدّم لي التحليل والتفسير الذي يُوازن المعادلة. كنت أتسلّط عليها وأتعملقُ، لم أكن أدرك أن أول خطوة للفهم هي إزالة العوائق التي تحول دون الفهم، وكنتُ أنا أول العوائق وأهمّها، فهمتُ حديثًا أنّ اللافهم في حد ذاته هو الفهم الأنضج والأبقى.
كم نحن مساكين في اعتقادنا أنّنا نستطيع الغطس في أعماق باطننا وفهم تداعياته النفسية والفكرية والسلوكية. نبحث عن مفاتيح لأبواب عنيدة بالفطرة، في صحراء عريضة من الإبهام والشكّ والتناقض واللامعنى. نحاول فهم عالمنا الداخلي المجرّد والمتفرّد والحرّ بطرق عقلية وعلمية محدودة. ينقضي العمر ونحن نحاول سُدًى، نرهق أنفسنا عبثًا، نفشل في احترام خصوصية كياننا الباطني وتفرّده وتجرّده. نركض وراء العقل الذي لا يُشبع جشعَه سوى البرهنة والتحليل والتدقيق، والذي يتهيّأ له أنه فوق كل الكيانات وسيّدها وأن طاعته وإشباع غرائزه الأنانية واجب لا يحتمل الاختيار.
فهمتُ في أواخر العقد العشريني أن أترك كيانيَ الجُواني في حاله وشأنه، وأن أحتضنه باهتزازه واضطرابه وغموضه وتضادّه وزلّاته، وأن أرحم ضعفه وقلة حيلته وقابليته للتأثر. صرتُ أدافع عنه مثل الأمّ، أخفي نواقصه خوفا من قساوة الأحكام البرانية وأبرّر عثراته الحتميّة وألملم شتاته قطعة بقطعة. تقبّلتُ طبيعته المُتقلّبة والمتغيّرة والحسّاسة ووقفتُ معه أمام كلّ الكيانات الأُخرى، استبدلتُ أولوية فهمه وتحليله بعقد اتفاقية سلام معه يقرُّ أول بند فيها بالاحترام المتبادل والتفهّم والجلوس على مائدة النقاش والمُصارحة البنّاءة.
عانقتُ بشريتي التي خُلقت عليها؛ فهمتُ معنى أن أكون إنسانًا، وتعلّمتُ ألا أستقوى على ضعفي. فهمتُ أنّي لستُ في تحدّ مع نفسي وأنّ الانهزام للنفس أحيانا يكون فوزًا عظيمًا ينتج عنه هدوء واستقرار يتغيّر مجرى الحياة بوجودهما. ابتعدتُ تدريجيا عن الرغبة في السيطرة على ذاتي وضبط كيانها واتجهتُ نحو خلق المزيد من السلام والهُدنة. صار تركيزي على ما هو أهمّ وأنفعُ للعيش البسيط مثل التعايش مع مبدأ التغيّر الدائم وتطوير جانبي المرونة والانسياب مع الأحداث والتخلّص من مشاعر الملكية والأنانية والتعلّق بالمادّة وتحرير التفكير والانفتاح على الاختلاف ومحاربة هدر الطاقة الداخلية والإخلاص لهدف نبيل وغيرها من الأولويات التي ستتفنّنُ الثلاثينات في صقلها.
بالرغم من أنّ العقود العُمرية كثيرا ما تُحصر في الأرقام ومحطات القطار الوهمي والإنجازات الظاهرة والمسافات المقطوعة والحالات الاجتماعية، إلّا أنّها فعليا أكبر من ذلك بكثير! إنّنا بارعون في تكبيل أنفسنا وتضييق مساحاتنا الإنسانية بينما خُلقنا أحرارًا بشهادة القرآن الجميل ورسائل الخالق لنا التي تشمل ما بين النعيم والذنب والتوبة والعقاب. فالشرّ خيارٌ ، والخيرُ اختيار دون إكراه وللإنسانُ واسع النظر.
أنهي مقالي هذا بتذكيرك عزيزي القارئ أنّك لستَ فقط باطنك وظاهرك، لستَ فشلك ونجاحك، لست معاصيك وصالحاتُك، لستَ جمالك وبشاعتك، لست ذكاءك وغباءك، لست أصدقاءك وأعداءك، لست مرضك وعافيتك، لستَ غناك وفقرك …لست تلك الأيام المظلمة التي مررت بها في مرحلة من المراحل، لست لحظات الغضب، والانفعال، والندم، واليأس، والإحباط، والتيه والغموض… أنت من يصنع كل هذه اللحظات والمراحل، أنت أشياء كثيرة تكوّنت في شيء واحد كان الأكثرَ جدلا! لذلك تأَنْسَنْ…أعط لنفسك المجال كي تُغامر، وتُجرب، وتُخطئ، وتتعلّم وتُجرب من جديد، قفْ وتأمّل وتساءل وتحاور مع نفسك بأدب، لا تتوقّع ولا تترقب ولا تخف، لا تخف لأنّ الحياة تبدأُ فقط عندما نتوقف عن الخوف.
أجلس تائهة في هذا العالم الذي تزداد غرابته يومًا بعد يوم، وتتعرى عيوبه وتسقط أقنعته وتتلاطم دوّاماته. لا أجد لنفسي مكانًا مناسبًا أستقرّ فيه بين انحطاط العلاقات الاجتماعية، وانعكاس الأدوار البيولوجية، واختلال الوظائف الفطرية. لذلك أحاول السير محافظةً على توازني فوق حبل متلاشٍ تكاد تضمحلّ عقدته. لا أحمل معي سوى إيمان في داخلي وشيء من المعتقدات التي أعكز بها حين تشتدّ عليّ قوة الرياح المضادة. لا أجرؤ حتى على النظر إلى ما حولي أو تحتي لأنّي أخشى فقدان التوازن والسقوط في القعر، ذلك القعر المكتظ والمُخيف والمظلم، أخشى الاختناق فيه والموتَ قبل موتي.
بعد أن استوعبت أنّ مشاكل العالم أكبر بكثير من حجم قدرتي، وأنّ تغيير الناس للأفضل ليست مهمّتي وأنّ الحكم عليهم واتهامهم ليس من حدّي، استغليتُ جهديَ العشريني في التركيز على ذاتي وفهم دوافع داخلي. كانت رحلةً مليئة بالمدّ والجزر، لم أفوّت لنفسي موقفًا إلا وحلّلته وحفرت في جذوره ووزنته على إيقاع عقلي كي أفهم لماذا وكيف ومنذ متى. كنتُ أقضي ليال وأيام مُطالبة بالشرح ومصرّة على المنطق. أُعادي نفسي وأغضب منها عندما لا تُقدّم لي التحليل والتفسير الذي يُوازن المعادلة. كنت أتسلّط عليها وأتعملقُ، لم أكن أدرك أن أول خطوة للفهم هي إزالة العوائق التي تحول دون الفهم، وكنتُ أنا أول العوائق وأهمّها، فهمتُ حديثًا أنّ اللافهم في حد ذاته هو الفهم الأنضج والأبقى.
كم نحن مساكين في اعتقادنا أنّنا نستطيع الغطس في أعماق باطننا وفهم تداعياته النفسية والفكرية والسلوكية. نبحث عن مفاتيح لأبواب عنيدة بالفطرة، في صحراء عريضة من الإبهام والشكّ والتناقض واللامعنى. نحاول فهم عالمنا الداخلي المجرّد والمتفرّد والحرّ بطرق عقلية وعلمية محدودة. ينقضي العمر ونحن نحاول سُدًى، نرهق أنفسنا عبثًا، نفشل في احترام خصوصية كياننا الباطني وتفرّده وتجرّده. نركض وراء العقل الذي لا يُشبع جشعَه سوى البرهنة والتحليل والتدقيق، والذي يتهيّأ له أنه فوق كل الكيانات وسيّدها وأن طاعته وإشباع غرائزه الأنانية واجب لا يحتمل الاختيار.
فهمتُ في أواخر العقد العشريني أن أترك كيانيَ الجُواني في حاله وشأنه، وأن أحتضنه باهتزازه واضطرابه وغموضه وتضادّه وزلّاته، وأن أرحم ضعفه وقلة حيلته وقابليته للتأثر. صرتُ أدافع عنه مثل الأمّ، أخفي نواقصه خوفا من قساوة الأحكام البرانية وأبرّر عثراته الحتميّة وألملم شتاته قطعة بقطعة. تقبّلتُ طبيعته المُتقلّبة والمتغيّرة والحسّاسة ووقفتُ معه أمام كلّ الكيانات الأُخرى، استبدلتُ أولوية فهمه وتحليله بعقد اتفاقية سلام معه يقرُّ أول بند فيها بالاحترام المتبادل والتفهّم والجلوس على مائدة النقاش والمُصارحة البنّاءة.
عانقتُ بشريتي التي خُلقت عليها؛ فهمتُ معنى أن أكون إنسانًا، وتعلّمتُ ألا أستقوى على ضعفي. فهمتُ أنّي لستُ في تحدّ مع نفسي وأنّ الانهزام للنفس أحيانا يكون فوزًا عظيمًا ينتج عنه هدوء واستقرار يتغيّر مجرى الحياة بوجودهما. ابتعدتُ تدريجيا عن الرغبة في السيطرة على ذاتي وضبط كيانها واتجهتُ نحو خلق المزيد من السلام والهُدنة. صار تركيزي على ما هو أهمّ وأنفعُ للعيش البسيط مثل التعايش مع مبدأ التغيّر الدائم وتطوير جانبي المرونة والانسياب مع الأحداث والتخلّص من مشاعر الملكية والأنانية والتعلّق بالمادّة وتحرير التفكير والانفتاح على الاختلاف ومحاربة هدر الطاقة الداخلية والإخلاص لهدف نبيل وغيرها من الأولويات التي ستتفنّنُ الثلاثينات في صقلها.
بالرغم من أنّ العقود العُمرية كثيرا ما تُحصر في الأرقام ومحطات القطار الوهمي والإنجازات الظاهرة والمسافات المقطوعة والحالات الاجتماعية، إلّا أنّها فعليا أكبر من ذلك بكثير! إنّنا بارعون في تكبيل أنفسنا وتضييق مساحاتنا الإنسانية بينما خُلقنا أحرارًا بشهادة القرآن الجميل ورسائل الخالق لنا التي تشمل ما بين النعيم والذنب والتوبة والعقاب. فالشرّ خيارٌ ، والخيرُ اختيار دون إكراه وللإنسانُ واسع النظر.
أنهي مقالي هذا بتذكيرك عزيزي القارئ أنّك لستَ فقط باطنك وظاهرك، لستَ فشلك ونجاحك، لست معاصيك وصالحاتُك، لستَ جمالك وبشاعتك، لست ذكاءك وغباءك، لست أصدقاءك وأعداءك، لست مرضك وعافيتك، لستَ غناك وفقرك …لست تلك الأيام المظلمة التي مررت بها في مرحلة من المراحل، لست لحظات الغضب، والانفعال، والندم، واليأس، والإحباط، والتيه والغموض… أنت من يصنع كل هذه اللحظات والمراحل، أنت أشياء كثيرة تكوّنت في شيء واحد كان الأكثرَ جدلا! لذلك تأَنْسَنْ…أعط لنفسك المجال كي تُغامر، وتُجرب، وتُخطئ، وتتعلّم وتُجرب من جديد، قفْ وتأمّل وتساءل وتحاور مع نفسك بأدب، لا تتوقّع ولا تترقب ولا تخف، لا تخف لأنّ الحياة تبدأُ فقط عندما نتوقف عن الخوف.