لستُ على مستوى القضية ، فالقضية أعلى منّي مستوى ..هكذا قيل لي !
لم أرقَ إلى سويّتها وسموّها ، أنا القزم في طولي وفي ارتقاء تفكيري ..
بعيدٌ أنا ـ ولا شكّ - عن عمق جذورها ، أنا السطحيّ في منظاري الضبابيّ..
أبعادُها أكبر بكثير من بُعد نظري
أفقها ليس في مجال رؤيتي المحدود
سبر أغوارها مستحيل ، بالنسبة للبسطاء أمثالي
أهمّيتها أخطر وأولى وأجلّ وأسمى من كلّ أهدافي الذاتية التافهة
انتبه لنفسك ..لا تتكلّم عن طموحاتك الذاتية الفردية ، فلا صوت يعلو فوق صوت المعركة !
ولكنْ ..عن أيّة قضيّة يتحدّثون ؟...؟
لست أدري !
والقضايا التي ينبغي النضال لأجلها صارت كثيرة ، والخلاف قائمٌ على الأولويّات فقط ، من أين نبدأ ؟..
هناك قضيّة ـ مركزيّة ـ أرضعونا إياها مع لبن الأمهات ..ولكنها اليوم صارت ثانوية ومؤجّلة ..وكأنه ينبغي التسليم بأنها ما عادت قضيتنا نحن جميعاً ، قد تكون تخصّ أبناء عمومتنا ونحن وإياهم لسنا على وفاق في هذه الأيام ..لذا دعهم يتخبّطون بقضيّتهم التي كانت مركزية .
وهناك قضية ـ محوريّة – والباقي كلّه ثانوي ومؤجّل لأنه يدور في أفلاكها ، ونحن ندور وندور ، ولكنا بعيدون عن المحور الذي لا نراه ، وقد يكون المحور خازوقاً أو إسفيناً يُدقُّ بأسفلنا ـ كما قال نزار قباني – والغاية من دوراننا تمكينه منا .
وهناك قضية ـ جوهريّة ـ واكتسبت اسمها لأنها كاللؤلؤة غائصة في الأعماق وينبغي شقّ المحارة لاستخلاصها ، وأيضاً ما عادت مهمّة لأنّ اللؤلؤ الصناعي متوفّر ورخيص ..فلم الغوص لاستحصال القضية الجوهرية ؟
والأعداء كثُر ، ولكنْ اختلفت الرّؤى فيمن يكون أشدّ عداوةً لنقتصّ منه أولاً ، ونكسر شوكته ونقطع شأفته وننتف شاربه ونقلّم أظافره وندوس على ذيله بالنعال الحافية .
القضيّة بالضبط هي تحديد رأس الحيّة لنطلق عليه سهامنا ، والحية تبدو لنا نحن قاصري البصر والبصيرة ملتفّة على شيء ما ابتلعته فلا يبين منها رأس ، وقد تكون أكثر من حية ، وقد تكون بطنها المنتفخة حُبلى بالمزيد من الحيّات البنات ، عفواً أظنها تبيض بيضاً ..حدّدوا لنا إذن موعد الفقس لنكون وإياهنّ على موعد ..أو دعونا نبقر بطنها وينتهي الأمر .
وينتهي الأمر بالانتصار الكامل الذي تنتظره أجيالنا التي لمّا تفقس بعد ، ومراسم الاحتفال معدّة مسبقاً والسجّادة الحمراء لمّا يأكلها العثّ بعد ، وأناشيد الانتصار جاهزة ، والشعراء نظموا قصائدهم في الفخر بالأبطال وصانعي المجد ، وتركوا أسماءهم كفراغاتٍ ينبغي ملؤها ، وذلك ليس بعسير .
وأناشيد التغنّي بالشهداء والضحايا جاهزة أيضاً ، وتركوا عديدهم كفراغاتٍ ينبغي ملؤها .
كلُّ شيءٍ للوطن ، كلُّ شيء للقضيّة
ليس للروح ثمن ، فهي للأرض الأبية
والإيقاع المهيب يلهب الحماسة في الصدور ..فقط دعوا البوصلة تنحرف نحو العدو ، واتركونا نصفّي حساباتنا معه ..هذه هي القضية !
وهذا الأمر كان صعبَ الفهم على البسطاء أمثالي ..لأنّ ساعة الصفر ما زالت مؤجّلة ، كالبلاغ رقم واحد الذي يذيعونه بُعيد الانتصار .
المهمّ ..هنالك قضيةٌ ما وينبغي النضال تحت رايتها ..وهناك عدوّ أشدّ عداوةً من عدو ، وعدوّ عدوّي يعتبرونه صديقي ..وهناك عدوٌّ يمكن تجنّبه ومجانبته ممكنة ، وعدوٌّ نستأخر الردّ عليه لأنّ الوقت غير مناسب ، ولم تحِنْ ساعته ..لكنّ الطبول تُقرَع ، والرايات مرفوعة وخفّاقة والفائدة منها حالياً معرفة اتجاه الريح فقط ..لذا صارت الأعلام الوطنية تستعمل لنشرة الأحوال الجويّة فقط .
أنا مجرّد حمل من القطيع والذئاب محيطة بنا تسايرنا ، فإلى من نوجّه قروننا ألا أيها الراعي ، كفاك عقد صفقات مع الذئاب فهي لن تقتات بالأعشاب ..والحدود الوهمية التي اتفقتم عليها يتمّ تعديلها بين الفينة والأخرى ، والكلب الذي انتدبته حارساً يأكل اللحم مثلهم وقد يميل لبقايا وجباتهم ..حذار أيها الخرفان من الكلب الحارس ، فقد يكون حاميها حراميها !
ما أنا إلا نقطة في بحور الجماهير الهادرة ..ريشة في مهب الريح ، والريح ضيّعتني بهبوبها العشوائي ..فعزفت عن الرّكب الضائع ، وحوّلتُ ريشتي الطائرة إلى ريشة كاتب تبلّ رمقها بالمداد وتكتب على أوراقٍ لا معنى لها .
أنا واحدٌ من ملايين النطاف المحتقنة في الخصى المنتفخة ، وتنتظر الهدف لتنقذف إليه ، دفقات من جحافل منويّة ترغي وتزبد في صمت الزوايا المظلمة ..لأنها بلا هدف ..فتختلط النطاف التي ستصبح بشراً مع البول الوبيل إلى روث المجاري الحتمية .
دع الأمر للفرسان النبلاء ..قالوا لي ..فالفارس المستوي على سرجه يرى ما لا يراه المشاة محدودبو الظهور ..وكفاك تشاؤماً !
لذلك تركتُ الأمرَ لذوي الأمر ..وتعلّقت بركاب الخيل تجرجرني ..وفي فترة استراحتها أجزّ لها الكلأ ممّا تيسّر ..وألمّع حوافرها ..وأنكش ما بين أسنانها ..وأمشط أذيالها ..وأطرد الذباب الطنّان من حول أذنيها ..
عسى أن تكون الخيول أقوى شكيمة في المعمعة
عسى أن يرضى عنّي الفرسان الشجعان
فيغضّون الطرف ..وينسونني في خضمّ مطالباتهم
بأن أذودَ أكثر ..وأعطي ..وأضحّي
وأبعد مسافة التقطيب ما بين حاجبيّ الكثيفين ...فتبدو عيوني ضاحكة
وأصابعي أقل تشنّجاً ..
وأنفي أقلّ أنفة ..ورقبتي أقلّ انتصاباً
طلباتهم ليست كثيرة..لا تطالني وحدي ..إنها موضوعة في لوحة الإعلانات ومجلة الحائط ..إنها المواصفات القياسية المطلوبة لتكون راضياً مرضياً .
استبدل نظارتك بواحدة أخرى تصغّر ولا تكبّر ..فالتصغير يجعلك ترى بعيداً ، والتكبير يعني (الله أكبر).. ولا يكون التكبير بزرع العدسات المكبِّر !
قوّم اعوجاج أسنانك عند طبيب الأسنان ..حتى لا تعضّ لسانك إن تكزّزت وتضزّزت.. أسنانك ملتوية كالخناجر العربية القديمة ..إما أن تغمدها تحت شفتيك .. أو تبردها حتى لا تبدو كالأنياب ..أو تقلعها وتزرع طقم أسنان كامل مثل رفاقك .. فتبدو الابتسامة موحّدة ومنتظمة الأسنان وانسيابية .. هكذا تبدو أليفاً ولطيفاً ..والخناجر العربية المطعوجة صارت وسيلة للزينة فقط .
اثقب غشاء الطبل في أذنيك ..فضّ بكارتهما طوعاً ..فلا تزعجك الأصوات العالية .. إنّ شعارَنا المطروح (افتح أذنيك )..ليس المقصود به أن تسمع أكثر ..بل أن تنكحهما .. والأذن المنكوحة تمرّر كلَّ الذبذبات المتذبذبة ولا تفهمها ..كأذن الكلب تسمع كل الذبذبات ولا تفقه منها شيئاً ..فينبح الكلب لأنه لم يفهم ماذا يقولون ، وكلماتهم المكرّرة عصيّة على فهمنا .
شُدَّ على بطنك حجراً ..هكذا قاوم أجدادك الجوع من قبلك ..
فالحجر يحميك من الطعنات كالدّرع ..وأي رمح سيخترق حجراً ؟
والحجر أيضاً ..يجعلك ثقيل الوزن فلا تقلبك الريح .. ويصبح مركز ثقلك أمامياً .. فتجري وراء مركز ثقلك ..أي تصبح تقدّمياً وليس رجعياً.. والثقل يسحبك إلى الأمام في منحدراتك الإنحدارية ..إلى أدنى إلى أدنى ..
وإن حاولت السباحة ..سيغوص بك الثقل فوراً إلى القاع ..حيث اللآلئ والمرجان .. نخبّئها لك في الأعماق ..انزل إلى القيعان ..إسبر الأغوار .. إغرَق أكثر وأكثر .. أغرِق في إغراقاتك ..ابحث عن جوهر القضية في العمق ..اغطس بدون لباس الغطس وبدون أوكسجين ..ستغرق نعم .. وبسرعة أيضاً نعم ..لن تحسّ بالألم ..إنها لحظة اختناق ..لن يطفو لك جسد لأنّ حجرك ثقيل وحملك أثقل ..وروحك مجرد فقاقيع ستطفو وتنفقئ على صفحة المياه ، وكأنها لم تكن ..تلك هي الحقيقة .
الحقيقة أنك لا شيء ..كسمكة في البحر وما أكثر السمك ..كالسمكة لا صوت لك ولو تخبّطت كثيراً في الماء ..ولو حاولت أن تكون قرشاً أو حوتاً فلك نفس النهاية
فالقضية عميقة ..والجرح غائر ..أعمق من سطحيتك
والبحث عنها يتطلب تحليلاً وتمحيصاً وتدقيقاً ..واجتماعاتٍ أخرى هم يقومون بها نيابة عنك .. ولجاناً للتخطيط رئيسيّة ..وأخرى فرعيّة تنبثق عنها في مؤتمرات شعبية دورية ..ومنطلقات نظرية وأهداف غيبية – ولا أقصد غبية - مستمدّة من جوهر القضية.
والنقاشات محتدمة لا دخل لك بها الآن ..والحوار مفتوحٌ ولو كان بلا جدول أعمال .. المهم أن نجلس على مائدتنا بلا شروط مسبقة ..ونتحاور ..لأن القضية تُحلّ بالحوار السهل الصامت بين القويّ والضعيف وبين الآمر والمأمور ..والحلّ الوسط ميّال زئبقياً عكسك ..المهم أن توافق وتنتهي القضية ..ومحضر الجلسة السابقة يؤيّد وجهة نظرنا بأنّ القضية كانت عميقة والبحث عن كنهها متاهة.. فأصبحت سطحية ومكشوفة وعرَضية كأحد المسلّمات التي ينبغي التسليم بها .
قيل لي على سبيل النصيحة :
كفاك جنوناً وتخبّطاً في البحث والتمحيص.. ليس هناك من قضية .
ألا تفهم ؟؟ ..ليس هناك من قضية !
يبدو أنك لا تفهم ولن تفهم ، لأنّ الأمر كبيرٌ عليك يا صغير ..وهذا هو جوهر القضية.
**************************
لم أرقَ إلى سويّتها وسموّها ، أنا القزم في طولي وفي ارتقاء تفكيري ..
بعيدٌ أنا ـ ولا شكّ - عن عمق جذورها ، أنا السطحيّ في منظاري الضبابيّ..
أبعادُها أكبر بكثير من بُعد نظري
أفقها ليس في مجال رؤيتي المحدود
سبر أغوارها مستحيل ، بالنسبة للبسطاء أمثالي
أهمّيتها أخطر وأولى وأجلّ وأسمى من كلّ أهدافي الذاتية التافهة
انتبه لنفسك ..لا تتكلّم عن طموحاتك الذاتية الفردية ، فلا صوت يعلو فوق صوت المعركة !
ولكنْ ..عن أيّة قضيّة يتحدّثون ؟...؟
لست أدري !
والقضايا التي ينبغي النضال لأجلها صارت كثيرة ، والخلاف قائمٌ على الأولويّات فقط ، من أين نبدأ ؟..
هناك قضيّة ـ مركزيّة ـ أرضعونا إياها مع لبن الأمهات ..ولكنها اليوم صارت ثانوية ومؤجّلة ..وكأنه ينبغي التسليم بأنها ما عادت قضيتنا نحن جميعاً ، قد تكون تخصّ أبناء عمومتنا ونحن وإياهم لسنا على وفاق في هذه الأيام ..لذا دعهم يتخبّطون بقضيّتهم التي كانت مركزية .
وهناك قضية ـ محوريّة – والباقي كلّه ثانوي ومؤجّل لأنه يدور في أفلاكها ، ونحن ندور وندور ، ولكنا بعيدون عن المحور الذي لا نراه ، وقد يكون المحور خازوقاً أو إسفيناً يُدقُّ بأسفلنا ـ كما قال نزار قباني – والغاية من دوراننا تمكينه منا .
وهناك قضية ـ جوهريّة ـ واكتسبت اسمها لأنها كاللؤلؤة غائصة في الأعماق وينبغي شقّ المحارة لاستخلاصها ، وأيضاً ما عادت مهمّة لأنّ اللؤلؤ الصناعي متوفّر ورخيص ..فلم الغوص لاستحصال القضية الجوهرية ؟
والأعداء كثُر ، ولكنْ اختلفت الرّؤى فيمن يكون أشدّ عداوةً لنقتصّ منه أولاً ، ونكسر شوكته ونقطع شأفته وننتف شاربه ونقلّم أظافره وندوس على ذيله بالنعال الحافية .
القضيّة بالضبط هي تحديد رأس الحيّة لنطلق عليه سهامنا ، والحية تبدو لنا نحن قاصري البصر والبصيرة ملتفّة على شيء ما ابتلعته فلا يبين منها رأس ، وقد تكون أكثر من حية ، وقد تكون بطنها المنتفخة حُبلى بالمزيد من الحيّات البنات ، عفواً أظنها تبيض بيضاً ..حدّدوا لنا إذن موعد الفقس لنكون وإياهنّ على موعد ..أو دعونا نبقر بطنها وينتهي الأمر .
وينتهي الأمر بالانتصار الكامل الذي تنتظره أجيالنا التي لمّا تفقس بعد ، ومراسم الاحتفال معدّة مسبقاً والسجّادة الحمراء لمّا يأكلها العثّ بعد ، وأناشيد الانتصار جاهزة ، والشعراء نظموا قصائدهم في الفخر بالأبطال وصانعي المجد ، وتركوا أسماءهم كفراغاتٍ ينبغي ملؤها ، وذلك ليس بعسير .
وأناشيد التغنّي بالشهداء والضحايا جاهزة أيضاً ، وتركوا عديدهم كفراغاتٍ ينبغي ملؤها .
كلُّ شيءٍ للوطن ، كلُّ شيء للقضيّة
ليس للروح ثمن ، فهي للأرض الأبية
والإيقاع المهيب يلهب الحماسة في الصدور ..فقط دعوا البوصلة تنحرف نحو العدو ، واتركونا نصفّي حساباتنا معه ..هذه هي القضية !
وهذا الأمر كان صعبَ الفهم على البسطاء أمثالي ..لأنّ ساعة الصفر ما زالت مؤجّلة ، كالبلاغ رقم واحد الذي يذيعونه بُعيد الانتصار .
المهمّ ..هنالك قضيةٌ ما وينبغي النضال تحت رايتها ..وهناك عدوّ أشدّ عداوةً من عدو ، وعدوّ عدوّي يعتبرونه صديقي ..وهناك عدوٌّ يمكن تجنّبه ومجانبته ممكنة ، وعدوٌّ نستأخر الردّ عليه لأنّ الوقت غير مناسب ، ولم تحِنْ ساعته ..لكنّ الطبول تُقرَع ، والرايات مرفوعة وخفّاقة والفائدة منها حالياً معرفة اتجاه الريح فقط ..لذا صارت الأعلام الوطنية تستعمل لنشرة الأحوال الجويّة فقط .
أنا مجرّد حمل من القطيع والذئاب محيطة بنا تسايرنا ، فإلى من نوجّه قروننا ألا أيها الراعي ، كفاك عقد صفقات مع الذئاب فهي لن تقتات بالأعشاب ..والحدود الوهمية التي اتفقتم عليها يتمّ تعديلها بين الفينة والأخرى ، والكلب الذي انتدبته حارساً يأكل اللحم مثلهم وقد يميل لبقايا وجباتهم ..حذار أيها الخرفان من الكلب الحارس ، فقد يكون حاميها حراميها !
ما أنا إلا نقطة في بحور الجماهير الهادرة ..ريشة في مهب الريح ، والريح ضيّعتني بهبوبها العشوائي ..فعزفت عن الرّكب الضائع ، وحوّلتُ ريشتي الطائرة إلى ريشة كاتب تبلّ رمقها بالمداد وتكتب على أوراقٍ لا معنى لها .
أنا واحدٌ من ملايين النطاف المحتقنة في الخصى المنتفخة ، وتنتظر الهدف لتنقذف إليه ، دفقات من جحافل منويّة ترغي وتزبد في صمت الزوايا المظلمة ..لأنها بلا هدف ..فتختلط النطاف التي ستصبح بشراً مع البول الوبيل إلى روث المجاري الحتمية .
دع الأمر للفرسان النبلاء ..قالوا لي ..فالفارس المستوي على سرجه يرى ما لا يراه المشاة محدودبو الظهور ..وكفاك تشاؤماً !
لذلك تركتُ الأمرَ لذوي الأمر ..وتعلّقت بركاب الخيل تجرجرني ..وفي فترة استراحتها أجزّ لها الكلأ ممّا تيسّر ..وألمّع حوافرها ..وأنكش ما بين أسنانها ..وأمشط أذيالها ..وأطرد الذباب الطنّان من حول أذنيها ..
عسى أن تكون الخيول أقوى شكيمة في المعمعة
عسى أن يرضى عنّي الفرسان الشجعان
فيغضّون الطرف ..وينسونني في خضمّ مطالباتهم
بأن أذودَ أكثر ..وأعطي ..وأضحّي
وأبعد مسافة التقطيب ما بين حاجبيّ الكثيفين ...فتبدو عيوني ضاحكة
وأصابعي أقل تشنّجاً ..
وأنفي أقلّ أنفة ..ورقبتي أقلّ انتصاباً
طلباتهم ليست كثيرة..لا تطالني وحدي ..إنها موضوعة في لوحة الإعلانات ومجلة الحائط ..إنها المواصفات القياسية المطلوبة لتكون راضياً مرضياً .
استبدل نظارتك بواحدة أخرى تصغّر ولا تكبّر ..فالتصغير يجعلك ترى بعيداً ، والتكبير يعني (الله أكبر).. ولا يكون التكبير بزرع العدسات المكبِّر !
قوّم اعوجاج أسنانك عند طبيب الأسنان ..حتى لا تعضّ لسانك إن تكزّزت وتضزّزت.. أسنانك ملتوية كالخناجر العربية القديمة ..إما أن تغمدها تحت شفتيك .. أو تبردها حتى لا تبدو كالأنياب ..أو تقلعها وتزرع طقم أسنان كامل مثل رفاقك .. فتبدو الابتسامة موحّدة ومنتظمة الأسنان وانسيابية .. هكذا تبدو أليفاً ولطيفاً ..والخناجر العربية المطعوجة صارت وسيلة للزينة فقط .
اثقب غشاء الطبل في أذنيك ..فضّ بكارتهما طوعاً ..فلا تزعجك الأصوات العالية .. إنّ شعارَنا المطروح (افتح أذنيك )..ليس المقصود به أن تسمع أكثر ..بل أن تنكحهما .. والأذن المنكوحة تمرّر كلَّ الذبذبات المتذبذبة ولا تفهمها ..كأذن الكلب تسمع كل الذبذبات ولا تفقه منها شيئاً ..فينبح الكلب لأنه لم يفهم ماذا يقولون ، وكلماتهم المكرّرة عصيّة على فهمنا .
شُدَّ على بطنك حجراً ..هكذا قاوم أجدادك الجوع من قبلك ..
فالحجر يحميك من الطعنات كالدّرع ..وأي رمح سيخترق حجراً ؟
والحجر أيضاً ..يجعلك ثقيل الوزن فلا تقلبك الريح .. ويصبح مركز ثقلك أمامياً .. فتجري وراء مركز ثقلك ..أي تصبح تقدّمياً وليس رجعياً.. والثقل يسحبك إلى الأمام في منحدراتك الإنحدارية ..إلى أدنى إلى أدنى ..
وإن حاولت السباحة ..سيغوص بك الثقل فوراً إلى القاع ..حيث اللآلئ والمرجان .. نخبّئها لك في الأعماق ..انزل إلى القيعان ..إسبر الأغوار .. إغرَق أكثر وأكثر .. أغرِق في إغراقاتك ..ابحث عن جوهر القضية في العمق ..اغطس بدون لباس الغطس وبدون أوكسجين ..ستغرق نعم .. وبسرعة أيضاً نعم ..لن تحسّ بالألم ..إنها لحظة اختناق ..لن يطفو لك جسد لأنّ حجرك ثقيل وحملك أثقل ..وروحك مجرد فقاقيع ستطفو وتنفقئ على صفحة المياه ، وكأنها لم تكن ..تلك هي الحقيقة .
الحقيقة أنك لا شيء ..كسمكة في البحر وما أكثر السمك ..كالسمكة لا صوت لك ولو تخبّطت كثيراً في الماء ..ولو حاولت أن تكون قرشاً أو حوتاً فلك نفس النهاية
فالقضية عميقة ..والجرح غائر ..أعمق من سطحيتك
والبحث عنها يتطلب تحليلاً وتمحيصاً وتدقيقاً ..واجتماعاتٍ أخرى هم يقومون بها نيابة عنك .. ولجاناً للتخطيط رئيسيّة ..وأخرى فرعيّة تنبثق عنها في مؤتمرات شعبية دورية ..ومنطلقات نظرية وأهداف غيبية – ولا أقصد غبية - مستمدّة من جوهر القضية.
والنقاشات محتدمة لا دخل لك بها الآن ..والحوار مفتوحٌ ولو كان بلا جدول أعمال .. المهم أن نجلس على مائدتنا بلا شروط مسبقة ..ونتحاور ..لأن القضية تُحلّ بالحوار السهل الصامت بين القويّ والضعيف وبين الآمر والمأمور ..والحلّ الوسط ميّال زئبقياً عكسك ..المهم أن توافق وتنتهي القضية ..ومحضر الجلسة السابقة يؤيّد وجهة نظرنا بأنّ القضية كانت عميقة والبحث عن كنهها متاهة.. فأصبحت سطحية ومكشوفة وعرَضية كأحد المسلّمات التي ينبغي التسليم بها .
قيل لي على سبيل النصيحة :
كفاك جنوناً وتخبّطاً في البحث والتمحيص.. ليس هناك من قضية .
ألا تفهم ؟؟ ..ليس هناك من قضية !
يبدو أنك لا تفهم ولن تفهم ، لأنّ الأمر كبيرٌ عليك يا صغير ..وهذا هو جوهر القضية.
**************************