لقد مرت البشرية بحقب تاريخية مختلفة لكل منها ملامحها وقسماتها، ولكن هناك خيطًا واحدًا يجمعها هو التاريخ البشري، ومن هنا فإن كل أمة من الأمم، وبخاصة الأمم العريقة لها تاريخ يشتمل على ماض انقضى وترك آثاره في حاضر تعيشه وتخطط في الوقت نفسه لمستقبل تتطلع إليه، والأمة التي ليس لها ماض يحمل بصمة خاصة بها ليس لها أيضًا حاضر متميز ولا مستقبل واضح المعالم، وتاريخ كل أمة يشتمل على مجموع تجاربها وخبراتها وانجازاتها وإحباطاتها على جميع المستويات .
ومما لا جدال فيه أن صحائف التاريخ الماضي لكل أمة ليست دائمًا ناصعة البياض ولا هي أيضًا حالكة السواد، ومن هنا تحرص الأمم الواعية على أن تستفيد من تجاربها وخبراتها السابقة، ولا تهمل تاريخها، بل تستحضره دائمًا لاستخلاص الدروس والعبر لتتفادى السلبيات، وتؤكد على الإيجابيات وتستشرف آفاق المستقبل بخطى ثابتة، ويمكن القول بأن : حضارة الأمة تتمثل في مجمل إنجازاتها على الصعيدين المادي والروحي، وقد قامت الحضارة الإسلامية منذ يومها الأول على أساس من المادة والروح، وحققت في عصر ازدهارها إنجازات رائعة استفادت منها الشعوب الأخرى وخاصة الحضارة الأوربية .
إن الماضي الحضاري للأمة هو تراثها الذي خلفه لها السابقون، وهذا التراث هو ميراث الأمة الذي لا يجوز لها أن تبدده أو تبيعه، فهي مسئولة عنه مسئولية تامة، والأمة التي تبدد مواريثها أمة لا تستحق الحياة ومصيرها النسيان تمامًا مثل أي فرد يبدد الميراث الذي ورثه عن آبائه وأجداده فيكون مصيره الخزي والعار .
والأمة العربية كما هو معلوم عنها غنية بتراثها الحافل بالإنجازات التي حققتها في جميع المجالات وكانت منفتحة في ذلك على كل الحضارات التي سبقتها والتي استفادت من إنجازاتها الحضارية .
وهذا الانفتاح الحضاري أو التعرف على ما لدى الآخرين يعد في نظر الفيلسوف / ابن رشد واجبًا شرعيًا، ويضيف إلى ذلك قوله : " ننظر في الذي قالوه من ذلك، وما الذي أثبتوه في كتبهم، فما كان منها موافقًا للحق قبلناه منه وسررنا به وشكرناهم عليه، وما كان منها غير موافق للحق نبهنا عليه وحذرنا منه " .
ومن ذلك يتضح أن التواصل الحضاري الذي سلكته الحضارة الإسلامية في السابق والذي عليها أن تسلكه في حاضرها ومستقبلها يتمثل في بعدين أساسيين، أولهما: التواصل مع التراث الحضاري للأمة بصفة خاصة، وثانيهما: التواصل مع التراث الإنساني بصفة عامة .
فالتراث الإنساني أخذ وعطاء، وهو ميراث مشترك للبشرية جمعاء، ولا توجد أمة عريقة في التاريخ إلا وقد أعطت كما أخذت من هذا التراث، و التواصل المقصود هو تواصل معرفي يقوم على الدراسة الجادة لاستخراج العناصر الدافعة إلى التقدم والبناء، وإذا كنا نؤكد على ضرورة التواصل مع التراث فإن ذلك لا يعني بأي حال من الأحوال العبودية لهذا التراث والسير على خطى السابقين بتقليد أعمى لا يميز بين الغث والثمين والجيد والرديء، وإنما التواصل الذي نعنيه هو التواصل القائم على التفكير النقدي الذي يشق الطريق أمام الأمة مزيلاً من طريقها ما في هذا التراث من ركام معطل لمسيرة التقدم، ومبقيًا فقط على العوامل والمقومات الإيجابية التي كان لها الفضل في كل ما حققته الحضارة الإسلامية الغراء من إنجازات .
إن التواصل مع التراث ليس مجرد أن نحاكي السابقين في كل أفعالهم وأقوالهم فهذا أمر لا يجوز في العقل أو الدين نظرًا لاختلاف الزمان والمكان ومتغيرات الحياة وتطورات العصر، وإنما المقصود أيضًا هو محاكاة التراث في الاتجاه لا في خطوات السير وفي المواقف لا في مادة المشكلات وأساليب حلها، وفي القيم الإيجابية التي يقاس عليها ما يصح وما لا يصح، وليس المجال الذي ندير عليه تلك القيمة المستعارة وفي كل ذلك يمكن الحديث عن التواصل بين التراث والمعاصرة، فالتراث يكون بمثابة إطار عام يقدم المبادئ، ولكنه لا يعوق الحركة أو يعطل مسيرة الأمة نحو التقدم والارتقاء .
نقول : إنه ليس من مصلحة أمة من الأمم وعلى الأخص الأمة العربية أن تضرب صفحًا عن تراثها ومواريثها الحضارية وتحدث قطيعة معها بحجة اللحاق بركب العصر، صحيح أن من حق كل أمة والأمة العربية على وجه الخصوص أن تواكب تطورات العصر ولا تتخلف عن ركب التقدم على جميع المستويات، ولكن المعاصرة لا تعني، ولا يجوز أن تعني، اتخاذ موقف عدائي من التراث، بحجة أنه ماض كانت له ظروفه التي لم تعد قائمة، كما يروج الرافضون للتراث، فمن الهم الاعتقاد بأن التراث مناقض تمامًا للمعاصرة، أو أنه يشكل قيدًا على حركة الأمة، فالحق أنه لولا التراث ما كانت المعاصرة .
إن الفهم الصحيح للمعاصرة يعني أنه امتداد زمني للتراث تستمد منه مقوماتها وترتكز عليه وتضيف إليه وتبني على قواعده الراسخة، أما المعاصرة التي تبني قواعدها على الرمال فإنه لن يكون لها ثبات ولا استقرار .
وفي عالمنا المعاصر ظهر تيار جديد لا يستطيع أحد أن يتجاهله أو يقف في طريقه (مهما كانت درجة تحفظنا عليه) هو تيار العولمة الجارف، والعولمة مثلها مثل أي ظاهرة جديدة تشتمل على إيجابيات كما تشتمل أيضًا على سلبيات، ولا شك أن من الآثار السلبية للعولمة محاولتها تذويب حضارات الأمم والشعوب المختلفة في حضارة واحدة هي حضارة الأقوى، ولكن الأقوى ليس دائمًا على صواب، وإذا كانت الأمة الإسلامية قد توقف عطاؤها وتراجعت حضاريًا في القرون الأخيرة فإن هذا التراجع ليس قدرًا محتومًا لا يمكن تغيره، وإنما هو مرحلة من مراحل تاريخ الأمة .
وإذا كانت هذه المرحلة قد طالت أكثر مما ينبغي فليس معنى ذلك أنه لا نهاية لها، فكل ما له بداية له نهاية، وفي الغد الذي نراه قريبًا بإذن الله ويراه أعداء الأمة بعيدًا سوف تكتب النهاية لهذا التراجع الحضاري بإرادة الأمة وعزيمتها وسواعد وعقول أبنائها، ومن هنا فإنه لا يجوز أن يكون هذا التراجع الحضاري المؤقت مبررًا لتخلينا عن مواريثنا الثقافية وهويتنا الحضارية،فارتباطنا بمواريثنا بمثابة ارتباط الروح بالجسد .
وعلى أمتنا أن تتبين مواطن الخلل في مسيرتها لإصلاح المسار، والعرب اليوم فى محاولتهم النهوض واللحاق بركب العصر في حاجة ماسة إلى التعرف على منجزات العصر بعيون نافذة كما فعل أسلافنا من قبل، وهذه النظرة النقدية لا يجوز أن تقتصر فقط على نقد ما لدى الآخرين، وإنما تنسحب أيضًا على تراثنا، وهذا يعني ضرورة تمكين العقل الإنساني من أداء دوره في مسيرتنا الحضارية ومراجعة تراثنا مراجعة دقيقة بهدف وصل ما انقطع بينه وبين تطورات العصر، وذلك بإزالة أسباب الجفوة المصطنعة بينهما، تلك الجفوة أو القطيعة التي يتبناها فريقان متنافران له أسبابه المختلفة تمامًا عن الفريق الآخر .
فالفريق الأول يتمسك بالتراث بإيجابياته وسلبياته ويغلق الباب تمامًا أمام أي شكل من أشكال المعاصرة ويرى أن المعاصرة ما هي إلا غطاء لمؤامرة كبرى تحاك ضد التراث ومحاولة ماكرة لمح الخصائص الحضارية للأمة الإسلامية، ومن أجل ذلك وفقًا لوجه نظر هذا الفريق : يجب التشبث بالتراث وحمايته من أخطار المعاصرة التي تشكل تهديدًا حقيقيًا للتراث .
أما الفريق الثاني فعلى الرغم من تبنيه للقطيعة بين التراث والمعاصرة فإن الأسباب التي تدفعه إلى ذلك مختلفة تمامًا عما يذهب إليه الفريق الأول، فإذا كان الفريق الأول يرفض المعاصرة لحساب التراث والحفاظ عليه، فإن الفريق الثاني على العكس من ذلك يرفض التراث لحساب المعاصرة، وينبني هذا الرفض على أساس أن التمسك بالتراث هو سبب تخلف الأمة الإسلامية، وأما المعاصرة هي طوق النجاة للأمة، وهي سبيلها الأوحد للتقدم والرقي .
ونعتقد أن كلا الفريقين قد جانبه الصواب، أو بمعنى آخر غير محق فيما ذهب إليه من تطرف ومبالغة في وجهة النظر التي يتبناها كل منهما، فالتراث ليس خيرًا كله وليس شرًا كله أيضًا، ومن أجل ذلك فإن علينا أن ننقي تراثنا من الشوائب التي تضر ولا تنفع، ولا ضرر وضرار إذا نظرنا في تراثنا نظرة نقدية تبقي على كل ما هو إيجابي في التراث، وتنفي عنه كل السلبيات، وعندئذ سوف نرى أن التراث نفسه يدعو إلى المعاصرة الإيجابية .
ومن ناحية أخرى فإن المعاصرة أيضًا وإن شئت فقل العولمة ومستجداتها ليست خيرًا كلها ولا شرًا كلها، ومن هنا فإن من واجبنا أن ننظر إليها نظرة نقدية نأخذ منها ما ينفعنا ويساعدنا في مسيرتنا الحياتية والتنموية، ومن حقنا أن نرفض ما لا يلائمنا وما نرى أنه سيعود علينا بآثار سلبية، كما سبق وأوصانا بذلك ابن رشد الذي علم العالم التفكير النقدي .
وبعد هذه النظرة النقدية في التراث من جانب وفي العولمة من جانب آخر، سنجد أن القطيعة بينهما قد سقطت وحل محلها التواصل، وأمتنا الإسلامية كم هي في حاجة ماسة إلى هذا التواصل المبني على الوضوح وعلى النظرة النقدية البناءة، ولن يجدي أمتنا أن تقف موقف الرافض لكل شيء، فقطار التطور يسير بسرعة مذهلة، ولن نستطيع أن نعزل أنفسنا بعيدًا عما يدور في عصرنا من متغيرات متلاحقة .
والله ولي التوفيق،،،
ومما لا جدال فيه أن صحائف التاريخ الماضي لكل أمة ليست دائمًا ناصعة البياض ولا هي أيضًا حالكة السواد، ومن هنا تحرص الأمم الواعية على أن تستفيد من تجاربها وخبراتها السابقة، ولا تهمل تاريخها، بل تستحضره دائمًا لاستخلاص الدروس والعبر لتتفادى السلبيات، وتؤكد على الإيجابيات وتستشرف آفاق المستقبل بخطى ثابتة، ويمكن القول بأن : حضارة الأمة تتمثل في مجمل إنجازاتها على الصعيدين المادي والروحي، وقد قامت الحضارة الإسلامية منذ يومها الأول على أساس من المادة والروح، وحققت في عصر ازدهارها إنجازات رائعة استفادت منها الشعوب الأخرى وخاصة الحضارة الأوربية .
إن الماضي الحضاري للأمة هو تراثها الذي خلفه لها السابقون، وهذا التراث هو ميراث الأمة الذي لا يجوز لها أن تبدده أو تبيعه، فهي مسئولة عنه مسئولية تامة، والأمة التي تبدد مواريثها أمة لا تستحق الحياة ومصيرها النسيان تمامًا مثل أي فرد يبدد الميراث الذي ورثه عن آبائه وأجداده فيكون مصيره الخزي والعار .
والأمة العربية كما هو معلوم عنها غنية بتراثها الحافل بالإنجازات التي حققتها في جميع المجالات وكانت منفتحة في ذلك على كل الحضارات التي سبقتها والتي استفادت من إنجازاتها الحضارية .
وهذا الانفتاح الحضاري أو التعرف على ما لدى الآخرين يعد في نظر الفيلسوف / ابن رشد واجبًا شرعيًا، ويضيف إلى ذلك قوله : " ننظر في الذي قالوه من ذلك، وما الذي أثبتوه في كتبهم، فما كان منها موافقًا للحق قبلناه منه وسررنا به وشكرناهم عليه، وما كان منها غير موافق للحق نبهنا عليه وحذرنا منه " .
ومن ذلك يتضح أن التواصل الحضاري الذي سلكته الحضارة الإسلامية في السابق والذي عليها أن تسلكه في حاضرها ومستقبلها يتمثل في بعدين أساسيين، أولهما: التواصل مع التراث الحضاري للأمة بصفة خاصة، وثانيهما: التواصل مع التراث الإنساني بصفة عامة .
فالتراث الإنساني أخذ وعطاء، وهو ميراث مشترك للبشرية جمعاء، ولا توجد أمة عريقة في التاريخ إلا وقد أعطت كما أخذت من هذا التراث، و التواصل المقصود هو تواصل معرفي يقوم على الدراسة الجادة لاستخراج العناصر الدافعة إلى التقدم والبناء، وإذا كنا نؤكد على ضرورة التواصل مع التراث فإن ذلك لا يعني بأي حال من الأحوال العبودية لهذا التراث والسير على خطى السابقين بتقليد أعمى لا يميز بين الغث والثمين والجيد والرديء، وإنما التواصل الذي نعنيه هو التواصل القائم على التفكير النقدي الذي يشق الطريق أمام الأمة مزيلاً من طريقها ما في هذا التراث من ركام معطل لمسيرة التقدم، ومبقيًا فقط على العوامل والمقومات الإيجابية التي كان لها الفضل في كل ما حققته الحضارة الإسلامية الغراء من إنجازات .
إن التواصل مع التراث ليس مجرد أن نحاكي السابقين في كل أفعالهم وأقوالهم فهذا أمر لا يجوز في العقل أو الدين نظرًا لاختلاف الزمان والمكان ومتغيرات الحياة وتطورات العصر، وإنما المقصود أيضًا هو محاكاة التراث في الاتجاه لا في خطوات السير وفي المواقف لا في مادة المشكلات وأساليب حلها، وفي القيم الإيجابية التي يقاس عليها ما يصح وما لا يصح، وليس المجال الذي ندير عليه تلك القيمة المستعارة وفي كل ذلك يمكن الحديث عن التواصل بين التراث والمعاصرة، فالتراث يكون بمثابة إطار عام يقدم المبادئ، ولكنه لا يعوق الحركة أو يعطل مسيرة الأمة نحو التقدم والارتقاء .
نقول : إنه ليس من مصلحة أمة من الأمم وعلى الأخص الأمة العربية أن تضرب صفحًا عن تراثها ومواريثها الحضارية وتحدث قطيعة معها بحجة اللحاق بركب العصر، صحيح أن من حق كل أمة والأمة العربية على وجه الخصوص أن تواكب تطورات العصر ولا تتخلف عن ركب التقدم على جميع المستويات، ولكن المعاصرة لا تعني، ولا يجوز أن تعني، اتخاذ موقف عدائي من التراث، بحجة أنه ماض كانت له ظروفه التي لم تعد قائمة، كما يروج الرافضون للتراث، فمن الهم الاعتقاد بأن التراث مناقض تمامًا للمعاصرة، أو أنه يشكل قيدًا على حركة الأمة، فالحق أنه لولا التراث ما كانت المعاصرة .
إن الفهم الصحيح للمعاصرة يعني أنه امتداد زمني للتراث تستمد منه مقوماتها وترتكز عليه وتضيف إليه وتبني على قواعده الراسخة، أما المعاصرة التي تبني قواعدها على الرمال فإنه لن يكون لها ثبات ولا استقرار .
وفي عالمنا المعاصر ظهر تيار جديد لا يستطيع أحد أن يتجاهله أو يقف في طريقه (مهما كانت درجة تحفظنا عليه) هو تيار العولمة الجارف، والعولمة مثلها مثل أي ظاهرة جديدة تشتمل على إيجابيات كما تشتمل أيضًا على سلبيات، ولا شك أن من الآثار السلبية للعولمة محاولتها تذويب حضارات الأمم والشعوب المختلفة في حضارة واحدة هي حضارة الأقوى، ولكن الأقوى ليس دائمًا على صواب، وإذا كانت الأمة الإسلامية قد توقف عطاؤها وتراجعت حضاريًا في القرون الأخيرة فإن هذا التراجع ليس قدرًا محتومًا لا يمكن تغيره، وإنما هو مرحلة من مراحل تاريخ الأمة .
وإذا كانت هذه المرحلة قد طالت أكثر مما ينبغي فليس معنى ذلك أنه لا نهاية لها، فكل ما له بداية له نهاية، وفي الغد الذي نراه قريبًا بإذن الله ويراه أعداء الأمة بعيدًا سوف تكتب النهاية لهذا التراجع الحضاري بإرادة الأمة وعزيمتها وسواعد وعقول أبنائها، ومن هنا فإنه لا يجوز أن يكون هذا التراجع الحضاري المؤقت مبررًا لتخلينا عن مواريثنا الثقافية وهويتنا الحضارية،فارتباطنا بمواريثنا بمثابة ارتباط الروح بالجسد .
وعلى أمتنا أن تتبين مواطن الخلل في مسيرتها لإصلاح المسار، والعرب اليوم فى محاولتهم النهوض واللحاق بركب العصر في حاجة ماسة إلى التعرف على منجزات العصر بعيون نافذة كما فعل أسلافنا من قبل، وهذه النظرة النقدية لا يجوز أن تقتصر فقط على نقد ما لدى الآخرين، وإنما تنسحب أيضًا على تراثنا، وهذا يعني ضرورة تمكين العقل الإنساني من أداء دوره في مسيرتنا الحضارية ومراجعة تراثنا مراجعة دقيقة بهدف وصل ما انقطع بينه وبين تطورات العصر، وذلك بإزالة أسباب الجفوة المصطنعة بينهما، تلك الجفوة أو القطيعة التي يتبناها فريقان متنافران له أسبابه المختلفة تمامًا عن الفريق الآخر .
فالفريق الأول يتمسك بالتراث بإيجابياته وسلبياته ويغلق الباب تمامًا أمام أي شكل من أشكال المعاصرة ويرى أن المعاصرة ما هي إلا غطاء لمؤامرة كبرى تحاك ضد التراث ومحاولة ماكرة لمح الخصائص الحضارية للأمة الإسلامية، ومن أجل ذلك وفقًا لوجه نظر هذا الفريق : يجب التشبث بالتراث وحمايته من أخطار المعاصرة التي تشكل تهديدًا حقيقيًا للتراث .
أما الفريق الثاني فعلى الرغم من تبنيه للقطيعة بين التراث والمعاصرة فإن الأسباب التي تدفعه إلى ذلك مختلفة تمامًا عما يذهب إليه الفريق الأول، فإذا كان الفريق الأول يرفض المعاصرة لحساب التراث والحفاظ عليه، فإن الفريق الثاني على العكس من ذلك يرفض التراث لحساب المعاصرة، وينبني هذا الرفض على أساس أن التمسك بالتراث هو سبب تخلف الأمة الإسلامية، وأما المعاصرة هي طوق النجاة للأمة، وهي سبيلها الأوحد للتقدم والرقي .
ونعتقد أن كلا الفريقين قد جانبه الصواب، أو بمعنى آخر غير محق فيما ذهب إليه من تطرف ومبالغة في وجهة النظر التي يتبناها كل منهما، فالتراث ليس خيرًا كله وليس شرًا كله أيضًا، ومن أجل ذلك فإن علينا أن ننقي تراثنا من الشوائب التي تضر ولا تنفع، ولا ضرر وضرار إذا نظرنا في تراثنا نظرة نقدية تبقي على كل ما هو إيجابي في التراث، وتنفي عنه كل السلبيات، وعندئذ سوف نرى أن التراث نفسه يدعو إلى المعاصرة الإيجابية .
ومن ناحية أخرى فإن المعاصرة أيضًا وإن شئت فقل العولمة ومستجداتها ليست خيرًا كلها ولا شرًا كلها، ومن هنا فإن من واجبنا أن ننظر إليها نظرة نقدية نأخذ منها ما ينفعنا ويساعدنا في مسيرتنا الحياتية والتنموية، ومن حقنا أن نرفض ما لا يلائمنا وما نرى أنه سيعود علينا بآثار سلبية، كما سبق وأوصانا بذلك ابن رشد الذي علم العالم التفكير النقدي .
وبعد هذه النظرة النقدية في التراث من جانب وفي العولمة من جانب آخر، سنجد أن القطيعة بينهما قد سقطت وحل محلها التواصل، وأمتنا الإسلامية كم هي في حاجة ماسة إلى هذا التواصل المبني على الوضوح وعلى النظرة النقدية البناءة، ولن يجدي أمتنا أن تقف موقف الرافض لكل شيء، فقطار التطور يسير بسرعة مذهلة، ولن نستطيع أن نعزل أنفسنا بعيدًا عما يدور في عصرنا من متغيرات متلاحقة .
والله ولي التوفيق،،،