عبد الحميد جماهري - مارس 73 -عمر دهكون ومن معه : الإعدام يوم عيد الأضحى (تابع)

دهكون يطارد عملاء الموساد، والأجواء السياسية تنبىء بالانقلابات
ظل عمر دهكون يتنقل من مكان إلى آخر، ومن مدينة إلى أخرى، ويراسل القيادة بالخارج، ويواصل تكوين الشبكات السرية، والحال أن فترة 70/69، كانت فترة رهيبة بالنسبة للمنظمة السرية، حيث أن اعتقالات مراكش في صيف 69 والتي تواصلت فيما بعد الى حدود محاكمة كل الاتحاديين المعتقلين، كانت ضربة قوية للغاية حرمت المنظمة من أطرها الوسطى وبعض قيادييها، منهم سعيد بونعيلات، الخطير الخطير سعيد، أحمد بنجلون وحسين المانوزي والحبيب الفرقاني، والبركة اليزيد وآخرون تطول بأسمائهم لائحة المعتقلين، والتي شملت 193 مناضلا اتحاديا، من المنخرطين في المنظمة أو العاطفين عليها أو الذين لاعلم لهم بوجودها أصلا.
وعلى عكس ما يمكن تصوره، فإن الشراسة التي ووجهت بها خلايا التنظيم لم تدفعه إلى لحظة كمون، كما هي الحالة دائما عندما تتصاعد درجة القمع والتنكيل أي «الانحناء إلى أن تمر العاصفة»، بل تواصل العمل وتسريب المسلحين والعناصر الجديدة التي تلقت تداريبها حديثا، بعد الاعتقالات، أما بالنسبة لعمر دهكون فقد تم اعتقال الخلايا الثلاث العاملة تحت إشرافه بالدارالبيضاء، إضافة إلى عناصر خلية سلا الأولى وتم حجز كل الأسلحة التي كانت في ملكية أفرادها والمخبأة في أماكن عديدة من مناطق المغرب.
الى جانب هذا، بدأت صفوف الحركات السياسية التقدمية الكبرى في تلك الفترة، الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وحزب التحرر والاشتراكية تعرف في أوساطها حركات انشقاقية وتمرد أجيال جديدة رأت أن لباس التنظيم «التقليدي» بدأ يضيق بها، وزادت من إحساسها بالتفرد والانفلات الرياح الشرقية الفلسطينية ورياح ماي 98 الغربية، وانفجار كتل الكبت السياسي والفكري والميتافيزيقي التي صاحبت الأفكار الثورية آنذاك، فتأسست الحركتان الماركسيتان اللينينيتان «ألف وباء»، أو حركة «إلى الأمام» وحركة «23 مارس».
في تلك الفترة أيضا كان التهيء لميلاد الكتلة الوطنية بين الاتحاد الوطني وحزب الاستقلال، بعد قرابة سبع سنوات من وحدة الخطاب واختلاف المسار بين الحزبين الوطنيين آنذاك، ولفهم الوحدة والاختلاف المؤديين الى النقاش حول كتلة 1970، لابد من استحضار التقديم الذي كتبه المرحوم عبد الرحيم بوعبيد لكتاب محمد الحبابي «شبيبتنا في أفق الثمانينات». وقد جاء فيه: «منذ عشر سنوات تم تحريف المسار الذي حاول المغرب أن يسير فيه للخروج من التبعية والتخلف ..، عشر سنوات كانت كافية تجعل المغرب أكثر البلدان أمية وتخلفا في المغرب العربي في نهاية هذا القرن».
وقد تحدث الأستاذ الجباني أيضا عن ظروف ميلاد الكتلة الوطنية والشروط المحيطة بها آنذاك، وجاء في شهادة له في يناير 2000.
«لقد أحس عبد الرحيم بوعبيد مبكرا بالخطر الذي كان يواجه المغرب في بداية السبعينات، وكان ذلك يشكل موضوع نقاش عميق بيننا، فما العمل إذن، لإيقاف ما كان يستشعره عبد الرحيم بكونه «كارثة كبيرة قادمة.»
فقد كانت لدينا بعض «العلامات التي تؤشر على احتمال وقوع كارثة غير متوقعة، وسأقدم مثالين:
بعد أن استقبل إدريس السلاوي، الذي كان مديرا عاما للديوان الملكي وفدا عسكريا يضم على الخصوص العقيد شلواطي عامل مدينة وجدة، صدم بوقاحة عناصر هذا الوفد، وقد أسر لي آنذاك قائلا: «إني جد خائف».
هذا الحادث تم قبل 9 يوليوز 1971.
نقلت لي عناصر موثوق بها مقربة من عائلة المذبوح، إن هذا الأخير بعد عودته من زيارة للولايات المتحدة الأمريكية، صدم من حالة الرشوة المستشرية في المغرب، وعبر رسميا عن امتعاضه وغضبه من ذلك،
لقد كان المذبوح رجلا نزيها، إذ كان يحتفظ بالأظرفة التي كانت تقدم له في خزانته، ولم يكن يستفيد منها أو يستعملها.
وبطبيعة الحال، كنت أنقل هذه المعلومات إلى عبد الرحيم بوعبيد، وأناقشها معه، إن عبد الرحيم بوعبيد كان قلقا جدا لهذه الاعتبارات، فما العمل إذن؟ إنه السؤال الذي كان يطرحه دائما.

ما العمل؟
من هنا بدأت تراود عبد الرحيم فكرة العودة الى وحدة القوى الوطنية، والتي مكنت في الماضي من انقاذ البلاد من استعمار نهائي، (أحداث 1953/1951)، كامن تحت مظاهر خادعة، والحال أنني أقدم هنا شهادتي الشخصية، فقد التقيت وأنا أستاذ في كلية الحقوق والعلوم الاقتصادية في الرباط، في مكتب القيدوم في تلك الفترة، وكان هو عبد الواحد بلقزيز القيدوم الحالي لجامعة محمد الخامس، بأستاذنا الكبير علال الفاسي الذي كان بدوره أستاذا في نفس الكلية، وعند خروجنا من مكتب العميد طلب مني أن نذهب الى منزلي لاحتساء كأس شاي.
وتحدثنا مدة طويلة، وفهمت أن علال بدوره كان منشغلا بالوضع في البلاد?
وكان يبحث مثل عبد الرحيم عن حل لإنقاذ البلاد، فأخبرت عبد الرحيم بما حدث? وإذا لم تخني الذاكرة، فقد تم ذلك ما بين ماي ويونيو 1970 (خلال فترة الامتحانات التي كنا قد ناقشناها مع القيدوم).
فكان بذلك ميلاد الكتلة الوطنية يوم 22 يوليوز 1970».
في ظل هذه الأجواء المتلاطمة الدم والاختيارات، كان عمر دهكون يسرع في استقطاب العناصر الجديدة ويستحث القيادة بالخارج على الإسراع بتمويله بالأسلحة للشروع في العمل، أو يتصل بباقي أفراد الخلايا الذين لم يتم اعتقالهم بعد، و بدأ السؤال الخالد يقلقه: ما العمل، وما الذي نفعله بالعناصر المدربة، طال انتظاره ولم يحر جوابا، في حين بدأ طوق رجال الأمن يضيق من حوله، وبدأ الذين يحبهم يتساقطون الواحد تلو الآخر، وخلية تبعا لأخرى، وفي سنة 1971، «كنتُ أتهيأ للخروج، قال دهكون، وكنت أطلب من الفقيه البصري أن ينظم لي ذلك، لكنه لم يفعل إلا في أبريل 1971»? ذهب عمر دهكون الى الجزائر، أقام بها من 24 أبريل الى 15 أكتوبر 1971، أي ما يقارب خمسة أشهر.
لماذا عاد عمر دهكون، رغم أنه كان يريد الذهاب بصفة نهائية إلى الجبهة العربية للقتال الى جانب الفلسطينيين، فسر عمر دهكون هذا بأنه «اتصل مع البصري» فقال لي يستحيل الالتحاق بالجبهة وأقنعني بدور المصالح الأمريكية بالمغرب، فتحملت مسؤوليتي للعودة الى العمل في المغرب».
ومن المعروف الآن أن أوفقير كان قد ربط علاقات قوية مع الموساد بفضل مساعدة يهود مغاربة قريبين منه، منهم دافيد عمار وروبير اسراف، ولاسيما ايلي توردجمان الذين نظموا في باريس سلسلة من اللقاءات جمعت في الفترة ما بين نهاية دجنبر 59 ويناير 1960 بين أوفقير ومسؤول كبير في «المؤسسة»، ولعل هذا المسؤول الكبير هو إفراييم رونيل، وهو رجل الثقة بالنسبة لي يسير هاريل صديق بن غوريون والذي جمع الموساد والشين بيت الى حدود يناير 1964? وقد كان هاريل هذا قد زرع ابتداء من 1954 بشبكتين للموساد في المغرب بإشراف رونيل، الأولى للاستخبار يديرها في عين المكان أليكس غاتمون، والثانية لتهجير اليهود المغاربة الى اسرائيل، وفي أكتوبر 59 زار رونيل المغرب في سرية تامة وعرض فيما بعد على أوفقير صفقة سياسية على المدى البعيد تقدم بموجبها الموساد الدعم لأوفقير على أن يتولى هو حماية شبكتها السرية لتهجير اليهود، وقد قبل أوفقير الصفقة التي وقعها مع الموساد مقابل الكشف عن تفاصيل مؤامرة تحاك على أعلى مستويات الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، والذي نجحت «الموساد» في اختراقه، كما اخترقت المحيط الضيق للمهدي بن بركة، على حد ما جاء في كتاب أنيس بنسيمون.
وفي سياق العلاقة بين الموساد وأوفقير واغتيال الشهيد المهدي بنبركة، لابد من أن نستحضر كون اختطاف الشهيد المهدي كان الحافز الرئيسي لانخراط عمر دهكون في العمل المسلح، كما سبق وأن قال هو نفسه بخصوص بداياته،
وحول الموضوع نفسه، توصل عمر دهكون من الشهيد محمد بنونة، المعروف باسم محمود، والذي لقي مصرعه في اشتباك مع قوات الأمن في مارس 73 ـ كما سنشرح ذلك بتفصيل في القادم من الأيام ـ توصل دهكون برسالة منه تحمل لائحة أسماء طلب منه الاحتفاظ بها في ذاكرته الى حين يحين الوقت، ومن بين كل الأسماء، كان هناك اسمان اثنان يهمان عمر دهكون هما: «دافيد عمار، واسم يهودي صاحب ملهى ليلي بأنفا بالبيضاء يدعى «لوتوب Le tube»، والذي كان يرتاده كبار القوم.
وقد حكت مليكة أوفقير قصة ذات دلالة في هذا الشأن، إذ كانت في أحد المنتجعات بالجنوب، حيث ذهبت عائلة أوفقير لقضاء العطلة هناك، وصادف أن كانت بجوارها عائلة مسؤول مغربي (كبير!) عرف عنه تشدده الظاهري في معاملات أهله، وحدث أن التقى هذا المسؤول ابنة أوفقير في ساعة متأخرة من الليل وهي عائدة من سهر ليلية حمراء، وحذاؤها بيدها، لم يرق المشهد للمسؤول فبلغه إلى أوفقير، فأجابه الجنرال أمام العديد من الحاضرين: «أين تقضي لياليك، لقد قيل لي إنك ذهبت الى مرقص «لوتوب» بالبيضاء وهي مدينة خطيرة»!
على كل، كان الملهى قبلة علية القوم، وكان صاحبه من عملاء الموساد الى جانب دافيد عمار، وهما الإسمان اللذان استأثرا باهتمام دهكون، لماذا؟ «لأنهما شاركا في اختطاف المهدي بنبركة، ولو أنني صادفت أحدهما لقتلته».

انقلاب الصخيرات وعمر دهكون يقول لرفيقه: «لن أخرج من المغرب، فقد عدت لأموت»
أصبح عمر دهكون منشغلا بأهداف عديدة، كان عليه أن يضمن سرية تحركات أعضاء الخلية، ويواصل الاستقطاب ويعمل على سلامة وجوده الشخصي، إضافة الى متابعة تطور العمل السري بعد الضربة القاصمة التي نالت من جسم التنظيم السري، بعد وشاية ابراهيم المناضي بالخلايا السرية والتداريب المسلحة.
عاد دهكون للسهر على كل هذه الجوانب في أكتوبر 1971، والحال أن أحداثا مهمة هزت المغرب أثناء غيابه، أولها انقلاب يوليوز 1971، وثانيها صدور الأحكام بالإعدام والمؤبد والسجن المديد في حق المناضلين المعتقلين في قضية مراكش، المعروفة بملف «الغيغائي ومن معه» وكذا «مؤامرة مدريد»، كما سبق ذكره.
بعد دخوله فصول المطاردة البوليسية، بدأت أسطورة الفقيه الميلود، بجلبابه ونظاراته ولحيته، وقد حكى دهكون عن بداية أسطورته: «لما عدت من الخارج، لم تكن لدي لحية، وبقيت مختفيا الى حين أرخيتها، واعتمرت الطربوش..» ومن وجدة الى الرباط، وهناك اتصل ببودرقة عباس الذي استقبله في بيته وقد كان وقتها محاميا متمرّنا في مكتب المرحوم عبد الرحيم بوعبيد، وقد حكى لنا عباس عن تلك اللحظات قائلا: «بالفعل، لم يأت عمر دهكون رحمه الله مباشرة الى بيتي، إذ ظل مدة معينة بين أماكن في سلا والدار البيضاء.. وقد كان عمر دهكون قد أرسل لي من قبل «كارت بوسطال» في يوليوز 71، أي قبل دخوله، وكان ذلك آخر عهدي به إلى أن وجدته أمام منزلي بالرباط بعد دخوله، لم أسأله، كما جرت العادة بيننا، وكنت أعلم بطبيعة الحال أنه محكوم غيابيا بـ 20 سنة سجنا نافذا، وظل أحيانا يتردد على الرباط، وبذلك ولدت شخصية لفقيه الميلود».
عندما تحول عمر الى فقيه بدأ يتحرك في رقعة ضيقة، ذلك أن المغرب في تلك الفترة العصيبة من تاريخه كان قد عرف انقلاب الصخيرات 71، الذي مر بمرحلتين في الواقع? المرحلة الأولى، تصادفت مع 14 ماي، ذكرى تأسيس القوات المسلحة الملكية، وكان الإخوان محمد وامحمد عبابو بمعية الجنرال مذبوح يريدون اختطاف المرحوم الحسن الثاني أو اغتياله، بمناسبة استعراض عسكري كبير، نظم وقتها في الحاجب، وليلة القيام بالعملية تم تشكيل 15 كوماندو، كل واحد يتشكل من 43 جنديا بقيادة ملازم وعريف، وكان من المقرر أن تغادر كوماندوهات الانقلاب اهرمومو في الساعة الثانية صباحا لاتخاذ مواقعها في العملية، وفي آخر لحظة، تلقوا مكالمة هاتفية من الجنرال مذبوح تلغي العملية، وكان السبب المقدم لهذا التأخير، تواجد طائرة مروحية لحراسة الملك.
بعد فشل محاولة 14 ماي للانقلاب، قرر الجنرال المذبوح والملازم أول اعبابو أن يعيدا الكَرَّة يوم الجمعة تاسع يوليوز من نفس السنة (71)، الذي تزامن مع الذكرى 42 لعيد الشباب، رافق امحمد اعبابو زوجته وابنته سميرة الى منزل أحد أصدقائه من رجال الشرطة بالرباط، لأنهما كانتا ستسافران الى الخارج في اليوم الموالي، وبعد أن تناول الكولونيل غذاءه في العاصمة عاد الى اهرمومو، هناك استدعى الضباط وضباط الصف وأخبرهم بعملية ستقام في بنسليمان خلال 48 ساعة القادمة، ولما سأله الحاضرون عن تفاصيل العملية أجاب جوابا فضفاضا مفاده أن القضية «تهم الجنرالات» وأن «اجتماعا قياديا» سيقدم توضيحات في عين المكان، وبالرغم من أن كلمة «انقلاب» لم تُنطق، فإن البعض شك في الأمر، إذ أن العديد من الضباط تحدثوا عنها في المساء.
تقررت الرحلة في الساعة الثالثة صباحا، فانطلقت حوالي 40 شاحنة عسكرية باتجاه الساحل الأطلسي، وقضت حوالي 9 ساعات لقطع مسافة 250 كلم تقريبا، في العاشر من يوليوز 1971 والساعة قد تجاوزت منتصف النهار، توقفت القافلة عند غابة معمورة، هناك وجد المجندون «الكولونيل اعبابو الذي سبقهم إلى عين المكان بمعية «القيادة العامة» وكانوا مجموعة من الأشخاص ببذلات مدنية آخر موضة، كان من بينهم شقيق اعبابو الذي كان يسوق به سيارته، والطالب الضابط «مزيرق» صهر الجنرال مذبوح والملازم أول عبد الله القادري، والقائدان المنوّر والمالطي ورجل شرطة يدعى الفتوحي، وتبين من الحضور أن القضية ليست «قضية جنرالات»، إضافة الى أن الضباط الحاضرين جاؤوا، لأن اعبابو دعاهم «لزيارة ضيعة جميلة في المنطقة».
لقد اكتشفوا البرنامج مع القواد الخمسة والعشرين الذين يديرون الكوماندوهات وضباط الفرق الخاصة، لم يتم إلى حدود تلك الفترة أي حديث عن الانقلاب، بل دار فقط عن «هجوم على عدة بنايات» حيث توجد «عناصر انقلابية» يجب اعتقالها ولو اقتضى الأمر إطلاق النار على المقاومين»، أعطي الأمر بتهييء الرشاشات، وقال اعبابو على سبيل الختام: «أنتم ضباط عليكم أن تفهموا».
تم رفع غطاء الشاحنات (الباش) وانطلقت القافلة تحت شمس حارقة، اخترقت الرباط ثم اتجهت نحو الدار البيضاء، في الطريق مرت بها سيارة الكاتب الفرنسي جاك بينوا ميشان الذاهب الى الحفل، تفاجأ الكاتب من الطابور العسكري وعدد الجنود وقسمات وجوههم المتجهمة، ومع ذلك لم يخبر أي أحد عندما وصل الى الصخيرات أو يعطي إشارة الإنذار مخافة أن يصبح أضحوكة،
كانت العادة الملكية تقتضي أن تجري مباراة في الغولف صباح يوم العيد، لكن الجنرال مذبوح ألح على جلالة الملك الحسن الثاني بعدم المشاركة، لأن جلالته كان سيستقبل ضيوفه في الواحدة والنصف زوالا، ويمكن أن يتأخر عن الموعد لو طالت المباراة.
إلى جانب العائلة الملكية، كانت بالقصر كل الشخصيات السامية والمهمة بالرباط، الوطنية منها والدولية، المدنية والعسكرية ورجال الأعمال والديبلوماسيون والوزراء، أي حوالي ألف مدعو ضمنهم نجل الحبيب بورقيبة والوزير الفرنسي لويس جوكس.. كان الجو جو احتفال وبهجة، كانت الساعة تشير الى الثانية زوالا، و 8 دقائق عندما أصيب مهندس زراعي يعمل في ديوان إيفون بورج في الوزارة الفرنسية للتعاون، بأول رصاصة ودخل الساحة الداخلية وهو يعرج، وسط الحفلة غطت طلقات البنادق المقذفة (للتمرن على الرمي) على الرشقات الأولى للرشاشات، فلقد وصل رتلان (طابوران) من المجندين، الأول قدم من جهة الشمال والثاني من جهة الجنوب، الطابور الأول الذي يقوده محمد اعبابو استطاع أن ينزع سلاح الحرس بدون مواجهة، لكنه وجد في طريقه الكولونيل لوباريس، الصديق الحميم للجنرال المذبوح، لقد كان لوباريس هو قائد المظليين المكلفين ذلك السبت بأمن الصخيرات، وقد قتله محمد اعبابو برشقات من رشاشه، كانت تلك بداية الانزلاق حيث انهارت أعصاب محمد اعبابو، فأنزل المجندين الذين بدأوا يتقدمون دون الاهتمام بأوامره خصوصا وأن قليلا منهم فقط يعرفون الأخ الأصغر لرئيسهم وقائد الانقلاب، فعمت الفوضى، نفس البداية عرفها الطابور الآخر، فقد وجد محمد اعبابو في وجهه نقيبا شابا عند الجدار الأول للأمن صاح فيه «لا تقتربوا وإلا أطلقت النار»، فقام الانقلابيون بإطلاق الرصاص فخرَّ النقيب صريعا بعد أن أصاب محمد اعبابو في ذراعه، وقام بدوره بإعطاء الأمر للمجندين بالترجل عن الشاحنات، كانوا متوترين بعد أن فهم الكل، حتى الأكثر سذاجة بأنهم يقومون بانقلاب عسكري.. منهم من فر، كما حدث مع الملازم بنبين الذي كان يقود الكوماندو الثامن الذي هرب وركب سيارة «بأوطوسطوب» وسلم سلاحه في إحدى ثكنات المظليين بالرباط، (وقد أدين فيما بعد وقضى 18 سنة في تزمامارت…)
وفي الأخير فشل الانقلاب بتفاصيله الأخرى المعروفة.
غير أن المغرب دخل في لحظة فوبيا سياسية يسود فيها الرعب واللاستقرار وبروز كل سمات الحلول الجذرية، في حين تقوت الضربات القمعية وعرف الحقل السياسي الوطني درجات متقدمة من اللاثقة والتخبط،
وقبل انقلاب يوليوز 71، كانت محاكمة مراكش قد بدأت في 14 يونيو 71، وصدرت الأحكام قاسية، وبدأ إحساس المناضلين وعموم المهتمين بالشأن السياسي بلا جدوى الممارسة السياسية، ولاسيما بعد التزوير الذي حصل في الانتخابات التشريعية لسنة 70/69، والذي أفرز ما سمي «ببرلمان أوفقير».
ومن الطرائف السوداء التي يحكيها كاتب سيرة أوفقير، ستيفان سميت أن إحدى السيدات من المجتمع الراقي سألت الجنرال في هذه الانتخابات عن اتجاهات الرأي العام فأجابها بخبثه المعروف: «هل تريدين نتائج انتخابات البارحة أم الانتخابات التي ستجري بعد عام؟».
زاد من انسداد الأفق، إحكام الجنرال أوفقير قبضته على الحياة العامة، المدنية منها والعسكرية، أوفقير الذي كان عمر دهكون (الفقيه الميلود) يبحث عنه ليصَفّيه ويحلم بذلك ليل نهار، موازاة مع ذلك، بدأ عمر يسهر على تسليم أسر المعتقلين والمحكومين المعوزين منهم على الخصوص بمبالغ مالية يجمعها من المناضلين أو تصله من المناضلين وأعضاء المنظمة السرية والمسلحة في الخارج،
ولابد من القول أيضا، إن صدور الأحكام وتنامي الصراع بين القوى المنحدرة من جيش التحرير والحركة الوطنية وقوى المحافظة والمخزن العتيق، قد بدأ يفرض على المناضلين الإسراع في الرد ومحاولة خلق ضغط سياسي وإعلامي لفك الحصار عن المعتقلين.
ركز عمر دهكون مجمل جهوده على العمل الداخلي، وأصبح الاتصال بالخارج يتم عبر قنوات أخرى ومناضلين آخرين، ولاسيما منهم المدربون الذين أفلتوا من شبكة الشرطة في محاكمة مراكش، وفي تلك الأثناء، ذكر لنا أحد المناضلين أنه عرض على عمر دهكون السفر إلى الخارج من أجل نجاته والتقليص من حظوظ الأمن في اكتشاف ما تبقى من خطط العمل وأعضاء التنظيم، فكان جوابه «لن أغادر البلاد، لقد جئت لأموت».
الشرطة تبحث عن عمر دهكون، وهو يقيم في مقبرة بن امسيك ويدير العمليات ويأتي بالأسلحة
عاد عمر دهكون في أكتوبر 71 من سفره الى فرنسا التي توجه منها إلى الجزائر، سافر باسم عبد العالي المرنيسي، بعد أن ترك جواز سفره الحامل لإسم محمد أنور ضمن محتويات المنزل بسلا، وكان هذا الجواز قد سلمه له الشهيد محمود بنونة، في العاشر من يونيو، وفي باريس، أعاد الحديث عن السلاح للشروع في عمل «كبير»، لكن القيادة هناك أجابته بالقول: «لا يمكن ونحن ضيوف على فرنسا، أن نرسل الأسلحة إلى المغرب انطلاقا من ترابها». فأحيل على محمد بنونة (محمود) الذي كان وقتها في الجزائر، وبذلك ألغى عملية نقل الأسلحة من فرنسا، ولما انتقل الى الجزائر، كانت تلك أول مرة التقى فيها محمد بنونة، بعد أن علم أنه مهندس إلكتروني تخرج من ألمانيا الفيدرالية، يقوم بنشاط في الخارج، وأن آخر مرة سيزور فيها المغرب، قبل التسلل المسلح في أحداث مولاي بوعزة، كانت في صيف 1968. اتفق الشهيدان على نقل الأسلحة، وسلم بنونة لعمر دهكون مسدسين، ولعل ذلك كان من أجل المواجهة المحتملة في طريق العودة، لأن عمر أصبح على علم بأن جهاز الأمن يبحث عنه على قدم وساق، دخل عمر عن طريق أحفير، وجدة، وعن تلك اللحظات يحكي عمر دهكون «عندما كنت راجعا من الجزائر في أكتوبر 1971 اتصلت بمحمود بنونة، الذي ربط لي اتصالا بشخص آخر، كُلف بالسهر على اجتيازي للحدود»، وكان من ضمن عناصر العبور أيضا «تسلم الكمية الأولى من الأسلحة»، ويواصل دهكون حديثه عن دخوله الأول من الجزائر، «عندما توقفت مع هذا الشخص الذي رافقني من مكناس قدَّمني لشخص آخر اسمه المتوكل وقال لي بأنه مستعد ليهيء لي العدد الكافي مما أحتاجه من أوراق التعريف»، وتم الاتفاق على ذلك، وتم الاتفاق أيضا على مكان اللقاء والكيفية التي يتم بها، وتفاصيل ذلك كما رواها دهكون نفسه: «اتفقت معه على عقد اللقاءات أمام صندوق البريد في مكناس، وهناك أعطيته أربعين درهما، حتى يهيىء لي ورقة تعريف وصورة عادية لي وأخرى بلحية وجلابة، ووضع الختم الرسمي على ورقة التعريف بصورة عادية وملأتها أنا شخصيا وسميت نفسي الطاهر العلوي».
وكان اسم الطاهر العلوي واحد من عشرات الأسماء المستعارة التي كان عمر دهكون يتحرك بها، إلى درجة أنه كان شخصيا ينسى بعض أسمائه المستعارة!! كما صرح بذلك أمام المحكمة «لقد كان اسمي المستعار في الجزائر، بين المتدربين هو بودرار، لكنني نسيت الإسم الذي كان يمثله جواز سفري لما توجهت الى الجزائر..
بودرار، زهير، بن احمد، عمر السوسي، الزبير، المرنيسي.. كلها أسماء مستعارة، وهي غيض من فيض، لكن أكثر الأسماء رواجا هو الفقيه الميلود الذي كان يقرأ القرآن في المقبرة، ترحما على الموتى، ولكنه من وراء ذلك كان يربط اتصاله الدائم بأعضاء الخلايا الذين لم تطلهم اعتقالات محاكمة مراكش أو الذين انخرطوا فيما بعد.
أقام عمر، بعد عودته، في أماكن عديدة، لدى معارفه ورفاقه ولكن أكثر أماكنه ارتيادا كانت ولاشك مقبرة بن امسيك، وإضافة الى منزل عائلة أزغار، التي كان أفرادها على علاقة حميمية وأخوية به، وقد صرحت لنا جميعة وزهرة أزغار أن عائلتهما كانت تأوي عمر دهكون بمنزلهما، الموجود وقتها بالحي المحمدي، زنقة القبطان مونطوكي بدوار بوعزة.
أمام صلابة العلاقة الرابطة بين آل دهكون وآل ازغار، لم تضعف العائلة أمام المخاطر المحدقة بها في استضافة وإيواء مناضل تطارده كل أجهزة الدولة، وتعلم انه احد العناصر النشطة في المنظمة السرية التي اعتقل اهم اعضائها، بل كان عمر يراسل العائلة من فرنسا، قبل دخوله. «في الرسالة، تقول اختها، طلب عمر من الحاجة الالتحاق بمقبرة اليهود باولاد زيان في الساعة الخامسة، وكعلامة للتعارف بينها وبين المبعوث الذي سيرسله عمر، طلب منها ان تحمل كتابا بيدها، وتشهره بشكل لافت».
اسلوب التخفي والتزيي الذي اعتمده عمر دهكون وتفاصيل يومه في السرية، روتها لنا «زينب» الاسم الحركي لرفيقة عمر دهكون، جميعة والتي مازالت تدمع عيناها كلما تذكرت الانسان، البسيط، الحنون والنبيل».
قالت جميعة / زينب كنت «اشتغل بمصحة ابن سينا، وقتها كان عمري حوالي 27 سنة، كان عمر يتصل بي يوميا ليضرب لي موعدا أو يخبرني بأسفاره، ودام ذلك الى حين القي عليه القبض في 22 مارس 1973».
ومن كلينيك الغوتي، في المكان المسمى الرهيبات بالقرب من ملعب «كورس لكليبات» كانت جميعة تنسل خلسة للذهاب الى لقائه، «يوميا كنت اغير ـ تقول ـ وزرتي البيضاء وأخرج خفية لمدة لا تتعدى نصف ساعة او اربعين دقيقة.
في الفترة التي تصادف وقت الغذاء، لم أكن أتناول غذائي، وكان الحارس يخال، وهو يراني اخرج يوميا من الباب الخلفي مستعجلة امري، انني اخرج للقاء عاطفي مع عشيق» احيانا كان اللقاء يتم مساء، ترافقه زينب الى عناوين بعينها اوتتسلم منه اغراضه وملابسه لتصبينها او تأخذ «بعض الارساليات الى اصحابها» تصف الرفيقة رفيقها في لحظات المطاردة والتخفي وتصف هيأته ولباسه: «كان عمر يرتدي جلبابا واسعا ويمشي محدودب الظهر كرجل مسن» تثقل سنوات العمر كاهله، وهن منه العظم وفقد استقامة عموده الفقري، ولنا ان نخمن أن عمر دهكون كان يلبس جلبابا واسعا ويمشي منحنيا لانه، ولاشك، يحمل سلاحا تحت الجلباب، قد يكون مسدسا – رشاشا، يخفيه بتلك الطريقة، لان المشية المستقيمة ستفضح ما تحت الملابس،
الى جانب الجلباب، كان يضع سبحة حول معصمه، كعادة الفقهاء الورعين، ويحمل بيده قفة صغيرة من «الدوم»، وسجادة (صلاية) ولا احد كان يشك في لفقيه الميلود، عندما يمشي في الطرقات او يدخل المقبرة او يدخل الكتاب لتدريس التلاميذ في «المسيد» بسيدي محمد في منطقة بنمسيك».
من حيلهما معا التظاهر «بالتسول، كان عمر يضع نظارات سوداء يخاله الناظر بسببها ضريرا»، وكانت طريقته في المشي وحركاته المتثاقلة البطيئة بفعل ما يحمله من سلاح، تزكي هذا الظن، تقول جميعة: «كنت امد صحنا صغيرا (طبسيل) باتجاه المارة، وقد تظاهرت بمظهر الغبن والحاجة، حتى نبدوا كسائلين يتسولان عطف الناس وما تجود به اريحيتهم، احيانا كثيرة كان رجال شرطة المرور يوقفون المارة واصحاب السيارات لتسهيل مرورنا».
بوليس يبحث عن دهكون، وبوليس آخر يسهل مروره، ويساعده على اتصالاته بمن بقي على الدرب في السرية وكانت اغلب الاتصالات تتم في المقبرة، حيث كان عمر يمثل دور فقيه المقابر.
ومن ذلك ما حكاه لنا العديد من المناضلين الذين اعتقلوا في 1973، ومنهم مجموعة 76، الذين مثلوا أمام محكمة الاستئناف بالبيضاء، بعد إعدام عمر دهكون بحوالي ثلاث سنوات (!) أحد هؤلاء المناضلين، فضل عدم ذكر اسمه تعففا، قال انه التقاه صدفة في نهاية 71، بدرب السلطان، وكان «متنكرا في زي الفقيه، ولو أن دهكون لم يكن أول من ناداني لما تعرفت عليه». وفي شهر أكتوبر أعطاه موعدا بمعية مناضلين آخرين وكان زمن اللقاء هو أكتوبر 1971، ودار الحديث حول الطريقة التي لابد منها لإحياء الذكرى السادسة لاختطاف واغتيال المهدي بن بركة، ويومها لم يكن عمر دهكون قد توصل بالمفرقعات التي تسمح لخليته بالتفجير وإحداث صدى يليق بذكرى الشهيد المهدي، تعاهد الحاضرون على اللقاء ليلة 26 أكتوبر، أي قبل يوم الذكرى بثلاثة أيام، في الساعة الثامنة ليلا بالمقبرة المذكورة، وحضره الأعضاء الأربعة بمعية مناضل خامس كان يسوق سيارة من نوع «بوجو» وتم الاتفاق على القيام بالعملية ليلة 28 أكتوبر 1973، في الساعة 9 ليلا، وكانت العملية تقضي بتفجير قنبلتين بالدائرة الثامنة للشرطة بالبيضاء، وقد تم في البداية إجراء تجربة بقنبلة المولوتوف بباب المقبرة، لكن القنبلتين لم تنفجرا كما كان أعضاء الخلية يريدون ذلك، في تلك السنة تفرغ عمر كلية للمنظمة، وأصبحت المنظمة من جهتها تتكفل بكل مصاريفه، وقد أكد المرحوم شخصيا هذا الأمر أمام المحكمة عندما قال: «في سنة 1971 فقط، أصبحت أعي».
انتظار زورق أسلحة بشواطئ تطوان، وتهييء منازل لإيواء المسلحين القادمين!
في تلك السنة تفرغ عمر كلية للمنظمة، وأصبحت المنظمة من جهتها تتكفل بكل مصاريفه، وقد أكد المرحوم شخصيات هذا الأمر أمام المحكمة عندما قال: في سنة 1971 فقط، أصبحت أعيش بالوسائل المادية للفقيه البصري».
كانت أجهزة الأمن تجدُّ في البحث عن عمر دهكون، تتقفى خطوات أهله وعائلته، في حين لجأ عمر دهكون الى الاتصال بالمناضلين الاتحادين الذين كانوا يعيشون انتماءهم بشكل عادي أو يكاد، ومن المفاجئ حقا أن العديد من الذين اعتقلوا معه أو قبله في أحداث 1973، أو الذين أعدموا، انخرطوا على يد عمر في الفترات التي كانت الشرطة تلاحق خطواته وتتقصى أخباره، ومن هؤلاء عدة مناضلين تعرف عليهم?? في المقبرة!!.
من أهم الأسماء «الاشكالية» التي ترد في الفترة ما بعد دخول دهكون عالم السرية وبداية شخصية لفقيه الميلود، ويتردد باستمرار اسم المهتدي محمد بن بوشعيب، من مواليد 1943 بالنواصر (قيادة مديونة، الشاوية الشمالية آنذاك)، المهتدي، الذي سنعود الى نشاطه و»شهادته» في المحكمة بتفصيل أكثر، توبع في قضية 1973والتنظيم المسلح، بكونه منذ صيف 1967 والى يوم 22 مارس 73، تاريخ القاء القبض علىه وهو يقوم بنشاط متواصل في إطار منظمة سرية تدار من الخارج وتهدف الى القضاء على النظام الملكي القائم في البلاد واقامة نظام آخر مكانه وأنه بعدما انخرط في هذه المنظمة سافر الى باريز في أوائل شهر مارس من سنة 1969 واتصل هناك بالبصري الذي بعث به على حساب المنظمة الى دولة أجنبية تدرب في معسكراتها على استعمال كثير من أنواع الأسلحة وعلى حرب العصابات، ثم رجع الى المغرب حيث أصبح عضوا نشيطا في الخلية التي يترأسها دهكون وباتفاق بينهما وبين بعض أفراد هذه الخلية تقرر القيام بعمليات ضد الأشخاص والمنشات في أواخر شهر أكتوبر 1971 ساهم في صنع قنابل من طرف أحد أعضاء الخلية، وذلك بإحضاره بعض المواد اللازمة لصنعها واختيار الأماكن التي ينبغي وضع القنابل فيها وهي عمارة المطابع المتحدة والخزانة الأمريكية، وفي ليلة 28 أكتوبر 1971 توجه الى الخزانة الأمريكية لوضع قنبلة بها فوجدها مغلقة ثم الى القنصلية الأمريكية للقيام بنفس العمل فوجدها محروسة من طرف رجال الأمن وبذلك تخلى عن مهمته التي تعذر عليه القيام بها للأسباب المذكورة، سافر المهتدي الى فرنسا يوم 21 دجنبر 1971 حيث قابل قادة المنظمة في الخارج وطلب منهم تزويد الخلية بالسلاح اللازم كما سافر في أواخر أبريل 1972 الى وهران في شأن السلاح والمال وبطلب من دهكون عمر، سافر أثناء شهر يوليوز من سنة 1972 الى الرباط حيث قام بدراسة حول بناية القيادة العليا للقوات المسلحة الملكية، وباتفاق مع دهكون عمر تقرر القيام بمحاصرة شخص يعمل بأحد المصارف ونهب النقود التي يحملها غير أن ذلك لم يتم، نظرا للحراسة الموجودة حول المصرف وأنه في شهر أكتوبر 1972 تسلم من دهكون قائمة تحمل أسماء الأشخاص الذين يجب القضاء عليهم وطلب منه دهكون البحث عنهم فشرع في هذا البحث فعلا وتعرف على بعضهم تمهيدا لاغتيالهم وأنه درب أحد أعضاء الخلية على كيفية استعمال السلاح.
في يوم ثاني مارس 1973، شارك في وضع قنابل بالخزانة الأمريكية وتحت سيارة القنصل الأمريكي بالدار البيضاء بعدما شارك في صنع هذه القنابل،
وأقر المهتدي بصك الاتهام في حقه، وإن كان تعليله للإقرار يرمي بكل المسؤولية على دهكون طبعا، وما نستشفه من خلال شهادة فرد واحد فقط، أن عمر ظل دائب الحركة، ساهرا كل السهر على عمل الخلايا، متتبعا لنشاط المنظمة، وحريصا على تدبير حرب المدن? فقد سهر شخصيا على تسريب كمية من السلاح وصفتها المحكمة نفسها بأنه كمية ضخمة، وكان يعمل على تزويد أفراد الخلايا، في كل أنحاء المغرب، وفي البيضاء والرباط ووجدة خصوصا بها.
ومن الأشياء التي تثير في سيرة الشهيد دهكون، هو حرصه المتواصل على تهيئة أماكن اللقاء والتداريب، وفي هذا السياق نذكر أنه في نونبر 1971 أي بعد عمليات ذكرى الشهيد المهدي وقنابل المولوتوف، قام المرحوم المهتدي محمد بكراء دار في الرباط، وقال المهتدي «لقد اكتريت الدار في اسمي ولكن عمر دهكون هو الذي كان يستعملها ويؤدي نفقاتها»، وكان المنزل في الأول مخصصا لاستقبال القادمين من الخارج، والأعضاء الذين تلقوا تداريبهم، في سوريا والجزائر وليبيا فيما بعد الثورة على الملك السنوسي، وبعد أقل من شهر (دجنبر 71) كلف المهتدي بزيارة باريس، روى فحواها المهتدي نفسه بالقول «كلفني دهكون في دجنبر 71 بالذهاب الى باريس، ودارت بيني وبين البصري مناقشات عن عائلة المعتقلين في محاكمة مراكش (…) وأعطيته تقريرا من انجاز عمر دهكون» عاد المهتدي في نهاية نفس الشهر، وبعدها كلفه عمر بتقفي خطوات مفتش شرطة يدعى «المتنبي» ولعل اسمه كان واردا في اللائحة التي اعتبرت المنظمة أن أصحابها كانوا وراء الاعتقالات التي طالت مناضلي التنظيم المسلح في يوليوز 69، أو أن مهامهم تتطلب منهم مراقبة الاتحاد ومناضليه وعساهم أبدوا بعضا من « الحماس» في هذه المهمة.
ومن الأحداث التي حدثت في نفس السنة والتي نسبت الى المنظمة السرية، كما جاءت في صك الاتهام الذي عرض وقائع المحاكمة، العثور يوم 27 أبريل 1972، بضواحي مدينة وجدة على جثة رجل أمن يدعى الغربي ميلود وقد قتل رميا بالرصاص، ويكشف استهداف رجال الأمن، عن الوتيرة المتصاعدة لأعضاء الخلايا المسلحة في التحرك سنة 1972، منذ بدايتها، وعن المنعطف الذي دخلته المنظمة السرية، والذي سيعرف أوجه في مارس 1973 مع اندلاع أحداث الأطلس وكلميمة والناظور ووجدة.
بخصوص عمر دهكون، يبدو وكأنه عشرة رجال في واحد، عندما تقرأ الوثائق الخاصة بخلايا وجدة، أو تنصت لبعض مناضلي تلك الفترة الحامية من جمر السبعينات، تسمع عن عمر دهكون أو تقرأ عنه، ونفس الشيء تجده عن أعضاء المنظمة الذين استطاعوا الخروج الى المنفى وعادوا مع الثمانينيات، عندما يحكون لك عن اتصالات عمر، غير المباشرة، ورسائله التي لاتنقطع. وفي العمليات التي استهدفت الوشاة وتصفيتهم أو محاولة تصفيتهم، في كل حركة وتفصيل، يقفز اسم عمر دهكون كاسم ثابت في الحديث والحادثة.
المنفيون في الجزائر في سنوات الرماد وأعضاء القيادة العسكرية بدورهم يتحدثون عن دهكون والاتصال معه.

وتسريب السلاح، دهكون أيضا!
وفي هذا السياق، هناك عدة عمليات أشرف عليها وهو مقيم في الداخل وذلك عبر الرسائل المشفرة (الكود) التي كان يكتبها بعصير الليمون، أو عبر الأشخاص الذين كان يرسلهم، عبر الحدود الشرقية أو الذين يسافرون عبر الناظور/ مليلية أو بشكل عاد عبر المطار.
وكان عمر دهكون قد اتفق مع القيادة في الخارج، على ارسال أسلحة عبر البحر الأبيض المتوسط، على الشاطئ الشمالي للمغرب، و»استعان» عمر دهكون، في هذه العملية بمختبر لحسن، وهو من مواليد الدار البيضاء كان عمره في سنة 1973، لايتعدى 30 سنة، ويشغل منصب قائد بواد لاو الجميلة باقليم تطوان، وقد توبع مختبر في ملف عمر دهكون بكونه أحد أعضاء التنظيم السري، انخرط فيه وعمره لايتجاوز 24 سنة، وكان عمر دهكون هو الذي اطلعه على التنظيم والأهداف السياسية التي كانت وراء انشائه، وقد تابعته النيابة العامة بأنه سلم للمنظمة المسلحة قائمة تتضمن معلومات عن كثير من زملائه القواد، كما نسبت الى مختبر محمد المحامي حاليا تسليمه لدهكون وأفراد الخلايا المسلحة لبطاقات تعريف ممهورة وتستجيب لكل الشروط القانونية، إلا أنها خلو من أي اسم، حتى يمكن استعمالها من طرف أصحاب الصور، بل توبع أيضا بواقعة لم تتم! ومفادها أن عمر دهكون اتصل به في سنة 1971، وأخبره بأن المنظمة تنوي ادخال بعض الأسلحة عن طريق سبتة واتفق معه على أن يقوم هو بنفسه وفي سيارته بنقل هذه الأسلحة وهو يرتدي لباسه الرسمي، كقائد ولم يتم هذا الأمر لتأخير القيام بهذه العملية».
على كل اتفق عمر دهكون مع قيادة الخارج على انزال الأسلحة بالمغرب عن طريق البحر وذلك في زورق مخصص لهذا الغرض، وقد حكى عمر دهكون تفاصيل هذه العملية «كنت اتفقت مع البصري ليرسل لي زورقا الى شاطئ تطوان، وعلى هذا الأساس ذهبت عند مختبر محمد، ودرست المنطقة وكان مختبر لايعلم بالهدف من العملية، سجل عمر دهكون كل المعطيات الخاصة بالمنطقة، بتضاريسها ومساربها ووتيرة الحركة بها، وكان يريد منطقة متوحشة لا بنيات بحرية فيها لأنه كان يعلم أن في ميناء عادي، لايمكن القيام بتسريب السلاح، نظرا لوجود حراسة مشددة ووجود سلطة حذرة، الى جانب الجمارك، وكل من له حاجة في الميناء، وكان السلاح منذورا، حسب تصريحات دهكون أمام المحكمة، للقيام بعمليات فدائية «في مليلية وسبتة ضد مقري المقيمين العامين بهما».
الحرب ضد «البَيَّاعة»… محاولة اغتيال أوراضي محمد بسلا
إبان المحاكمة التي جرت أطوارها في شتنبر 1971، والتي مثل فيها المناضلون الاتحاديون المعتقلون منذ يوليوز 69، في إطار محاكمة مراكش الكبرى، أثناء هذه المحاكمة، اقتنع الكثير من أعضاء الخلايا المسلحة بأن (الورادي محمد، عميل للشرطة، وأنه كان وراء التبليغ عن العديد من المناضلين.
(أوراضي) محمد المزداد سنة 1940 بتزنيت، كان أحد العناصر التي ضمها عمر دهكون الى الخلايا السرية، بعد أن كان ضمن صفوف الاتحاد الوطني للقوات الشعبية? وقد سبق له أن انضم الى صفوف الشبيبة العاملة منذ أواخر 1960 الى أواخر 1962، أي مع انعقاد المؤتمر الثاني للاتحاد، وقد حكى بنفسه عن تلك الفترة في كتابه عن الأغلبية المخدوعة الذي أراده دفاعا وتبرئة لنفسه. جاء في الكتاب أيضا أنه كان ـ وهو عضو في الاتحاد ـ يحضر «عدة اجتماعات سرية يعقدها الحزب الشيوعي المحظور، وكان ذلك في أواخر سنة 1962، هناك في منزل متواضع قرب ثانوية النهضة بسلا، حيث يتزعم الرفيق أحمد صولج إحدى الخلايا السرية للحزب»!! (صولج نفسه الذي سيكلفه عمر دهكون بتكوين خلية سرية في مراكش قبل اعتقاله سنة 1970)? ويذكر الورادي أيضا أنه شارك في الحملة الانتخابية لسنة 1963 ضد المرشح الاستقلالي ـ مدير ثانوية النهضة آنذاك سيدي بوبكر القادري لفائدة المرشح الاتحادي «مصطفى العلوي!!» والصحيح هو مولاي المهدي العلوي.. وفي سنة 1965 كان الورادي ـ على حد قوله ـ «أقوم بتوزيع المناشير، الشيء الذي أوقعني ذات صباح في يد رجال الأمن» ولم يستطع التخلص من التهمة، لأن «رجل الأمن السري» ضبط في حوزته «ما يقرب من ألف منشور». لم يكن الورادي وحده، بل كانوا «ثلاثة عشر طالبا، أذكر من بينهم عبد القادر باينة والعراقي والقادري وبن جلون وبنكيران»، وبعد أن أفرج عن رفاق الزنزانة بسجن لعلو، على حد قوله، بقي وحيدا لكن علاقته توطدت بثلاثة معتقلين هم على التوالي: القايد البشير ابن حمو، محمد الأطلسي وكل هؤلاء ينتمون لفريق الجنوب».
ويقول إنه في السجن أحس بالغبن، عندما رأى «ان نزلاء السجن السياسيين هم بدورهم على درجات، تعلمت أن العراقي وبنكيران ليسا هما أوراضي، أو لم تكن الخيرات فائضة على الغرفة 13 خلال تواجد الآخرين معي قبل محاكمتهم وتسريحهم أمامي؟ أو لم تصبح الخيرات معدومة عندما بقيت وحدي أطمع في أكلة شهية أو سيجارة رفيعة ولا أجدهما؟».
وأنه أمام القاضي: «اكتشف أنه لم يطلع على المنشور الذي كان يوزعه!! إذ تسلمه في المساء «من مقر الاتحاد الوطني لطلبة المغرب في كيس محكم الإغلاق، وحين عودتي الى البيت وضعت الكيس تحت رأسي كالوسادة، في الصباح الباكر (…) وقفت أوزع المنشور دون أن أقرأه أو أدرك محتواه»!!.
على كل، هذا مناضل سياسي، انتقل من حزب الاستقلال الى الشبيبة العاملة بالاتحاد المغربي للشغل، انخرط في الاتحاد الوطني وظل يحضر اللقاءات السرية للحزب الشيوعي المحظور… ولا يقرأ البيانات التي سيوزعها!!؟
ورغم كل ما قد يثيره هذا الأمر من أسئلة «ماكرة»، فإنه بعد مغادرته للاعتقال (كم دام؟!) أصبح من أنصار «الاختيار الثوري» ومن المعجبين بالمهدي بن بركة بعد أن قرأ كتابا لصحفي مصري يصف فيه كيفية اعتقال الرجل وعنوان الكتاب هو: «بنبركة رجل العالم الثالث!»?
وظل الى جانب ذلك، يجتمع مع أعضاء الخلية الحزبية، إلى أن وقعت القطيعة من جديد بينه وبين الاتحاد (!!)، وبعد إحدى المواجهات التي يصفها الورادي في كتابه، تخلى عن الحضور «ومنذ ذلك الحين لزمت بيتي أهتم بدروسي، يقول الورادي (…) ـ واعتقدت بعد شهرين أو ثلاثة من القطيعة ان أصدقائي في الخلية والمنظمة الطلابية سوف لا يعتبرونني بعد مناضلا (…)، لكنني فوجئت ذات صباح بالطالبة زهور العلوي ـ خطيبة علي أومليل حينها ـ تخبرني أن الطلبة قرروا إيفادي لأداء فريضة الحج ضمن وفد يمثل المنظمة الطلابية»!! وقد قبل أوراضي هذا الاقتراح بعد «إيمان مفاجىء» أوحي إليه به قبل «ثلاثة أيام فقط» من العرض الطلابي! وذلك ما رواه هو نفسه بقوله: «وقبيل أيام ثلاثة من البشرى التي حملتها لي زهور العلوي، كنت قد عشت تجربة دينية لا تعوض، كانت مقبرة سيدي بن عاشر بسلا مسرحا لها، قبيل غروب الشمس وبعد طلوع القمر من مساء يوم لا ينسى، فقد أحسست أن رب العزة يضمني إليه (!!!) كما أحس من قبل القديس أوغسطين إذ عاش نفس التجربة التي عشتها كما ورد في اعترافاته»!
طبعا ستكون «اعترافات» الورادي غير اعترافات القديس أوغسطين، ولن يصبح الحاج «الورادي» قديسا كأوغسطين!
بعد الحج «الطارىء» على الورادي، التقى هذا الأخير بعمر دهكون ودار الحديث عاديا بلا منعطف أو حديث خاص، حديث صديقين يعرفان بعضهما البعض، وقد حكى الورادي عن اللقاء الثاني بينهما بهذه العبارات:
«عاد عمر دهكون مرة ثانية الى بيتي، كان يعرف وضعي المادي باعتباري طالبا أستاذا لم أتخرج بعد، وكان يحمل إلى منزلي كلما حضر إليه، ما يكفي لوجبة الغذاء أو العشاء، بل انه يفعل ذلك مع جميع أصدقائه ممن يعرف ضعف أحوالهم المادية، بل وقد يقدم لهم مساعدات مادية للتغلب على الزمن ـ كما كان يقول ـ ومازلت أذكر أنه ساعدني على شراء الأضحية بعد أن عجزت ماديا عن شرائها، وبعد أن أمعنت في التشبث بالسنة كعمل يثاب على فعله ولا يعاقب على تركه، وبعد أن رغبت رغبة أكيدة في تخطي التقاليد الدينية كالاحتفال في الأعياد، نظرا لفراغ جيبي، لكنه منع علي ذلك قائلا: «إنه عيدك الأول مع زوجتك، فلا أريد أن تظل وحيدا بين الجيران بلا أضحية».
بدأنا أحاديث في الموضوعات السياسية، وجد لدي تطابقا لأفكاره وشرحا لهمومه، رجوته بحكم تجربته وسنه أن يزودني بمعلومات كافية عن الصراعات السياسية في المغرب المستقل».
ومن الأشياء المثيرة حقا للتساؤل والاستغراب أن يقول الورادي «رجوته أن نفتح ملفات خاصة بكل شخصية سياسية مرموقة»!!
المهم، تشاء رواية الورادي أن اللقاءات ناقشت أيضا سؤالا محوريا حول: من يجلي الغموض الإيديولوجي، الذي كان سائدا آنذاك في نظره، وبالموازاة مع ذلك، بدأ دهكون ـ حسب نفس المصدر ـ «يأتي بالكتب» الى بيت الورادي ويتظاهر بنسيانها إلى أن جاءه بكتاب معنون بـ «المناضلون»، وقرأه مرتين وأثنى عليه بانبهار واضح لم يفت عمر دهكون «ولاحظت ـ يضيف الورادي، انه أبدى اهتماما بالغا بتعليقاتي على الكتاب، وتبين لي أن عمر لم يقرأ الكتاب فحسب، بل حفظ مضمونه عن ظهر قلب»، وجاءت الفرصة التي طرح فيها عمر دهكون على الورادي مسألة الاختيار من بين ماهو مطروح داخل الخريطة الحزبية، وفي سياق «الاستئناس» برواية الورادي، نورد، كما حكاه عن هذا اللقاء الحاسم.
سألني عمر قائلا:
ـ «هل أعجبت بالكتاب حقا؟
ـ نعم أعجبت به أيما إعجاب.
قال: هل تستطيع أن تتقمص في يوم ما شخصية أحد أبطاله؟
ـ نعم ولم لا.
قال: عندي لك حديث هام، كنت أتردد كل هذه الشهور في مفاتحتك فيه وأرى اليوم مناسبا لذلك.
ـ هات ما عندك من حديث، فقد استملحنا السهر.
قال: هل تذكر الزيارة التي قمنا بها في صيف سنة 1966 الى الفقيه البصري بالبيضاء؟
ـ نعم أذكرها جيدا وأتمثلها أمامي كحدث لا ينسى?
قال: إن الفقيه البصري يسأل باستمرار عن الطلبة الأكاديريين الذين زاروه.
ـ ولأي سبب يا ترى؟
قال: أنت صديق لي وأريد أن أقول لك وبكل صراحة: إن الإجابة عن الأسئلة الثلاثة سألقي بها إليك كي ترتاح من التساؤلات التي سببت لك أرقا متواصلا.
ـ هات ما عندك فأنا منتبه.
قال: إن من يجلي الغموض الإيديولوجي ويصقله هو الفقيه البصري والمتعاطفون معه.
ـ كيف ذلك؟

الطريق إلى معسكر «الزبداني»
روى أواراضي أن عمر دهكون رحمه الله، أخبره أن الرجل «الذي سيجيبه عن أسئلته الحائرة وأسئلة اللحظة أيضا» ـ هو الفقيه البصري، فسأله أوراضي عن الكيفية التي سيتم بها هذا فأجابه حسب أوراضي دائما.
« إن فريق الجنوب ـ كما تعلم له هدف واحد ولاثان، إنه يسعى لاستئصال النظام من جذوره، وكل واحد يدعى الانتماء للاتحاد الوطني للقوات الشعبية دون أن يحمل في نفسه هذا الهدف، يعتبر بصفة مباشرة من المرتدين (يليه كلام حاقد ليس مجالا للتعليق).
قلت له: الآن فهمت، هل تعني أن الأمر يتعلق بتنظيمات سرية مسلحة يشرف عليها محمد البصري؟
قال: ذلك ما أعنيه بالتأكيد، وفي نفس الوقت أعرض عليك الانتماء لمنظمتنا.
مددت يدي إليه وصافحته بحرارة، قلت له بلا تردد: «أنا معكم منذ الآن، وهل من شروط؟
قال: العمل في الخفاء، واظهار الولاء للحكم، وتجنب العمل الحزبي، ومهاجمة السياسة والسياسيين، والتقرب من السلطة ورجالها، ومجاراتهم في كل مايبدو لهم حقا حتى وإن كان ظلما، ولتكن بداية عملك في المنظمة بازالة هذه الصورة الضخمة لقائدة الثورة الكوبية (تشي كيفارا).
لن أطيل في سرد كل ما يتعلق بعملنا السري في سلا، فقد كلفني بتكوين خلية من أربعة الى خمسة أفراد، وأخذ هو نفسه في الاتصال برفاق الدراسة لاقناعهم بالمشاركة، وكنت فعلا قد نجحت في التمويه وربط اتصالات عديدة على مختلف المستويات، كما نجحت في تكوين خلية من بعض رفاقي الأكاديريين، واستطعت أن أزرع فيهم روح الحماس والتمرد على الأوضاع المغربية القائمة، وهيأتهم مرة للاجتماع بعمر دهكون في منزلي، وقد كان في غنى عن التعرف عليهم قبل مخاطبتهم في شأن المنظمة وما ينتظرها في المستقبل من أعمال.
ومن الأشياء التي يسردها أوراضي وكأنها عادية وبسيطة هي حديثه عن تقديمه لأحد رجال الشرطة، كصديق مشترك «حتى بعض رجال الأمن هنا وهناك تم الاتصال بهم لاتخاذهم أفرادا في المنظمة»، والحال أن واقع هذا حق، وإن كنا ندري أن هذا استدراج من أوراضي لما سيأتي من بعد، لأن درجة التفاعل بين بعض رجال الأمن والمنظمة، كانت مختلفة كما سيأتي الحديث عن ذلك فيما بعد.
والمهم في الحكاية أن أوراضي تعرف عن طريق صديق له من أكادير على مفتش شرطة بسلا يدعى اعروس وكان أوراضي يعرف «أن اعروس كان دوما يراقب تحركاتي فأصبحت أكرهه وأتحاشى ملاقاته، لكن حسن اللباقة! دعاه الى «أن عانقته بحرارة!؟» وكذا استضافته في البيت. وبالفعل ـ يقول أوراضي ـ «عقدت صداقة متينة باعروس (مفتش الشرطة)، تبادلت الزيارات معه (…) بدأت أزوره في مفوضية الشرطة بسلا، أطلعني على ملفي هناك»!!
ويحسن بنا أن نعطي الحرية لأوراضي أن ليسرد «حقائقه» حول علاقته برجل السلطة كما أراد أن يدعو لها في سنة 1980، عندما أصدر كتابه بعد اعدام عمر دهكون بـ ….. سبع سنوات!!
«ازدادت علاقتنا مع الأيام رسوخا، بدأنا معا نوجه انتقادات مرة للحكومة، لأوفقير خاصة، بدأ يكشف لي عن سخطه، عن عدم رضاه عن وضعه العائلي، عن ظروفه المادية، عن الصعوبات التي وجدها حتى في تكوين أسرته، وكنت باستمرار أنقل الى عمر دهكون ما انتهيت إليه في علاقتي برجل الأمن الخطير في سلا، ولم أقدم على مفاتحته في موضوع المنظمة السرية إلا بإذن من عمر نفسه، وربما بإذن من الفقيه البصري كما اتضح لي خلال لقائي معه بباريس في صيف 1969.
المهم أن أعروس أصبح صديقا وعضوا في المنظمة السرية، وأصبح يعرف عمر وعمر يعرفه، ولكن الفرصة لم تتح لربط لقاء بينهما، كانا معا يرغبان فيه، غير أن الأهم هو الاتصال الذي كان يتم عن طريقي، فقد كنت واسطة وصل بينهما قبل حلول أكتوبر 1969، وكان أعروس يزودني باستمرار بمعلومات تتعلق برجال الأمن، تتعلق بمراقبة تحركات كل شخص شك في أن له اتصالا بالفقيه البصري، علاوة على معلومات عن الأشخاص المهمين في الشرطة، كل ذلك دون أن يثير عمل أعروس انتباه رؤسائه، والسبب يعود الى أنه كان مفتشا نشيطا على مستوى التقارير التي يقدمها عن تحركات الحزب وأعضائه بسلا، بل لطالما نعت أعروس أتباع الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بالجبناء المتعصبين الذين يسيرون خلف رجال هم أنفسهم متخاذلون.
من جهة أخرى، كان عمر قد توجه الى باريس والجزائر وسوريا في الفترة مابين 67 و 69، وكان عليه أن ينظم رحلات لتدريب الأعضاء الجدد في المنظمة، ومنهم خلية سلا ـ الرباط والتي ضمت في صفوفها أوراضي محمد، وكان عمر أيضا قد ذكر أمام محكمة 73 أن أوراضي كان ضمن المسافرين من أجل التجنيد.
ومما رواه أوراضي هذا: «كان عمر يقول لي باستمرار إن لدينا رحلة طويلة في الصيف للتدريب على استخدام السلاح وعليك أن تكون مستعدا ولا تنس أن تبلغ رفاقك في الخلايا خبر رحلتنا»، وعن تفاصيل الرحلة ذكر أوراضي أنه التحق بمعية عضو آخر من الخلية (الرباطي) بعمر دهكون في البيضاء».
«ووجدناه قد هيأ لنا تذاكر السفر كما زودنا بمعلومات لابد من تنفيذها الحرفي حين الوصول لباريز وخلال الطريق أيضا». يقول، ثم يضيف «قضينا الليل في منزل عمر، وفي الصباح الباكر كنا في المحطة لنستقل القطار السريع في اتجاه طنجة، وبعدها الى الخزيرات عن طريق السفينة، ثم عن طريق القطار في اتجاه باريز، وحين وصولنا لمحطة الشمال، قطعنا الشارع الذي يقابلنا عند المخرج لنقضي لحظات قلقة في مقهى مقابل لباب المحطة في نفس الشارع، حيث حاولنا الاتصال بالسيد عباس في الرقم التلفوني الذي سلمه لنا عمر، لكن بدون جدوى، وبعد محاولة رابعة ـ على ما أذكر ـ سمعنا صوتا يطلب منا صاحبه أن نتجه فورا لعنوان أملاه علينا بالحي اللاتيني.
خرجنا لنستقل سيارة الأجرة التي توقفت بنا أمام العنوان المطلوب».
وبعدها انتقل المسافرون الى فندق سيباستوول حيث قضوا ستة أيام، وصباح اليوم الأخير شدوا الرحال الى دمشق، ووصلوها في الساعة الثامنة مساء.
أقاموا في أحد المنازل ويواصل أوراضي الوصف بدقة كبيرة!! ما جرى بعدها. أخذ عددنا في المنزل يزداد يوما عن يوم، وفي اليوم الخامس من وصولنا عرفنا طريقنا الى الزبداني، الى منطقة بضاحية دمشق، تلك المنطقة المقابلة لجبل الشيخ ومرتفعات الجولان، تلك المنطقة التي كادت المدافع تغطيها، إنها منطقة عسكرية تجمع بين مختلف فئات الجيش، فهناك وجدنا الخيام مضروبة، وهناك تلقينا تداريبنا على مختلف الأسلحة، على يد الضباط السوريين، وعلى يد بعض المغاربة الذين أذكر من بينهم محمود بنونة الذي لقي مصرعه في حوادث مارس 1973 بكولميمة.
انتهينا من التدريب على استخدام مختلف أنواع الأسلحة مثل: ماص 36 وكلاشنكوف، ور ب ج، والمسدس الحربي الصيني، ومدافع الهاون، كما انتهينا من التدريب على طريقة القتال في مختلف الميادين. لقد تعلمنا مثلا قتال الشوارع، وتدربنا على اجتياز الأنهار والحواجز الصعبة كما تعلمنا قتال الجبال واحتلال المواقع، وتدربنا على نصب الكمائن والقيام بالدوريات».

النهاية وبداية الخلود
لعل أهم مرحلة في التنظيم السرى، كانت هي محطة 73.
بدأت الأحداث يوم 3 مارس 1973، وكان الغرض منها الهجوم على قيادة مولاي بوعزة ليلة 3 مارس، بهدف الاستيلاء على دخيرة رجال الدرك، ونفس الشئ كان مخطط له، وسيقع في كثير من المدن والقرى المغربية. وبعد تنفيد الهجوم من طرف مجموعة من المقاومين المسلحين حوالي 20 شخص، وقع خطئ في قتل أحد رجال القوات المسلحة (حارس التُكنة)، وبعد مقتل هذا الأخير، لم يتمكنوا المهاجمون من معرفة مخزن الذخيرة، وفشلت الخطة لكونهم لم يستطيعوا الحصول على السلاح ولا على مواصلة العمليات فقرروا العودة أدراجهم..
لكن حضور قواة الجيش كانت لهم بالمرصا، حيث وقعت المواجهة العنيفة، انتهت بسقوط العديد من القتلى والجرحى بين الطرفين. وفيما بعد تم إجبار أبناء المنطقة من طرف اليلطات ليقوموا بالبحث رفقة الجيش عن الفارين من المقاومين، وتم الهجوم على السكان والإعتداء عليهم، واعتقال العديد من أبناء المنطقة، وكان من بين الذين عانوا في تلك الأحداث مناطق أيت حديدو وأيت عبدي وتغاط وبويحمان، وأبناء قبيلة أيت خويا بسبب انتمائهم لحزب القوات الشعبية. بعد الأحداث بدأت موجة قمع واسعة وحملات تمشيط واختطافات واعتقالات تعسفية ومحاكمات غير عادلة وإعدامات خارج نطاق القضاء. بل وصل إلى العقاب الجماعي الذي مورس على كل تلك المنطق. قتل أثناء المواجهة المسلحة كلا من الشهيد محمد بنونة المعروف بمحمود كان قائد ثورة الأطلس، ورفيقه الشهيد مولاي سليمان العلوي المعروف بمولاي عمر و بمنصور وذلك يوم 5 مارس 1973، بالرصاص بعد مواجهات مسلحة في ساحة المعركة بأملاغو بمنطقة كولميمة. واعتقل موحى أو موح نايت باري المدعو الجزار، رفقة دحمان سعيد قرب تاغلافت يوم 20 أبريل 1973. وفي 6 ماي 1973 قتل الشهيد أسكور محمد المعروف بكاسترو. وقتل في ساحة المعركة بميسور يوم 8 ماي 1973 الشهيد ابراهيم التيزنيتي المعروف بعبد الله النمري، الذي كان قد عاد سرا من الجزائر إلى المغرب سنة 1971، ونزل في منطقة بين الأشجار رفقة محمد أومدة وأحمد بويقبة وظلوا مختبئين مدة سنتين قبل اندلاع الانتفاضة المسلحة، أو ما يعرف إعلاميا ب أحداث مولاي بوعزة، وهو قائد كومندو المجموعة التي قتلت عون السلطة (الشيخ) بمنطقة مولاي بوعزة، وذلك لأنه تصرف تصرفا غير لائق تجاه نساء المنطقة. للتذكير أن الشهيد عبد الله النمري كان من أهم وجوه جيش التحرير الوطني في منطقة الجنوب، وأصبح خلال سنوات المنفى في سوريا والجزائر عضوا نشيطا في القيادة العليا لجيش التحرير في المنفى.
كما استشهد العديد من الأبرياء أثناء المعركة وبعدها، كما استشهد مناضلون آخرون في معتقلات سرية تحت التعديب وصل عددهم أزيد من 30 شهيدا. وهناك من هرب إلى الغابة خوفا من الاعتقال والقتل، وهناك من بقي فيها لمدة سنتين إلى حدود ماي 1975 وغادر إلى الجزائر. مثل حمو نايت عبد العليم، الذي بقي يتجول في الأقاليم إلى غاية صيف 1973 ثم غادر المغرب، وبعدها سيحكم عليه غيابيا في المحكمة العسكرية بالقنيطرة في نفس السنة بالإعدام. واضطر أن يعيش بالغربة بين الجزائر وفرنسا وبلجيكا لمدة 21 سنة، وبمجرد عودته إلى المغرب تم اعتقاله واستطاع من جديد أن يهرب من قوات الأمن، واضطر للبقاء في وهران إلى أن عاد نهائيا إلى أرض الوطن سنة 1994 بعد إعلان العفو الشامل. وتوفى بعد سنتين بتينغير في 3 شتنبر 1996. ومحمد أومدة أشهر أبناء منطقة مولاي بوعزة، الذي ساهم في تنظيم التمرد، وكان أحد قادة في الأطلس، استطاع مع مجموعة من رفاقه سنة 1975 مغادرة التراب الوطني في اتجاه الجزائر، من بينهم العجيني مولود ولعجيني محمد وعلي نكتو وعلي أمزيان وآخرون.. وعاش في المنفى 18 سنة متنقلا بين الجزائر وليبيا إلى أن وافته المنية بالجزائر. ثم محمد بن عبدالحق معروف بإسم ساعة، كان قائد لخلايا التنظيم السري بفكيك، حكم عليه غيابيا بالإعدام رفقة العديد من المناضلين، نجى من الموت لكونه بقي خارج المغرب متنقلا بين العديد من الدول العربية والأوربية، إلى أن صدر العفو سنة 1980.
يتذكر بعض المعتقلين الذين مروا من تلك المحن، أن (القمل سار فوق عيونهم وهم مكبلون الأيدي بمعتقل الكوربيس و درب مولاي الشريف)، وهناك من أرغم على (الجلوس على القرعة)، وهناك أيضا من (شرب البول وأكل أعقاب السجائر). ويحكي لحسن مسعود أنه لازال يبحث عن أخيه موحى وعقا المختطف منذ سنة 1973. …
وحدو اللوزي الذي كان قائدا على خلايا سرية للتنظيم في كلميمة، اختاره الشهيد المهدي بنبركة في تجمع تاريخي بمدينة كولميمة مرشحا للاتحاد في الانتخابات البرلمانية لسنة 1963. أحد أطره الديناميكية الذين أدوا ضريبة ثقيلة على مواقفهم والثابت على مبادئهم. كان قد غادر البلاد إلى الجزائر سنة 1973، قبل أن يتم الحكم عليه غيابيا من قبل المحكمة العسكرية بالقنيطرة، غداة أحداث مارس 1973. تعرضت أمه وزوجته وطفليه لاعتقال، قبل اختطاف أخيه باسو اللوزي في نفس السنة من مقر عمله بمركز الاستثمار الفلاحي بورزازات، والذي لم يظهر له أثر منذ ذلك الحين حيث بقي مصيره مجهولا منذ سنة 1973. بعد اعتقال وتعذيب أفراد أسرته، أقدمت السلطات المغربية على احتجاز ممتلكاتهم. اضطر العيش في المنفى لمدة سبع سنوات. بعد سنوات الغربة عاد حدو اللوزي إلى أرض الوطن يوم 2 أكتوبر 1980، بعد العفو الملكي. أسلم الروح يوم 30 غشت 1997.
الحكاية لم تكتب بعد كلها.. ولكن التاريخ كتب الشهادة كاملة في حق الذين سقطذوا في ساحات الشرف.

عن جريدة الاتحاد الاشتراكي …10/29/2013

تعليقات

لا توجد تعليقات.

هذا النص

ملف
الكشكول (بقجة)
المشاهدات
1,715
آخر تحديث
أعلى