"إني استطيع أن أرتاح على صدرك وكلي ثقة أن هذا الحب الذي ولد وترعرع داخل الزنزانة –رغم القيود والحرس والاستفزازات- لن يكون إلا مشرفا وقادرا على تخطي عقبات أكبر. والسعادة في متناول كل من يقدس المسؤولية"..
******
تخليدا لليوم العالمي للمرأة (08 مارس)، ورغم التمييع والابتذال اللذين طبعا هذه المناسبة التاريخية التي ترمز الى معاناة المرأة وقوتها وتضحياتها، أتقاسم مع الرفيقات والرفاق والصديقات والأصدقاء حكاية/قصة ارتباطي برفيقتي نعيمة الزيتوني داخل الزنزانة.. وروح هذا التقاسم هو البوح والاعتراف لها وللتاريخ، ولكم/لكن ومعكم/معكن، بما قدمته لي ولرفيقي نور الدين جوهاري إبان اعتقالنا من خدمات جليلة، بل ومستحيلة..
ممرضة بالجناح الذي كنا "محتجزين" فيه منذ 1985 (المركز الجامعي الاستشفائي ابن رشد بالدار البيضاء، المعروف بموريزكو)، بدون زيارة وبالمطلق، أو أي تواصل مع الخارج وتحت الحراسة المشددة (وليشهد وزير الصحة الحالي الحسين الوردي الذي كان ضمن الطاقم الطبي المشرف على حالتنا حينذاك وكذلك البروفيسور بنعكيدة الذي تم تهديده بسبب تواصله مع عائلاتنا وأيضا البروفيسور الرائع الحسين بارو وآخرون..).
فبعدما أحاطت بكل تفاصيل اعتقالنا، وعلى رأسها تهمة "المؤامرة الغاية منها قلب النظام" (أعداء الملك الحسن الثاني)، ومعركة إضرابنا عن الطعام (كانت سابقا، طالبة بشعبة الفلسفة بجامعة ابن طفيل بالقنيطرة)، وبعد سنة من التواصل المباشر والحذر معنا (الرفيق نور الدين جوهاري وأنا وأيضا الرفيق الطاهر الدريدي قبل تنقيله الى السجن المركزي بالقنيطرة) سنة 1989، اختارت/قررت أن ترتبط بي، وألحت على ذلك رغم علمها بكل المخاطر التي قد تترتب عن ارتباطنا "المقدس". وقد تحمل الرفيق جوهاري، وعلى انفراد، مسؤولية مناقشة الموضوع معها بكل التفاصيل المملة (إنه على قيد الحياة) وبما في ذلك مخاطر هذا الارتباط الممنوع والمفتوح عن المجهول.. وأصرت على ارتباطنا سنة 1990، متحدية زمن الاعتقال والإضراب اللامحدود عن الطعام والعزلة والأفق الغامض، بل والمسدود، الذي كان سيدوم حتى سنة 1999 (محكوم ب 15 سجنا نافذا)..
إنه حب داخل الزنزانة، حب خفي/سري تحت الأعين الطيبة والجاحظة للحراس، حب بكل المعاني النبيلة والشريفة.. حب ترجم قوة المناضل وقوة أبناء وبنات شعبنا..
إن حب الشهيدين بوبكر الدريدي ومصطفى بلهواري، رمزي قضية شعبنا، قد منحني القوة التي ستهزم النظام القائم وأزلامه. ولا أخفي أن الحب الذي ولد داخل الزنزانة قد غذى حب الشهيدين وكافة الشهداء وحب القضية.. لقد بصم على أبدية هذا الحب الجميل.. حب القضية وحب الحياة والتضحية..
إن قلب/عقل المناضل الحقيقي أكبر من أن يصيبه النسيان أو الخرف.. إنه أكبر من أن يحتله الحقد أو أن يستبد به المكر.. فليس مناضلا من يلجأ الى الكذب والخداع..
وليس مناضلا من يستنجد بعدو اليوم أو الأمس.. أما الخيانة، فخط أحمر.. علما أن الحقد خيانة والمكر خيانة وكذلك الكذب والافتراء والخداع...
إننا هنا اليوم، كما البارحة، بهامة مرفوعة.. وكما الغد بدون شك.. إنه العهد "المقدس"، عهد الشهداء والشهيدات، عهد بنات وأبناء شعبنا المكافح..
واختصارا، هذه رسالة ضمن رسائل أخرى لرفيقتي نعيمة إن الاعتقال (أم أسماء وسامية ويونس):
"حسن:
لست أدري كيف أبدأ كلمتي الخاصة هذه، غير أني لا أجد بدا –في البداية- من تهنئة نفسي وتهنئتك بمولد هذه العلاقة التي أتمنى، بل يجب أن نعمل على أن تكون في مستوى طموحاتنا.
وإني لجد سعيدة بهذا الحب أو الأصح بهذا الرباط الذي أحس أنه انتشلني من مخالب هذا العالم الملوث الذي أصبحت فيه أعراض الناس سلعة معروضة في المزادات دون مراعاة لأدنى شرط يفرضه علينا الشرف والنبل. أما العواطف فأحيطت بسياج من التلاعب والنفاق، وكل هذا تعبير من هذا المجتمع عن المدنية والتحضر، وما عدا ذلك أسموه عقدا وأمراضا نفسية.
وقد نجحت هذه الادعاءات الكاذبة في بث سمومها، فأصبحت المرأة حاليا مجالا خصبا لتلبية الرغبات الذكورية، والرجل في نظرها أداة للتباهي والافتخار. أما المشاعر النبيلة والمبادئ الرفيعة وكل ضروريات الارتباط الأبدي، فلا مكان لها أمام بعض الإغراءات الزائلة.
حسن:
إن هذا –كما تعرف- هو ما جعلني أتردد، بل أرفض بشدة الانسياق مع هذه التيارات الجارفة. لأني أعرف جيدا أنه في نهاية المطاف: "البقاء للأصلح". ودفتر التجارب مليء بما يدمي القلب عن انهيار علاقات بنيت على أسس تافهة. وإذ كنت أصمد بثبات أمام الإغراءات التي هي في نظر بعض بنات جيلي مفتاح للجنة الدنيوية وعنوان "لحماقاتي وقلة إدراكي"، فلأني كنت أبحث في كل صاحب عرض عن شيء، لا أستطيع وصفه، أحسه بداخلي وأشفق عليه من أن تلوثه أياد قذرة وقلوب متحجرة، أوهمها عقلها المريض أنها تستطيع إخضاعي، بل امتلاكي تحت تأثير المال وأشياء أخرى جرت وراءها وبلهفة الكثيرات اللواتي ينسين أو يتناسين أن الارتباط غير المستوفي لجميع الشروط بصرف النظر عن البريق المزيف، هو "كسور جهنم ظاهره الرحمة وباطنه من قبله العذاب". وكما قيل من يزرع الريح يحصد العاصفة.
حسن:
أعرف جيدا أن الطريق شاق وطويل، والمسؤولية أضخم بكثير مما يتصور، لكن ثقتي فيك وفي مبادئك ثم ما أكنه لك من حب واحترام وكذا إحساسي بوجود مادة خام بداخلي لا يمكنها الانصهار إلا بجانبك أو بالأحرى معك، وبصفتك مثالا للنبل والشرف والوعي بالمسؤولية، كل ذلك جعلني أعتبرك عملة ناذرة في زمن اختفت فيه القيم والمبادئ وأصبح لقب مناضل يمنح مجانا لكل المتطفلين، فشتان بين الثرى والثريا.
حسن:
أؤكد لك مرة أخرى أني مقتنعة تماما بهذا الاختيار بعد درس الموضوع من جميع الجوانب، ومستعدة للتضحية، لأنك أنت شخصيا وقضيتك تستحقان أكثر من تضحية.
فلتهنأ بالا، وتأكد أني سأسعى جاهدة لإسعادك وتعويضك تعب السنين الماضية، كما أني استطيع أن أرتاح على صدرك وكلي ثقة أن هذا الحب الذي ولد وترعرع داخل الزنزانة –رغم القيود والحرس والاستفزازات- لن يكون إلا مشرفا وقادرا على تخطي عقبات أكبر. والسعادة في متناول كل من يقدس المسؤولية.
حسن:
وددت لو أستمر في الحديث معك الى ما لا نهاية، وفي انتظار الشروط اللازمة لذلك أهديك حبي، وأتمنى أن ينير زنزانتك التي تكالب الأشرار على منع أي بصيص نور من اختراق جدرانها".
أسماء*
* خوفا عليها، وتفاديا لأي هفوة منا قد تفضح سرها، لقبناها ب "أسماء". ولذلك، لم نجد صعوبة في تسمية ابنتنا البكر، فكان اختيارنا "أسماء" تلقائيا.
******
تخليدا لليوم العالمي للمرأة (08 مارس)، ورغم التمييع والابتذال اللذين طبعا هذه المناسبة التاريخية التي ترمز الى معاناة المرأة وقوتها وتضحياتها، أتقاسم مع الرفيقات والرفاق والصديقات والأصدقاء حكاية/قصة ارتباطي برفيقتي نعيمة الزيتوني داخل الزنزانة.. وروح هذا التقاسم هو البوح والاعتراف لها وللتاريخ، ولكم/لكن ومعكم/معكن، بما قدمته لي ولرفيقي نور الدين جوهاري إبان اعتقالنا من خدمات جليلة، بل ومستحيلة..
ممرضة بالجناح الذي كنا "محتجزين" فيه منذ 1985 (المركز الجامعي الاستشفائي ابن رشد بالدار البيضاء، المعروف بموريزكو)، بدون زيارة وبالمطلق، أو أي تواصل مع الخارج وتحت الحراسة المشددة (وليشهد وزير الصحة الحالي الحسين الوردي الذي كان ضمن الطاقم الطبي المشرف على حالتنا حينذاك وكذلك البروفيسور بنعكيدة الذي تم تهديده بسبب تواصله مع عائلاتنا وأيضا البروفيسور الرائع الحسين بارو وآخرون..).
فبعدما أحاطت بكل تفاصيل اعتقالنا، وعلى رأسها تهمة "المؤامرة الغاية منها قلب النظام" (أعداء الملك الحسن الثاني)، ومعركة إضرابنا عن الطعام (كانت سابقا، طالبة بشعبة الفلسفة بجامعة ابن طفيل بالقنيطرة)، وبعد سنة من التواصل المباشر والحذر معنا (الرفيق نور الدين جوهاري وأنا وأيضا الرفيق الطاهر الدريدي قبل تنقيله الى السجن المركزي بالقنيطرة) سنة 1989، اختارت/قررت أن ترتبط بي، وألحت على ذلك رغم علمها بكل المخاطر التي قد تترتب عن ارتباطنا "المقدس". وقد تحمل الرفيق جوهاري، وعلى انفراد، مسؤولية مناقشة الموضوع معها بكل التفاصيل المملة (إنه على قيد الحياة) وبما في ذلك مخاطر هذا الارتباط الممنوع والمفتوح عن المجهول.. وأصرت على ارتباطنا سنة 1990، متحدية زمن الاعتقال والإضراب اللامحدود عن الطعام والعزلة والأفق الغامض، بل والمسدود، الذي كان سيدوم حتى سنة 1999 (محكوم ب 15 سجنا نافذا)..
إنه حب داخل الزنزانة، حب خفي/سري تحت الأعين الطيبة والجاحظة للحراس، حب بكل المعاني النبيلة والشريفة.. حب ترجم قوة المناضل وقوة أبناء وبنات شعبنا..
إن حب الشهيدين بوبكر الدريدي ومصطفى بلهواري، رمزي قضية شعبنا، قد منحني القوة التي ستهزم النظام القائم وأزلامه. ولا أخفي أن الحب الذي ولد داخل الزنزانة قد غذى حب الشهيدين وكافة الشهداء وحب القضية.. لقد بصم على أبدية هذا الحب الجميل.. حب القضية وحب الحياة والتضحية..
إن قلب/عقل المناضل الحقيقي أكبر من أن يصيبه النسيان أو الخرف.. إنه أكبر من أن يحتله الحقد أو أن يستبد به المكر.. فليس مناضلا من يلجأ الى الكذب والخداع..
وليس مناضلا من يستنجد بعدو اليوم أو الأمس.. أما الخيانة، فخط أحمر.. علما أن الحقد خيانة والمكر خيانة وكذلك الكذب والافتراء والخداع...
إننا هنا اليوم، كما البارحة، بهامة مرفوعة.. وكما الغد بدون شك.. إنه العهد "المقدس"، عهد الشهداء والشهيدات، عهد بنات وأبناء شعبنا المكافح..
واختصارا، هذه رسالة ضمن رسائل أخرى لرفيقتي نعيمة إن الاعتقال (أم أسماء وسامية ويونس):
"حسن:
لست أدري كيف أبدأ كلمتي الخاصة هذه، غير أني لا أجد بدا –في البداية- من تهنئة نفسي وتهنئتك بمولد هذه العلاقة التي أتمنى، بل يجب أن نعمل على أن تكون في مستوى طموحاتنا.
وإني لجد سعيدة بهذا الحب أو الأصح بهذا الرباط الذي أحس أنه انتشلني من مخالب هذا العالم الملوث الذي أصبحت فيه أعراض الناس سلعة معروضة في المزادات دون مراعاة لأدنى شرط يفرضه علينا الشرف والنبل. أما العواطف فأحيطت بسياج من التلاعب والنفاق، وكل هذا تعبير من هذا المجتمع عن المدنية والتحضر، وما عدا ذلك أسموه عقدا وأمراضا نفسية.
وقد نجحت هذه الادعاءات الكاذبة في بث سمومها، فأصبحت المرأة حاليا مجالا خصبا لتلبية الرغبات الذكورية، والرجل في نظرها أداة للتباهي والافتخار. أما المشاعر النبيلة والمبادئ الرفيعة وكل ضروريات الارتباط الأبدي، فلا مكان لها أمام بعض الإغراءات الزائلة.
حسن:
إن هذا –كما تعرف- هو ما جعلني أتردد، بل أرفض بشدة الانسياق مع هذه التيارات الجارفة. لأني أعرف جيدا أنه في نهاية المطاف: "البقاء للأصلح". ودفتر التجارب مليء بما يدمي القلب عن انهيار علاقات بنيت على أسس تافهة. وإذ كنت أصمد بثبات أمام الإغراءات التي هي في نظر بعض بنات جيلي مفتاح للجنة الدنيوية وعنوان "لحماقاتي وقلة إدراكي"، فلأني كنت أبحث في كل صاحب عرض عن شيء، لا أستطيع وصفه، أحسه بداخلي وأشفق عليه من أن تلوثه أياد قذرة وقلوب متحجرة، أوهمها عقلها المريض أنها تستطيع إخضاعي، بل امتلاكي تحت تأثير المال وأشياء أخرى جرت وراءها وبلهفة الكثيرات اللواتي ينسين أو يتناسين أن الارتباط غير المستوفي لجميع الشروط بصرف النظر عن البريق المزيف، هو "كسور جهنم ظاهره الرحمة وباطنه من قبله العذاب". وكما قيل من يزرع الريح يحصد العاصفة.
حسن:
أعرف جيدا أن الطريق شاق وطويل، والمسؤولية أضخم بكثير مما يتصور، لكن ثقتي فيك وفي مبادئك ثم ما أكنه لك من حب واحترام وكذا إحساسي بوجود مادة خام بداخلي لا يمكنها الانصهار إلا بجانبك أو بالأحرى معك، وبصفتك مثالا للنبل والشرف والوعي بالمسؤولية، كل ذلك جعلني أعتبرك عملة ناذرة في زمن اختفت فيه القيم والمبادئ وأصبح لقب مناضل يمنح مجانا لكل المتطفلين، فشتان بين الثرى والثريا.
حسن:
أؤكد لك مرة أخرى أني مقتنعة تماما بهذا الاختيار بعد درس الموضوع من جميع الجوانب، ومستعدة للتضحية، لأنك أنت شخصيا وقضيتك تستحقان أكثر من تضحية.
فلتهنأ بالا، وتأكد أني سأسعى جاهدة لإسعادك وتعويضك تعب السنين الماضية، كما أني استطيع أن أرتاح على صدرك وكلي ثقة أن هذا الحب الذي ولد وترعرع داخل الزنزانة –رغم القيود والحرس والاستفزازات- لن يكون إلا مشرفا وقادرا على تخطي عقبات أكبر. والسعادة في متناول كل من يقدس المسؤولية.
حسن:
وددت لو أستمر في الحديث معك الى ما لا نهاية، وفي انتظار الشروط اللازمة لذلك أهديك حبي، وأتمنى أن ينير زنزانتك التي تكالب الأشرار على منع أي بصيص نور من اختراق جدرانها".
أسماء*
* خوفا عليها، وتفاديا لأي هفوة منا قد تفضح سرها، لقبناها ب "أسماء". ولذلك، لم نجد صعوبة في تسمية ابنتنا البكر، فكان اختيارنا "أسماء" تلقائيا.