حسقيل قوجمان - الانشاد والغناء في السجون السياسية

كتب الاخ جمال محمد تقي مقالا عن السجون العراقية فوجدت من المناسب ان ابدي بعض الملاحظات عما جاء فيه فما كان منه الا ان تفضل بنشرها كما هي؟ كتبت له كلمة شكر جاء فيها: "اشكرك على رسالتك الرقيقة وعلى نشر الملاحظات في الحوار المتمدن. لقد فجرت فيها ذكريات كانت نائمة منذ عشرات السنين بمقدمتك "السجن ليس لنا نحن الاباة" اذ ان لهذه الاناشيد مثل "من السجون تهفو القلوب في حنين وباشتياق" كان دور كبير في حياتي السجنية." واضفت بعض ذكرياتي عن موضوع الغناء والاناشيد في سجون الفترة الملكية حتى ثورة تموز. فاجابني برسالة رقيقة جاء فيها: "اثار فضولي ما احتوته رسالتك الاخيرة ففيها عناوين تنسى اتمنى عليك ان تستحضرها وتكتبها بمقالات كذكريات وكن على يقين بانها مفيدة جدا للاجيال الجديدة". فشعرت ان من المفيد الاستجابة لهذا الطلب واستحضار هذه الامور الهامة في حياتنا السياسية السجنية والتي قد يكون نصيبها النسيان.
لا اعرف الكثير عن هذا الموضوع في فترة سجن الكوت في ايام الرفيق فهد. ولكني اعرف ان صديقا لي اسمه فرايم غزال وهو صيدلي في مهنته حكم عليه بالسجن في هذه الفترة لمدة وجيزة وكان هذا الصديق عازف كمان جيد ونجح في ادخال كمانه الى السجن ولابد انه كان يقوم بالعزف خلال تلك الفترة. ولكني مع الاسف لا اعرف شيئا عن تفاصيل مثل هذا النشاط في تلك الفترة اذ لم اسمع من السجناء الذين كانوا في السجن انذاك اي شيء عن النشاط الموسيقي او الغنائي.
حين ارسلونا الى سجن نقرة السلمان في ايار ١٩٤٩ كان السجناء في المناسبات الاحتفالية ينشدون ويغنون اغان ثورية. واهم المناسبات الاحتفالية كانت الاحتفالات في المناسبات الثورية كاول ايار وذكرى ثورة اكتوبر والاعياد الدينية مثل عيدي الفطر والاضحى وعيد نوروز. كانت هناك مناسبات من نوع اخر كالاحتفال بقدوم وجبة جديدة من السجناء والاحتفال بانتهاء مدة حكم بعض السجناء لتوديعهم وحثهم على النضال في صفوف الحزب وحتى حين كنا نسمع عن انتصار نضالي في اية بقعة من العالم. في كل هذه المناسبات اقتصر الغناء على الاناشيد والاغاني الثورية ولم يجر غناء اغان غيرها في اجتماع عام. وكان الغناء كله غناء جماعيا يشترك فيه كل السجناء على حد سواء. واحيانا كان يقوم بعض السجناء بالغناء غناء منفردا مثل الغناء الكردي الذي يسمى حيران على ما اتذكر كان يجيده عزيز محمد اكثر من غيره. والغناء الريفي من الابوذيات كان بارزا فيه الشاعر زاهد محمد وكاظم فرهود.
لا شك ان الانشاد والغناء كان له اثر كبير على نفسيات السجناء. فهي لحظات ننسى فيها اننا في سجن وننسى كل المضايقات والاضطهادات التي نعاني منها في حياتنا السجنية. كان للانشاد والغناء الثوري اعظم الاثر على ارتفاع معنوية السجناء وتعزيز صمودهم في وجه السلطات القاسية التي كانت تهدف الى تحطيم هذه المعنويات والهبوط بالسجناء السياسيين الى مستوى السجناء العاديين وحتى دون ذلك.
وبهذا الخصوص كان ستة سجناء كنا نطلق عليهم اسم فرقة النشيد. لم نطلق عليهم هذا الاسم لانهم كانوا يتميزون عن غيرهم من السجناء في الانشاد وانما لان قصتهم كانت موضع ضحك واعتزاز. عند نقل هؤلاء السجناء الستة الى نقرة السلمان انشدوا نشيدا فاقامت الشرطة الدعوى عليهم لهذا السبب. وبعد فترة سفر هؤلاء الستة الى بغداد لمحاكمتهم على قراءة النشيد. وحين انهى القاضي قراءة الحكم عليهم انشدوا ثانية فسجلت الشرطة عليهم دعوى ثانية. وتكرر هذا الامر عدة مرات فاطلقنا عليهم اسم فرقة النشيد. لا اتذكر بالضبط من كان هؤلاء الستة ولكني اعتقد ان عددا منهم كان حسين الرضي (سلام عادل) وحسين علي الوردي ومحمد العبلي وستار القيسي. واعتذر سلفا ان كانت هذه الاسماء غير دقيقة فقد مرت عليها عشرات السنين.
كانت الاناشيد الثورية اما اناشيد معروفة خارج السجن مثل الاممية واما اناشيد يوضع شعرها في السجن من قبل الشعراء من المساجين بالحان اناشيد معروفة مثل اناشيد الانصار والاناشيد المعروفة في العراق بتغيير كلماتها الى كلمات وطنية ثورية. وكانت الاغاني الثورية ايضا توضع من قبل شعرائنا وفق الحان الاغاني المعروفة في الغناء العراقي او غير العراقي.
فيما عدا الحفلات الجماعية التي كانت تجري في السجن كانت هناك ظروف يجري فيها الغناء حين يجتمع عدد من السجناء في عمل تطوعي. فمثلا كان طباخو العشاء وانا منهم يقدمون وجبات تتطلب بعض المساعدة التطوعية. فاذا كان العشاء كبة حامض مثلا كان على طباخي العشاء ان يطحنوا الرز ويعجنوه ويطحنوا اللحم ويعدوا الحشو واعداد الكبب للطبخ. فاذا كان العشاء يتكون من كبتين لكل سجين كان علينا ان نعد ٥٠٠ كبة ل ٢٥٠ من اعضاء المنظمة. لذلك كان فريق طباخي العشاء المكون من طباخين يحتاجان الى العمل التطوعي من سجناء اخرين وكان يعج المطبخ باصوات غناء هؤلاء اثناء العمل.
انذاك نشأت فكرة بناء عود في السجن. فقد كنت عازف عود وكان من السجناء من يعرفني قبل السجن ففكرنا ببناء عود محلي الصنع لاننا لم نستطع ادخال عود حقيقي الى السجن في تلك الظروف. ففي تلك الفترة لم تكن الادارة تتدخل في حياتنا اليومية رغم ان جبار ايوب، مدير السجن، كان من افظع المديرين وهو المنظم والمنفذ لمجزرتي سجن بغداد والكوت سنة ١٩٥٣. وقد حكم عليه بالاعدام بعد الثورة. ولكن كانت رقابة دقيقة على ما يجري ادخاله الى السجن. فقد كانت الادارة تضيق الخناق على زوار السجناء من العوائل وتعذبهم في ادخال حتى المواد الغذائية التي يجلبونها لاولادهم.
كان بين السجناء من له المام في النجارة فوجدوا طريقة لبناء العود. صنعوا اطار العود من منخل بعد ان جعلوه المسا بالورق الزجاج وفي جانبي الاطار وضعوا قطعتين من الخشب المعاكس اخذوها من احد الصناديق التي كانوا يزودون بها المواد الغذائية السجنية. وصنعوا زند العود من قطعة من كرك الفران جعلوها ملساء مسطحة في احد جانبيها. واستخدموا قبقابا لجعل مكان لوضع المفاتيح التي نجروها بطريقة لا ادري كيف نجحوا في اعدادها. فلم تتوفر في السجن ادوات للنجارة وكانوا يستخدمون السكاكين من اجل صنع كل هذه الاشياء. لم تكن لي خبرة في النجارة ولم اساهم في صنع العود. كان دوري فقط في ارشادهم الى المقاييس. بعد اكمال صنع العود نشأت مشكلة الاوتار. فلم تكن لدينا اوتار حقيقية ولذلك استخدمنا الاسلاك بدلا من الاوتار. ولم يكن بالامكان استخدام نفس السلك بدلا من الاوتار السميكة والاوتار الدقيقة فبرمنا سلكين او عدة اسلاك لكي نحصل على اوتار سميكة. ونجحنا اخيرا في ترتيب اسلاك كافية لحاجات العود. كان ذلك العود الاول في نقرة السلمان مؤلما جدا. فقد كان العزف في هذه الاوتار السلكية المبرومة يدمي اصابعي ولكن النتيجة كانت انني استطعت ان استخدم العود لمرافقة الغناء في الحفلات ولتعليم السجناء الجدد غناء الاناشيد والاغاني السجنية. فكان تعليم الاناشيد والاغاني احدى المهام الكثيرة التي قمت بها في السجون.
بعد اضراب ناجح عن الطعام نجحنا في مطلب اغلاق سجن نقرة السلمان ونقل السجناء الى سجن الكوت او سجن بغداد. وكان من شروط النقل ان تقوم المنظمة بتعيين السجناء في كل وجبة والسجن الذي ينقلون اليه. وكان من الطبيعي نقل السجناء ذوي المحكوميات الطويلة في البداية. قررت منظمة حميد عثمان نقل اغلب السجناء الى سجن الكوت الا اذا طلب احد السجناء لسبب ما ان ينقل الى سجن بغداد. وقررت منظمة سالم عبيد النعمان وكان عددهم لا يتجاوز العشرين الانتقال جميعا الى سجن بغداد. وقد استغرقت عملية النقل مدة طويلة بحيث ان عددا من السجناء ذوي المحكوميات القصيرة انتهت محكومياتهم واطلق سراحهم من سجن نقرة السلمان وكان بينهم حسين الرضي (سلام عادل) والدكتور حسين على الوردي وربما محمد العبلي ايضا.
كان انتقالنا الى سجن الكوت في اواخر ١٩٥١ وفي كانون الثاني من نفس السنة حصل هروب ١٤ سجينا من نفق حفر من السجن الى خارج السجن. ولكن الهروب لم يكن ناجحا لان الحزب لم ينظم وسيلة لنقل الهاربين الى بغداد فاضطروا الى المشي على الاقدام الى بغداد. وبعد هروبهم بيومين اكتشفت ادارة السجن فتحة النفق بالصدفة وبدأ البحث عن الهاربين وقبض عليهم جميعا ولم ينج منهم احد.
في سنة ١٩٥٢ فكرنا هنا ايضا بصنع عود اخر لاننا لم نستطع نقل العود الاول معنا. وكان العود الثاني اكثر نجاحا خصوصا لاننا حصلنا على اوتار حقيقية له. وفي سجن الكوت تقاطرت وجبات السجناء الجدد واصبحت مهمة تعليم الاناشيد والاغاني السجنية مهمة ثابتة كنت اقوم بها. وفي صيف ١٩٥٣ كان مهرجان الشبيبة العالمية في برلين. فقررت المنظمة القيام باستعراض في نفس موعد بداية المهرجان وكان من الطبيعي ان يتضمن الاستعداد له دورا خاصا بالاناشيد. وكان احد السجناء وهو محام من البصرة يجيد نظم الشعر فنظم نشيدا للمهرجان ونجحت في تلحينه وتدريب كافة السجناء على انشاده. ولكن بداية مجزرة الكوت حالت دون القيام بالاستعراض. وقصة مجزرة الكوت قصة اخرى قد نحتاج الى استحضارها لان ما كتب عنها لحد اليوم لم يكن دقيقا.
كان بين السجناء الشباب ذوي المحكوميات القصيرة جدا من انهوا محكومياتهم قبل بدء المجزرة. وعلمنا بعد ذلك ان قسما من هؤلاء نجحوا في حضور المهرجان في برلين وانشدوا نشيدنا في المهرجان.
بعد مجزرة الكوت نقلنا نحن السجناء اليهود الى نقرة السلمان وبقي سجن نقرة السلمان سجنا خاصا باليهود مع وجود اربعة سجناء غير يهود هم بهاء الدين نوري وصادق جعفر الفلاحي وكامل وباقر. وبعد اكثر من سنة نقل عدد كبير من السجناء غير اليهود الى سجن نقرة السلمان فتحولت منظمتنا الشيوعية الى منظمة كبيرة. وانذاك فكرنا ببناء عود اخر ونجحنا فيه واستطعنا الحصول على اوتار حقيقية. كان هذا العود احسن الاعواد وكان صوته يشابه عودا حقيقيا جيدا. في هذه الفترة جدت نشاطات موسيقية لم يكن لها وجود في الفترتين السابقتين. ففي هذه الفترة اخد السجناء الاكراد يرقصون دبكة يسمونها سي بييي. وشاركهم فيها بعض السجناء غير الاكراد كان احسنهم المحامي توفيق منير. وكان علي ان اعزف لهم موسقى هذه الرقصة اثناء رقصهم. وفي الاعياد كان السجناء العرب وخصوصا منهم القادمون من جنوب العراق يرقصون الدبكات العربية في ساحة السجن. وقد ثبتنا العود بقطعة من فتيل الفانوس بحيث استطعت تعليقه على كتفي لكي استطيع العزف لهم اثناء الدبكات.
واضافة الى مرافقة زاهد محمد وكاظم فرهود في غناء الابوذيات ومرافقة سائر المنشدين اثناء الانشاد والغناء ظهر شيء جديد اخر. فقد حصلنا على شعر مكون من ثمانية ابيات من نظم احد قادة الحزب الشيوعي اللبناني عن لينين وقمت بتلحينها وغنائها في حفلة بمناسبة ذكرى ثورة اكتوبر. وهذا شجعني على اختيار تسعة ابيات من قصيدة لصالح بحر العلوم الذي كان سجينا معنا في هذه الفترة بعنوان الرفاق الخالدين فلحنتها ايضا. واصبح من المألوف ان اغني هاتين القصيدتين غناء منفردا في كل حفلة من الحفلات السجنية مهما كانت المناسبة. اضافة الى ذلك كنت احفظ اغنية لحنها الموسيقيان داود اكرم وسليم زبلي من قصيدة سواستوبول للجواهري. وقد قص لي داود اكرم انهما غنيا هذه القصيدة لاول مرة في حفلة في احد قصور اغنياء العراقيين في الصليخ وكان الرفيق فهد حاضرا في تلك الحفلة. كنت اغني هذه القصيدة اضافة الى القصيدتين الاخريين في كل الحفلات.
كان للانشاد والغناء دور هام في رفع معنوية السجناء وتضامنهم مع النضال السياسي خارج السجن.
ملاحظة واحدة شاذة عن هذا الموضوع ولكني ارى من الجدير ذكرها وتسجيلها لان لها مدلولا خاصا. في احد النقاشات السياسية بيني وبين احد قادة الحزب اعتذر عن ذكر اسمه شعر بالاحراج في النقاش فما كان منه الا ان صرخ في وجهي قائلا " شنو انت غير چلاغچي". اغضبني ذلك لان عبارته لم تكن فقط نكرانا للدور الذي قمت به في رفع مستوى الانشاد والغناء في السجون وانما احتقارا للموسيقى والموسيقيين باعتبار كلمة چلاغچي سبة او اهانة. في البداية قررت الامتناع عن العزف نهائيا ولكن بعد التفكير الدقيق وجدت انني اذا فعلت ذلك انحط الى مستواه في هذا الموضوع لاني بذلك اعتبر الكلمة اهانة او سبة وهي في الواقع شرف كبير لان هؤلاء كانوا فنانين من اعلى المستويات اطربوا الشعب العراقي كله. عدت الى ممارسة نشاطي الموسيقي لخدمة الرفاق في موضوع الانشاد والغناء وكان القائد المذكور احد الراقصين على نغمات عودي. وحين زار هذا القائد لندن قبل سنوات اتصل بي تلفونيا للسؤال عن رقم تلفون شخص اخر. دعوته لزيارتي لكي نلتقي فرفض. وسألني "شلونك" فقلت له "بعدني چلاغچي".
ارجو ان يكون هذا المقال مفيدا في احياء ذكرى ظاهرة خاصة في حياة السجون السياسية في العهد الملكي من تاريخ العراق.


تعليقات

لا توجد تعليقات.

هذا النص

ملف
أدب السجون والمعتقلات
المشاهدات
1,280
آخر تحديث
أعلى