عبد الرحيم جيران - الهوية والكراهية

كنت قد كتبت مقالًا سابقًا في علاقة الهوية بالحب، وما لم أتنبه إليه وقتها هو تضاد الكراهية، وما يجلبه من أسئلة في صدد الهوية؛ ولذا أعمل في هذا المقال على استدراك الأمر. وحين أفعل هذا فعلى وعي بما يترتب على هذه المهمة من تبعات أخلاقية. وأعني بهذا الاهتمام بما عملت أخلاقيات التسامح والغفران على مناهضته أو تلافيه. لكن للفكر أهدافه التي تقع خارج التشيع لهذه الأخلاق أو تلك. والمقصود بهذا مراعاة شرط فهم الموضوعات، لا جعل بُعْدِها القيمي الإيجابي قيدًا لمقاربتها. وينبغي التنبه ـ هنا ـ إلى أن فعل رفض الكراهية يُعَد نفسه تعبيرًا عن كراهية تُجاه ما لا نرغب فيه، كما أن الكراهية لا تعني الحقد أو المقت بالضرورة، قد تتحول إليهما، لكنها ليست هي هما. ومجال سريانها ماثل في السلبي للرغبة (ما نرغب عنه)، سواء أكان موضوع الرغبة شيئًا أم كائنًا أم فعلًا.
إذا كانت الهوية السردية تُقام ـ كما قاربتها في المقالات السابقة ـ على التوتر بين التطلع والتحقق، وعلى الحياة المنقلبة (و/ أو المآلات غير المرغوب فيها) فإن الهوية تصير تركيبًا جدليا، بين ما كنا نرغب في الحصول عليه، وما لا نرغب في وقوعه (ما هو مكروه من قِبَل الذات)؛ فكل من السرود العتيقة والحديثة لا يُخيل ما نرغب فيه حسب، بل أيضًا ما تشتد كراهيتنا نحوه (علبة السرد)؛ هذا ما تمثله رواية «مدام بوفاري» على نحو جلي، إذ لا تُقام الهوية فيها انطلاقًا من تطلع «إيما» المثالي ـ الرومانسي الذي ترغب فيه على مستوى الحب حسب، بل أيضًا على ما تشتد كراهيتها تجاهه (تحققات الواقع المخيبة للطوية)؛ أي ما يخون هويتها التي تتطلع نحوها قبْل أن تخون هي شارل بوفاري.
ولا تُعَد الكراهية ـ كما الحب ـ مشروعًا، ومن ثمة فهي نتاج مشروع أو دافعٌ من دوافعه؛ فهي ليست تطلعًا إلى تحسين البقاء، ولا تُقام على تخطيط مسبق متجه نحو جلب الرضا للذات. لا أحد يُخطط لأن يكُون لديه موضوع يكرهه، سواء أكان هذا الموضوع شيئًا أم كائنًا؛ فالكراهية هي موقف قيمي ـ نفسي ناتج عن تجربة ما تجاه موضوعها؛ ومن ثمة فهي محصلة صيرورة ما؛ أي نتاج تطلع ينتهي بعدم الرضا عن تحققاته في الواقع، أو نتاج حساسية نفسية تجاه بعض الموضوعات. وحين تتجاوز الكراهية طبيعتها هذه تفقد ما يُؤسس محتواها، وتتحول إلى انتقام؛ ومن ثمة تصير دافعًا لأن تكوين مشروع يهدف إلى تدمير موضوعه (الانتقام)، كما هو الحال بالنسبة إلى سعيد مهران في رواية «اللص والكلاب» لنجيب محفوظ؛ حيث تتحول الكراهية إلى دافع يبعث على الانتقام، المتطلع إلى تدمير موضوعه (رؤوف علوان ـ نبوية).
تُعَد إذن الكراهية مجرد فعل يترجم موقفا أو شعورًا نفسيا تجاه موضوع ما، وليست مثل الحب الذي يجمع في بنية فعله بين شعور نفسي وصيرورة استهدافية تسعى نحو جلب رضا ذات ـ موضوع (المحبوب) عن الذات ـ الأنا. قد تُتبادل الكراهية بين ذاتين ـ موضوعين (كائنين)، كما هو الحال في الحب، لكن موضوع التبادل مختلف بين الاثنين (الحب والكراهية)؛ فإذا كان يَتمثل ـ في صيرورة الحب ـ في الاعتراف القيمي المتبادل بين المحِب والمحبوب، فإنه يتمثل ـ في الكراهية ـ في تبادل القطيعة بين الكاره والمكروه. ولا يمكن تصور تبادل القطيعة بدون وجود تبادل أول ماثل في الاتصال (التبادل الهوياتي).
إن شكل التبادل الثاني القائم على القطيعة يكتسي أهمية في تحديد الهوية، وما أن نقرر هذا نضطر إلى إعادة النظر في عد المستمِر مُحددا لها (الهوية). ولا يتعلق الأمر ـ هنا ـ بمغايرة العادات التي تتصف بها الذات idem؛ وإنما بتحديد هذه الأخيرة في ضوء علاقتها بما تكشفه في موضوعها من إزعاج مُربِك لجهازها القيمي، الذي تُؤول به العالم من حولها؛ حيث يحدث الانتقال من تأويل الذات ـ الموضوع (المحبوب) إيجابًا إلى تأويله سلبًا. لا تتبدى الكراهية دوما وفق النسق السابق القائم على القطيعة وفق الانتقال من تبادل قائم على الاتصال إلى تبادل قائم على القطيعة، بل هناك نسق آخر ماثل في انتفاء التبادل الأول؛ الذي يقتصر تبادل الكراهية فيه على التبادل الثاني (القطيعة) فقط. وينشط هذا النسق الثاني في نطاق انعدام التبادل الهوياتي الإيجابي بفعل مضمرات أو أحكام قَبْلِية تكُون لدى الكاره تجاه موضوعه المكروه، كما هو الحال في الخطاب العنصري؛ حيث يُؤول المكروه (الغَيْرُ المختلِفُ) بكونه موضوعَ قيمةٍ سلبيا. وإذا ما تصورنا نسقًا ثالثًا يُنتقل فيه من القطيعة القائمة على الكراهية إلى الاتصال، فإن من شأن هذا النسق أن يُفضي إلى انتفاء تبادل الكراهية، والانتقال إلى تبادل المحبة أو الاحترام على الأقل، بما يعنيه هذا الأمر من إحلال أخلاق التسامح والغفران والعدالة محل أخلاق الإنكار. ولا تُعيد كل ذات تسعى إلى الانتقال من كراهية موضوعها إلى محبته مراجعةَ هويتِه حسب، بل أيضا تُعيد مراجعة هويتها أساسًا. وينتقل التبادل الهوياتي ـ في هذه الحالة ـ من السلبية والتمانع (إذا كنت إيجابيا فغيري المختلِف يُعَد سلبيا بالضرورة) إلى تبادل إيجابي قائم على التقاطع المنفتح بين الذوات المختلفة.
ليست الكراهية دائمة، فقد تكُون مؤقتة. ولا تكُون هكذا بدون وجود سبب؛ وغالبًا ما يكُون هذا السبب مرتبطًا بصحوة الضمير، التي يعقبها طلب الغفران (بول ريكور)؛ ومن ثمة تعمل الهوية على إمكان تجديد محتواها من طريق مراجعة الموقف تُجاه الآخر المكروه. لكن الكراهية لا تُساهم في تعرفنا الآخر وتعرفنا ذواتنا في تعرف صلاحية كراهيته أو عدمها، بل تُساهم أيضا في تعرف ذواتنا من خلال الكراهية الذاتية؛ أي حين نكره أنفسنا. وهذه الكراهية تامة وفق مسلكين:
أ ـ مسلك كراهية ذاتنا بعد اكتشاف حجم الخطأ تجاه الآخر، ومدى إفراطنا في الشر؛ وهذا المسلك يتصل بصحوة الضمير وطلب الغفران.
ب ـ مسلك كراهية ذاتنا نتيجة اليأس التام من تحقيق تطلعاتنا، وانسداد أفق الإمكانات المتاحة أمامنا في أن نكُون في المكان الذي يناسبنا. ولا يكُون هذا المسلك نشيطا إلا في الحالة التي نُرجع فيها الفشل إلى أسباب كامنة في ذواتنا. وهذا ما نلمسه في رواية «شرق المتوسط» لعبد الرحمن منيف؛ حيث يشعر رجب إسماعيل بكراهية نفسه نتيجة إرجاع فشله في الصمود إلى ذاته. ويُؤدي مسلك الكراهية الذاتية إلى مظهرين: مظهر التصالح مع الذات من طريق تقبل الواقع، ومظهر تدمير الذات الذي قد يُفضي إلى الموت.
وكيفما كانت أشكال مراجعة الكراهية فهي مرتبطة بالهوية المتخللة التي تجعل الذات تُعيد النظر في اختياراتها التي تُحدد إرادتها، وطبيعة الفعل الذي تنتهجه في تحقيق تطلعاتها.


أكاديمي وأديب مغربي
القدص العربي

Dec 08, 2017

عبد الرحيم جيران

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى