الموضوع:
بتاريخ 7 من مايو 1950 أصدرت النيابة العامة قرارا بضبط كتاب (من هنا نبدأ) للكاتب خالد محمد خالد، وأجرت معه تحقيقا انتهت فيه إلى طلب تأييد القرار من محكمة القاهرة الإبتدائية.
الإتهامات:
- أسندت النيابة العامة للكاتب الجرائم التالية:
أولا: التعدِّي علنا علي الدين الإسلامي "المادتين 161، 171 عقوبات"
ثانيا : التحبيذ والترويج علنا لمذهب يرمي إلي تغيير النظم الأساسية للهيئة الاجتماعية بالقوة "المادة 174 عقوبات".
ثالثا: تحريض طائفة من الناس علنا وهي طائفة الرأسماليين و الازدراء بها تحريضا من شأنه تكدير السلم العام "المادتين 171،176 عقوبات"
- أدلة لجنة الفتوى على اتهام المؤلف:
أولا - فيما يتعلق بجريمة التعدي على الدين الإسلامي: قالت لجنة الفتوى إن الكتاب وُضع بروح تُناصب الدين العداء السافر، وتعمل جهدها على هدم كيانه، وتسلبه أخص وظائفه وهي الهيمنة على شئون الحياة وتدبيرها وإقامة أمور الناس فيها على أسس العدل والاستقامة، وسياستهم بكل ما فيه إصلاح حالهم في الدنيا وتوفير أسباب سعادتهم في الآخرة بالنصح والإرشاد والوعظ والهداية، وأخرى بالقضاء العدل والحكم الرشيد.
- ودعمت لجنة الفتوى رأيها بما يلي:
(1) - أن المؤلف صوَّر الحكومة الدينية بخصائص و غرائز من شأنها أن تبعث في النفوس محاربة هذا النوع من الحكم، ورماها بالغموض المطلق وأن دستورها الذي تخضع له؛ و تقوم به وتفر إليه و تهرب، هو الدين، هو القران، وأن القرآن و السُّنه فيها من الغموض والاحتمالات ما يجعل في الآية و الحديث متمسكا للمتخاصمين المتعارضين في الرأي، وأن المؤلف يعني بهذا أن ذلك الغموض يجعلهما غير صالحين أان يكونا أساسا صالحا للحكومة.
(2) - أن المؤلف يقرر أن مهمة الدين لا تعدو الهداية والإرشا،د وأن ما قام به النبي من قيادة الجيوش والمفاوضات، وعقد المعاهدات وغيرها من مظاهر السلطة التي يمارسها الحكام، لم يكن إلا لحكم ضرورات اجتماعية، وأن المؤلف يعني بذلك أن هذه الشئون التي قام بها النبي لم يقم بها لأنها من مهمته الدينية وعنصر من عناصر الرسالة.
(3) - أن المؤلف يري أن الحدود جميعها موقوفة عن العمل، وليس هناك مجال لإقامتها، وأن عُمَر أوقف حد السرقة أيام المجاعات، وصار ذلك سنة رشيدة من بعده، وأن حد الزنا يحمل موانع تنفيذه، وأن حد الخمر كحد الزنا في صعوبة تنفيذه أو استحالته، وأن الدين لا يصح أن يعتمد فيما يعتمد عليه في إصلاح المجتمع علي العقوبة، معللا ذلك بأن نفوذ الدين وأثره في مكافحة الرذيلة وهو الرفق و الحِجاج الهادئ والمنطق الرصين، أما حين تتحول هذه الرسائل إلي سوط الحكومة الدينية وسيفها فإن الفضيلة آنئذ تصاب بجزع أليم.
(4) - أن المؤلف عرض لركن من أركان الدين و هو الزكاة، وخلع عليه ثوبا يتقزز منه النفوس، و يجعله مظهرا من مظاهر المذلة و الهوان، التي لا يرضي الله بها لعباده، ورأي أن الكهانة، أي الدعوي الدينية هي التي صورت للناس أن الإسلام يري في الصدقات اشتراكية تلبي حاجة المجتمع، وإنها بهذا التصويت تسير علي طريقة الخداع التي تعودت إبداء بعض مظاهر العطف والرحمة بالناس، في حين أنها تعمل بها علي سلب الناس أعز ما يملكون من كرامة وحق.
- المحكمة:
عرض القرار على سعادة حافظ بك سابق رئيس محكمة القاهرة الإبتدائية الذي فند جميع هذه الاتهامات وأنصف المؤلف بفكر واع واستخلاص سائغ يستند إلى أدلة من الكتاب والسنة فقال:
أولا - وحيث إنه تبين من الاطلاع علي الكتاب أن المؤلف نادي بقومية الحكم، ورد علي الرأي القائل بضرورة قيام حكومة دينية؛ بأن في ذلك مجازفة بالدين ذاته، مجازفة تعرض نقاوته للكدر، وسلامته للخطر، بينما يجب الحرص علي صيانته وإبقائه بعيدا عن مهب العواصف و الذرايات وأن الرسول عليه السلام يحس إحساسا واضحا بمهمته ويعرفها حق المعرفة، وهي أنه هاد و بشير، و ليس رئيس حكومة ولا جبارا في الأرض.
وقد عرضوا عليه يوما أن يجعلوا له مثل ما كان للأباطرة والحكام، ففزع وقال: ” لست كأحدهم، إنما إنا رحمة مهداه ”.
ودخل عليه عمر ذات يوم فوجده مضطجعا علي حصير قد أثر في جنبه؛ فقال له: ” أفلا تتخذ لك فراشا لينا يا رسول الله ” ؟فأجابه بقوله: ” يا عمر أتظنها كسروية ؟ إنها نبوة لا ملك ”.
ثم قال المؤلف: أن الرسول لم يكن حريصا علي أن يمثل شخصية الحاكم، لأن مقام الرسالة أرفع مقام، لولا الضرورات الإجتماعية التي ألجأته إلي ذلك، لتحقيق المنفعة والسعادة لمجتمعه الجديد، وإذا كان الرسول فاوض وعقد المعاهدات، وقاد الجيوش، ومارس كثيرا من مظاهر الدولة التي يمارسها الحكام، وأقام بعض خلفائه من بعده، أن هناك طرازا خاصا من الحكومات يعتبره الدين بعض أركانه، وفرائضه أن الحكومة تحقق الغرض من قيامها، وهو تحقيق المنفعة الاجتماعية العامة يباركها الله، ولئن كانت الحكومات الدينية قد توافرت لها في العصر الإسلامي الأول كل عناصر النجاح و التقدم، فان ذلك يرجع إلي الكفاءة الشخصية و الكمال الذاتي، اللذين كانا يتمتع بهما رؤساء تلك الحكومات كأبي بكر و عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز، غير أن الأمور لم يلبس أن انتهت إلي تنافس دموي علي الحكم و الفتنه بين الناس و قادتهم، و بين القادة بعضهم لبعض، و إلي نوع من الأحكام ليس بينها وبين الدين وشيجه ولا صلة، و أن رغم أصحاب أنها حكم الدين بل حكم الله ورسوله.
ثم قال المؤلف: أن الحكومة الدينية لا تستلهم مبادئها وسلوكها من كتاب الله ولا من سنه رسوله، بل من نفسية الحاكمين وأطماعهم ومنافعهم الذاتية، وهي تعتمد في قيامها علي سلطة غامضة؛ لا يعرف مأتاها ولا مداها، ولا تفسير لوجودها إلا بأنها ظل الله في الأرض.
وحين تسأل عن دستورها الذي تخضع له وتقوم به، تفر وتهرب إلي الغموض الذي لا تستطيع أن تعيش إلا فيه، تقول هو الدين، هو القرآن، ولما كان القرآن حمال أوجه، كما قال المعلى، وكذلك السنه، فقد استغل بعض الحكام بعض الآيات القرآنية استغلالا مغرضا، وكان أصحاب علي – وهم يحرضون علي دم معاوية و قتاله – يقدمون بين أيديهم طليعة هائلة من الآيات والأحاديث، هي نفس الآيات والأحاديث التي كان يحرض بها أصحاب معاوية علي دم علي وقتاله وببعض هذه الآيات قتل عثمان، وبها ذاتها قَتَل الخوارج عليًا، كما قتل يزيد الطاغية الحسين بن علي، مبررا فعلته هذه بأية وحديث استمسك بهما.
ثم قال المؤلف: إن الحكومات الأهلية تحكم بهواها، ثم تزعم أنها تحكم بما أنزل الله، وأن غريزة الغموض وغيرها من الغرائز التي تستمد الحكومة الدينية منها سلطتها، بعيده كل البعد عن الحقائق الدينية وفضائلها، وأن الحكومات التي حكمت الناس باسم الدين، سواء في المسيحية أو الإسلام، كانت أسوا مثال للحكم، ما عدا قله نادرة فاضلة تكاد العين تقع عليها في زحام الكثرة الباغية، وأن الحكومات الدينية التي ينقضها، هي تلك التي تعتمد علي سلطة مبهمة غامضة، ولا تقوم علي أسس دستورية واضحة، والتي تمنح نفسها قداسة وعصمة مُدَّعاة.
وردَّ المؤلف على الداعين بوجوب إقامة حكومة دينية: بأنهم إذ يبرءون ذلك بفكر القضاء علي الرذائل و إقامة حدود الدين وحده من غير أن يكون دولة، هو الذي يهديها إلي الفضيلة عن طريق الترويض والإقناع وأن نفوذ الدين وأثرة في مكافحة الرذائل، يكونان أرسخ قدما وأقوم سبيلا حين يسلك طريق إلي النفوس بالتسامح و الرفق و الحِجاج الهادئ و المنطق الرصين، أما حين تتحول هذه الوسائل إلي سوط الحكومة الدينية وسيفها، فإن الفضيلة آنئذ تصاب بجزع أليم، واستشهد علي ذلك بقوله ” فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها ” وقوله تعالي: وما أنت عليهم بجبار، فذكِّر بالقرآن من يخاف وعيد ”.
ثم تحدث المؤلف عن الحدود فقال: إنها موقوفة عن العمل وليس هناك مجال لإقامتها، فقد أوقف عمر حد السرقة في أيام المجاعات، وصارت سنه رشيدة من بعده، والشرق الإسلامي في مجاعة مادام الناس لم يستوفوا ضرورات الحياة، فحد السرقة موقوف إذن حتي ينزل الرخاء مكان الحدوب، ويوم يوجد الرخاء فلن تحصل سرقة، وإذا وجد السارق رغم الرخاء قطعت يده، علي أن قطع بعض أيدي سارقة لن يحتاج إلي قيام دولة دينية خاصة، فمادة واحده في القانون تقوم مقامها، أما حد الزنا، فإن أمر إقامته يحمل موانع تنفيذية، فقد شرط الله لإقامته أن تثبت الخطيئة بإقرار مقترفها أو بالبينة، واشتراط أن تكون البينة أربعة شهود وأن يروا العملية الجنسية نفسها رؤية سافرة، وهذا أمرا يكاد يكون مستحيلا، مما يجعل الثبوت بالبينة متعذرا، كما أنه لم يثبت بالإقرار فإن أحدا لم يذهب من تلقاه نفسه ليقدم ذاته للعار والفضيحة والميتة الشنيعة رجما بالحجارة أو جلدا بالسياط، ولم يحدث في خلال عهد الرسول و خلفائه سوي وقائع معدودة أقيم فيها حد الزنا، وقد كان كل من أقيم عليهم الحد معترفين، دفعتهم إلي الإعتراف نزعه مثالية حببت إليهم تطهير النفس و تحملها مسئولية وزرها في الحياة الدنيا، وهي نزعه نادرة، أما حد الخمر، فهو كحد الزنا تماما في صعوبة تنفيذه أو استحالته فهو لا يقام إلا بالإقرار أو البينة، وبينته شاهدان، ولا تنحصر شهادتهم في رؤية الشارب وهو يشرب الخمر، بل لابد في رأي كثير من الفقهاء أن يشهدا بأنه شرب وهو عالم بأن الشراب خمرا مسكرا، وأنه كان مختارا غير مكره علي شرابه، وهذا العلم مكنون في ضمير الشارب، ولن يستطيع الشاهدان بلوغه أو الاحاطه به، ولا سيما إذا زعم الشارب أنه شرب غير عالم به.
وخلص المؤلف من ذلك، إلي أنه لا داعي إلي إقامة حكومة دينية من أجل إقامة هذه الحدود، خاصا، وقال المؤلف أن سدنة الكهانه يدعونا باسم الدين إلي اشتراكية الصدقات، وهم حين يدعون إلي ذلك إنما يجعلون الصدقة نظاما اقتصاديا مشروعا، أو معني ذلك أنهم يفتحون باب المسألة، أي السؤال علي مصراعيه، مع أن الدين الذي يحقر المسألة و يمجد و يأمر بأن يأخذ العامل حقه فيما عمل، دون أن ينتقض من حقه شئ، لا يمكن أن يعالج حقوق الشعب في الحياة بالصدقات كما تحاول الكهانة اليوم أن تفعل، والإسلام حين دعا إلي العدل والتكافل الاجتماعي، لم تكن الصدقة في حسابه قط، كوسيلة تنهض بها حياه الشعوب، بل هي شئ يشبه أكل الميتة، فتباح لبعض الأفراد الذين لا يجدون ما يقيم الأود و يمسك الرَّمق، ولكنها لا تعالج هبوط المستوي المعيشي للأمم و المجتمعات، وهذه بديهة يعرفها الذين عرفوا محمدا ودرسوا نفسه العالية ودينه القويم، فلقد وضع رسول الله الصدقة في مكانها اللائق بها، حين يقول أنها أوساخ الناس، أنها غسالة ذنوب الناس، وقد خشي الرسول أن يفهم الناس الصدقة مصدر مشروع من مصادر العيش والارتزاق، فكان يدَعهم عنها، ويذم المسألة، إذ يقول المسألة كلوح في وجه صاحبها يوم القيامة، إياك والمسألة فإنما هي رصف من النار مهلبه”.
وقد ذكر المؤلف في مواضع متفرقة من كتابة، أن الدين يدعو إلي توحيد الإله والحرية والمساواة بين الناس، وإلي العدل والإحسان والنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي، وإنه يجب تقديم الدين للناس وضيئا متألقا كيوم نزل من لدن عزيز حكيم وعليم، وما توحيد الإله وجعل الأمر كله والسلطان كله والكبرياء كله له دون سواه، إلا هتاف علوي مقدس، ويشيع في الإنسانية الأمن والإيناس حتي تلتقي الإنسانية كلها علي الحرية والادعاء و المساواة، وأن الدين ليس في حاجة إلي أن يكون دولة، إذ هو عبارة عن حقائق خالدة لا تتغير وأن وظيفة الدين هي الهداية والإرشاد إلي أنبل ما في الحياة من معنويات وفضائل وتبليغ كلمات الله التي تهدي إلي الحق و الفضيلة و الصلاح، وأن أجَلْ خدمة نؤديها للدين، هي أن نجعله قريبا من قلوب الناس، عميقا في نفوسهم، وتطعيم الدولة و المجتمعات بروحة الحية ومعنوياته الفاضلة لا أن نأتي بحكومة تستغله في تقديس ذاتها وتبرير أطماعها واستكراه الناس لجبروتها، وأن الدين يجب أن يظل كما أراده ربه نبوة لا ملكا وهداية لا حكومة، وموعظة لا سوطا، وأن الدين في المجتمع الإسلامي بأسره يمثل ضرورة اجتماعية لا غني للناس عنها، وهو مصدر قوة وإيخاء ومساواة، لا ظهير أنانية وعدوان، ويجب أن يحتفظ الدين بخصائصه الذاتية وأهدافه التي من أجلها شرعه الله وأنزله، وهي إسعاد الناس سعادة واقعية في نطاق المساواة النبيلة، التي جاء يعلنها ويحرض عليها، وأن الدين في صورته الصحيحة زميل مؤنث مسعد في رحلة الحياة كلها.
وحيث أن الدين شيئا، ودعاة الدين والحكومات الدينية شئ آخر و لا يعد الطعن في هولاء الدعاة، أو في هذه الحكومات، طعنا في الدين إلا اذا انصرف الطعن إليه وانصب عليه في ذاته، فالدين حقائق خالدة ثابتة، أما هولاء الدعاة ومتولوا شئون هذه الحكومات، فهم بشر من الناس يصيبون ويخطئون.
وقد مجد المؤلف عهد الرسول صلي الله عليه وسلم، وأشاد بذكر الحكومات التي خلفته في العصر الإسلامي الأول، وقال إنه توافر لها كل عناصر النجاح والتطور.
وإنما وجهه المؤلف نقضه إلي ما عداها من الحكومات الدينية التي وصفها أنها كانت تحكم بهواها، وتزعم أنها تحكم بما أنزل الله، وتفسر وجودها بأنها ظل الله في الأرض، و إذ تسأل عن دستورها الذي تخضع لها وتقوم به، تفر إلي الغموض الذي لا تستطيع أن تعيش إلا فيه ” وتقول هو الدين، هو القران ” مع أنها ما كانت تستلهم مبادئها وسلوكها من كتاب الله ولا من سنة رسوله، بل من نفسية الحاكمين وأطماعهم ومنافعهم الذاتية.
ونَعى المؤلف علي رجال تلك الحكوما،ت التي انقرضت وأصبحت أثرا بعد عين، أنهم كانوا يستغلون القرآن استغلالا سيئا ويسفكون دم المسلمين، متسلحين ببعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، مستغلين ما تحمله هذه وتلك من وجوه ومعان عدة.
وواضح من هذا، أن المؤلف إذ قال أن القرآن "حمَّال أوجه" وكذا الأحاديث، لم يقصد التعريض بكتاب الله وسنة رسوله، بل التعريض بأولئك الذين استغلوا استغلالا مغرضا.
وقد نسب المؤلف إلي علي بن أبي طالب أنه قال: ” إن القران حمَّال أوجه ” ولم تنكر لجنه الفتوى صدور هذا القول من علي، هذا إلي أن أبي نعيم أخرج عن ابن عباس و هو من أجلاء الصحابة، أنه قال: ” القرآن ذلول ذو وجوه، فاحملوه علي أحسن وجوهه ” وقال الألوسي في مقدمته ” أن بعض من يوثق بهم قال ” أن الطوائف المختلفة من المسلمين تعلقوا بالقرآن، وكل طائفة منهم تحتج لمذهبها به، وترد علي مخالفه، وتزعم أنه خالف القرآن، ولا شك أن منهم المحق والمبطل، وأن بعضهم يرجح المجاز علي الحقيقة، فمذهب أبي حنيفة يقدم الحقيقة لأنها الأصل ومذهب أبي يوسف يقدم المجاز الراجح ” قال تعالي وهو أصدق القائلين: ” هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب و أخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنه وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله و الراسخون في العلم يقولون آمنا كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولي الألباب "
ثانيا: وحيث إن لجنه الفتوى أخذت علي المؤلف قوله، أن مهمة الدين لا تعدو الهداية والإرشاد، وأن الرسول لم يكن حريصا علي أن يمثل شخصية الحاكم، لولا الضرورات الاجتماعية التي ألجأت إلي ذلك لتحقيق المنفعة و السعادة لمجتمعة الجديد، مع أن الشئون التي باشرها النبي صلي الله عليه وسلم من قياده الجيوش والمفاوضات وعقد المعاهدات و غيرها، إنما هي من مهنته الدينية وعنصر من عناصر الرسالة.
علي أن المؤلف – فيما قاله – لم ينكر ركنا من أركان الدين، ولم ينتقص من قدر رسول الله صلي الله عليه وسلم، فقد قال صراحة أن مقام الرسالة أرفع مقام، وأن الرسول صلي الله عليه وسلم كان يحس إحساسا واضحا بمهمته، ويعرفه حق معرفة، وهي أنه هاد وبشير وليس رئيس حكومة، ولا جبارا في الأرض، وقد أيد ذلك بأحاديث نبوية صحيحة، وهو مؤيد كذلك بقوله سبحانه وتعالي: ”وما أرسلناك إلا مبشرا و نذيرا ” وقوله تعالي: ” أنما أنت منذر” ”إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا وداعيا إلي الله بإذنه وسراجا منيرا”، ”ما عليك إلا البلاغ” وقوله تعالي ” ادع إلي سبيل ربك بالحكمة و الموعظة الحسنه ” وقوله تعالي ”وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد”.
وقد قال المغفور له الأستاذ محمد مصطفي المراغي في تعريفه بكتاب ”حياة محمد” ومؤلفه الدكتور هيكل باشا، أن الرسول أمر بأن يبلغ عن ربه، ولم تبين له الطرق التي يتبعها في التبليغ وفي حماية الدعوي وترك له أن يتصرف بعقله وعلمه وفطنته، كما يتصرف غيره من العلماء والعقلاء، وجاء الوحي مفصلا قاطعا في كل ما يخص ذات الإله ووحدته وصفاته وكيفية عبادته، ولم يكن كذلك فيما يختص بالنظم الإجتماعية، الأسرة والقرية والمدينة والدولة، منفردة ومرتبطة بغيرها من الدول.
وقد صار النبي مبلغا عن ربه داعيا إليه حاميا لتلك الدعوي ولحرية الداعين مدافعا عنهم، وأصبح حاكم الأمة الإسلامية وقائد حربها، ومفتيها وقاضيها، ومنظم جميع الصلات والروابط فيها وبينها وبين غيرها من الأمم، وقد أقام العدل في ذلك كله، وألَّف بين أمم وطوائف ما كان العقل يسيغ إمكان التأليف بينها، وظهرت الحكمة والرصانة وبُعد النظر وكمال الفطنة، وسرعة وقوة الحزم، في كل ما صدر عنه من قول وفعل.
ثالثا: وحيث إن لجنه الفتوى أسندت إلي مؤلف الكتاب، أنه عرَّض بركن من أركان الدين وهو الذكاة، وخلع عليه ثوبا يُقزِّز منه النفوس ويجعله مظهرا من مظاهر المذلة و الهوان.
وحيث إنه لا شك في أن الزكاة ركنا من أركان الدين الخمسة وقد أمر الله سبحانه وتعالي بها بقوله ”خذ من أموالهم صدقه تطهرهم وتزكيهم بها” وبيَّن سبحانه وتعالي مصارفها بقوله: ”إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله و الله عليما حكيم”.
وقد وضعها الله إلي جانب الإيمان به بقوله تعالي ”خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه ثم في سلسلة ذرعها سبعين زراع فاسلكوه إنه كان لا يؤمن بالله العظيم ولا يحض عن طعام المسكين”.
وقد قرنها الله بالصلاة في كثير من المواضع، ومن ذلك قوله تعالي ”ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر وملائكته والكتاب والنبيين وآتي المال علي حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتي الذكاة” وقوله تعالي ”وأقيموا الصلاة وآتوا الذكاة واركعوا مع الراكعين”. وقولي تعالي” قد أفلح المؤمنين الذين هم في صلاتهم خاشعين والذين هم عن اللغو معرضون والذين هم للزكاة فاعلون" وفي هذا ما يدل علي أن الزكاة عبادة، وفرض واجب، فالمؤمنون أخوة ولا يتم إيمان المرء حتي يجب لأخيه ما يجب لنفسه .
وفريضة الزكاة تتصل بهذا الإخاء ولا تتصل بالأخلاق وتهذيبها، ولا بالمعاملات وتنظيمها، وما اتصل بالإخاء اتصل بالإيمان بالله، ومن أجل ذلك قام أبو بكر بعد وفاة النبي يطالب المسلمين بأدائها واعتبر نكوصهم عنها ضعفا في إيمانهم، وتفصيلا للمال عليه وخروجا علي النظام الروحي الذي نزل به القرآن، وارتداد عن الإسلام، فكانت حروب الرِّدة التي ثبَّت بها أبو بكر رسالة الإسلام كاملة.
رابعا: وحيث أن المؤلف لم يجحد الزكاة، ولم ينف أنها ركن من أركان الدين وهو لم يحقر الصدقة ذاتها بل حقر المسألة، فقد قال أن الصدقة في عصر الرسول وفي لغة القرآن تعني ضريبة مفروضة، هي ضريبة الزكاة التي نزلت فيها التيه ”خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها” وإنها مباحة للأفراد الذين لا يجدون ما يقيم أودهم ويسد رمقهم".
وقد أورد المؤلف ذلك في مقام الرد علي أولئك الذين يقولون بأن الصدقة نظام اقتصادي واف، ووسيلة ناجحة لمحاربة الفقر و إسعاد الشعب.
فقال انه لا يمكن معالجة حقوق الشعب في الحياة بالصدقات وأن الدين يمجد العمل، ويأمر بأن يأخذ العامل حقه فيما عمل دون أن ينقص من حقه شيئا، والمستمع لأصحاب ذلك الرأي، ليكاد يخدع فيصدق أن الصدقة هي كل ما يستطيع الإسلام أن يقدمه للشعوب من عدالة ومساواة، مع أن الإسلام حين دعا إلي العدل والتكافل الاجتماعي لم تكن الصدقة في حسابه قط، كوسيلة تنهض بها حياه الشعوب، وأن هولاء القوم إذ يجعلون الصدقة نظاما اقتصاديا مشروعا، إنما يفتحون باب المسألة علي مصراعيه، مع أن الرسول عليه السلام ذم المسألة، قال
” المسألة كلوح في وجه صاحبها يوم القيامة إياك و المسألة، فإنما هي ردف من النار ملهبة".
خامسا: وحيث إن ما ورد بالكتاب عن ذم المسألة والتعفف عنها صحيح، قد جاء بالجزء الثالث من كتاب فتح الباري ومتن الجامع الصحيح الإمام البخاري أن رسول الله قال : ”ومن يستعفف يعفه الله ومن يستغني يغنه الله ومن متصبر يصبره الله وما أعطي أحد عطاء خير أوسع من الصبر ” وأنه قال أيضا : ” لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة من حطب علي ظهره فيبعه فيكف الله به وجهه، خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه ” وأنه قال ” مازال الرجل ليسأل حتي يأتي يوم القيامة ليس في وجه مزعه لحم” وأنه قال ” اليد العليا خير من اليد السفلي” وقد فسروا هذا الحديث الأخير بأن أعلي الأيدي هي المنفقة ثم المتعففة عن الأخذ ثم الآخذه بغير سؤال ، وأن أسفل الأيدي السائلة والمانعة.
ويؤخذ مما روي عن النبي منال أحاديث المتقدم ذكرها وغيرها، أنه كان يحض الغني علي الصدقة، كما كان يحض الفقير على التعفف عن المسألة و التنزه عنها، ولو امتهن المرء نفسه في طلب الرزق وارتكب المشقة في ذلك لما يدخل على السائل من ذل السؤال. ولما يدخل علي المسئول من الضيق في ماله، إن أعطي كل سائل، وأما من يسأل مضطرا فلا جناح عليه، وقد روي عن النبي ذلك، أنه قال ” الصدقة أوساخ الناس، وإنها لا تحل لآل محمد ” وفي رواية أخرى ” أن آل محمد لا تحل لهم الصدقة ولعل الحكمة في ذلك، أن الصدقة إنما يصرفها المتصدق علي المحتاج يريد بها وجه الله.
سادسا وحيث إن لجنه الفتوى نسبت إلي المؤلف أنه قال أن الدين لا يصح أن يعتمد – فيما يعتمد عليه في إصلاح المجتمع – علي العقوبة، وقد تبين من مطالعة الكتاب أن المؤلف كان يرد علي القائلين بوجود قيام حكومة دينية تتولي القضاء علي الرذائل، فقال: إنه لا سبيل للقضاء علي الرذائل إلا بتطهير النفس وتعوديها علي احترام نفسها، وأن الدين وحده من غير أن يكون دوله – هو القادر علي أن يوقظ في الضمائر واعظ الله، إن الدولة لا تستطيع بقوانينها أن تهب الناس نقاوة النفس، وأن نفوذ الدين وأثره في مكافحة الرذيلة ليكون ارسخ قدما وأقوم سبيلا، حين يسلك طريقة إلي النفوذ بالتسامح و الرزق و الحِجاج الهادي و المنطق الرصين.
وحيث أن المؤلف لم ينكر ما أمر الله به من حدود، وإنما قال إنه لا ضرورة لقيام حكومة دينية من أجل إقامة هذه الحدود الخاصة، ولا سيما أن هذه الحدود نادرة التطبيق عملا، اذ أن حد السرقة يوقف إبان المجاعات، ولأن حدَّي الزنا والخمر يصعب إثباتهم شرعا – وإن ما ذكره المؤلف عن هذه الحدود صحيح في جملته، فقد جاء بالجزء العاشر في كتاب ” المغني ” أن عمر بن الخطاب قال : ” لا قطع في عالم سنة ” وأن أحمد بن حنبل قال : ” لا قطع في مجاعة ” وأن الإقرار بالزنا نادر الحصول وبياناته أربع شهود عدول من المسلمين، ويشترط فيهم أن يشهدوا بأنهم رأوا ذكر رجل في فرج المرأة كالمرود في المكحلة، والرشاء في البئر، وأن بينة الخمر شاهدان، بأنهم رأيا الشارب يشرب مسكرا. ولا يشترط فيهما علي خلاف ما ذكره المؤلف أن يشهد أن الشاهد شرب مختارا عالما بأنه مسكر، لأن الظاهر أن الاختيار و العلم وما عداهما نادر بعيد، هذا أن الشريعة الإسلامية تميل إلي التشدد في الإثبات والتحرج في إقامة الحدود بدليل قوله عليه السلام ” تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب ” وقوله :” ادرأوا الحدود بالشبهات ما استطعتم ، فإن كان له مخرج فخلوه سبيله إن يخطىءالإمام في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة".
وحيث قد تبين مما تقدم أن المؤلف لم يطعن في الدين ذاته، ولم يجحد من كتاب الله وسنة رسوله، بل مجد وكرم الرسول بأكثر من موضع من خلاله، وقال إنه يجب تقديم دين للناس وضيئا متألقا كيوم نزل منزلا من عزيز حكيم عليم، وهو لم يخرج فيما كتب عن حد البحث العلمي والفلسفة، وإذا صح أنه أخطاء في شيئ مما كتب، فإن الخطأ مصحوب باعتقاد الصواب شيئا، وتعمد الخطاء المصحوب بنية التعدي شيئا آخر، ويشترط للعقاب في مقتضي المادة 191 عقوبات أن يكون الجاني قد تعدي على الدين، أي أهانه وامتهنه، وارتكب ما من شأنه المساس بكرامته أو انتهاك حرمته، والحط من قدره والازدراء به، وأن يكون قد قصده وتعمده ،ولما كان شيئا من ذلك لما توافر في حق مؤلف الكتاب فلا جريمة ولا عقاب.
سابعا: وحيث إنه فيما يتعلق بالجريمتين الأخريين اللذين أسندتهما النيابة العامة للمؤلف ، فقد تبين من مطالعة الكتاب أن المؤلف قال: أن المجتمع المصري كسائر المجتمعات العربية تعتمل فيها جميعا كوامن الكبت و الحرمان، وبدأ التذمر علي كل لسان ووجه، هذا التذمر خطر علي حياة لأمة، ولا يمكن أن يستهين بعاقبته حاكم له بصر بالأمور، وان المسئولية الكاملة لتجثم علي كاهل الرجعية الاقتصادية التي تمتص الحياة من الشعب وتعرقل كل اتجاه نحو اشتراكية يانعة، وأنه يجب مكافحة سياسة التجويع التي تمثلها تلك الرجعية الاقتصادية في بلاد العرب قاطبة، لمكافحة الإستغلال الفردي لأنه مهب كل عاصفة وكل إعصار وبيل.
وقال أن الملكيات الزراعية موزعه توزيعا سيئا، وأن أجور الأطيان الزراعية مرتفعة ارتفاعا فاحشا مرهقا للمستأجرين ، وإلي ذلك ترجع أكثر أسباب الغلاء الذي يئن الشعب منه، وأنه يوجدتفاوت كبير بين طبقتي المجتمع، ولعل من أشد أخطار هذا التفاوت الكبير أنه يقسم الأمة، ويجعل منها معسكرين متباغضين، يحقر أعلاهما الأدني، ويمقت أدناها الأعلي، ويتربص كلا منهما بالآخر مضمرا له كل كراهية وسوء ومهما نحاول إرضاء هذا الفريق برفع مرتبه وتحسين دخله، فإنه لن يرضي، لأن مشكلته لا تتمثل فقط في حرمانه، بل وفي هذا الترف المسعور الذي يعيش فيه الآخرون، فيأكلون أكثر مما ينبغي أن يأكلوا، ويلبسوا أكثر مما ينبغي أن يلبسوا ، ويرغدون أكثر مما ينبغي أن يرغدوا فوق أهرامات من الذهب، بينما بقية المجتمع تقتات من آلامها وحرمانها وإن الكثيرين من هؤلاء السادة سارعوا عندما قررت الحكومة مجانية التعليم الابتدائي منذ أربع سنوات إلي سحب أولادهم من مدارس الحكومة حتي لا يخالطوا فيها الفقراء و الرعاع، وأن وراء هذا التصرف المخجل إيمانا عريقا بالأرستقراطية وحرصا شديدا علي الامتياز والإستعلاء وجاهلية نابية لا تقرها أخلاق الدين ولا أخلاق الدنيا.
وضرب مثلا مما حدث في عهد الرسول، اذ جاءه وفد من مكة وقال له: ”يا محمد لقد رضينا أن نستمع إليك، ولكن لا نمارس هذه الأخلاط من عبيد وصعاليك مكة الفقراء، فاجعل لنا يوما ولهم يوما فاستمهلهم الرسول حتي يأتي أمر ربه، وسرعان ما جاء الوحي الرشيد بآيات باهرة اذ قال تعالي ” ولا تطرد الذين يدعون ربه بالغداة والغشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهك من شئ وما من حسابك عليهم من شئ فتطردهم فتكون من الظالمين" وأحسن الرسول إليهم مخاطبا بقوله: ” أهلا بمن أوصاني بهم ربي”.
فقد علق المؤلف على ذلك بقوله: ”ما أحوج هؤلاء الذين يستنكفون عن زمالة الشعب إلي هذا الدرس البليغ والصارم ليطمئنوا من صفوهم وينهنهوا من كبريائهم.
ثم قال المؤلف إنه إذ ينتقد الرأسمالية، لا ينسي أنها عامل من عوامل الرقي وأحد الأطوار التي يمر بها التقدم وهو ماض إلي غايته وهو لا يسألها إلا أن تفسح الطريق لاشتراكية عادلة يطلبها الشعب ويريدها، وبذلك تظفر لنفسها بحسن الختام.
وقال إنه يجب علينا أن نعمل لسلامنا الخاص أولا وقبل كل شئ ونوجه كل جهودنا وإمكانياتنا لخدمة أنفسنا ومصالحنا الخاصة، وإذا بقي من جهدنا فائض ومزيد لا نحتاج إليه، فلا مانع من إسباغهما علي الآخرين.
وقال إن الحرص علي سلامة بلادنا وتجنيبها ويلات الفتن والاضطرابات، يقتضينا أن نعمل علي مكافحة الجريمة والقضاء علي العوامل التي تيسر نشوئها، وانه ينكر الجريمة مهما تكن بواعثها وأسبابها، ويعتقد أن عبور الحياة في زورق جميل مهما تطل رحلته خير من عبورها في مدرعة ولو بلغنا الهدف في لحظات.
ثم قال إنه لا يدعو إلي إزالة كل فارق وحاجز بين الناس، فهذا أمر مستحيل، وإنما يدعوا إلي تقليل المسافة البعيدة الفاصلة بين طبقتي الأمة وتوزيع الفرص علي المواطنين توزيعا يقضي علي التفاوت الذي يشطر وحدتها النفسية، وأنه لا سبيل إلي إصلاح الأمر، إلا إذا تسلحنا بروح الإنصاف وآمنا بضرورة حدوث تحول اجتماعي شامل، وبذلنا جميعا حكومة وشعبا محاولة صادقة لإتمام هذا التحول دون أن نريق قطره دم واحدة ومن غير أن يكفر بعضنا ببعض، ويلعن بعضنا البعض، ولا شيء يحسم الفوضى التي نعانيها مثل أن يخطو خطوه كتلك التي خطتطها انجلترا مثلا، فنتحول من مجتمع رأسمالي متطرف إلي مجتمع اشتراكي رشيد معتدل وديع، تنتظم الاشتراكية كل مرافقه أوجُلها، وتتحد فيه قوة الإنتاج المحبوسة في أيدي الرأسمالين المتطرفين.
وإن العدالة الاجتماعية فطرة أحسَّت بها الإنسانية منذ أحسَّت بوجودها، ومنذ سمعت ودب الوعي والحياة بين جنبيها وهي ليست روسية الجنسية ماركسية الدم، وليس بلازم أن يكون المؤمنون بها الداعون إليها بلا سبب يعذبون ويضطهدون، وأن انجلترا ليست شيوعية وهي التي صعدت بالضريبة التصاعدية إلي 49 % وراحت في سرعة البرق تؤمم الملكيات الإنتاجية الكبري، وأن النظام الذي يحقق العدالة الاجتماعية في العهد الحاضر هو الاشتراكية ولا شئ سواها، وأن حق الملكية الشخصية أمر مفروغ من ثبوته شرعا وعقلا وعرفا، وتعترف به البلاد قاطبة لرعاياها ومواطنيها.
غير أن هذا لا يمنع الحكومة من أن تختار نوعا معينا من الملكية هو الملكيات الإنتاجية، وتحرره من أيدي الأفراد، وتشرف عليه لصالح الأمة، إذ التأميم هو الوضع الطبيعي الذي أخذ المجتمع الإنساني يسارع إليه، فهو يؤدي إلي تحرير قوي الإنتاج المحبوسة بأيدي الرأسمالين ويقضي علي الفروق الاجتماعية والتفاوت الكبير في الدخول المالية.
وأنه يجب علي الحكومة أن تعمل علي ألا يوجد بيننا جوع ولا جياع، ولا يجوز لها أن تسلك سبيل الشح علي رعاياها الذين يدفعون لها الضرائب، وأنه ليس للحكومات في هذا العصر سوي تحقيق المصلحة الاجتماعية للشعوب، وأن الشعب بطبيعته يريد دائما أن يرقي، ولا تري الحكومة الحصيفة أي تثريب عليه في ذلك مادام العقل والحكمة والنظام هم أدواته إلي حقوقه ومادامت هي نفسها تعينه علي حفظ النظام.
وقال إن الحكومة المصرية أحسنت صنعا بفرض الضريبة التصنيعية وضريبة التركات، وبزيادة إعانة غلاء المعيشة، وأهاب بها أن تعمل علي زيادة مرتبات صغار الموظفين، و الحد من التفاوت الكبير بما يكسبه رب العمل وما يكسبه العامل، وإصلاح حال العامل الزراعي.
وتساءل، لماذا لا تصنع الحكومة كما صنعت تركيا اذ اشترت الإقطاعيات الكبري وباعتها للفلاحين وقسمتها عليهم قسما عادلة فاضلة مرضية.
ودعي الحكومة إلي أن تستصدر قانونا بتحديد الملكيات الزراعية علي غرار المشروع كان قدمه أحد الشيوخ المحترمين للبرلمان وإذ كان الحد الاقصي للملكية الذي اقترحه الشيخ المحترم وهو خمسون فدانا، وإن لم تر الحكومة الاستجابة إلي هذه الرغبة الآن، فلا أقل من أن تسارع إلي استصدار قانون بتخفيض إيجار الأطيان الزراعية وبيعها.
خاتمةالأسباب
وحيث قد تبين مما تقدم، أن المؤلف استعرض الحالة الاجتماعية في البلد، ونقد منها ما رآه خليقا بالنقد، وحسن ما رآه حسن، فقد نقد الرجعية الاقتصادية والرأسمالية المتطرفة، وأفصح عما تعانيه غالبية الشعب من فقر وحرمان، وما يترتب عليها من تزمر، بينما قله من الشعب تنعم بالثراء الوفير، وعما بدا من مسلك هولاء السادة من تعال علي الفقراء.
وهذا الذي قاله المؤلف لا يعدو حدود النقض المباح، وليس فيه ما يفيد تحريض طائفة علي بغض طائفة أخري، أو أنه قصد شيئا من ذلك، بل يبين من ثناياه أن قصده إصلاح هذا البلد، وإسعاد الشعب وهناءته.
وقد أورد المؤلف في كتابة ما يراه من ضروب الإصلاح، ودعى إلي الاشتراكية الرشيدة، وقال إن هذه الاشتراكية هي التي تحقق العدالة الاجتماعية ولا شئ سواها، وهو لم يحبز الشيوعية ومبادئها، أو أي مذهب من المذاهب التي تنطوي مبادئها على استعمال القوة والعنف لتحقيق هذه المباديء، بل صرح بما ينقض ذلك، ودعى الشعب إلي التماس العقل والحكمة والنظام والرفق والتسامح والحنان والأناة والإنصاف، ودعى الحكومة إلي العمل علي تحقيق ما ارتآه من وجوه الإصلاح.
هذا إلي أن ما ذكره المؤلف عن الفقر أو هبوط مستوي المعيشة، وما إلي ذلك، ليتردد علي لسان كل من يسعي إلي الإصلاح ويبتغيه، وقد سجلته اللجنة المالية لمجلس النواب في تقريرها عن مشروع الميزانية العامة في السنه المالية الحالية، اذ قالت : ”إن تنمية مواد الدخل القومي وكفالة العدالة الاقتصادية هي السبيل إلي الإصلاح الاجتماعي الذي يبرئ المجتمع المصري من أدرانه، وأن مصر تعاني من قله الإنتاج وهبوط مستوي الدخل ما تعاني، وأنه يجب العمل علي رفع مستوي الغالبية العظمي من الشعب الذي افتقرت ولا تزال تفتقر إلي مطالب العيش الأساسية، لكي تحول دون انتشار النزعات المتطرفة، اذ ليس ثمه شك في أن انحطاط مستوي المعيشة، وقسوة الفقر المرض والجهل تربة خصبه لتفشي هذه النزعات، وأن السبيل إلي مكافحتها هو رفع مستوي المعيشة لكافة أبناء البلاد، فليست القوانين كفيله وحدها بعلاج الداء بل إن العلاج الشافي هو استئصال الداء من منبته بالقضاء علي أسبابه وقد اتجه التفكير اللي تحديد الملكيات الكبيرة كوسيلة من وسائل تحقيق العدالة الاجتماعية.
غير أن تجارب مختلف الأمم في هذا الشأن قد دلت علي أن العدالة الاجتماعية لا تتحقق عن هذا الطريق وحده، اذ في متناول الدولة تحديد كل طبقة من طبقات ألامه عن طريق فرض الضرائب بأنواعها وعلي الخصوص الضريبة التصاعدية علي الإيراد العام.
وحيث إن حرية الرأي مكفولة في حدود القانون، ولما كان الكتاب المضبوط لا ينطوي عن جريمة ما، فإنه لا يكون ثمه محل لضبطة تطبيقا للمادة 198 عقوبات، ومن ثم يتعين إلغاء الأمر الصادر بظبطة بالإفراج عنه .
فلهذه الأسباب
قررنا إلغاء الأمر الصادر بضبط كتاب (من هنا: نبدأ) ” لمؤلفة الأستاذ خالد محمد خالد .. والإفراج عن هذا الكتاب.
صدر هذا القرار وتلي علنا في يوم السبت 10 من شعبان سنه 1339 هجريا الموافق 27 مايو 1950
رئيس محكمة القاهرة الابتدائية.
المستشار/حافظ سابق.
بتاريخ 7 من مايو 1950 أصدرت النيابة العامة قرارا بضبط كتاب (من هنا نبدأ) للكاتب خالد محمد خالد، وأجرت معه تحقيقا انتهت فيه إلى طلب تأييد القرار من محكمة القاهرة الإبتدائية.
الإتهامات:
- أسندت النيابة العامة للكاتب الجرائم التالية:
أولا: التعدِّي علنا علي الدين الإسلامي "المادتين 161، 171 عقوبات"
ثانيا : التحبيذ والترويج علنا لمذهب يرمي إلي تغيير النظم الأساسية للهيئة الاجتماعية بالقوة "المادة 174 عقوبات".
ثالثا: تحريض طائفة من الناس علنا وهي طائفة الرأسماليين و الازدراء بها تحريضا من شأنه تكدير السلم العام "المادتين 171،176 عقوبات"
- أدلة لجنة الفتوى على اتهام المؤلف:
أولا - فيما يتعلق بجريمة التعدي على الدين الإسلامي: قالت لجنة الفتوى إن الكتاب وُضع بروح تُناصب الدين العداء السافر، وتعمل جهدها على هدم كيانه، وتسلبه أخص وظائفه وهي الهيمنة على شئون الحياة وتدبيرها وإقامة أمور الناس فيها على أسس العدل والاستقامة، وسياستهم بكل ما فيه إصلاح حالهم في الدنيا وتوفير أسباب سعادتهم في الآخرة بالنصح والإرشاد والوعظ والهداية، وأخرى بالقضاء العدل والحكم الرشيد.
- ودعمت لجنة الفتوى رأيها بما يلي:
(1) - أن المؤلف صوَّر الحكومة الدينية بخصائص و غرائز من شأنها أن تبعث في النفوس محاربة هذا النوع من الحكم، ورماها بالغموض المطلق وأن دستورها الذي تخضع له؛ و تقوم به وتفر إليه و تهرب، هو الدين، هو القران، وأن القرآن و السُّنه فيها من الغموض والاحتمالات ما يجعل في الآية و الحديث متمسكا للمتخاصمين المتعارضين في الرأي، وأن المؤلف يعني بهذا أن ذلك الغموض يجعلهما غير صالحين أان يكونا أساسا صالحا للحكومة.
(2) - أن المؤلف يقرر أن مهمة الدين لا تعدو الهداية والإرشا،د وأن ما قام به النبي من قيادة الجيوش والمفاوضات، وعقد المعاهدات وغيرها من مظاهر السلطة التي يمارسها الحكام، لم يكن إلا لحكم ضرورات اجتماعية، وأن المؤلف يعني بذلك أن هذه الشئون التي قام بها النبي لم يقم بها لأنها من مهمته الدينية وعنصر من عناصر الرسالة.
(3) - أن المؤلف يري أن الحدود جميعها موقوفة عن العمل، وليس هناك مجال لإقامتها، وأن عُمَر أوقف حد السرقة أيام المجاعات، وصار ذلك سنة رشيدة من بعده، وأن حد الزنا يحمل موانع تنفيذه، وأن حد الخمر كحد الزنا في صعوبة تنفيذه أو استحالته، وأن الدين لا يصح أن يعتمد فيما يعتمد عليه في إصلاح المجتمع علي العقوبة، معللا ذلك بأن نفوذ الدين وأثره في مكافحة الرذيلة وهو الرفق و الحِجاج الهادئ والمنطق الرصين، أما حين تتحول هذه الرسائل إلي سوط الحكومة الدينية وسيفها فإن الفضيلة آنئذ تصاب بجزع أليم.
(4) - أن المؤلف عرض لركن من أركان الدين و هو الزكاة، وخلع عليه ثوبا يتقزز منه النفوس، و يجعله مظهرا من مظاهر المذلة و الهوان، التي لا يرضي الله بها لعباده، ورأي أن الكهانة، أي الدعوي الدينية هي التي صورت للناس أن الإسلام يري في الصدقات اشتراكية تلبي حاجة المجتمع، وإنها بهذا التصويت تسير علي طريقة الخداع التي تعودت إبداء بعض مظاهر العطف والرحمة بالناس، في حين أنها تعمل بها علي سلب الناس أعز ما يملكون من كرامة وحق.
- المحكمة:
عرض القرار على سعادة حافظ بك سابق رئيس محكمة القاهرة الإبتدائية الذي فند جميع هذه الاتهامات وأنصف المؤلف بفكر واع واستخلاص سائغ يستند إلى أدلة من الكتاب والسنة فقال:
أولا - وحيث إنه تبين من الاطلاع علي الكتاب أن المؤلف نادي بقومية الحكم، ورد علي الرأي القائل بضرورة قيام حكومة دينية؛ بأن في ذلك مجازفة بالدين ذاته، مجازفة تعرض نقاوته للكدر، وسلامته للخطر، بينما يجب الحرص علي صيانته وإبقائه بعيدا عن مهب العواصف و الذرايات وأن الرسول عليه السلام يحس إحساسا واضحا بمهمته ويعرفها حق المعرفة، وهي أنه هاد و بشير، و ليس رئيس حكومة ولا جبارا في الأرض.
وقد عرضوا عليه يوما أن يجعلوا له مثل ما كان للأباطرة والحكام، ففزع وقال: ” لست كأحدهم، إنما إنا رحمة مهداه ”.
ودخل عليه عمر ذات يوم فوجده مضطجعا علي حصير قد أثر في جنبه؛ فقال له: ” أفلا تتخذ لك فراشا لينا يا رسول الله ” ؟فأجابه بقوله: ” يا عمر أتظنها كسروية ؟ إنها نبوة لا ملك ”.
ثم قال المؤلف: أن الرسول لم يكن حريصا علي أن يمثل شخصية الحاكم، لأن مقام الرسالة أرفع مقام، لولا الضرورات الإجتماعية التي ألجأته إلي ذلك، لتحقيق المنفعة والسعادة لمجتمعه الجديد، وإذا كان الرسول فاوض وعقد المعاهدات، وقاد الجيوش، ومارس كثيرا من مظاهر الدولة التي يمارسها الحكام، وأقام بعض خلفائه من بعده، أن هناك طرازا خاصا من الحكومات يعتبره الدين بعض أركانه، وفرائضه أن الحكومة تحقق الغرض من قيامها، وهو تحقيق المنفعة الاجتماعية العامة يباركها الله، ولئن كانت الحكومات الدينية قد توافرت لها في العصر الإسلامي الأول كل عناصر النجاح و التقدم، فان ذلك يرجع إلي الكفاءة الشخصية و الكمال الذاتي، اللذين كانا يتمتع بهما رؤساء تلك الحكومات كأبي بكر و عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز، غير أن الأمور لم يلبس أن انتهت إلي تنافس دموي علي الحكم و الفتنه بين الناس و قادتهم، و بين القادة بعضهم لبعض، و إلي نوع من الأحكام ليس بينها وبين الدين وشيجه ولا صلة، و أن رغم أصحاب أنها حكم الدين بل حكم الله ورسوله.
ثم قال المؤلف: أن الحكومة الدينية لا تستلهم مبادئها وسلوكها من كتاب الله ولا من سنه رسوله، بل من نفسية الحاكمين وأطماعهم ومنافعهم الذاتية، وهي تعتمد في قيامها علي سلطة غامضة؛ لا يعرف مأتاها ولا مداها، ولا تفسير لوجودها إلا بأنها ظل الله في الأرض.
وحين تسأل عن دستورها الذي تخضع له وتقوم به، تفر وتهرب إلي الغموض الذي لا تستطيع أن تعيش إلا فيه، تقول هو الدين، هو القرآن، ولما كان القرآن حمال أوجه، كما قال المعلى، وكذلك السنه، فقد استغل بعض الحكام بعض الآيات القرآنية استغلالا مغرضا، وكان أصحاب علي – وهم يحرضون علي دم معاوية و قتاله – يقدمون بين أيديهم طليعة هائلة من الآيات والأحاديث، هي نفس الآيات والأحاديث التي كان يحرض بها أصحاب معاوية علي دم علي وقتاله وببعض هذه الآيات قتل عثمان، وبها ذاتها قَتَل الخوارج عليًا، كما قتل يزيد الطاغية الحسين بن علي، مبررا فعلته هذه بأية وحديث استمسك بهما.
ثم قال المؤلف: إن الحكومات الأهلية تحكم بهواها، ثم تزعم أنها تحكم بما أنزل الله، وأن غريزة الغموض وغيرها من الغرائز التي تستمد الحكومة الدينية منها سلطتها، بعيده كل البعد عن الحقائق الدينية وفضائلها، وأن الحكومات التي حكمت الناس باسم الدين، سواء في المسيحية أو الإسلام، كانت أسوا مثال للحكم، ما عدا قله نادرة فاضلة تكاد العين تقع عليها في زحام الكثرة الباغية، وأن الحكومات الدينية التي ينقضها، هي تلك التي تعتمد علي سلطة مبهمة غامضة، ولا تقوم علي أسس دستورية واضحة، والتي تمنح نفسها قداسة وعصمة مُدَّعاة.
وردَّ المؤلف على الداعين بوجوب إقامة حكومة دينية: بأنهم إذ يبرءون ذلك بفكر القضاء علي الرذائل و إقامة حدود الدين وحده من غير أن يكون دولة، هو الذي يهديها إلي الفضيلة عن طريق الترويض والإقناع وأن نفوذ الدين وأثرة في مكافحة الرذائل، يكونان أرسخ قدما وأقوم سبيلا حين يسلك طريق إلي النفوس بالتسامح و الرفق و الحِجاج الهادئ و المنطق الرصين، أما حين تتحول هذه الوسائل إلي سوط الحكومة الدينية وسيفها، فإن الفضيلة آنئذ تصاب بجزع أليم، واستشهد علي ذلك بقوله ” فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها ” وقوله تعالي: وما أنت عليهم بجبار، فذكِّر بالقرآن من يخاف وعيد ”.
ثم تحدث المؤلف عن الحدود فقال: إنها موقوفة عن العمل وليس هناك مجال لإقامتها، فقد أوقف عمر حد السرقة في أيام المجاعات، وصارت سنه رشيدة من بعده، والشرق الإسلامي في مجاعة مادام الناس لم يستوفوا ضرورات الحياة، فحد السرقة موقوف إذن حتي ينزل الرخاء مكان الحدوب، ويوم يوجد الرخاء فلن تحصل سرقة، وإذا وجد السارق رغم الرخاء قطعت يده، علي أن قطع بعض أيدي سارقة لن يحتاج إلي قيام دولة دينية خاصة، فمادة واحده في القانون تقوم مقامها، أما حد الزنا، فإن أمر إقامته يحمل موانع تنفيذية، فقد شرط الله لإقامته أن تثبت الخطيئة بإقرار مقترفها أو بالبينة، واشتراط أن تكون البينة أربعة شهود وأن يروا العملية الجنسية نفسها رؤية سافرة، وهذا أمرا يكاد يكون مستحيلا، مما يجعل الثبوت بالبينة متعذرا، كما أنه لم يثبت بالإقرار فإن أحدا لم يذهب من تلقاه نفسه ليقدم ذاته للعار والفضيحة والميتة الشنيعة رجما بالحجارة أو جلدا بالسياط، ولم يحدث في خلال عهد الرسول و خلفائه سوي وقائع معدودة أقيم فيها حد الزنا، وقد كان كل من أقيم عليهم الحد معترفين، دفعتهم إلي الإعتراف نزعه مثالية حببت إليهم تطهير النفس و تحملها مسئولية وزرها في الحياة الدنيا، وهي نزعه نادرة، أما حد الخمر، فهو كحد الزنا تماما في صعوبة تنفيذه أو استحالته فهو لا يقام إلا بالإقرار أو البينة، وبينته شاهدان، ولا تنحصر شهادتهم في رؤية الشارب وهو يشرب الخمر، بل لابد في رأي كثير من الفقهاء أن يشهدا بأنه شرب وهو عالم بأن الشراب خمرا مسكرا، وأنه كان مختارا غير مكره علي شرابه، وهذا العلم مكنون في ضمير الشارب، ولن يستطيع الشاهدان بلوغه أو الاحاطه به، ولا سيما إذا زعم الشارب أنه شرب غير عالم به.
وخلص المؤلف من ذلك، إلي أنه لا داعي إلي إقامة حكومة دينية من أجل إقامة هذه الحدود، خاصا، وقال المؤلف أن سدنة الكهانه يدعونا باسم الدين إلي اشتراكية الصدقات، وهم حين يدعون إلي ذلك إنما يجعلون الصدقة نظاما اقتصاديا مشروعا، أو معني ذلك أنهم يفتحون باب المسألة، أي السؤال علي مصراعيه، مع أن الدين الذي يحقر المسألة و يمجد و يأمر بأن يأخذ العامل حقه فيما عمل، دون أن ينتقض من حقه شئ، لا يمكن أن يعالج حقوق الشعب في الحياة بالصدقات كما تحاول الكهانة اليوم أن تفعل، والإسلام حين دعا إلي العدل والتكافل الاجتماعي، لم تكن الصدقة في حسابه قط، كوسيلة تنهض بها حياه الشعوب، بل هي شئ يشبه أكل الميتة، فتباح لبعض الأفراد الذين لا يجدون ما يقيم الأود و يمسك الرَّمق، ولكنها لا تعالج هبوط المستوي المعيشي للأمم و المجتمعات، وهذه بديهة يعرفها الذين عرفوا محمدا ودرسوا نفسه العالية ودينه القويم، فلقد وضع رسول الله الصدقة في مكانها اللائق بها، حين يقول أنها أوساخ الناس، أنها غسالة ذنوب الناس، وقد خشي الرسول أن يفهم الناس الصدقة مصدر مشروع من مصادر العيش والارتزاق، فكان يدَعهم عنها، ويذم المسألة، إذ يقول المسألة كلوح في وجه صاحبها يوم القيامة، إياك والمسألة فإنما هي رصف من النار مهلبه”.
وقد ذكر المؤلف في مواضع متفرقة من كتابة، أن الدين يدعو إلي توحيد الإله والحرية والمساواة بين الناس، وإلي العدل والإحسان والنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي، وإنه يجب تقديم الدين للناس وضيئا متألقا كيوم نزل من لدن عزيز حكيم وعليم، وما توحيد الإله وجعل الأمر كله والسلطان كله والكبرياء كله له دون سواه، إلا هتاف علوي مقدس، ويشيع في الإنسانية الأمن والإيناس حتي تلتقي الإنسانية كلها علي الحرية والادعاء و المساواة، وأن الدين ليس في حاجة إلي أن يكون دولة، إذ هو عبارة عن حقائق خالدة لا تتغير وأن وظيفة الدين هي الهداية والإرشاد إلي أنبل ما في الحياة من معنويات وفضائل وتبليغ كلمات الله التي تهدي إلي الحق و الفضيلة و الصلاح، وأن أجَلْ خدمة نؤديها للدين، هي أن نجعله قريبا من قلوب الناس، عميقا في نفوسهم، وتطعيم الدولة و المجتمعات بروحة الحية ومعنوياته الفاضلة لا أن نأتي بحكومة تستغله في تقديس ذاتها وتبرير أطماعها واستكراه الناس لجبروتها، وأن الدين يجب أن يظل كما أراده ربه نبوة لا ملكا وهداية لا حكومة، وموعظة لا سوطا، وأن الدين في المجتمع الإسلامي بأسره يمثل ضرورة اجتماعية لا غني للناس عنها، وهو مصدر قوة وإيخاء ومساواة، لا ظهير أنانية وعدوان، ويجب أن يحتفظ الدين بخصائصه الذاتية وأهدافه التي من أجلها شرعه الله وأنزله، وهي إسعاد الناس سعادة واقعية في نطاق المساواة النبيلة، التي جاء يعلنها ويحرض عليها، وأن الدين في صورته الصحيحة زميل مؤنث مسعد في رحلة الحياة كلها.
وحيث أن الدين شيئا، ودعاة الدين والحكومات الدينية شئ آخر و لا يعد الطعن في هولاء الدعاة، أو في هذه الحكومات، طعنا في الدين إلا اذا انصرف الطعن إليه وانصب عليه في ذاته، فالدين حقائق خالدة ثابتة، أما هولاء الدعاة ومتولوا شئون هذه الحكومات، فهم بشر من الناس يصيبون ويخطئون.
وقد مجد المؤلف عهد الرسول صلي الله عليه وسلم، وأشاد بذكر الحكومات التي خلفته في العصر الإسلامي الأول، وقال إنه توافر لها كل عناصر النجاح والتطور.
وإنما وجهه المؤلف نقضه إلي ما عداها من الحكومات الدينية التي وصفها أنها كانت تحكم بهواها، وتزعم أنها تحكم بما أنزل الله، وتفسر وجودها بأنها ظل الله في الأرض، و إذ تسأل عن دستورها الذي تخضع لها وتقوم به، تفر إلي الغموض الذي لا تستطيع أن تعيش إلا فيه ” وتقول هو الدين، هو القران ” مع أنها ما كانت تستلهم مبادئها وسلوكها من كتاب الله ولا من سنة رسوله، بل من نفسية الحاكمين وأطماعهم ومنافعهم الذاتية.
ونَعى المؤلف علي رجال تلك الحكوما،ت التي انقرضت وأصبحت أثرا بعد عين، أنهم كانوا يستغلون القرآن استغلالا سيئا ويسفكون دم المسلمين، متسلحين ببعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، مستغلين ما تحمله هذه وتلك من وجوه ومعان عدة.
وواضح من هذا، أن المؤلف إذ قال أن القرآن "حمَّال أوجه" وكذا الأحاديث، لم يقصد التعريض بكتاب الله وسنة رسوله، بل التعريض بأولئك الذين استغلوا استغلالا مغرضا.
وقد نسب المؤلف إلي علي بن أبي طالب أنه قال: ” إن القران حمَّال أوجه ” ولم تنكر لجنه الفتوى صدور هذا القول من علي، هذا إلي أن أبي نعيم أخرج عن ابن عباس و هو من أجلاء الصحابة، أنه قال: ” القرآن ذلول ذو وجوه، فاحملوه علي أحسن وجوهه ” وقال الألوسي في مقدمته ” أن بعض من يوثق بهم قال ” أن الطوائف المختلفة من المسلمين تعلقوا بالقرآن، وكل طائفة منهم تحتج لمذهبها به، وترد علي مخالفه، وتزعم أنه خالف القرآن، ولا شك أن منهم المحق والمبطل، وأن بعضهم يرجح المجاز علي الحقيقة، فمذهب أبي حنيفة يقدم الحقيقة لأنها الأصل ومذهب أبي يوسف يقدم المجاز الراجح ” قال تعالي وهو أصدق القائلين: ” هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب و أخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنه وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله و الراسخون في العلم يقولون آمنا كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولي الألباب "
ثانيا: وحيث إن لجنه الفتوى أخذت علي المؤلف قوله، أن مهمة الدين لا تعدو الهداية والإرشاد، وأن الرسول لم يكن حريصا علي أن يمثل شخصية الحاكم، لولا الضرورات الاجتماعية التي ألجأت إلي ذلك لتحقيق المنفعة و السعادة لمجتمعة الجديد، مع أن الشئون التي باشرها النبي صلي الله عليه وسلم من قياده الجيوش والمفاوضات وعقد المعاهدات و غيرها، إنما هي من مهنته الدينية وعنصر من عناصر الرسالة.
علي أن المؤلف – فيما قاله – لم ينكر ركنا من أركان الدين، ولم ينتقص من قدر رسول الله صلي الله عليه وسلم، فقد قال صراحة أن مقام الرسالة أرفع مقام، وأن الرسول صلي الله عليه وسلم كان يحس إحساسا واضحا بمهمته، ويعرفه حق معرفة، وهي أنه هاد وبشير وليس رئيس حكومة، ولا جبارا في الأرض، وقد أيد ذلك بأحاديث نبوية صحيحة، وهو مؤيد كذلك بقوله سبحانه وتعالي: ”وما أرسلناك إلا مبشرا و نذيرا ” وقوله تعالي: ” أنما أنت منذر” ”إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا وداعيا إلي الله بإذنه وسراجا منيرا”، ”ما عليك إلا البلاغ” وقوله تعالي ” ادع إلي سبيل ربك بالحكمة و الموعظة الحسنه ” وقوله تعالي ”وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد”.
وقد قال المغفور له الأستاذ محمد مصطفي المراغي في تعريفه بكتاب ”حياة محمد” ومؤلفه الدكتور هيكل باشا، أن الرسول أمر بأن يبلغ عن ربه، ولم تبين له الطرق التي يتبعها في التبليغ وفي حماية الدعوي وترك له أن يتصرف بعقله وعلمه وفطنته، كما يتصرف غيره من العلماء والعقلاء، وجاء الوحي مفصلا قاطعا في كل ما يخص ذات الإله ووحدته وصفاته وكيفية عبادته، ولم يكن كذلك فيما يختص بالنظم الإجتماعية، الأسرة والقرية والمدينة والدولة، منفردة ومرتبطة بغيرها من الدول.
وقد صار النبي مبلغا عن ربه داعيا إليه حاميا لتلك الدعوي ولحرية الداعين مدافعا عنهم، وأصبح حاكم الأمة الإسلامية وقائد حربها، ومفتيها وقاضيها، ومنظم جميع الصلات والروابط فيها وبينها وبين غيرها من الأمم، وقد أقام العدل في ذلك كله، وألَّف بين أمم وطوائف ما كان العقل يسيغ إمكان التأليف بينها، وظهرت الحكمة والرصانة وبُعد النظر وكمال الفطنة، وسرعة وقوة الحزم، في كل ما صدر عنه من قول وفعل.
ثالثا: وحيث إن لجنه الفتوى أسندت إلي مؤلف الكتاب، أنه عرَّض بركن من أركان الدين وهو الذكاة، وخلع عليه ثوبا يُقزِّز منه النفوس ويجعله مظهرا من مظاهر المذلة و الهوان.
وحيث إنه لا شك في أن الزكاة ركنا من أركان الدين الخمسة وقد أمر الله سبحانه وتعالي بها بقوله ”خذ من أموالهم صدقه تطهرهم وتزكيهم بها” وبيَّن سبحانه وتعالي مصارفها بقوله: ”إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله و الله عليما حكيم”.
وقد وضعها الله إلي جانب الإيمان به بقوله تعالي ”خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه ثم في سلسلة ذرعها سبعين زراع فاسلكوه إنه كان لا يؤمن بالله العظيم ولا يحض عن طعام المسكين”.
وقد قرنها الله بالصلاة في كثير من المواضع، ومن ذلك قوله تعالي ”ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر وملائكته والكتاب والنبيين وآتي المال علي حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتي الذكاة” وقوله تعالي ”وأقيموا الصلاة وآتوا الذكاة واركعوا مع الراكعين”. وقولي تعالي” قد أفلح المؤمنين الذين هم في صلاتهم خاشعين والذين هم عن اللغو معرضون والذين هم للزكاة فاعلون" وفي هذا ما يدل علي أن الزكاة عبادة، وفرض واجب، فالمؤمنون أخوة ولا يتم إيمان المرء حتي يجب لأخيه ما يجب لنفسه .
وفريضة الزكاة تتصل بهذا الإخاء ولا تتصل بالأخلاق وتهذيبها، ولا بالمعاملات وتنظيمها، وما اتصل بالإخاء اتصل بالإيمان بالله، ومن أجل ذلك قام أبو بكر بعد وفاة النبي يطالب المسلمين بأدائها واعتبر نكوصهم عنها ضعفا في إيمانهم، وتفصيلا للمال عليه وخروجا علي النظام الروحي الذي نزل به القرآن، وارتداد عن الإسلام، فكانت حروب الرِّدة التي ثبَّت بها أبو بكر رسالة الإسلام كاملة.
رابعا: وحيث أن المؤلف لم يجحد الزكاة، ولم ينف أنها ركن من أركان الدين وهو لم يحقر الصدقة ذاتها بل حقر المسألة، فقد قال أن الصدقة في عصر الرسول وفي لغة القرآن تعني ضريبة مفروضة، هي ضريبة الزكاة التي نزلت فيها التيه ”خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها” وإنها مباحة للأفراد الذين لا يجدون ما يقيم أودهم ويسد رمقهم".
وقد أورد المؤلف ذلك في مقام الرد علي أولئك الذين يقولون بأن الصدقة نظام اقتصادي واف، ووسيلة ناجحة لمحاربة الفقر و إسعاد الشعب.
فقال انه لا يمكن معالجة حقوق الشعب في الحياة بالصدقات وأن الدين يمجد العمل، ويأمر بأن يأخذ العامل حقه فيما عمل دون أن ينقص من حقه شيئا، والمستمع لأصحاب ذلك الرأي، ليكاد يخدع فيصدق أن الصدقة هي كل ما يستطيع الإسلام أن يقدمه للشعوب من عدالة ومساواة، مع أن الإسلام حين دعا إلي العدل والتكافل الاجتماعي لم تكن الصدقة في حسابه قط، كوسيلة تنهض بها حياه الشعوب، وأن هولاء القوم إذ يجعلون الصدقة نظاما اقتصاديا مشروعا، إنما يفتحون باب المسألة علي مصراعيه، مع أن الرسول عليه السلام ذم المسألة، قال
” المسألة كلوح في وجه صاحبها يوم القيامة إياك و المسألة، فإنما هي ردف من النار ملهبة".
خامسا: وحيث إن ما ورد بالكتاب عن ذم المسألة والتعفف عنها صحيح، قد جاء بالجزء الثالث من كتاب فتح الباري ومتن الجامع الصحيح الإمام البخاري أن رسول الله قال : ”ومن يستعفف يعفه الله ومن يستغني يغنه الله ومن متصبر يصبره الله وما أعطي أحد عطاء خير أوسع من الصبر ” وأنه قال أيضا : ” لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة من حطب علي ظهره فيبعه فيكف الله به وجهه، خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه ” وأنه قال ” مازال الرجل ليسأل حتي يأتي يوم القيامة ليس في وجه مزعه لحم” وأنه قال ” اليد العليا خير من اليد السفلي” وقد فسروا هذا الحديث الأخير بأن أعلي الأيدي هي المنفقة ثم المتعففة عن الأخذ ثم الآخذه بغير سؤال ، وأن أسفل الأيدي السائلة والمانعة.
ويؤخذ مما روي عن النبي منال أحاديث المتقدم ذكرها وغيرها، أنه كان يحض الغني علي الصدقة، كما كان يحض الفقير على التعفف عن المسألة و التنزه عنها، ولو امتهن المرء نفسه في طلب الرزق وارتكب المشقة في ذلك لما يدخل على السائل من ذل السؤال. ولما يدخل علي المسئول من الضيق في ماله، إن أعطي كل سائل، وأما من يسأل مضطرا فلا جناح عليه، وقد روي عن النبي ذلك، أنه قال ” الصدقة أوساخ الناس، وإنها لا تحل لآل محمد ” وفي رواية أخرى ” أن آل محمد لا تحل لهم الصدقة ولعل الحكمة في ذلك، أن الصدقة إنما يصرفها المتصدق علي المحتاج يريد بها وجه الله.
سادسا وحيث إن لجنه الفتوى نسبت إلي المؤلف أنه قال أن الدين لا يصح أن يعتمد – فيما يعتمد عليه في إصلاح المجتمع – علي العقوبة، وقد تبين من مطالعة الكتاب أن المؤلف كان يرد علي القائلين بوجود قيام حكومة دينية تتولي القضاء علي الرذائل، فقال: إنه لا سبيل للقضاء علي الرذائل إلا بتطهير النفس وتعوديها علي احترام نفسها، وأن الدين وحده من غير أن يكون دوله – هو القادر علي أن يوقظ في الضمائر واعظ الله، إن الدولة لا تستطيع بقوانينها أن تهب الناس نقاوة النفس، وأن نفوذ الدين وأثره في مكافحة الرذيلة ليكون ارسخ قدما وأقوم سبيلا، حين يسلك طريقة إلي النفوذ بالتسامح و الرزق و الحِجاج الهادي و المنطق الرصين.
وحيث أن المؤلف لم ينكر ما أمر الله به من حدود، وإنما قال إنه لا ضرورة لقيام حكومة دينية من أجل إقامة هذه الحدود الخاصة، ولا سيما أن هذه الحدود نادرة التطبيق عملا، اذ أن حد السرقة يوقف إبان المجاعات، ولأن حدَّي الزنا والخمر يصعب إثباتهم شرعا – وإن ما ذكره المؤلف عن هذه الحدود صحيح في جملته، فقد جاء بالجزء العاشر في كتاب ” المغني ” أن عمر بن الخطاب قال : ” لا قطع في عالم سنة ” وأن أحمد بن حنبل قال : ” لا قطع في مجاعة ” وأن الإقرار بالزنا نادر الحصول وبياناته أربع شهود عدول من المسلمين، ويشترط فيهم أن يشهدوا بأنهم رأوا ذكر رجل في فرج المرأة كالمرود في المكحلة، والرشاء في البئر، وأن بينة الخمر شاهدان، بأنهم رأيا الشارب يشرب مسكرا. ولا يشترط فيهما علي خلاف ما ذكره المؤلف أن يشهد أن الشاهد شرب مختارا عالما بأنه مسكر، لأن الظاهر أن الاختيار و العلم وما عداهما نادر بعيد، هذا أن الشريعة الإسلامية تميل إلي التشدد في الإثبات والتحرج في إقامة الحدود بدليل قوله عليه السلام ” تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب ” وقوله :” ادرأوا الحدود بالشبهات ما استطعتم ، فإن كان له مخرج فخلوه سبيله إن يخطىءالإمام في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة".
وحيث قد تبين مما تقدم أن المؤلف لم يطعن في الدين ذاته، ولم يجحد من كتاب الله وسنة رسوله، بل مجد وكرم الرسول بأكثر من موضع من خلاله، وقال إنه يجب تقديم دين للناس وضيئا متألقا كيوم نزل منزلا من عزيز حكيم عليم، وهو لم يخرج فيما كتب عن حد البحث العلمي والفلسفة، وإذا صح أنه أخطاء في شيئ مما كتب، فإن الخطأ مصحوب باعتقاد الصواب شيئا، وتعمد الخطاء المصحوب بنية التعدي شيئا آخر، ويشترط للعقاب في مقتضي المادة 191 عقوبات أن يكون الجاني قد تعدي على الدين، أي أهانه وامتهنه، وارتكب ما من شأنه المساس بكرامته أو انتهاك حرمته، والحط من قدره والازدراء به، وأن يكون قد قصده وتعمده ،ولما كان شيئا من ذلك لما توافر في حق مؤلف الكتاب فلا جريمة ولا عقاب.
سابعا: وحيث إنه فيما يتعلق بالجريمتين الأخريين اللذين أسندتهما النيابة العامة للمؤلف ، فقد تبين من مطالعة الكتاب أن المؤلف قال: أن المجتمع المصري كسائر المجتمعات العربية تعتمل فيها جميعا كوامن الكبت و الحرمان، وبدأ التذمر علي كل لسان ووجه، هذا التذمر خطر علي حياة لأمة، ولا يمكن أن يستهين بعاقبته حاكم له بصر بالأمور، وان المسئولية الكاملة لتجثم علي كاهل الرجعية الاقتصادية التي تمتص الحياة من الشعب وتعرقل كل اتجاه نحو اشتراكية يانعة، وأنه يجب مكافحة سياسة التجويع التي تمثلها تلك الرجعية الاقتصادية في بلاد العرب قاطبة، لمكافحة الإستغلال الفردي لأنه مهب كل عاصفة وكل إعصار وبيل.
وقال أن الملكيات الزراعية موزعه توزيعا سيئا، وأن أجور الأطيان الزراعية مرتفعة ارتفاعا فاحشا مرهقا للمستأجرين ، وإلي ذلك ترجع أكثر أسباب الغلاء الذي يئن الشعب منه، وأنه يوجدتفاوت كبير بين طبقتي المجتمع، ولعل من أشد أخطار هذا التفاوت الكبير أنه يقسم الأمة، ويجعل منها معسكرين متباغضين، يحقر أعلاهما الأدني، ويمقت أدناها الأعلي، ويتربص كلا منهما بالآخر مضمرا له كل كراهية وسوء ومهما نحاول إرضاء هذا الفريق برفع مرتبه وتحسين دخله، فإنه لن يرضي، لأن مشكلته لا تتمثل فقط في حرمانه، بل وفي هذا الترف المسعور الذي يعيش فيه الآخرون، فيأكلون أكثر مما ينبغي أن يأكلوا، ويلبسوا أكثر مما ينبغي أن يلبسوا ، ويرغدون أكثر مما ينبغي أن يرغدوا فوق أهرامات من الذهب، بينما بقية المجتمع تقتات من آلامها وحرمانها وإن الكثيرين من هؤلاء السادة سارعوا عندما قررت الحكومة مجانية التعليم الابتدائي منذ أربع سنوات إلي سحب أولادهم من مدارس الحكومة حتي لا يخالطوا فيها الفقراء و الرعاع، وأن وراء هذا التصرف المخجل إيمانا عريقا بالأرستقراطية وحرصا شديدا علي الامتياز والإستعلاء وجاهلية نابية لا تقرها أخلاق الدين ولا أخلاق الدنيا.
وضرب مثلا مما حدث في عهد الرسول، اذ جاءه وفد من مكة وقال له: ”يا محمد لقد رضينا أن نستمع إليك، ولكن لا نمارس هذه الأخلاط من عبيد وصعاليك مكة الفقراء، فاجعل لنا يوما ولهم يوما فاستمهلهم الرسول حتي يأتي أمر ربه، وسرعان ما جاء الوحي الرشيد بآيات باهرة اذ قال تعالي ” ولا تطرد الذين يدعون ربه بالغداة والغشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهك من شئ وما من حسابك عليهم من شئ فتطردهم فتكون من الظالمين" وأحسن الرسول إليهم مخاطبا بقوله: ” أهلا بمن أوصاني بهم ربي”.
فقد علق المؤلف على ذلك بقوله: ”ما أحوج هؤلاء الذين يستنكفون عن زمالة الشعب إلي هذا الدرس البليغ والصارم ليطمئنوا من صفوهم وينهنهوا من كبريائهم.
ثم قال المؤلف إنه إذ ينتقد الرأسمالية، لا ينسي أنها عامل من عوامل الرقي وأحد الأطوار التي يمر بها التقدم وهو ماض إلي غايته وهو لا يسألها إلا أن تفسح الطريق لاشتراكية عادلة يطلبها الشعب ويريدها، وبذلك تظفر لنفسها بحسن الختام.
وقال إنه يجب علينا أن نعمل لسلامنا الخاص أولا وقبل كل شئ ونوجه كل جهودنا وإمكانياتنا لخدمة أنفسنا ومصالحنا الخاصة، وإذا بقي من جهدنا فائض ومزيد لا نحتاج إليه، فلا مانع من إسباغهما علي الآخرين.
وقال إن الحرص علي سلامة بلادنا وتجنيبها ويلات الفتن والاضطرابات، يقتضينا أن نعمل علي مكافحة الجريمة والقضاء علي العوامل التي تيسر نشوئها، وانه ينكر الجريمة مهما تكن بواعثها وأسبابها، ويعتقد أن عبور الحياة في زورق جميل مهما تطل رحلته خير من عبورها في مدرعة ولو بلغنا الهدف في لحظات.
ثم قال إنه لا يدعو إلي إزالة كل فارق وحاجز بين الناس، فهذا أمر مستحيل، وإنما يدعوا إلي تقليل المسافة البعيدة الفاصلة بين طبقتي الأمة وتوزيع الفرص علي المواطنين توزيعا يقضي علي التفاوت الذي يشطر وحدتها النفسية، وأنه لا سبيل إلي إصلاح الأمر، إلا إذا تسلحنا بروح الإنصاف وآمنا بضرورة حدوث تحول اجتماعي شامل، وبذلنا جميعا حكومة وشعبا محاولة صادقة لإتمام هذا التحول دون أن نريق قطره دم واحدة ومن غير أن يكفر بعضنا ببعض، ويلعن بعضنا البعض، ولا شيء يحسم الفوضى التي نعانيها مثل أن يخطو خطوه كتلك التي خطتطها انجلترا مثلا، فنتحول من مجتمع رأسمالي متطرف إلي مجتمع اشتراكي رشيد معتدل وديع، تنتظم الاشتراكية كل مرافقه أوجُلها، وتتحد فيه قوة الإنتاج المحبوسة في أيدي الرأسمالين المتطرفين.
وإن العدالة الاجتماعية فطرة أحسَّت بها الإنسانية منذ أحسَّت بوجودها، ومنذ سمعت ودب الوعي والحياة بين جنبيها وهي ليست روسية الجنسية ماركسية الدم، وليس بلازم أن يكون المؤمنون بها الداعون إليها بلا سبب يعذبون ويضطهدون، وأن انجلترا ليست شيوعية وهي التي صعدت بالضريبة التصاعدية إلي 49 % وراحت في سرعة البرق تؤمم الملكيات الإنتاجية الكبري، وأن النظام الذي يحقق العدالة الاجتماعية في العهد الحاضر هو الاشتراكية ولا شئ سواها، وأن حق الملكية الشخصية أمر مفروغ من ثبوته شرعا وعقلا وعرفا، وتعترف به البلاد قاطبة لرعاياها ومواطنيها.
غير أن هذا لا يمنع الحكومة من أن تختار نوعا معينا من الملكية هو الملكيات الإنتاجية، وتحرره من أيدي الأفراد، وتشرف عليه لصالح الأمة، إذ التأميم هو الوضع الطبيعي الذي أخذ المجتمع الإنساني يسارع إليه، فهو يؤدي إلي تحرير قوي الإنتاج المحبوسة بأيدي الرأسمالين ويقضي علي الفروق الاجتماعية والتفاوت الكبير في الدخول المالية.
وأنه يجب علي الحكومة أن تعمل علي ألا يوجد بيننا جوع ولا جياع، ولا يجوز لها أن تسلك سبيل الشح علي رعاياها الذين يدفعون لها الضرائب، وأنه ليس للحكومات في هذا العصر سوي تحقيق المصلحة الاجتماعية للشعوب، وأن الشعب بطبيعته يريد دائما أن يرقي، ولا تري الحكومة الحصيفة أي تثريب عليه في ذلك مادام العقل والحكمة والنظام هم أدواته إلي حقوقه ومادامت هي نفسها تعينه علي حفظ النظام.
وقال إن الحكومة المصرية أحسنت صنعا بفرض الضريبة التصنيعية وضريبة التركات، وبزيادة إعانة غلاء المعيشة، وأهاب بها أن تعمل علي زيادة مرتبات صغار الموظفين، و الحد من التفاوت الكبير بما يكسبه رب العمل وما يكسبه العامل، وإصلاح حال العامل الزراعي.
وتساءل، لماذا لا تصنع الحكومة كما صنعت تركيا اذ اشترت الإقطاعيات الكبري وباعتها للفلاحين وقسمتها عليهم قسما عادلة فاضلة مرضية.
ودعي الحكومة إلي أن تستصدر قانونا بتحديد الملكيات الزراعية علي غرار المشروع كان قدمه أحد الشيوخ المحترمين للبرلمان وإذ كان الحد الاقصي للملكية الذي اقترحه الشيخ المحترم وهو خمسون فدانا، وإن لم تر الحكومة الاستجابة إلي هذه الرغبة الآن، فلا أقل من أن تسارع إلي استصدار قانون بتخفيض إيجار الأطيان الزراعية وبيعها.
خاتمةالأسباب
وحيث قد تبين مما تقدم، أن المؤلف استعرض الحالة الاجتماعية في البلد، ونقد منها ما رآه خليقا بالنقد، وحسن ما رآه حسن، فقد نقد الرجعية الاقتصادية والرأسمالية المتطرفة، وأفصح عما تعانيه غالبية الشعب من فقر وحرمان، وما يترتب عليها من تزمر، بينما قله من الشعب تنعم بالثراء الوفير، وعما بدا من مسلك هولاء السادة من تعال علي الفقراء.
وهذا الذي قاله المؤلف لا يعدو حدود النقض المباح، وليس فيه ما يفيد تحريض طائفة علي بغض طائفة أخري، أو أنه قصد شيئا من ذلك، بل يبين من ثناياه أن قصده إصلاح هذا البلد، وإسعاد الشعب وهناءته.
وقد أورد المؤلف في كتابة ما يراه من ضروب الإصلاح، ودعى إلي الاشتراكية الرشيدة، وقال إن هذه الاشتراكية هي التي تحقق العدالة الاجتماعية ولا شئ سواها، وهو لم يحبز الشيوعية ومبادئها، أو أي مذهب من المذاهب التي تنطوي مبادئها على استعمال القوة والعنف لتحقيق هذه المباديء، بل صرح بما ينقض ذلك، ودعى الشعب إلي التماس العقل والحكمة والنظام والرفق والتسامح والحنان والأناة والإنصاف، ودعى الحكومة إلي العمل علي تحقيق ما ارتآه من وجوه الإصلاح.
هذا إلي أن ما ذكره المؤلف عن الفقر أو هبوط مستوي المعيشة، وما إلي ذلك، ليتردد علي لسان كل من يسعي إلي الإصلاح ويبتغيه، وقد سجلته اللجنة المالية لمجلس النواب في تقريرها عن مشروع الميزانية العامة في السنه المالية الحالية، اذ قالت : ”إن تنمية مواد الدخل القومي وكفالة العدالة الاقتصادية هي السبيل إلي الإصلاح الاجتماعي الذي يبرئ المجتمع المصري من أدرانه، وأن مصر تعاني من قله الإنتاج وهبوط مستوي الدخل ما تعاني، وأنه يجب العمل علي رفع مستوي الغالبية العظمي من الشعب الذي افتقرت ولا تزال تفتقر إلي مطالب العيش الأساسية، لكي تحول دون انتشار النزعات المتطرفة، اذ ليس ثمه شك في أن انحطاط مستوي المعيشة، وقسوة الفقر المرض والجهل تربة خصبه لتفشي هذه النزعات، وأن السبيل إلي مكافحتها هو رفع مستوي المعيشة لكافة أبناء البلاد، فليست القوانين كفيله وحدها بعلاج الداء بل إن العلاج الشافي هو استئصال الداء من منبته بالقضاء علي أسبابه وقد اتجه التفكير اللي تحديد الملكيات الكبيرة كوسيلة من وسائل تحقيق العدالة الاجتماعية.
غير أن تجارب مختلف الأمم في هذا الشأن قد دلت علي أن العدالة الاجتماعية لا تتحقق عن هذا الطريق وحده، اذ في متناول الدولة تحديد كل طبقة من طبقات ألامه عن طريق فرض الضرائب بأنواعها وعلي الخصوص الضريبة التصاعدية علي الإيراد العام.
وحيث إن حرية الرأي مكفولة في حدود القانون، ولما كان الكتاب المضبوط لا ينطوي عن جريمة ما، فإنه لا يكون ثمه محل لضبطة تطبيقا للمادة 198 عقوبات، ومن ثم يتعين إلغاء الأمر الصادر بظبطة بالإفراج عنه .
فلهذه الأسباب
قررنا إلغاء الأمر الصادر بضبط كتاب (من هنا: نبدأ) ” لمؤلفة الأستاذ خالد محمد خالد .. والإفراج عن هذا الكتاب.
صدر هذا القرار وتلي علنا في يوم السبت 10 من شعبان سنه 1339 هجريا الموافق 27 مايو 1950
رئيس محكمة القاهرة الابتدائية.
المستشار/حافظ سابق.