وفي الليلة الثالثة والستين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن العجوز قالت للبواب وقد أظهرت الغضب: أنا أعرف أنك عاقل ومؤدب فإذا كان حالك قد تغير فإني أعلمها بذلك وأخبرها أنك تعرضت لجاريتها.
ثم زعقت على تاج الملوك وقالت له: اعبري يا جارية فعند ذلك عبر إلى داخل الدهليز كما أمرته وسكت الخادم ولم يتكلم، ثم إن تاج الملوك عد خمسة أبواب ودخل الباب السادس فوجد السيدة دنيا واقفة في انتظاره، فلما رأته عرفته فضمته إلى صدرها وضمها إلى صدره ثم دخلت العجوز عليهما وتحيلت على صرف الجواري ثم قالت السيدة دنيا للعجوز: كوني أنت البوابة ثم اختلت هي وتاج الملوك ولم يزالا في ضم وعناق والتفاف ساق على ساق إلى وقت السحر.
ولما أصبح الصباح غلقت عليهما الباب ودخلت مقصورة أخرى وجلست على جري عادتها وأتت إليها الجواري فقضت حوائجهن وصارت تحدثهن، ثم قالت لهن: اخرجن الآن من عندي فإني أريد أن أنشرح وحدي، فخرجت الجواري من عندها ثم إنها أتت إليهما ومعها شيء من الأكل فأكلوا وأخذوا في الهراش إلى وقت السحر فأغلقت عليهما مثل اليوم الأول، ولم يزالا على ذلك مدة شهر كامل. هذا ما كان من أمر تاج الملوك والسيدة دنيا. وأما ما كان من أمر الوزير وعزيز فإنهما لما توجه تاج الملوك إلى قصر بنت الملك ومكث تلك المدة علما أنه لا يخرج منه أبداً وأنه هالك لا محالة فقال عزيز: يا والدي ماذا نصنع؟ فقال الوزير: يا ولدي إن هذا الأمر مشكل وإن لم نرجع إلى أبيه ونعلمه فإنه يلومنا على ذلك ثم تجهزا في الوقت والساعة وتوجها إلى الأرض الخضراء والعمودين وتخت الملك سليمان شاه وسارا يقطعان الأودية في الليلة والنهار إلى أن دخلا على الملك سليمان شاه وأخبراه بما جرى لولده وأنه من حين دخل قصر بنت الملك لم يعلموا له خبر فعند ذلك قامت عليه القيامة واشتدت به الندامة وأمر أن ينادي في مملكته بالجهاد ثم أبرز العساكر إلى خارج مدينته ونصب لهم الخيام وجلس في سرادقه حتى اجتمعت الجيوش من سائر الأقطار، وكانت رعيته تحبه لكثرة عدله وإحسانه ثم سار في عسكر سد الأفق متوجهاً في طلب ولده تاج الملوك. هذا ما كان من أمر هؤلاء.
وأما ما كان من أمر تاج الملوك والسيدة دنيا فإنهما أقاما على حالهما نصف سنة وهما كل يوم يزدادان محبة في بعضهما وزاد على تاج الملوك العشق والهيام والوجد والغرام حتى أفصح لها عن الضمير وقال لها: اعلمي يا حبيبة القلب والفؤاد أني كلما أقمت عندك ازددت هياماً ووجداً وغراماً لأني ما بلغت المرام بالكلية فقالت له: وما تريد يا نور عيني؟ وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الرابعة والستين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن دنيا قالت لتاج الملوك: وما تريد يا نور عيني وثمرة فؤادي، إن شئت غير الضم والعناق والتفاف الساق على الساق فافعل الذي يرضيك وليس لله فينا شريك فقال: ليس مرادي هكذا وإنما مرادي أن أخبرك بحقيقتي فاعلمي إني لست بتاجر بل أنا ملك ابن ملك واسم أبي الأعظم سليمان شاه الذي أنفذ الوزير رسولاً إلى أبيك ليخطبك لي فلما بلغك الخبر ما رضيت، ثم إنه قص عليها قصته من الأول إلى الآخر وليس في الإعادة إفادة، وأريد الآن أن أتوجه إلى أبي ليرسل رسولاً إلى أبيك ويخطبك منه ونستريح.
فلما سمعت ذلك الكلام فرحت فرحاً شديداً لأنه وافق غرضها ثم على هذا الاتفاق، واتفق في الأمر المقدور أن النوم غلب عليهما في تلك الليلة من دون الليالي واستمرا إلى أن طلعت الشمس، وفي ذلك الوقت كان الملك شهرمان جالساً في دست مملكته وبين يديه أمراء دولته إذ دخل عليه عريف الصياغ وبيده حق كبير وفتحه بين يدي الملك وأخرج منه علبة لطيفة تساوي مائة ألف دينار لما فيها من الجواهر واليواقيت والزمرد والتفت إلى الخادم الكبير الذي جرى له مع العجوز ما جرى وقال له: يا كافور خذ هذه العلبة وامض بها إلى السيدة دنيا فأخذها الخادم ومضى حتى وصل إلى مقصورة بنت الملك فوجد بابها مغلقاً والعجوز نائمة على عتبته فقال الخادم: إلى هذه الساعة وأنتم نائمون؟ فلما سمعت العجوز كلام الخادم انتبهت من منامها وخافت منه وقالت له: اصبر حتى آتيك بالمفتاح ثم خرجت على وجهها هاربة.
هذا ما كان من أمرها. وأما ما كان من أمر الخادم فإنه عرف أنها مرتابة فخلع الثياب ودخل المقصورة فوجد السيدة دنيا معانقة لتاج الملوك وهما نائمان، فلما رأى ذلك تحير في أمره وهم أن يعود إلى الملك فانتبهت السيدة دنيا فوجدته فتغيرت واصفر لونها وقالت له: يا كافور استر ما ستر الله فقال: أنا ما أقدر أن أخفي شيئاً عن الملك، ثم أقفل الباب عليهما.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخامسة والستين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الخادم لما أقفل الباب عليهما رجع إلى الملك فقال له: هل أعطيت العلبة لسيدتك؟ فقال الخادم: خذ العلبة ها هي وأنا لا أقدر أن أخفي شيئاً، اعلم أني رأيت عند السيدة دنيا شاباً جميلاً نائماً معها في فراش واحد وهما متعانقان فأمر الملك بإحضارهما فلما حضرا بين يديه قال لهما: ما هذه الفعال؟ واشتد به الغيظ فأخذ نمشة وهم أن يضرب به تاج الملوك وقال له: ويلك من أنت؟ ومن أين أنت؟ ومن هو أبوك وما جسرك على ابنتي؟ فقال تاج الملوك: اعلم أيها الملك إن قتلتني هلكت وندمت أنت ومن معك في مملكتك فقال له الملك: ولم ذلك؟ فقال: اعلم أني ابن الملك سليمان شاه وما تدري إلا وقد أقبل عليك بخيله ورجاله. فلما سمع الملك شهرمان ذلك الكلام أراد أن يؤخر قتله ويضعه في السجن حتى ينظر صحة قوله، فقال له وزيره: يا ملك الزمان الرأي عندي أن تعجل قتل هذا العلق فإنه تجاسر على بنات الملوك فقال السياف: اضرب عنقه فإنه خائن، فأخذه السياف وشد وثاقه ورفع يده وشاور الأمراء أولاً وثانياً وقصد بذلك أن يكون في الأمر توان فزعق عليه الملك وقال: متى تشاور إن شاورت مرة أخرى ضربت عنقك، فرفع السياف يده حتى بان شعر إبطه وأراد أن يضرب عنقه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السادسة والستين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن السياف رفع يده وأراد أن يضرب عنقه وإذا بزعقات عالية والناس أغلقوا الدكاكين فقال السياف: لا تعجل ثم أرسل من يكشف الخبر فمضى الرسول ثم عاد إليه وقال له: رأيت عسكراً كالبحر العجاج المتلاطم بالأمواج وخيلهم في ركض وقد ارتجت لهم الأرض وما أدري خبرهم، فاندهش الملك وخاف على ملكه أن ينزع منه ثم التفت إلى وزيره وقال له: أما خرج أحد من عسكرنا إلى هذا العسكر؟ فما أتم كلامه إلا وحجابه قد دخلوا عليه ومعهم رسل الملك القادم ومن جملتهم الوزير فابتدأه بالسلام فنهض لهم قائماً وقربهم وسألهم عن شأن قدومهم فنهض الوزير من بينهم وتقدم إليه وقال له: اعلم أن الذي نزل بأرضك ليس كالملوك المتقدمين ولا مثل السلاطين السالفين. فقال له الملك: ومن هو؟ قال الوزير: هو صاحب العدل والأمان الذي سارت بعلو همته الركبان السلطان سليمان شاه صاحب الأرض الخضراء والعمودين وجبال أصفهان وهو يحب العدل والإنصاف ويكره الجور والاعتساف ويقول لك: إن ابنه عندك وفي مدينتك وهو حشاشة قلبه وثمرة فؤاده، فإن وجده سالماً فهو المقصود وأنت المشكور المحمود وإن كان فقد من بلادك أو أصابه شيء فأبشر بالدمار وخراب الديار لأنه يصير بلدك قفراً ينعق فيها البوم والغراب، وها أنا قد بلغتك الرسالة والسلام.
فلما سمع الملك شهرمان ذلك الكلام من الرسول انزعج فؤاده وخاف على مملكته وزعق على أرباب دولته ووزرائه وحجابه ونوابه فلما حضروا قال لهم: ويلكم انزلوا وفتشوا على ذلك الغلام وكان تحت يد السياف وقد تغير من كثرة ما حصل من الفزع، ثم إن الرسول لاحت منه التفاتة فوجد ابن ملكه على نطع الدم فعرفه وقام ورمى روحه عليه وكذلك بقية الرسل ثم تقدموا وحلوا وثاقه وقبلوا يديه ورجليه ففتح تاج الملوك عينيه فعرف وزير والده وعرف صاحبه عزيز فوقع مغشياً عليه من شدة فرحته بهما.
ثم إن الملك شهرمان صار متحيراً في أمره وخاف خوفاً شديداً لا تحقق مجيء هذا العسكر بسبب هذا الغلام فقام وتمشى إلى تاج الملوك وقبل رأسه ودمعت عيناه وقال له: يا ولدي لا تؤاخذني ولا تؤاخذ المسيء بفعله فارحم شيبتي ولا تخرب مملكتي فدنا منه تاج الملوك وقبل يده وقال له: لا باس عليك وأنت عندي بمنزلة والدي ولكن الحذر أن يصيب محبوبتي السيدة دنيا شيء.
فقال الملك شهرمان: لا تخف عليها فما يحصل لها إلا السرور، وسار الملك يعتذر إليه ويطيب خاطر وزير الملك سليمان شاه ووعده بالمال الجزيل على أن يخفي من الملك ما رآه، ثم بعد ذلك أمر كبراء دولته أن يأخذوا تاج الملوك ويذهبوا به إلى الحمام ويلبسوه بدلة من خيار الملابس ويأتوا بسرعة ففعلوا ذلك وأدخلوه الحمام وألبسوه البدلة التي أفردها له الملك شهرمان ثم أتوا به إلى المجلس.
فلما دخل على الملك شهرمان وقف له هو وجميع أرباب دولته وقام الجميع في خدمته. ثم إن تاج الملوك جلس يحدث وزير والده وعزيز بما وقع له، فقال له الوزير وعزيز: ونحن في تلك المدة مضينا إلى والدك فأخبرناه بأنك دخلت سراية بنت الملك ولم تخرج والتبس علينا أمرك، فحين سمع بذلك جهز العساكر ثم قدمنا هذه الديار وكان في قدومنا الفرح والسرور. فقال لهما: لا زال الخير يجري على أيديكما أولاً وآخراً، وكان الملك في ذلك الوقت قد دخل على ابنته السيدة دنيا فوجدها تبكي على تاج الملوك وقد أخذت سيفاً وركزت قبضته إلى الأرض وجعلت ذبابته على رأس قلبها بين نهديها وانحنت على السيف وصارت تقول: لا بد أن أقتل نفسي ولا أعيش بعد حبيبي. فلما دخل عليها أبوها ورآها على هذه الحالة صاح عليها وقال لها: يا سيدة بنات الملوك لا تفعلي وارحمي أباك وأهل بلدتك، ثم تقدم إليها وقال لها: أحاشيك أن يصيب والدك بسببك سوء، ثم أعلمها بالقصة وأن محبوبها ابن الملك سليمان شاه يريد زواجها وقال لها: إن أمر الخطبة والزواج مفوض إلى رأيك، فتبسمت وقالت له: أما قلت لك إنه ابن سلطان فأنا أخليه يصلبك على خشبة لا تساوي درهمين. فقال لها: بالله عليك أن ترحمي أباك فقالت له: رح إليه وائتني به فقال لها: على الرأس والعين، ثم رجع من عندها سريعاً ودخل على تاج الملوك وشاوره بهذا الكلام، ثم قام معه وتوجها إليها فلما رأت تاج الملوك عانقته قدام أبيها وتعلقت به وقالت له: أوحشتني، ثم التفتت إلى أبيها وقالت: هل أحد يفرط في مثل هذا الشاب المليح وهو ملك ابن ملك؟ فعند ذلك خرج الملك شهرمان ورد الباب عليهما ومضى إلى وزير أبي تاج الملوك ورسله وأمرهم أن يعلموا السلطان شاه بأن ولده بخير وعافية وهو في ألذ عيش، ثم إن السلطان شهرمان أمر بإخراج الضيافات والعلوفات إلى عساكر السلطان سليمان شاه والد تاج الملوك فلما خرجوا جميع ما أمر به أخرج مائة من الخيل ومائة هجين ومائة مملوك ومائة عبد ومائة جارية وأرسل الجميع إليه هدية، ثم بعد ذل توجه إليه هو وأرباب دولته وخواصه حتى صاروا في ظاهر المدينة.
فلما علم بذلك السلطان سليمان شاه تمشى خطوات إلى لقائه وكان الوزير وعزيز أعلماه ففرح وقال: الحمد لله الذي بلغ ولدي مناه، ثم إن الملك سليمان شاه أخذ الملك شهرمان بالحضن وأجلسه بجانبه على السرير وصار يتحدث هو وإياه ثم قدموا لهم الطعام فأكلوا حتى اكتفوا ثم قدموا لهم الحلويات ولم يمض إلا قليل حتى جاء تاج الملوك وقدم عليه بلباسه وزينته، فلما رآه والده قام له وقبله وقام له جميع من حضر وجلس بين أيديهم ساعة يتحدثون.
فقال الملك سليمان شاه: إني أريد أن أكتب كتاب ولدي على ابنتك على رؤوس الأشهاد فقال له: سمعاً وطاعة، ثم أرسل الملك شهرمان إلى القاضي والشهود فحضروا وكتبوا الكتاب وفرح العساكر بذلك وشرع الملك شهرمان في تجهيز ابنته. ثم قال تاج الملوك لوالده أن عزيزاً رجل من الكرام وقد خدمني خدمة عظيمة وتعب وسافر معي وأوصلني إلى بغيتي ولم يزل يصبر لي حتى قضيت حاجتي ومضى معنا سنتان وهو مشتت من بلاده، فالمقصود أننا نهيء له تجارة لن بلاده قريبة. فقال له والده: نعم ما رأيت، ثم هيأوا له مائة حمل من أغلى القماش وأقبل عليه تاج الملوك وودعه وقال له: اقبل هذه على سبيل الهدية فقبلها منه وقبل الأرض قدامه وقدام والده سليمان شاه ثم ركب تاج الملوك وسافر مع عزيز قدر ثلاثة أميال وبعدها أقسم عليه عزيز أن يرجع. وقال: بالله لولا والدتي ما صبرت على فراقك، فبالله عليك لا تقطع أخبارك عني، ثم ودعه ومضى إلى مدينته فوجد والدته بنت له في وسط الدار قبراً وصارت تزوره، ولما دخل الدار وجدها قد حلت شعرها ونشرته على القبر وهي تفيض دمع العين وتنشد هذين البيتين:
بالله يا قبر هل زالت محاسنـه
أو قد تغير ذات المنظر النضر
يا قبر ما أنت بستان ولا فلـك
فكيف يجمع فيك البدر والزهر
ثم صعدت الزفرات وأنشدت هذه الأبيات:
مالي مررت على القبور مسلما
قبر الحبيب فلم يرد جـوابـي
قال الحبيب وكيف رد جوابكـم
وأنا رهين جـنـادل وتـراب
أكل التراب محاسني فنسيتكـم
وحجبت عن أهلي وعن أحبابي
فلما أتمت شعرها إلا وعزيز داخل عليها، فلما رأته قامت إليه واحتضنته وسألته عن سبب غيابه فحدثها بما وقع له من أوله إلى آخره وأن تاج الملوك أعطاه من المال والأقمشة مائة حمل من القماش ففرحت بذلك وأقام عزيز عند والدته متحيراً فيما وقع له من الدليلة المحتالة التي خصته. هذا ما كان من أمر عزيز. وأما ما كان من أمر تاج الملوك فإنه دخل بمحبوبته السيدة دنيا وأزال بكارتها، ثم إن الملك شهرمان شرع في تجهيز ابنته للسفر مع زوجها وأبيه فأحضر لهم الزاد والهدايا والتحف، ثم حملوا وسار معهم الملك شهرمان ثلاثة أيام لأجل الوداع فأقسم عليه الملك سليمان شاه بالرجوع فرجع وما زال تاج الملوك ووالده وزوجته سائرين في الليل والنهار حتى أشرفوا على بلادهم وزينت لهم المدينة.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السابعة والستين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك سليمان شاه لما وصل إلى بلده جلس على سرير مملكته وابنه تاج الملوك في جانبه ثم أعطى وهب وأطلق من كان في الحبوس، ثم عمل لولده عرساً ثانياً واستمرت به المغاني والملاهي شهراً كاملاً. وازدحمت المواشط على السيدة دنيا وهي لا تمل من الجلاء ولا يمللن من النظر إليها، ثم دخل تاج الملوك على زوجته بعد أن اجتمع مع أبيه وأمه وما زالوا في ألذ العيش وأهنأه.
فعند ذلك قال ضوء المكان للوزير دندان: إن مثلك من ينادم الملوك ويسلك في تدبيرهم أحسن السلوك هذا كله وهم محاصرون للقسطنطينية حتى مضى عليهم أربع سنين ثم اشتاقوا إلى أوطانهم وضجرت العساكر من الحصار وإدامة الحرب في الليل والنهار فأمر الملك ضوء المكان بإحضار بهرام ورستم وتركاش، فلما حضروا قال لهم: اعلموا أننا قمنا هذه السنين وما بلغنا مراماً فازددنا غماً وهماً، وقد أتينا لنخلص ثأر الملك عمر النعمان فقلت أخي شركان فصارت الحسرة حسرتين والمصيبة مصيبتين، هذا كله من العجوز ذات الدواهي فإنها قتلت السلطان في مملكته وأخذت زوجته الملكة صفية وما كفاها ذلك حتى عملت الحيلة علينا، وذبحت أخي وقد حلفت الأيمان العظيمة أنه لا بد من أخذ الثأر فما تقولون أنتم فافهموا هذا الخطاب وردوا علي الجواب فأطرقوا رؤوسهم وأحالوا الأمر على الوزير دندان.
فعند ذلك تقدم الوزير دندان إلى الملك ضوء المكان، وقال له: اعلم يا ملك الزمان أنه ما بقي في إقامتنا فائدة والرأي أننا نرحل إلى الأوطان ونقيم هناك برهة من الزمان ثم نعود ونغزوا عبدة الأصنام فقال الملك: نعم هذا الرأي لأن الناس اشتاقوا إلى رؤية عيالهم وأنا أيضاً أقلقني الشوق إلى ولدي كان ما كان وإلى ابنة أخي قضى فكان لأنها في دمشق ولا أعلم ما كان من أمرهما.
فلما سمعت العساكر ذلك فرحوا ودعوا للوزير دندان ثم إن الملك ضوء المكان أمر المنادي أن ينادي بالرحيل بعد ثلاثة أيام، فابتدأوا في تجهيز أحوالهم وفي اليوم الرابع دقت الكاسات ونشرت الرايات، وتقدم الوزير دندان في مقدم العسكر وسار الملك في وسط العساكر، وبجانبه الحاجب الكبير وسارت الجيوش ومازالوا مجدين السير بالليل والنهار حتى وصلوا إلى مدينة بغداد ففرحت بقدومهم الناس وزال عنهم الهم والبأس ثم ذهب كل أمير إلى داره وطلع الملك إلى قصره ودخل على ولده كان ما كان، وقد بلغ من العمر سبع سنين وصار ينزل ويركب ولما استراح الملك من السفر دخل الحمام هو وولده كان ما كان ثم رجع وجلس على كرسي مملكته ووقف الوزير دندان بين يديه وطلعت الأمراء وخواص الدولة ووقفوا في خدمته. فعند ذلك أمر الملك ضوء المكان بإحضار صاحبه الوقاد، الذي أحسن إليه في غربته فحضر بين يديه فلما رآه الملك ضوء المكان قادماً عليه نهض له قائماً وأجلسه إلى جانبه وكان الملك ضوء المكان قد أخبر الوزير دندان بما فعل معه صاحبه الوقاد من المعروف فعظم في عينه وفي أعين الأمراء وكان الوقاد قد غلظ وسمن من الأكل والراحة، وصار عنقه كعنق الفيل وبطنه كبطن الدرفيل وصار طائش العقل لأنه كان لا يخرج من المكان الذي هو فيه فلم يعرف الملك بسيماه.
أقبل عليه الملك وبش في وجهه وحياه أعظم التحيات وقال له: ما أسرع ما نسيتني فأمعن فيه النظر فلما تحققه وعرفه قام له على الأقدام قال له: يا حبيبي من عملك سلطاناً؟ فضحك عليه فأقبل عليه الوزير بالكلام وشرح له بالقصة وقال له: إنه كان أخاك وصاحبك والآن صار ملك الأرض ولا بد أن يصل إليك منه خير كثير وها أنا أوصيك إذا قال لك: تمن علي فلا تتمن إلا شيئاً عظيماً لأنك عنده عزيز. فقال الوقاد: أخاف أن أتمنى عليه شيئاً فلا يسمح لي به أو لا يقدر عليه فقال له: والله لا بد أن أتمنى عليه الشيء الذي هو في خاطري وكل يوم أرجو منه أن يسمح لي به فقال له الوزير: طيب قلبك والله لو طلبت ولاية دمشق موضع أخيه لولاك عليها.
فعند ذلك قام الوقاد على قدميه فأشار له ضوء المكان أن يجلس فأبى، وقال: معاذ الله قد انفضت أيام قعودي في حضرتك فقال له السلطان: لا بل هي باقية إلى الآن فإنك كنت سبباً لحياتي والله لو طلبت مني مهما أردت لأعطيتك إياه فيمن علي الله، فقال: الله يا سيدي إني أخاف أن أتمنى شيئاً فلا تسمح لي به أو لا تقدر عليه. فضحك السلطان وقال له: لو تمنيت نصف مملكتي لشاركتك فيها فتمن ما تريد، قال الوقاد: أخاف أن أتمنى شيئاً لا تقدر عليه فغضب السلطان وقال له: تمن ما أردت فقال له تمنين عليك أن تكتب لي مرسوماً بمرافقة جميع الوقادين الذين في مدينة القدس فضحك السلطان وجميع من حضر وقال له: تمن غير هذا.
فقال الوقاد: أنا ما قلت لك إني أن أتمنى شيئاً لا تسمح لي به وما تقدر عليه فغمره الوزير ثانياً وثالثاً وفي كل مرة يقول: أتمنى عليك أن تجعلني رئيس الزبالين في مدينة القدس أو في دمشق فانقلب الحاضرون على ظهورهم من الضحك عليه وضربه الوزير.
فالتفت الوقاد إلى الوزير وقال له: ما تكون حتى تضربني ومالي ذنب فإنك أنت الذي قلت لي تمن شيئاً عظيماً.
ثم قال: دعوني أسير إلى بلادي فعرف السلطان أنه يلعب فصبر قليلاً، ثم أقبل عليه وقال له: يا أخي تمن علي أمراً عظيماً بمقامي لائقاً فقال له: أتمنى سلطنة دمشق موضع أخيك، فكتب له التوقيع بذلك وقال للوزير دندان ما يروح معه غيرك، وإذا أردت العودة فأحضر معك بنت أخي قضى فكان.
فقال الوزير سمعاً وطاعة، ثم أخذ الوقاد ونزل به وتجهز للسفر، وأمر ضوء المكان أن يخرجوا للوقاد تختاً جديداً وطقم سلطنة وقال للأمراء: من كان يحبني فليقدم إليه هدية عظيمة.
ثم سماه السلطان الزبلكان ولقبه بالمجاهد وبعد كملت حوائجه وطلع الزبلكان وفي خدمته الوزير دندان ثم دخل على ضوء المكان ليودعه فقام له وعانقه وأوصاه بالعدل بين الرعية وأمره أن يأخذ الأهبة للجهاد بعد سنتين ثم ودعه وانصرف.
وسار الملك المجاهد المسمى بالزبلكان، بعد أن أوصاه الملك ضوء المكان بالرعية خيراً وقدمت له الأمراء المماليك فبلغوا خمسة آلاف مملوك وركبوا خلفه وركب الحاجب الكبير وأمير الديلم بهرام وأمير الترك رستم وأمير العرب تركاش وساروا في توديعه ما زالوا سائرين معه ثلاثة أيام ثم عادوا إلى بغداد وسار السلطان الزبلكان هو والوزير دندان.
وما زالوا سائرين حتى وصلوا إلى دمشق وكانت الأخبار قد وصلت إليهم على أجنحة الطيور بأن الملك ضوء المكان سلطن على دمشق ملكاً يقال له: الزبلكان ولقبه بالمجاهد، فلما وصل إليهم الخبر زينوا له المدينة وخرج إلى ملاقاته كل من في دمشق ثم دخل دمشق وطلع القلعة وجلس على سرير المملكة ووقف الوزير دندان في خدمته يعرفه منازل الأمراء ومراتبهم وهم يدخلون عليه ويقبلون يديه ويلوحون له.
فأقبل عليهم الملك الزبلكان وخلع وأعطى ووهب، ثم فتح خزائن الأموال وأنفقها على جميع العساكر كبيراً وصغيراً، وحكم وعدل وشرع الزبلكان في تجهيز بنت السلطان قضى فكان وجعل لها محفة من الإبريسم وجهز الوزير وقدم له شيئاً من المال.
فأتى الوزير دندان، وقال له: أنت قريب عهد بالملك وربما تحتاج إلى الأموال أو نرسل إليك نطلب منك مالاً للجهاد أو غير ذلك ولما تهيأ الوزير دندان للسفر ركب السلطان المجاهد إلى وداعه وأحضر قضى فكان وأركبها في المحفة وأرسل معها عشر جوار برسم الخدمة.
وبعد أن سافر الوزير دندان رجع الملك المجاهد إلى مملكة ليدبرها واهتم بآلة السلاح وصار ينتظر الوقد الذي يرسل فيه الملك ضوء المكان هذا ما كان من أمر السلطان الزبلكان.
وأما ما كان من أمر الوزير دندان فإنه لم يزل يقطع المراحل بقضى فكان حتى وصل إلى الرحبة بعد شهر، ثم سار حتى أشرف على بغداد وأرسل يعلم ضوء المكان بقدومه فركب وخرج إلى لقائه فأراد الوزير دندان أن يترجل. فأقسم عليه الملك ضوء المكان أن لا يفعل فسار راكباً حتى جاء إلى جانبه وسأله عن المجاهد فأعلمه أنه بخير وأعلمه بقدوم قضى فكان بنت أخيه شركان ففرح وقال له: دونك والراحة من تعب السفر ثلاثة أيام.
ثم بعد ذلك تعال عندي فقال: حباً وكرامة، ثم دخل بيته وطلع الملك إلى قصره ودخل على ابنة أخيه قضى فكان وهي ابنة ثمان سنين فلما رآها فرح بها وحزن على أبيها وأعطاها حلياً ومصاغاً عظيماً، وأمر أن يجعلوها مع ابن عمها كان ما كان في مكان واحد وكانت أحسن أهل زمانها وأشجعهم لأنها كانت صاحبة تدبير وعقل ومعرفة بعواقب الأمور.
وأما كان ما كان فإنه كان مولعاً بمكارم الأخلاق ولكنه لا يفكر في عاقبة شيء ثم بلغ عمر كل واحد من الاثنين عشر سنين وصارت قضى فكان تركب الخيل وتطلع مع ابن عمها في البر، ويتعلمان الضرب بالسيف والطعن بالرمح حتى بلغ عمر كل منهما اثنتي عشرة سنة.
ثم إن الملك انتهت أشغاله للجهاد وأكمل الأهبة والاستعداد، فأحضر الوزير دندان وقال له: اعلم أني عزمت على شيء وأريد إطلاعك عليه فأسرع في رد الجواب.
فقال الوزير دندان: ما هو يا ملك الزمان، قال: عزمت على أن أسلطن ولدي كان ما كان وأفرح به في حياتي وأقاتل قدامه إلى أن يدركني الممات فما عندك من الرأي؟ فقبل الوزير دندان الأرض بين يدي الملك ضوء المكان. وقال له: اعلم أيها الملك السعيد صاحب الرأي السديد أن ما خطر ببالك مليح غير أنه لا يناسب في هذا الوقت الخصلتين، الأولى: أن ولدك كان ما كان صغير السن، والثانية: ما جرت به العادة أن من سلطن ولده في حياته لا يعيش إلا قليلاً، وهذا ما عندي من الجواب.
فقال: اعلم أيها الوزير أننا نوصي عليه الحاجب الكبير صار منا وعلينا، وقد تزوج أختي، فهو في منزلة أخي، فقال الوزير: افعل ما بدا لك فنحن ممتثلون أمرك.
فأرسل الملك إلى الحاجب الكبير فأحضره وكذلك أكابر مملكته وقال لهم إن هذا ولدي كان ما كان قد علمتم أنه فارس الزمان وليس له نظير في الحرب والطعان وقد جعلته سلطاناً عليكم والحاجب الكبير وصي عليه.
فقال الحاجب: يا ملك الزمان إنما أنا غريس نعمتك فقال ضوء المكان: أيها الحاجب إن ولدي كان ما كان وابنة أخي قضى فكان ولدا عم وقد زوجتها به وأشهد الحاضرين على ذلك.
ثم نقل لولده المال ما يعجز عن وصفه اللسان وبعد ذلك دخل على أخته نزهة الزمان وأعلمها بذلك ففرحت، وقالت: إن الاثنين ولداي والله تعالى يبقيك لهما مدى الزمان.
فقال: يا أختي إني قضيت من الدنيا غرضي وأمنت على ولدي ولكن ينبغي أن تلاحظيه بعينك وتلاحظي أمه ثم يوصي الحاجب ونزهة الزمان على ولده وعلى زوجته ليالي وأياماً وقد أيقن بكأس الحمام ولزم الوساد وصار الحاجب يتعاطى أحكام العباد وبعد سنة أحضر ولده كان ما كان والوزير دندان، وقال: يا ولدي إن هذا الوزير والدك من بعدي، واعلم أني راحل من الدار الفانية إلى الدار الباقية وقد قضيت غرضي من الدنيا ولكن بقي في قلبي حسرة يزيلها الله على يديك.
فقال ولده: وما تلك الحسرة يا والدي؟ فقال: يا ولدي أن أموت ولم تأخذ بثأر جدك عمر النعمان، وعمك الملك شركان من عجوز يقال لها ذات الدواهي فإن أعطاك الله النصر لا تغفل عن أخذ الثأر وكشف العار وإياك من كر العجوز وأقبل ما يقوله لك الوزير دندان لأنه عماد ملكنا من قديم الزمان فقال له ولده: سمعاً وطاعة ثم هملت عيناه بالدموع.
وبعد ذلك ازداد المرض بضوء المكان وصار أمر المملكة للحاجب فصار يحكم ويأمر وينهي واستمر على ذلك سنة كاملة وضوء المكان مشغول بمرضه ومازالت به الأمراض مدة أربع سنين والحاجب الكبير قائم بأمر الملك، وارتضى به أهل المملكة ودعت له جميع البلاد هذا ما كان من أمر ضوء المكان والحاجب.
وأما ما كان من أمر كان ما كان فإنه لم يكن له شغل إلا ركوب الخيل واللعب بالرمح والضرب بالنشاب وكذلك ابنة عمه قضى فكان وكانت تخرج هي وإياه من أول النهار إلى الليل فتدخل إلى أمها ويدخل هو إلى أمه فيجدها جالسة عند رأس أبيه تبكي فيخدمه بالليل.
وإذا أصبح يخرج هو وبنت عمه على عادتهما وطالت بضوء المكان التوجعات فبكى وأنشد هذه الأبيات:
تفانت قوتي ومضى زماني
وها أنا قد بقيت كما تراني
فيوم العز كنت أعز قـومـي
وأسبقهم إلى نـيل الأمـانـي
وقد فارقت ملكي بعـد عـزي
إلى ذل تخـلـل بـالـهـوان
ترى قبل الممات أرى غلامي
يكون على الورى ملكاً مكاني
ويفتك بالـعـداة لأخـذ ثـأر
بضرب السيف أو طعن السنان
أنا المغبون فـي هـزل وجـد
إذا مولاي لا يشفي جنـانـي
فلما فرغ من شعره وضع رأسه على الوسادة ونام فرأى في منامه قائلاً يقول له أبشر فإن ولدك يملك البلاد وتطيعه العباد فانتبه من منامه مسروراً ثم بعد أيام قلائل طرقه الممات فأصاب أهل بغداد مصاب عظيم وبكى عليه الوضيع والعظيم ومضى عليه الزمان كأنه ما كان وتغير حال كان ما كان وعزله أهل بغداد وجعلوه هو وعياله في بيت على حدتهم.
فلما رأت أم كان ما كان ذلك صارت في أذل الأحوال ثم قالت لا بد من قصد الحاجب الكبير وأرجو الرأفة من اللطيف الخبير فقامت من منزلها إلى أن أتت إلى بيت الحاجب الذي صار سلطاناً فوجدته جالساً على فراشه.
فدخلت عند زوجته نزهة الزمان، وقالت: إن الميت ماله صاحب فلا أحوجكم الله مدى الدهور والأعوام ولا زلتم تحكمون بالعدل بين الخاص والعام قد سمعت أذناك ورأت عيناك ما كنا فيه من الملك والعز والجاه والمال وحسن المعيشة والحال والآن انقلبت علينا الزمان وقصدنا الدهر بالعدوان، وأتيت إليك قاصدة إحسانك بعد إسدائي للإحسان لأن الرجل إذا مات ذلت بعده النساء والبنات، ث أنشدت هذه الأبيات:
كفاك بان الموت بادي العجـائب
وما غائب الأعمار عنا بغـائب
وما هـذه الأيام إلا مـراحـل
مواردها ممزوجة بالمصـائب
وحاضر قلبي مثل فقـد أكـارم
أحاطب بهم مستعظمات النوائب
فلما سمعت نزهة الزمان هذا الكلام تذكرت أخاها ضوء المكان وابنه كان ما كان فقربتها وأقبلت عليها وقالت: أنا والآن غنية وأنت فقيرة فوالله تركنا افتقارك إلا خوفاً من انكسار قلبك، لئلا يخطر ببالك أن ما نهديه إليك صدقة مع أن جميع ما نحن فيه من الخير منك ومن زوجك، فبيتنا بيتك ولك وما لنا وعليك ما علينا.
ثم خلعت عليها ثياباً فاخرة وأفردت لها مكاناً في القصر ملاصقا لمقصورتها وأقامت عندهم في عشية طيبة هي وولدها كان ما كان وخلعت عليه ثياب الملوك وأفردت لهما جواري برسم كل منهما.
ثم إن نزهة الزمان بعد مدة قليلة ذكرت لزوجها حديث زوجة أخيها ضوء المكان فدمعت عيناه وقال: إن شئت أنت تنتظري الدنيا بعدك فانظريها بعد غيرك فأكرمي مثواها.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثامنة والستين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد هذا ما كان من أمر نزهة الزمان وزوجها وأم ضوء المكان.
وأما ما كان من أمر كان ما كان وابنة عمه قضى فكان فإنهما كبرا وترعرعا حتى صار كأنهما غصنان مثمران أو قمران أزهران.
وبلغنا من العمر خمسة عشر عاماً وكانت قضى فكان من أحسن البنات المخدرات، بوجه جميل وخصر نحيل وردف ثقيل وريق كالسلسبيل وقد رشيق وثغر ألذ من الرحيق كما قال فيها بعض واصفيها هذين البيتين:
كان سلاف الخمر من ريقها بدت
وعنقودها من ثغرها الدر يقطف
وأعنابها مالت إذا ما ثـنـيتـهـا
فسبحان خلاق لـهـا لا يكـيف
وقد جمع الله كل المحاسن فيها فقدها يخجل الأغصان والورد يطلب من خدها الأمان وأما الريق فإنه يهزأ بالرحيق تسر القلب والناظر كما قال فيها الشاعر:
مليحة الوصف قد تمت محاسنها
أجفانها تفضح التكحيل بالكحل
كأن ألحاظها في قلب عاشقهـا
سيف بكف أمير المؤمنين علي
وأما كان ما كان فإنه كان بديع الجمال فائق الكمال عز في الحسن عن مثال الشجاعة تلوح بين عينيه تشهد له لا عليه وقيل كل القلوب إليه وحين اخضر منه العذار كثرت فيه الأشعار كقول بعضهم:
ما بان عذري فيه حتـى عـذرا
ومشى الدجى في خده متحـيرا
فأعجب لهم شهدوا ومسكنهم لظى
ولباسهم فيها الحرير الأخضـر
واتفق في بعض الأعياد أن قضى فكان خرجت تعيد على بعض أقاربها من الدولة والحواري حواليها، والحسن قد عمها وورد الخد يحسد خالها والأقحوان يبتسم عن بارق ثغرها فجعل كان ما كان يدور حولها ويطلق النظر إليها وهي كالقمر الزاهر فقوى جنانه بالشعر لسانه وأنشد هذين البيتين:
متى يشتفي قلب الدنو من الـبـعـد
ويضحك ثغر الوصل من زائد الصد
فيا ليت شعري هـل أبـيتـن لـيلة
بوصل حبيب عنده بعض ما عنـدي
فلما سمعت قضى فكان هذا الشهر أظهرت له الملامة والعتاب وتوعدته بأليم العقاب فاغتاظ كان ما كان وعاد إلى بغداد وهو غضبان ثم طلعت قضى فكان إلى قصرها وشكت ابن عمها إلى أمها فقالت لها: يا بنتي لعله ما أرادك بسوء وهل هو إلا يتيم ومع هذا لم يذكر شيئاً يعيبك فإياك أن تعلمي بذلك أحداً، فربما بلغ الخبر إلى السلطان فيقصر عمره ويخمد ذكره ويجعل أثره كأمس الدابر والميت الغابر وشاع في بغداد حب كان ما كان لقضى فكان وتحدثت به النسوان ثم إن كان ما كان ضاق صدره وقل صبره اشتغل باله ولم يخف على الناس حاله واشتهى أن يبوح بما في قلبه من لوعة البين فخاف من غضبها وأنشد هذين البيتين:
إذا خفت يوماً عتاب التـي
تغير أخلاقها الـصـافـية
صبرت عليها كصبر الفتى
على الكي في طلب العافية
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة التاسعة والستين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الحاجب الكبير لما صار سلطان، ثم أنه بلغه حب كان ما كان لقضي فكان فندم على جعلهما معاً في محل واحد.
ثم دخل على زوجته نزهة الزمان وقال: إن الجمع بين الخلفة والنار لمن أعظم الأخطار وليست الرجال على النساء بمؤتمنين ما دامت العيون في عج والمعاطف في لين وابن أخيك كان ما كان قد بلغ مبلغ الرجال فيجب منعه عن الدخول على ربات الحجال ومنع ابنتك عن الرجال أوجب لأن مثلها ينبغي أن يحجب. فقالت: صدقت أيها الملك العاقل والهمام الكامل فلما أصبح الصباح جاء كان ما كان ودخل على عمته نزهة الزمان على جري عادته وسلم عليها، فردت عليه السلام وقالت له: عندي لك كلام ما كنت احب أن أقوله لك. ولكن أخبرك به رغماً عني. فقال لها: وما ذاك الكلام؟ قالت: إن الملك سمع بحبك لقي فكان فأمر بحجبها عنك وإذا كان لك حاجة فأنا أرسلها إليك من خلف الباب ولا تنظر قضي فكان.
فلما سمع كلامها رجع ولم ينطق بحرف واحد وأعلم والدته بما قالته عمته فقالت له: إنما نشأ هذا من كثرة كلامك وقد علمت أن حديث حبك لقضي فكان شاع وانتشر في كل مكان وكيف تأكل زادهم بعد ذلك وتعشق ابنتهم؟ فقال: إني أريد الزواج بها لأنها بنت عمي وأنا أحق بها فقالت له أمه: أسكت لئلا يصل الخبر إلى الملك سلسان فيكون ذلك سبباً لغرقك في بحر الأحزان وهم يبعثوا لنا في هذه الليلة عشاء ولو كنا في بلد غير هذه لمتنا من ألم الجوع أو ذل السؤال.
فلما سمع كان ما كان كلام أمه زادت بقلبه الحسرات وأنشد هذه الأبيات:
أقلي من اللوم الـذي لا يفـارق
فقلبي إلى من تيمتني مفـارق
ولا تطلبي عند الـصـبـر ذرة
فصبري وبيت الله من طالـق
إذا سامني اللوام نهيا عصيتهـم
وهاأنا في دعوى المحبة صادق
وقد منعوني عنوة أن أزورهـا
وإني والرحمن ما أنا فـاسـق
وإن عظامي حين تسمع ذكرها
تشابه طيراً خلقهـن بـواشـق
ألا قل لمن قد لام في الحب أنني
وحق إلهي لبنت عمي لعاشـق
ولما فرغ من شعره قال لأمه: ما بقي لي عند عمتي ولا عند هؤلاء القوم مقام بل أخرج من القصر وأسكن في أطراف المدينة بجوار قوم صعاليك، ثم خرج وفعل كما قال وصارت أمه تتردد إلى بيت الملك سلسان وتأخذ منه ما تقتات به هي وإياه.
ثم إن قضي فكان اختلت بأم كان ما كان وقالت لها: يا امرأة عمي، كيف حال ولدك؟ فقالت: أنه باكي العين حزين القلب ليس له من أسر الغرام فكاك ومقتنص من هواك في أشراك، فبكت قضي فكان وقالت: والله ما هجرته بغضاً له ولكن خوفاً عليه من الأعداء وعندي من الشوق أضعاف ما عنده ولولا عثرات لسانه وخفقان جنانه ما قطع أبي عنه إحسانه وأولاه منعه وحرمانه ولكن أيام الورى دول والصبر في كل الأمور أجمل ولعل من حكم بالفراق أن يمن علينا بالتلاق. ثم أفاضت دمع العين وأنشدت هذين البيتين:
فعندي يا ابن عمي من غرامي
كأمثال الذي قد حل عـنـدك
ولكن كتمت عن الناس وجدي
فهلا كنت أنت كتمت وجدك
فشكرتها أم كان ما كان وخرجت من عندها وأعلمت ولدها كان ما كان بذلك فزاد شوقه إليها وقال: ما أبدلها من الحور بألفين وأنشد هذين البيتين:
فو الله لا أصغي إلى قـوم لائم
ولا بحت بالسر الذي كنت كاتما
وقد غاب عني من أرجى وصاله
وقد سهرت عيني وقد بات نائما
ثم مضت الأيام والليالي وهو يتقلب على جمر المقالي حتى مضى له من العمر سبعة عشر عاماً وقد كمل حسنه، ففي بعض الليالي أخذه السهر وقال في نفسه: ما لي أرى جسمي يذوب وإلى متى لا أقدر على نيل المطلوب وما لي عيب سوى عدم الجاه والمال. ولكن عند الله بلوغ الآمال، فينبغي أن أشرد نفسي عن بلادها حتى تموت أو تحظى بمرادها. ثم أضمر هذه العزمات وأنشد هذه الأبيات:
دع مهجتي تزداد في خفقانـهـا
ليس التذلل في الورى من شأنها
واعذر فإن حشاشتي كصحـيفة
لا شك أن الدمع من عنوانـهـا
ها بنت عمي قد بـدت حـورية
نزلت إلينا عن رضا رضوانهـا
من رام ألحاظ العيون معارضـاً
فتكاتها لم ينج من عـدوانـهـا
سأسير في الأرض الوسيعة منقذاً
نفسي وأمنحها سوى حرمانهـا
وأعود مسرور الفؤاد بمطلـبـي
وأقاتل الأبطال في مـيدانـهـا
ولسوف أشتاق الغـنـائم عـائداً
وأصول مقتدراً على أقرانـهـا
ثم إن كان ما كان خرج من القصر حافياً في قميص قصير الأكمام وعلى رأسه لبدة لها سبعة أعوام وصحبته رغيف له ثلاثة أيام، ثم سار في حندس الظلام حتى وصل إلى باب بغداد فوقف هناك. ولما فتحوا باب المدينة كان أول من خرج منه، ثم صار يقطع الأودية والقفار في ذلك النهار ولما أتى الليل طلبته أمه فلم تجده فضاقت عليها الدنيا باتساعها ولم تلتذ بشيء من متاعها ومكثت تنتظر أول يوم وثاني يوم وثالث يوم إلى أن مضى عشرة أيام فلم تر له خبراً فضاق صدرها ونادت قائلة: يا مؤنسي قد هيجت أحزاني حيث فارقتني وتركت أوطاني يا وولدي من أي الجهات أناديك؟ ويا هل ترى أي بلدٍ يأويك؟ ثم صعدت الزفرات وأنشدت هذه الأبيات:
علمنا بأن بعد غيبـتـكـم نـبـلـى
ومدت قسى للفراق لـنـا نـبـلا
وقد خلفوني بعـد شـد رحـالـهـم
أعالج كرب الموت إذ قطعوا الرملا
لقد هتف بي حنـين لـيل حـمـامة
مطوقة ناحت فقلت لهـا مـهـلا
لعمرك لو كانت كمثـلـي حـزينة
لما لبست طوقاً ولا خضبت رجـلا
وفارقني ألفي فـألـفـيت بـعـده
دواعي الهم لا تفارقـنـي أصـلا
ثم أنها امتنعت من الطعام والشراب وزادت في البكاء والانتحاب وصار بكائها على رؤوس الأشهاد. واشتهر حزنها بين العباد والبلاد، وصار الناس يقولون أين عينك يا ضوء المكان ويا ترى ما جرى على كان ما كان حتى بعد عن وطنه وخرج من المكان. وكان أبوه يشبع الجيعان ويأمر بالعدل والإحسان، ووصل خبر كان ما كان إلى الملك سلسان. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السبعين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك سلسان وصل إليه خبر كان ما كان من الكبار وقال: إنه ولد ملكنا ومن ذرية الملك عمر النعمان وقد بلغنا أنه تغرب عن الأوطان. فلما سمع الملك سلسان هذا الكلام اغتاظ غيظاً شديداً وتذكر إحسان أبيه إليه وانه أوصاه عليه فحزن على كان ما كان وقال: لابد من التفتيش عليه في سائر البلاد ثم بعث في طلبه الأمير تركاش في مائة فارس فغاب عشرة أيام ثم رجع وقال له: ما اطلعت له على خبر ولا وقفت له على أثر. فحزن عليه الملك سلسان حزناً شديداً، وأما أمه فإنها صارت لا يقر لها قرار ولا يطاوعها اصطبار وقد مضى له عشرون يوماً. هذا ما كان من أمر هؤلاء.
و أما ما كان من أمر كان ما كان فإنه لما خرج من بغداد صار متحيراً في أمره ولم يدر إلى أين يتوجه، ثم إنه سافر في البر ثلاثة أيام وحده ولم ير راجلاً ولا فارساً فطار رقاده وزاد سهاده وتفكر أهله وبلاده وصار يتقوت من نبات الأرض ويشرب من أنهارها ويقبل وقت الحر تحت أشجارها، ثم خرج من تلك الطريق إلى طريق أخرى وسار فيها ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع أشرف على أرض معشبة الفلوات مليحة النبات وهذه الأرض قد شربت من كؤوس الغمام على أصوات القمري والحمام فاخضرت رباها وطاب فلاها فتذكر كان ما كان بلاد أبيه فأنشد من فرط ما هو فيه:
خرجت وفي أملي عودة
ولكني لست أدري متى
وشردني أنني لـم أجـد
سبيلاً إلى دفع ما قد أتى
فلما فرغ من شعره أكل من ذلك النبات وتوضأ وصلى ما كان عليه من الفريضة وجلس يستريح ومكث طول ذلك النهار، فلما جاء الليل نام واستمر نائماً إلى نصف الليل ثم انتبه فسمع صوت إنسان ينشد هذه الأبيات:
ما العيش إلا أن يرى لك بارق
من ثغر من تهوى ووجه رائق
والموت أسهل من صدود حبيبة
لم يغشني منها خـيال طـارق
يا فرحة الندماء حيث تجمعـوا
وأقام معشوق هناك وعاشـق
لا سيما وقت الربـيع وزهـره
طاب الزمان بما إليه تسابـق
يا شارب الصهباء دونك ما ترى
أرض مزخرفة ومـاء دافـق
فلما سمع كان ما كان هذه الأبيات هاجت به الأشجان وجرت دموعه على خده كالغدران وانطلقت من قلبه النيران فقام ينظر قائل هذا الكلام فلم ير أحداً في جنح الظلام فأخذه القلق ونزل في مكانه إلى أسفل الوادي ومشى على شاطئ النهر فسمع صاحب الصوت يصعد الزفرات وينشد هذه الأبيات:
إن كنت تضمر ما في الحب إشفاقاً
فأطلق الدمع يوم البين إطـلاقـا
بيني وبين أحبائي عـهـود هـوى
لذا إليهم أظل الدهر مـشـتـاقـا
يرتاح قلبي إلى تيم ويطـربـنـي
نسيم تيم إذا مـا هـب أشـواقـا
يا سعد هل ربة الخلخال تذكرنـي
بعد البعاد لنا عـهـداً ومـيثـاقـا
وهل تعود ليالي الوصل تجمعـنـا
يوماً ويشرح كل بعضٍ ما لاقـى
قالت فتنت بنا وجدا فقلـت لـهـا
كم قد فتنت رعاك الله عـشـاقـا
لا متع الله طرفي في محاسنـهـا
إن كان من بعدها طيب الكرى ذاقا
يا لسعة في فؤادي ما رأيت لـهـا
سوى الوصال ورشف الثغر ترياقا
فلما سمع كان ما كان هذه الأشعار من صاحب الصوت ثاني مرة ولم ير شخصه عرف أن القائل عاشق منع من الوصول إلى من يحبه فقال في نفسه: لعلي اجتمع بهذا فيشكو كل واحد لصاحبه وأجعله أنيسي في غيبتي، ثم تنحنح ونادى: أيها السائر في الليل العاكر تقرب مني وقص علي لعلك تجدني معيناً لك على بليتك. فلما سمع صاحب الصوت هذا الكلام أجابه قائلاً: أيها المنادي السامع لإنشادي من تكون من الفرسان وهل أنت من الأنس أو الجان؟ فعجل علي بكلامك قبل دنو حمامك وامش، فقال كان ما كان: لاتفعل يا أخا العرب لأن أهلي لا يشتروني بفضة ولا ذهب وأنا رجل فقر ولا معي قليل ولا كثير فدع عنك هذه الأخلاق واتخذني من الرفاق واخرج بنا من أرض العراق. فلما سمع صاحب الصوت هذا الكلام وكان اسمه صباح غضب وزاد به الالتهاب وقال له: ويلك تراددني في الجواب يا أخس الكلاب، أدر كتافك وإلا أنزلت عليك العذاب، فتبسم كان ما كان وقال: كيف أدير الكتاف، أما عندك أوصاف؟ أما تخشى معايرة العربان حيث تأسر غلاماً بالذل والهوان وما اختبرته في حومة الميدان وعلمت أهو فارس أم جبان؟.
فضحك صباح وقال: يا الله العجب إنك في سن الغلام ولكنك كبير الكلام لأن هذا القول لا يصدر إلا عن البطل المصدام. فقال كان ما كان: الإنصاف أنك إذا شئت أخذي أسيراً خادماً لك أن ترمي سلاحك وتخفف لباسك وتصارعني وكل من صرع صاحبه بلغ منه مرامه وجعله غلامه.
فضحك صباح وقال: ما أظن كثرة كلامك إلا لدنو حمامك، ثم رمى سلاحه وشمر أذياله ودنا من كان ما كان وتجاذبا فوجده البدوي يرجح عليه كما يرجح للقنطار على الدينار، ونظر إلى ثبات رجليه في الأرض فوجدهما كالمأذنتين المؤسستين أو الجبلين الراسخين فعرف في نفسه قصر باعه وندم على الدنو من صراعه وقال في نفسه: ليتني قاتلته بسلاحي، ثم إن كان ما كان قبضه وتمكن منه وهزه فأحس أن أمعاءه تقطعت في بطنه.
فصاح أمسك يدك يا غلام فلم يلتفت إلى ما أبداه من الكلام بل حمله من الأرض وقصد به النهر فناداه صباح قائلاً: أيها البطل ما تريد أن تفعل بي قال: أريد أن أرميك في هذا النهر فإنه يوصلك إلى دجلة، والدجلة يوصلك إلى نهر عيسى ونهر عيسى يوصلك إلى الفرات والفرات يلقيك إلى بلادك فيراك قومك فيعرفونك ويعرفون مروءتك وصدق محبتك. فصاح صباح ونادى: يا فارس البطاح لا تفعل فعل القباح أطلقني بحياة بنت عمك سيدة الملاح فحطه كان ما كان في الأرض فلما رأى نفسه خالصاً ذهب إلى ترسه وسيفه وأخذهما وصار يشاور نفسه على الهجوم عليه فعرف كان ما كان ما يشاور نفسه عليه فقال له: قد عرفت ما في قلبك حيث أخذت سيفك وترسك فإنه قد خطر ببالي أنه ليس لك يد في الصراع تطول، ولو كنت على فرس تجول لكنت بسيفك تصول وهاأنا أبلغك ما تختار حتى لا يبقى في قلبك إنكار فأعطني الترس واهجم علي بسيف فإما تقتلني أو أقتلك. فرمى الترس وجرد سيفه وهجم به على كان ما كان فتناول الترس بيمينه وصار يلاقي به عن نفسه وصار صباح يضربه ويقول: مابقي إلا هذه الضربة الفاصلة فيتلقاها كان ما كان وتروح ضائعة ولم يكن مع كان ما كان ما يضرب به ولم يزل صباح يضرب بالسيف حتى كلت يده وعرف كان ما كان ضعف قوته وانحلال عزيمته فهجم عليه وهزه وألقاه في الأرض وكتفه بحبائل سيفه وجره من رجليه إلى جهة النهر. فقال صباح: ما تريد أن تصنع بي يا فارس الزمان وبطل الميدان؟ قال: ألم أقل لك أنني أرسلك إلى قومك في النهر حتى لا يشغل خاطرهم عليك وتتعوق عن عرس بنت عمك فتضجر صباح وبكى وصاح وقال: لا تفعل بي يا فارس الزمان واجعلني لك من بعض الغلمان. ثم أفاض دمع العين وأنشد هذين البيتين:
تغربت عن أهلي فيا طول غربتي
ويا ليت شعري هل أموت غريبا
أموت وأهلي ليس تعرف مقتلـي
وأودي غريباً لا أزور حـبـيبـا
فرحمه كان ما كان، وأطلقه بعد أن أخذ عليه العهود والمواثيق أنه يصحبه في الطريق ويكون له نعم الرفيق، ثم إن صباحاً أراد أن يقبل يد كان ما كان فمنعه من تقبيلها، ثم قام البدوي إلى جرابه وفتحه وأخذ منه ثلاث قرصات شعير وحطها قدام كان ما كان وجلس معه على شاطئ النهر وأكلا مع بعضهما، ثم توضأ وصليا وجلسا يتحدثان فيم ألقياه من صروف هذا الزمان.
فقال كان ما كان للبدوي: أين تقصد؟ فقال صباح: أقصد بغداد بلدك، وأقيم بها حتى يرزقني الله بالصداق فقال له: دونك والطريق. ثم ودعه البدوي وتوجه في طريق بغداد وأقام كان ما كان وقال في نفسه: يا نفسي أي وجه للرجوع مع الفقر والفاقة والله لا أرجع خائباً ولابد لي من الفرج إن شاء الله تعالى، ثم تقدم إلى النهر وتوضأ وصلى. فلما سجد ووضع جبهته على التراب ونادى به ربه قائلاً: اللهم منزل القطر ورازق الدود في الصخر أسألك أن ترزقني بقدرتك ولطيف رحمتك ثم سلم من صلاته وضاق به كل مسلك.
فبينما هو جالس يلتفت يميناً وشمالاً وإذا بفارس أقبل على جواد، وقد اقتعد ظهره وأرخى عنانه فاستوى كان ما كان جالساً وبعد ساعة وصل إليه الفارس وهو في آخر نفس لأنه كان به جرح بالغ. فلما وصل إليه جرى دمعه على خده مثل أفواه القرب وقال لكان ما كان: يا وجه العرب اتخذني ما عشت لك صديقاً فإنك لا تجد مثلي واسقني قليلاً من الماء، وإن كان شرب الماء لا يصلح للجروح سيما وقت خروج الروح وإن عشت أعطيتك ما يدفع فقرك وإن مت فأنت المسعود بحسن نيتك وكان تحت الفارس حصان يتحير في حسنه الإنسان ويكل عن وصفه اللسان وله قوائم مثل أعمدة الرخام معد ليوم الحرب والزحام، فلما نظر كان ما كان إلى ذلك الحصان أخذه الهيام وقال في نفسه: إن هذا الحصان لا يكون في هذا الزمان ثم أنه أنزل الفارس ورفق به وجرعه يسيراً من الماء ثم صبر عليه حتى أخذ الراحة وأقبل عليه وقال له: من الذي فعل بك هذه الفعال؟ فقال الفارس: أن أخبرك بحقيقة الحال. إني رجل سلال غيار طول دهري أسل الخيل وأختلسها في الليل والنهار واسمي غصان آفة كل فرس وحصان وقد سمعت بهذا الحصان في بلاد الروم عند الملك أفريدون وقد سماه بالقانون ولقبه بالمجنون وقد سافرت إلى القسطنطينية من أجله وصرت أراقبه فبينما أنا كذلك إذ خرجت عجوز معظمة عند الروم وأمرها عندهم في الخداع متناهي تسمى شواهي ذات الدواهي، ومعها هذا الجواد وصحبتها عشرة عبيد لا غير برسم خدمة هذا الحصان وهي تقصد بغداد تريد الدخول على الملك سلسان لتطلب منه الصلح والأمان، فخرجت في أثرهم طمعاً في الحصان وما زلت أتابعهم، ولا أتمكن من الوصول إليه لأن العبيد شداد الحرس عليه إلى أن أتوا تلك البلاد وخفت أن يدخلوا مدينة بغداد، فبينما أنا أشاور نفسي في سرقة الحصان إذ طلع عليهم غبار حتى سد الأقطار ثم انكشف الغبار عن خمسين فارساً مجتمعين لقطع الطريق على التجار ورئيسهم يقال لهم كهرداش ولكنه في الحرب كأسد يجعل الأبطال كالفراش. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الحادية والسبعين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الفارس المجروح قال لكان ما كان: فخرج على العجوز ومن معها كهرداش ثم أحاط بهم وهاش وناش فلم تمض ساعة حتى ربط العشرة عبيد والعجوز وتسلم الحصان وسار بهم وهو فرحان فقلت في نفسي: قد ضاع تعبي وبلغت أربي ثم صبرت حتى أنظر ما يؤول الأمر إليه.
فلما رأت العجوز روحها في الأسر بكت وقالت لكهرداش: أيها الفارس الهمام والبطل الضرغام ماذا تصنع بالعجوز والعبيد وقد لغت من الحصان ما تريد؟ وخادعته بلين الكلام، وحلفت أنها تسوق له الخيل والأنعام فأطلقها هي والعبيد، ثم سار هو والعبيد وأصحابه وتبعتهم حتى وصلت إلى هذه الديار وانا ألاحظه. فلما وجدت إليه سبيلاً سرقته وركبته، وأخرجت من مخلاتي سوطاً فضربته، فلما أحسوا بيلحقوني وأحاطوا بي من كل مكان ورموني بالسهام والسنان وأنا ثابت عليه وهو يقاتل عني بيديه ورجليه إلى أن خرج بي من بينهم مثل النجم الطارق والسهم الراشق، ولكن لما اشتد الكفاح أصابني بعض الجراح وقد مضى لي على ظهره ثلاثة أيام ولم أستطعم بطعام وقد ضعفت مني القوى وهانت علي الدنيا أحسنت إلي وأشفقت علي وأراك عاري الجسد ظاهر عليك الكمد، ويلوح عليك أثر النعمة فما يقال لك؟.
فقال: أنا يقال لي كان ما كان ابن الملك ضوء المكانبن الملك عمر النعمان قد مات والدي وربيت يتيماً وتولى رجل لئيم وصار ملكاً على الحقير والعظيم ثم حدثه بحديثه من أوله إلى آخره. فقال الرجل السلال وقد رق له: إنك ذو حسب عظيم وشر جسيم وليس لك شأن وتصير أفرس هذا الزمان فإن قدرت أن تحملني وتركب ورائي وتوديني إلى بلادي يكن لك الشرف في الدنيا والجر في يوم التناد فإنه لم يبق لي قوة أمسك بها نفسي وإن أمت في الطريق فزت بهذا الحصان وأنت أولى به من كل إنسان. فقال له كان ما كان والله لو قدرت أن أحملك على أكتافي لفعلت ولو كان عمري بيدي لأعطيتك نصفه من غير هذا الجواد لأني من أهل المعروف وإغاثة الملهوف وفعل الخير لوجه الله تعالى يسد سبعين باباً من البلاء، وعزم على أن يمله على الحصان ويسير متوكلاً على اللطيف الخبير. فقال له: اصبر علي قليلاً ثم أغمض عينيه وفتح يديه وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله وتهيأ للممات وأنشد هذه الأبيات:
ظلمت العباد وطفـت الـبـلاد
وأمضيت عمري بشرب الخمور
وخضت السيول لسل الـخـيول
وهدم الطلول بفعل الـنـكـور
وأمري عظيم وجرمي جـسـيم
وفاتول منـي تـمـام الأمـور
وأملت أنـي أنـال الـمـنـى
بذاك الحصان فأعيا مـسـيري
وطول الحـياة أسـل الـخـيول
فكانت وفاتي عـنـد الـغـدير
وآخر أمـري أنـي تـعـبـت
لرزق الغري اليتيم الـفـقـير
فلما فرغ من شعره أغمض عينيه وفتح فاه وشهق شهقة ففارق الدنيا فحفر له كان ما كان حفرة وواراه التراب، ثم مسح وجه الحصان ورآه لا يوجد في حوزة الملك سلسان، ثم أتته الأخبار من التجار بجميع ما جرى في غيبته بين الملك سلسان والوزير دندان خرج عن طاعة الملك سلسان هو ونصف العسكر وحلفوا أنهم ما لهم سلطان إلا كان ما كان واستوثق منهم بالأيمان ودخل بهم إلى جزائر الهند والبربر وبلاد السودان واجتمع معهم عساكر مثل البحر الزاخر لا يعرف لهم أول من آخر وعزم على أن يرجع بجميع الجيوش إلى البلاد ويقتل من يخالفه من العباد وأقسم أنه لا يرد سيف الحرب إلى غمده حتى يملك كان ما كان.
فلما بلغته هذه الأخبار غرق في بحر الأفكار، ثم إن الملك سلسان علم أن الدولة انحرفت عليه الكبار والصغار فغرق في بحر الهموم والأكدار وفتح الخزائن وفرق على أرباب الدولة الأموال والنعم وتمنى أن يقدم عليه كان ما كان ويجذب قلبه إليه بالملاطفة والإحسان ويجعله أميراً على العساكر الذين لم يزالوا تحت طاعته لتقوى به شرارة جمرته، ثم إن كان ما كان لما بلغه ذلك الخبر من التجار رجع مسرعاً إلى بغداد على ظهر ذلك الجواد.
فبينما الملك سلسان في ربكته حيران إذ سمع بقدوم كان ما كان فأخرج جميع العساكر ووجهاء بغداد ولاقوه ومشوا قدامه إلى القصر ودخلت الطواشية بالأخبار إلى أمه فجاءت إليه وقبلته بين عينيه، فقال: يا أماهد عيني أمضي إلى عمي السلطان سلسان الذي غمرني بالنعمة والإحسان.
ثم إن أرباب الدولة تحيروا في وصف ذلك الحصان وفي وصف صاحبه سيد الفرسان وقالوا للملك سلسان: أيها الملك إننا ما رأينا مثل هذا الإنسان ثم ذهب الملك سلسان وسلم عليه.
فلما رآه كان ما كان مقبلاً عليه قام إليه وقبل يديه ورجليه وقدم إليه الحصان هدية فرحب به وقال: أهلاً وسهلاً بولدي كان ما كان، والله لقد ضاقت بي الأرض لأجل غيبتك والحمد لله على سلامتك.
و أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثانية والسبعين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك سلسان قال أهلاً وسهلاً بولدي كان ما كان والله لقد ضاقت بي الأرض لجل غيبتك والحمد لله على سلامتك، ثم نظر السلطان إلى هذا الحصان المسمى القانون، فعرف أنه الحصان الذي رآه سنة كذا وكذا في حصار عبدة الصلبان مع أبيه ضوء المكان حين قتل عمه شركان وقال له لو قدر عليه أبوك لاشتراه بألف جواد ولكن الآن عاد العز إلى أهله وقد قبلناه ومنا لك وهبنا هو أنت أحق به من كل إنسان لأنك سيد الفرسان. ثم أمر أن يحضر لكان ما كان خلعة سنية وجملة من الخيل وأفرد له في القصر أكبر الدور وأقبل عليه العز والسرور. وأعطاه مالاً جزيلاً وأكرمه غاية الإكرام لأنه كان يخشى عاقبة الوزير دندان ففرح بذلك كان ما كان وذهب عنه الذل والهوان ودخل بيته وأقبل على أمه وقال: يا أمي ما حال ابنة عمي، فقالت والله يا ولدي انه كان عندي من غيبتك ما شغلني عن محبوبتك فقال يا أمي اذهبي إليها وأبلي عليها لعلها تجود علي بنظرة فقالت له إن المطامع تذل أعناق الرجال فدع عنك هذا المقال لئلا يقضي بك إلى الوبال فأنا أذهب إليها ولأ أدخل بهذا الكلام عليها.
فلما سمع من أمه ذلك أخبرها بما قاله السلال من أن العجوز ذات الدواهي طرقت البلاد وعزمت على أن تدخل بغداد وقال هي التي قتلت عمي وجدي ولا بد أن أكشف العار وآخذ بالثأر ثم ترك أمه وأقبل على عجوز عاهرة محتالة ماكرة اسمها سعدانة وشكا إليها حاله وما تجده من حب قضي فكان وسألها أن تتوجه العجوز إليها وتستعطفها عليه، فقالت له العجوز سمعاً وطاعة ثم فارقته ومضت إلى قصر قضي فكان واستعطفت قلبها عليه، ثم رجعت إليه وأعلمته بأن قضي فكان تسلم عليه ووعدتها أنها في نصف الليل تجيء إليه.
و أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثالثة والسبعين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن العجوز قالت لكان ما كان بأنها ستجيء إليك في نصف الليل ففرح لوعد ابنة عمه قضي فكان، فلما جاء نصف الليل أتته بملاءة سوداء من الحرير ودخلت عليه ونبهته من نومه وقالت له كيف تدعي أنك تحبني وأنت خلي البال نائم على أحسن حال، فانتبه وقال والله يا منية القلب أني ما نمت إلا طمعاً في أن يزورني منك طيف الخيال فعند ذلك عاتبت بعتاب لطيف
لو كنت تصدق في المحبة
ما جنحت إلى المـنـام
يا مدعي طرق المحـبة
في المـودة والـغـرام
والله يا ابـن الـعـم مـا
رقدت عيون المستهـام
فاستحيا منها كان ما كان، وتعانقا وتشاكيا ألم الفراق وعظيم الوجد والاشتياق ولم يزالا كذلك إلى أن بدت غرة الصباح وطلع الفجر ولاح فبكى كان ما كان بكاءً شديداً وصعد الزفرات وأنشد هذه الأبيات:
فيا زائري من بعد فرط صـدوده
وفي الثغر منه الدر في نظم عقده
فقبلته ألـفـاً وعـانـقـت قـده
وبت وخدي لاصق تحـت خـده
إلى أن بدا نور الصباح فراعـنـا
كحد حسام لاح من جوف غمـده
فلما فرغ من شعره ودعته قضي فكان ورجعت إلى خدرها وأظهرت بعض الجواري على سرها فذهبت جارية منهن إلى الملك سلسان وأعلمته بالخبر فتوجه إلى قضي فكان وجرد عليها الحسام وأراد أن يضرب عنقها فدخلت عليه أمها نزهة الزمان، وقالت له بالله لا تفعل بها ضرراً فإنك إن فعلت بها ضرراً يشيع الخبر بين الناس وتبقى معيرة عند ملوك الزمان وإن كان ما كان صاحب عرض ومروءة ولا يفعل أمراً يعاب عليه فاصبر ولا تعجل فإن أهل القصر وجميع بغداد قد ضاع عندهم أن الوزير دندان، قاد العسكر من جميع البلدان وجاء بهم ليملكوا كان ما كان.
فقال لها لابد أن أرميه في بلية بحيث لا أرض تقله ولا سماء تظلله وإني ما طيبت خاطره إلا لأجل أهل مملكتي، لئلا يميلوا إليه وسوف ترين ما يكون، ثم تركها وخرج يدير أمر مملكته هذا ما كان من أمر الملك سلسان. وأما كان ما كان فإنه أقبل على أمه في ثاني يوم وقال لها: يا أمي إني عزمت على شن الغارات وقطع الطرقات وسوق الخيل والنعم والعبيد والمماليك وإذا كثر مالي وحسن حالي خطبت قضي فكان من عمي سلسان، فقالت: يا ولدي إن أموال الناس غير سائبة، لأن دونها ضرب الصفاح وطعن الرمح ورجالاً تقتنص الأسود وتصيد الفهود فقال لها كان ما كان: هيهات أن أرجع عن عزيمتي إلا إذا بلغت منيتي ثم أرسل العجوز إلى قضي فكان ليعلمها أنه يريد السير حتى يحصل لها مهراً يصلح لها وقال للعجوز لابد أن تأتيني منها بالجواب. فقالت له: سمعاً وطاعة ثم ذهبت إليها ورجعت له بالجواب. وقالت له إنها في منتصف الليل تكون عندك فأقام سهران إلى نصف الليل من قلقه فلم يشعر إلا وهي داخلة عليه وتقول له: روحي فداك من السهر فنهض لها قائماً وقال: يا منية القلب روحي فداك من جميع الأسواء ثم أعلمها بما عزم عليه فبكت فقال لها: لا تبكي يا بنت العم فأنا الذي حكم علينا بالفراق أن يمن علينا بالتلاق والوفاق ثم إن كان ما كان أخذ في السفر ودخل عل أمه وودعها ونزل من القصر ونقله بسيفه ونعمم وتلثم وركب جواده القانون ومشى في شوارع المدينة وهو كالبدر حتى وصل إلى باب بغداد وإذا برفيقه صباح بن رباح خارج من المدينة، فلما رآه جرى في ركابه وحياه فرد عليه السلام فقال صباح يا أخي كيف صار لك هذا الجواد وهذا المال، وأنا الآن لا أملك غير سيفي؟ فقال له كان ما كان: لا يرجع الصياد بصيد إلا إلى قدر نبته وبعد فراقك بساعة حصلت لي السعادة وهل لك أن تأتي معي وتخلص النية في صحبتي ونسافر في تلك البرية؟ فقال: ورب الكعبة ما بقيت أدعوك إلا مولاي ثم جرى قدام الجواد وسيفه على عاتقه وجرابه بين كتفيه ولم يزالا سائرين في البر أربعة أيام وهما يأكلان من صيد الغزلان ويشربان من ماء العيون وفي اليوم الخامس أشرفا على تلٍ عال تحته مراتع فيهاإبل وغنم وبقر خيل قد ملأت الروابي والبطاح وأولادها الصغار تلعب حول المراح.
فلما رأى ذلك كان ما كان، زادت به الأفراح وامتلأ صدره بالإنشراح وعول على القتال وأخذ النياق والجمال فقال لصباح: انزل بنا على هذا المال الذي عن أهله وحيد ونقاتل دونه القريب والبعيد حتى يكون لنا في أخذه نصيب فقال صباح: يا مولاي إن أصحابه خلق كثير وجم غفير وفيهم أبطال من فرسان ورجال وإن رمينا أرواحنا في هذا الخطب الجسيم فإننا نكون من هوله على خطر عظيم فضحك كان ما كان وعلم أنه جبان فتركه وانحدر من الرابية عازماً على شن الغارات وترنم بإنشاد هذه الأبيات:
وآل نعمان هم ذوو الهـمـم
والسادة الضاربون في القسم
قوم إذا ما الهياج قام لـهـم
قاموا بأسواقه علـى قـدم
تنام عين الفقـير بـينـهـم
ولا يرى قبح صور العـدم
وإنني أرتـجـي مـعـاونة
من مالك الملك بارئ النسم
ثم حمل على ذلك المال مثل الجمل الهائج وساق جميع الإبل والبقر والغنم والخيل قدامه فتبادرت إليه العبيد بالسيوف النقال والرماح الطوال وفي أولهم فارس تركي إلا أنه شديد الحرب والكفاح عارف بأعمال سمر القنا وبيض الصفاح فحمل على كان ما كان وقال له: ويلك لو علمت لمن هذا المال ما فعلت هذه الفعال، اعلم أن هذه الأموال للعصابة الرومية والفرقة الجركسية الذين ما فيهم إلا كل بطل عابس وهم مائة فارس قد خرجوا عن طاعة كل سلطان وقد سرق منهم حصان وحلفوا بان لا يرجعوا من هنا إلا به.
فلما سمع كان ما كان هذا الكلام صاح قائلاً: هذا هو الحصان الذي تعنون وأنتم له طالبون وفي قتالي بسببه راغبون فبارزوني كلكم أجمعون وشانكم وما تريدون، ثم صرخ بين أذني القانون فخرج عليهم مثل الغول وعطف على الفارس وطعنه فأخرج كلاه ومال على ثانٍ وثالث ورابع فأعدمهم الحياة فعند ذلك هابته العبيد فقال لهم: يا بني الزواني سوقوا المال والخيول وإلا خضبت من دمائكم سناني فساقوا المال وأخذوا في الانطلاق وانحدر إليه صباح وأعلن بالصياح وزادت به الأفراح وإذا بغبار قد علا وطار حتى سد الأقطار وبان من تحته مائة فارس مثل الليوث العوابس. فلما رآهم صباح فر إلى الرابية وترك البطاح وصار يتفرج على الكفاح، وقال ما أنا بفارس إلا في اللعب والمزاح ثم إن المائة فارس داروا حول كان ما كان وأحاطوا به من كل مكان فتقدم إليه منهم وقال: أين تذهب بهذا المال؟ فقال له كان ما كان: دونك والقتال واعلم أم من دونه أسداً أروع وبطل صميدع وسيفاً أينما مال قطع فلما سمع الفارس ذلك الكلام لتفت إليه فرآه فارساً كالأسد الضرغام إلا أن وجهه بدر التمام وكان ذلك الفارس رئيس المائة فارس واسمه كهرداش.
فلما رأى كان ما كان مع كمال فروسيته بديع المحاسن يشبه حسنه حسن معشوقة له يقال لها فاتن وكانت من أحسن النساء وجهاً قد أعطاها الله من الحسن والجمال وكرم الخصال ما يعجز عن وصفه اللسان ويشغل قلب كل إنسان وكانت فرسان القوم تخشى سطوتها وأبطال ذلك القطر تخاف هيبتها وحلفت أنها لا تتزوج إلا من يقهرها وكان كهرداش من جملة خطابها فقالت لأبيها: ما يقربني إلا من يقهرني في الميدان وموقف الحرب والطعان. فلما بلغ كهرداش هذا القول اختشى أن يقاتل جارية وخاف من العار فقال في بعض خواصه: أنت كامل الخصال في الحسن والجمال فلو قاتلتها وكانت أقوى منك فإنك تغلبها لأنها إذا رأت حسنك وجمالك تنهزم قبالك حتى تملكها لأن النساء لهن غرض في الرجال ولا يخفى عنك هذا الحال، فأبى كهرداش وامتنع من قتالها واستمر على امتناعه من القتال إلى أن جرت له مع كان ما كان هذه الأفعال فظن أنه محبوبته فاتن قد عشقته لما سمعت بحسنه وشجاعته فتقدم إلى كان ما كان وقال: ويلك يا فاتن قد أتيت لتريني شجاعتك فانزلي عن جوادك حتى أتحدث معك فإني قد سقت هذه الأموال وقطعت الطريق على الفرسان والأبطال وكل هذا لحسنك وجمالك الذي ما له مثيل وتزوجيني حتى تخدمك بنات الملوك وتصيري ملكة هذه الأقطار.
فلما سمع كان ما كان هذا الكلام صارت ناره غيظه في اضطرام وقال: ويلك يا كلب الأعجام دع فاتناً وما بها ترتاب وتقدم إلى الطعن والضراب فعن قليل تبقى على التراب ثم صال وجال وطلب الحرب والنزال فلما نظر كهرداش إليه علم أنه فارس همام وبطل مصدام وتبين خطأ ظنه حيث لاح له عذار أخضر فوق خده كآس نبت خلال ورد أحمر وقال للذين معه: ويلكم ليحمل واحد منكم عليه ويظهر له السيف البتار والرمح الخطار واعلموا أن قتال الجماعة للواحد عار ولو كان في سنان رمحه بشعلة نار فعند ذلك حمل عليه فارس تحته جواد أدهم بتحجيل وغرة كالدرهم يحير العقل والناظر كما قال فيه الشاعر:
قد جاءك المهر الذي نزل الوغى
جذلان يخلط أرضه بسـمـائه
وكأنما لطم الصبـاح جـبـينـه
واقتص منه فخاض في أحشائه
ثم إن الفارس حمل عليه كان ما كان وتجاولا في الحرب برهة من الزمان وتضاربا ضرباً يحير الأفكار ويغشي الأبصار فسبقه كان ما كان بضربة بطل شجاع قطعت منه العمامة والمغفر فمال عن جواده كأنه البعير إذا انحدر وحمل عليه الثاني والثالث والرابع والخامس ففعل بهم كالأول، ثم حمل عليه الباقون وقد اشتد بهم القلق وزادت الحرق فما كان إلا ساعة التقطهم بسنان رمحه. فنظر كهرداش إلى هذا الحال فخاف من الإرتحال وعرف من نفسه أن عنده ثبات الجنان واعتقد أنه أوجد الأبطال والفرسان فقال لكان ما كان: قد وهبت لك دمك ودم أصحابي فخذ من المال ما شئت واذهب إلى حال سبيلك فقد رحمتك لحسن شبابك والحياة أولى بك، فقال له كان ما كان: لا عدمت مروءة الكرام ولكن اترك عنك هذا الكلام وفز بنفسك ولا تخشى الملام ولا تطمع نفسك في رد الغنيمة واسلك لنجاة نفسك طريقة مستقيمة فعند ذلك اشتد بكهرداش الغضب وحصل عنده ما يوجب العطب فقال لكان ما كان: ويلك لو عرفت من أنا ما نطقت بهذا الكلام في حومة الزحام فاسأل عني الأسد البطاش المعروف بكهرداش الذي نهب الملوك الكبار وقطع الطريق على جميع السفار وأخذ أموال التجار وهذا الحصان الذي تحتك طلبتي وأريد أن تعرفني كيف وصلت إليه حتى استوليت عليه، فقال: اعلم أن هذا الجواد كان سائراً إلى عمي الملك سلسان تحت عجوز كبيرة ولنا عندها ثأر من جهة جدي الملك عمر النعمان وعمي الملك شركان، فقال كهرداش: ويلك ومن أبوك لا أم لك فقال: اعلم أني كان ما كان ابن الملك ضوء المكان بن عمر النعمان. فلما سمع كهرداش هذا الخطاب قال: لا يستنكر عليك الكمال والجمع بين الفروسية والجمال، ثم قال له: توجه بأمان فإن أباك كان فضل وإحسان فقال له كان ما كان: أنا والله ما أوقرك يا مهان، فاغتاظ البدوي ثم حمل كل منهما على صاحبه فشدت لهما الخيل أذانها ورفعت أذنابها ولم يزالا يصطدمان حتى ظن كل منهما أن السماء قد انشقت، ثم بعد ذلك تقاتلا ككباش النطاح واختلفت بينهما طعنات الرماح فحاوله كهرداش بطعنة فزاغ عنها كان ما كان ثم كر عليه وطعنه في صدره فطلع السنان يلمع من ظهره وجمع الخيل والأسلاب وصاح في العبيد: دونكم والسوق الشديد.
فنزل عند ذلك صباح وجاء إلى كان ما كان وقال له: أحسنت يا فارس الزمان إني دعوت لك واستجاب ربي دعائي، ثم إن صباح قطع رأس كهرداش فضحك كان ما كان وقال له: ويلك يا صباح إني كنت أظن أنك فارس الحرب والكفاح فقال: لا تنسى عبدك من هذه الغنيمة لعلي أصل بسببها إلى زواج بنت عمي نجمة فقال له: لا بد لك من نصيب ولكن كن محافظاً على الغنيمة والعبيد، ثم إن كان ما كان سار متوجهاً إلى الديار ولم يزل سائراً بالليل والنهار حتى أشرف على مدينة بغداد وعلمت به جميع الأجناد ورأوا ما معه من الغنيمة والأموال ورأس كهرداش على رمح صباح وعرف التجار رأس كهرداش ففرحوا وقالوا: لقد أراح الله الخلق منه لأنه كان قاطع الطريق وتعجبوا من قتله ودعوا لقاتله، وأتى أهل بغداد إلى كان ما كان بما جرى من الأخبار فهابته جميع الرجال وخافته الفرسان والأبطال وساق ما معه إلى أن أوصله تحت القصر وركز الرمح الذي عليه رأس كهرداش إلى باب القصر وهب للناس وأعطاهم الخيل والجمال فأحبه أهل بغداد ومالت إليه القلوب ثم أقبل على صباح وأنزله في بعض الأماكن الفساح ثم دخل على أمه وأخبرها بما جرى له في سفره.
وقد وصل إلى الملك خبره فقام من مجلسه واختلى بخواصه وقال لهم: اعلموا أني أريد البوح لكم بسري وأبدي لكم مكنون أمري اعلموا أن كان ما كان هو الذي يكون سبباً لانقلاعنا من هذه الأوطان لأنه قتل كهرداش مع أن قبائل من الأكراد والأتراك وأمرنا معه يل إلى الهلاك وأكثر خوفنا من أقاربه، وقد علمتم بما فعل الوزير دندان فإنه جحد معروفي بعد الإحسان وخانني في الأيمان وبلغني أنه جمع عساكر البلدان وقصد أن يسلطن كان ما كان لأن السلطنة كانت لأبيه وجده، ولا شك أنه قاتلي لا محالة. فلما سمع خواً مملكته منه هذا الكلام قالوا له: أيها الملك إنه أقل من ذلك ولولا أننا علمنا بأنه تربيتك لم يقبل عليه منا أحد واعلم أننا بين يديك إن شئت قتله قتلناه وإن شئت ابعاده أبعدناه، فلما سمع كلامهم قال: إن قتله هو الصواب ولكن لابد من أخذ الميثاق فتحالفوا على أنهم لا بد أن يقتلوا كان ما كان فإذا أتى الوزير دندان وسمع بقتله تضعف قوته عما هو عازم عليه. فلما أعطوه العهد والميثاق على ذلك أكرمهم غاية الإكرام ثم دخل بيته وقد تفرق عنه الرؤساء وامتنعت العساكر من الركوب والنزول حتى يبصروا ما يكون لأنهم رأوا غالب العسكر مع الوزير دندان، ثم إن الخبر وصل إلى قضى فكان فحصل عندها غم زائد وأرسلت إلى العجوز التي عادتها أن تأتيها من عند ابن عمها بالأخبار فلما حضرت عندها أمرتها أن تذهب إليه وتخبره بالخبر، فلما سمع ذلك قال: بلغي بنت عمي سلامي وقولي لها: إن الأرض لله عز وجل يورثها من يشاء من عباده، وما أحسن قول الشاعر:
الملك لله ومن يظفر بنيل منـي
يردده قهر ويضمن عنده الدركا
لو كان لي أو لغيري قدر أنملة
من التراب لكان الأمر مشتركا
فرجعت العجوز إلى بنت عمه وأخبرتها بما قاله وأعلمتها بأن كان ما كان أقام في المدينة، ثم إن الملك سلسان صار ينتظر خروجه من بغداد ليرسل وراءه من يقتله فاتفق أنه خرج إلى الصيد والقنص وخرج صباح معه لأنه كان لا يفارقه ليلاً ولا نهاراً فاصطاد عشر غزلان وفيهن غزالة حلاء العيون صارت تتلفت يميناً وشمالاً فأطلقها فقال له صباح: لأي شيء أطلقت هذه الغزالة؟ فضحك كان ما كان وأطلق الباقي وقال: إن من المروءة إطلاق الغزلان التي لها أولاد وما تتلفت تلك الغزالة إلا لأن لها أولاد فأطلقتها وأطلقت الباقي في كرامتها. فقال له صباح: أطلقني حتى أروح إلى أهلي فضحك وضربه بعقب الرمح على قلبه فوقع على الأرض يتلوى كاثعبان، فبينما هما كذلك وإذا بغبرة سائرة وخيل تركض وبان من تحتها فرسان شجعان وسبب ذلك أن الملك سلسان أخبروه أن كان ما كان خرج إلى الصيد والقنص فأرسل أمير من الديلم يقال له جامع ومعه عشرين فراساً ودفع لهم المال ثم أمرهم أن يقتلوا كان ما كان فلما قربوا منه حملوا عليه وحمل عليهم فقتلهم عن آخرهم وإذا بالملك سلسان ركب وسار ولحق بالعسكر فوجدهم مقتولين فتعجب ورجع وإذا بأهاليهم قبضوا عليه وشدوا وثاقه، ثم إن كان ما كان توجه بعد ذلك من المكان وتوجه معه صباح البدوي. فبينما هو سائر في صريقه رأى شاباً على باب داره فألقى كان ما كان عليه السلام فرد الشاب عليه السلام ثم دخل وخرج ومعه قصعتان إحداهما فيها لبن والثانية ثريد والسمن في جوانبها يموج ووضع القصعتين قدام كان ما كان وقال له: تفضل علينا بالأكل من زادنا فامتنع كان ما كان وقال له الشاب: مالك أيها الإنسان لا تأكل؟ فقال له كان ما كان: اعلم أن الملك سلسان غصب ملكي ظلماً وعدواناً ثم إن ذلك الملك كان لأبي وجدي من قبلي فاستولى عليه قهراً بعد موت أبي ولم يعتبرني لصغر سني فنذرت أنني لا آكل لأحد زاد حتى أشفي فؤادي من غريمي. فقال له الشاب: ابشر فقد وفى الله نذرك واعلم أنه مسجون في مكان وأظنه يموت قريباً، فقال له كان ما كان: في أي بيت هو معتقل؟ فقال له: في تلك القبة العالية فنظر كان ما كان إلى قبة عالية ورأى الناس في تلك القبة يدخلون وعلى سلسان يلطمون وهو يتجرع غصن المنون فقام كان ما كان ومشى حتى وصل إلى تلك القبة وعاين ما فيها ثم عاد إلى موضعه وقعد على الأكل وأكل ما تيسر ووضع ما بقي من اللحم في مزودة ثم جلس مكانه ولم يزل جالساً إلى أن أظلم الليل ونام الشاب الذي ضيفه ثم ذهب كان ما كان إلى القبة التي فيها سلسان وكان حولها كلاب يحرسونها فوثب عليه كلب من الكلاب فرمى له قطعة لحم من الذي في مزوده وما زال يرمي للكلاب لحماً حتى وصل إلى القبة وتوصل إلى أن صار عند الملك سلسان ووضع يده على رأسه، فقال له بصوت عال: من أنت؟ فقال: أن كان ما كان الذي سعيت في قتله فأوقعك الله في سوء تدبيرك أما يكفيك أخذ ملكي وملك أبي وجدي حتى تسعى في قتلي؟ فحلف له الملك سلسان الأيمان الباطلة أنه لم يسع في قتله وأن هذا الكلام غير صحيح فصفح عنه كان ما كان وقال له: اتبعني فقال: لا أقدر أن أخطو خطوة واحدة لضعف قوتي، فقال كان ما كان: إذا كان الأمر كذلك نأخذ لنا فرسين ونركب أنا وأنت ونطلب البر ثم فعل كما قال وركب هو وسلسان وسارا حتى الصباح ثم صليا الصبح وسارا ولم يزالا كذلك حتى وصلا إلى بستان فجعلا يتحدثان فيه ثم قام كان ما كان إلى سلسان وقال له: هل بقي في لقبك من أمر تكرهه؟ قال سلسان: لا والله ثم اتفقوا على أنهم يرجعا إلى بغداد.
فقال صباح البدوي أنا أسبقكما لأبشر الناس فسبق يبشر النساء والرجال فخرجت إليه الناس بالدفوف والمزامير وبرزت قضي فكان وهي مثل البدر بهي الأنوار في دياجي الإعتكار فقابلها كان ما كان وحنت الأرواح للأرواح واشتاقت الأشباح للأشباح ولم يبق لأهل القصر حديث إلا في كان ما كان وشهد له الفرسان أنه أشجع أهل الزمان وقالوا: لا يصلح أن يكون سلطاناً علينا إلا كان ما كان ويعود إلى ملك جده كما كان وأما سلسان فإنه دخل على نزهة الزمان فقالت له: إني أرى الناس ليس لهم حديث إلا في كان ما كان ويصفونه بأوصاف يعجز عنها اللسان. فقال لها: ليس الخبر كالعيان، فإني رأيته ولم أر فيه صفة من صفات الكمال وما كل ما يسمع يقال ولكن الناس يقلد بعضهم بعضاً في مدحه ومحبته وأجرى الله على ألسنة الناس مدحه حتى مالت إليه قلوب أهل بغداد والوزير دندان الغادر الخوان قد جمع له عساكر من سائر البلدان ومن الذي يكون صاحب الأقطار ويرضى أي يكون تحت يد حاكم يتيم ما له مقدار فقالت له نزهة الزمان: وعلى ماذا عولت؟ قال: عولت على قتله ويرجع الوزير دندان خائباً في قصده، ويدخل تحت أمري وطاعتي ولا يبقى له إلا خدمتي فقالت له نزهة الزمان: الغدر قبيح بالأجانب فكيف بالأقارب والصواب أن تزوجه ابنتك قضي فكان وتسمع ما قيل فيما مضى من الزمان:
إذا رفع الزمان عليك شخصـاً
وكنت أحق فمنه ولو تصاعـد
أنله حتـى رتـبـتـه تـجـده
ينيلك إن دنوت وإن تـبـاعـد
ولا تقـل الـذي تـدريه فـيه
تكن ممن عن الحسنى تقاعـد
فكم في الخدر أبهى من عروسه
ولكن للعروس الدهر سـاعـد
فلما سمع سلسان هذا الكلام وفهم الشعر والنظام قام مغضباً من عندها وقال: لولا أني أعرف أنك تمزحين لعلوت رأسك بالسيف وأخمدت أنفاسك، فقالت: حيث غضبت مني فأنا أمزح معك ثم وثبت إليه وقبلت رأسه ويديه وقالت له: الصواب ما تراه وسوف أتدبر أنا وأنت في حيلة نقتله بها. فلما سمع منها هذا الكلام فرح وقال لها: عجلي بالحيلة وفرجي كربتي فلقد ضاق علي باب الحيل فقالت له: سوف أتحيل لك على إتلاف مهجته فقال لها: بأي شيء؟ فقالت له: بجاريتنا التي اسمها باكون فإنها بالمكر ذات فنون وكانت هذه الجارية من أنحس العجائز وعدم الخبث في مذهبها غير جائز وكانت ربت كان ما كان وقضي فكان غير أن كان ما كان يميل إليها كثيراً ومن فرط ميله كان ينام تحت رجليها. فلما سمع الملك سلسان من زوجته هذا الكلام قال: إن هذا الرأي هو الصواب، ثم أحضر الجارية باكون وحدثها بما جرى وأمرها أن تسعى في قتله ووعدها بكل جميل، فقالت له: أمرك مطاع ولكن أريد يا مولاي أن تعطيني خنجراً قد سقي بماء الهلاك لأعجل لك بإتلافه فقال لها سلسان: مرحباً بك ثم أحضر لها خنجراً يكاد أن يسبق القضاء وكانت هذه الجارية قد سمعت الحكايات والأشعار وتحفظ النوادر والأخبار فأخذت الخنجر وخرجت من الديار مفكرة فيما يكون به الدمار وأتت إلى كان ما كان وهو قاعد ينتظر وعد السيدة قضي فكان وكان في تلك الليلة قد تذكر بنت عمه قضي فكان فالتهبت من حبها في قلبه النيران.
فبينما هو كذلك وإذا بالجارية باكون داخلة عليه وهي تقول: آن أوان الوصال ومضت أيام الإنفصال فلما سمع ذلك قال لها: كيف حال قضي فكان فقالت له باكون: اعلم أنها مشتغلة بحبك فعند ذلك قام كان ما كان إليها وخلع أثوابها عليها ووعدها بكل جميل فقالت له: اعلم أنني أنام عندك الليلة وأحدثك بما سمعت من الكلام وأسليك بحديث كل متيم أمرضه الغرام، فقال له كان ما كان: حدثيني بحديث يفرح به قلبي ويزول به كربي فقالت له باكون: حباً وكرامةً ثم جلست إلى جانبه وذلك الخنجر من داخل أثوابها، فقالت له: اعلم أن أعذب ما سمعت أذني أن رجلاً كان يعشق الملاح وصرف عليهن ماله حتى افتقر وصار لا يملك شيئاً فضاقت عليه الدنيا فصار يمشي في الأسواق ويفتش على شيء يقتات به بينما هو ماش وإذا بقطعة مسمار شكته في إصبعه فسال دمه فقعد ومسح الدم وعصب إصبعه ثم قال وهو يصرخ، حتى جاز على الحمام ودخلها ثم قلع ثيابه فلما صار داخل الحمام وجدها نظيفة فجلس على الفسقية وما زال ينزح الماء على رأسه إلى أن تعب. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الرابعة والسبعين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد، ثم خرج إلى الحوض البارد فلم يجد أحداً فاختلى بنفسه وأطلع قطعة حشيش وبلعها فساحت في مخه فانقلب على الرخام وخيل له الحشيش أن مهتاراً كبيراً يكبسه وعبدين واقفان على رأسه واحد معه الطاسة والآخر معه آلة الحمام وما يحتاج إليه البلان فلما رأى ذلك قال في نفسه: كأن هؤلاء غلطوا في أو من طائفتنا الحشاشين، ثم إنه مد رجليه فتخيل له أن البلان قال له: يا سيدي قد أزف الوقت على طلوعك، واليوم نوبتك فضحك وقال في نفسه: ما شاء الله يا حشيش ثم قعد وهو ساكت، فقام البلان وأخذ بيده وأدار على وسطه مئزراً من الحرير الأسود ومشى وراءه العبدان بالطاسات والحوائج ولم يزالا به حتى أدخلاه الخلوة، وأطلقا فيها البخور فوجدها ملآنة من سائر الفواكه والمشموم، وشقا له بطيخة وأجلساه على كرسي من الآبنوس ووقف البلان يغسله والعبدان يصبان الماء ثم دلكوا دلكاً جيداً وقالوا له: يا مولانا الصاحب نعيم دائم، ثم خرجوا وردوا عليه الباب.
فلما خيل له ذلك قام ورفع المئزر من وسطه وصار يضحك إلى أن غشي عليه واستمر ساعة يضحك، ثم قال في نفسه: ما لهم يخاطبونني خطاب الوزير ويقولون: يا مولانا الصاحب فلعل الأمر التبس عليهم في هذه الساعة بعد ذلك يعرفونني ويقولون هذا زليط ويشبعون صكاً في رقبتي، ثم إنه استحمى وفتح الباب، فتخيل له أن مملوكاً صغيراً وطواشياً قد دخلا عليه فالمملوك معه بقجة ففتحها وأخرج منها ثلاث فوط من الحرير فرمى الأولى على رأسه والأخرى على أكتافه وحزمه بالثالثة، وقدم له الطواشي قبقاباً فلبسه وأقبلت عليه مماليكه وطواشيه وصاروا يستندونه وكل ذلك حصل وهو يضحك إلى أن خرج وطلع الليوان فوجد فرشاً عظيماً، لا يصلح إلا للملوك وتبادرت إليه الغلمان وأجلسوه على المرتبة وصاروا يكبسونه، حتى غلب عليه النوم.
فلما نام رأى في حضنه صبية فباسها ووضعها بين فخذيه وجلس منها مجلس الرجل من المرأة وقبض ذكره بيده وسحبها وعصرها تحت عنده وإذا بواحد يقول: إنتنبه يا زليط قد جاء الظهر وأنت نائم ففتح عينيه فوجد نفسه على الحوض البارد وحول هجماعة يضحكون عليه وعضوه قائم والفوطة انحلت من وسطه وتبين له كل هذا أضغاث أحلام أو تخيلات حشيش فاغتم ونظر إلى الذي نبهه وقال: كنت اصبر حتى أحطه فقال له الناس: أما تستحي يا حشاش وأنت نائم وذكرك قائم وصكوه حتى احمر قفاه وهو جيعان وقد ذاق طعم السعادة في المنام. فلما سمع كان ما كان من الجارية هذا الكلام ضحك حتى استلقى على قفاه وقال لباكون: يا دادتي إن هذا حديث عجيب فإني ما سمعت مثل هذه الحكاية فهل عندك غيرها؟ فقالت، ثم إن الجارية باكون لم تزل تحدث كان ما كان بمخاوف حكايات ونوادر مضحكات حتى غلبه النوم ولم تزل تلك الجارية جالسة عند رأسه حتى مضى غالب الليل فقالت في نفسها: هذا وقت تجوز الفرصة ثم نهضت وسلت الخنجر ووثبت على كان ما كان وأرادت ذبحه وإذ بأم كان ما كان دلت عليهما فلما رأتها باكون قامت لها واستقبلتها، ثم لحقها الخوف فصارت تنتفض كأنها الحمى فلما رأتها أم كان ما كان تعجبت ونبهت ولدها من النوم.
فلما استيقظ وجد أمه جالسة فوق رأسه وكان السبب في حياته مجيئها وسبب مجيء أمه أن قضي فكان سمعت الحديث والإتفاق على قتله فقالت لأمه: يا زوجة العم الحقي ولدك قبل أن تقتله العاهرة باكون وأخبرتها بما جرى من أوله إلى آخره فخرجت وهي لا تعقل شيئاً حتى دخلت في الساعة التي نام فيها وهمت باكون عليه تريد ذبحه فلما استيقظ قال لأمه: لقد جئت يا في وقت طيب ودادتي باكون حاضرة عندي في تلك الليلة، ثم التفت إلى باكون وقال لها: بحياتي عليك هل تعرفين حكاية أحسن من هذه الحكاية التي جدلتيني بها؟ فقالت له: وأين ما حدثتك به سابقاً مما أحدثك به الآن فإنه أعذب وأغرب ولكن أحكيه لك في غير هذا الوقت ثم قامت باكون وهي لا تصدق بالنجاة فقاله لها ك مع السلامة، ولمحت بمكرها أن أمها عندها خبر بما حصل فذهبت إلى حالها.
فعند ذلك قالت له والدته: يا ولدي هذه ليلة مباركة حيث نجاك الله من الملعونة فقال لها: وكيف ذلك؟ فأخبرته بالأمر من أوله إلى آخره فقال لها: يا والدتي الحي ما له قاتل وإن قتل لا يموت ولكن الأحوط لنا أن نرحل عن هؤلاء الأعداء والله يفعل ما يريد.
فلما أصبح الصباح خرج كان ما كان من المدينة واجتمع بالوزير دندان، وبعد خروجه حصلت أمور بين الملك سلسان ونزهة الزمان أوجبت خروج نزهة الزمان أيضاً من المدينة فاجتمعت بهم واجتمع عليهم جميع أرباب دولة الملك سلسان الذين يميلون إليهم فجلسوا يدبرون الحيلة، فاجتمع رأيهم على غزو ملك الروم وأخذ الثأر فلما توجهوا إلى غزو ملك الروم وقعوا في أسر الملك رومزان بعد أمور يطول شرحها كما يظهر من السياق.
فلما أصبح الصباح أمر الملك رومزان أن يحضر كان ما كان والوزير دندان وجماعتهما فحضروا بين يديه وأجلسهم بجانبه وأمر بإحضار الموائد فأكلوا وشربوا واطمأنوا بعد أن أيقنوا بالموت لما أمر بإحضارهم، وقالوا لبعضهم: إنه ما أرسل إلينا إلا لأنه يريد قتلنا. وبعد أن اطمأنوا قال لهم: إني رأيت مناماً قصصته على الرهبان فقالوا: ما يفسره لك إلا الوزير دندان فقال الوزير دندان: خير ما رأيت يا ملك الزمان فقال له: أيها الوزير رأيت إني في حفرة على ضفة بئر أسود وكان قوماً يعذبونني فأردت القيام فلما نهضت وقفت على أقدامي وما قدرت على الخروج من تلك الحفرة، ثم التفت فيها فرأيت فيها منطقة من ذهب فمددت يدي لآخذها فلما رفعتها من الأرض رأيتها منطقتين فشددت وسطي بهما فإذا هما قد صارتا منطقة وحدة وهذا أيها الوزير منامي والذي رأيته في لذيذ أحلامي فقال له الوزير دندان: اعلم يا مولانا أن رؤياك تدل على أن لك أخاً أو ابن أخ أو ابن عم أو أحد يكون من أهلك من دمك ولحمك وعل كل حال هو من العصب. فلما سمع الملك هذا الكلام نظر إلى كان ما كان ونزهة الزمان وقضي فكان والوزير دندان ومن معهم من الأساري وقال في نفسه: إذا رميت رقاب هؤلاء انقطعت قلوب عسكرهم بهلاك أصحابهم ورجعت إلى بلادي عن قريب لئلا يخرج الملك من يدي ولما صمم على ذلك استدعى بالسياف وأمره أن يضرب رقبة كان ما كان من وقته وساعته وإذا بداية الملك قد أقبلت في تلك الساعة فقالت له: أيها الملك السعيد على ماذا عولت؟ فقال لها: عولت على قتل هؤلاء الأساري الذين في قبضتي، وبعد ذلك أرمي رؤوسهم إلى أصحابهم، ثم أحمل أنا وأصحابي عليهم حملة واحدة فنقتل الذي نقتله ونهزم الباقي وتكون هذه وقعة الإنفصال وأرجع إلى بلادي عن قريب قبل أن يحدث بعد الأمور أمور في مملكتي، فعندما سمعت منه دايته هذا الكلام أقبلت عليه وقالت له بلسان الإفرنج: كيف يطيب عليك أن تقتل ابن أخيك وأختك وابنة أختك. فلما سمع الملك من دايته هذا الكلام اغتاظ غيظاً شديداً، وقال لها: يا ملعونة ألم تعلمي أن أمي قد قتلت وأن أبي قد مات مسموماً وأعطيتيني خرزة وقلت لي إن هذه الخرزة كانت لأبيك فلم لا تصدقيني في الحديث؟ فقالت له: كل ما أخبرتك به صدق، ولكن شأني وشأنك عجيب وأمري وأمرك غريب فأنني أنا اسمي مرجانة واسم أمك ابريزة وكانت ذات حسن وجمال وشجاعتها تضرب بها الأمثال واشتهرت بالشجاعة بين الأبطال وأما أبوك فإنه الملك عمر النعمان صاحب بغداد وخراسان من غير شك ولا ريب ولا زحم بالغيب وكان قد أرسل ولده شركان إلى بعض غزواته صحبة هذا الوزير دندان وكان منهم الذي كان، وكان أخوك الملك شركان تقدم على الجيوش وانفرد وحده عن عسكر ه فوقع عند أمك الملكة ابريزة في قصرها ونزلنا وإياها في خلوة للصراع فصادفنا ونحن في تلك الحالة فتصارع مع أمك فغلبته لباهر حسنها وشجاعتها ثم استضافته أمك مدة خمسة أيام في قصرها فبلغ أباها ذلك الخبر من العجوز شواهي الملقبة بذات الدواهي وكانت أمك قد أسلمت على يد شركان أخيك فأخذها وتوجه بها إلى مدينة بغداد سراً وكنت أنا وريحانة وعشرون جارية معها وكنا قد أسلمنا كلنا على يد الملك شركان، فلما دخلنا على أبيك الملك عمر النعمان ورأى أمك الملكة ابريزة وقع في قلبه محبتها فدخل عليها ليلة واختلى بها فحملت بك وكان مع أمك ثلاث خرزات فاعطتها لأبيك فأعطى خرزة لابنته نزهة الزمان، وأعطى الثانية لأخيك ضوء المكان وأعطى الثالثة لأخيك الملك شركان فأخذته منه الملكة ابريزة وحفظتها لك فلما قربت ولادتها اشتاقت أمك إلى أهلها واطلعتني على سرها فاجتمعت بعبد أسود يقال له الغضبان وأخبرته بالخبر سراً ورغبته في أن يسافر معنا فأخذنا العبد وطلع بنا من المدينة وهرب بنا وكانت أمك قربت ولادتها. فلما دخلنا على أوائل بلادنا في مكان منقطع أخذ أمك الطلق بولادتها، فحدث العبد نفسه بالخنا فأتى أمك فلما قرب منها راودها على الفاحشة فصرخت عليه صرخة عظيمة وانزعجت منه فمن عظم انزعاجها، وضعتك حالاً وكان في تلك الساعة قد طلع علينا في البر من ناحية بلادنا غبار قد علا وطار حتى سد الأقطار فخشي العبد على نفسه من الهلاك فضرب الملكة ابريزة بسيفها فقتلها من شدة غيظه وركب جواده وتوجه إلى حال سبيله وبعدما راح العبد انكشف الغبار عن جدك الملك حردوب ملك الروم فرأى أمك ابنته وهي في ذلك المكان قتيلة على الأرض جديلة فصعب ذلك عليه، وكبر لديه وسألني عن سبب قتلها وعن سبب خروجها خفية عن بلاد أبيها فحكيت له جميع ذلك من الأول إلى الآخر وهذا هو سبب العداوة بين أهل الروم وبين أهل بغداد. فعند ذلك احتملنا أمك وهي قتيلة ودفناها في قصرها وقد احتملتك أنا وربيتك وعلقت لك الخرزة التي كانت مع أمك الملكة ابريزة، ولما كبرت وبلغت مبلغ الرجال لم يمكنني أن أخبرك بحقيقة الأمر لأنني لو أخبرتك بذلك لثارت بينكم الحروب وقد أمرني جدك بالكتمان ولا قدرة لي على مخالفة أمر جدك حردوب ملك الروم فهذا سبب كتمان الخبر عنك وعدم إعلامك بأن أباك الملك عمر النعمان.
فلما استقللت بالمملكة أخبرتك وما أمكنني أن أعلمك إلا في هذا الوقت يا ملك الزمان وقد كشفت السر والبرهان وهذا ما عندي من الخبر وأنت برأيك أخبر، وكان الأساري قد سمعوا من الجارية مرجانة داية الملك هذا الملك جميعه فصاحت نزهة الزمان من وقتها وساعتها صيحة عظيمة وقالت هذا الملك رومزان أخي من أبي عمر النعمان وأمه الملكة ابريزة بنت الملك حردوب ملك الروم وأنا أعرف هذه الجارية حق المعرفة.
فلما سمع الملك رومزان هذا الكلام أخذته الحدة وصار متحيراً في أمره وأحضر من وقته وساعته نزهة الزمان بين يديه، فلما رآها حن الدم للدم واستخبرها عن قصته فحكت له فوافق كلامها كلام دايته فصح عند الملك أنه من غير شك ولا ارتياب وأن أباه الملك عمر النعمان فقام من تلك الساعة وحل كتاف أخته نزهة الزمان فتقدمت إليه وقبلت يديه ودمعت عيناها فبكى الملك لبكائها وأخذه حنو الأخوة ومال قلبه إلى ابن أخيه السلطان كان ما كان وقام ناهضاً على قدميه وأخذ السيف من السياف فأيقن الأسارى بالهلاك لما رأوا منه ذلك فأمر بإحضارهم بين يديه وفك وثاقهم وقال لدايته مرجانة: اشرحي حديثك الذي شرحتيه إلى هؤلاء الجماعة. فقالت دايته مرجانة: اعلم أيها الملك أن هذا الشيخ هو الوزير دندان وهو لي أكبر شاهد لأنه يعرف حقيقة الأمر، ثم إنها أقبلت عليهم من وقتها وساعتها وعلى من حضرهم من ملوك الروم وملوك الإفرنج وحدثتهم بذلك الحديث والملكة نزهة الزمان والوزير دندان ومن معها من الأسارى يصدقونها على ذلك، وفي آخر الحديث لاحت من الجارية مرجانة التفاتة فرأت الخرزة الثالثة بعينها رفيقة الخرزتين اللتين كانتا مع الملكة ابريزة في رقبة السلطان كان ما كان فعرفتها فصاحت صيحة عظيمة دوى لها الفضاء وقالت للملك: يا ولدي اعلم أنه قد زاد في ذلك صدق يقيني لأن هذه الخرزة التي في رقبة هذا الأسير نظير الخرزة التي وضعتها في عنقك وهذا الأسير هو ابن أخيك وهو كان ما كان، ثم إن الجارية التفت إلى كان ما كان وقالت له: أرني هذه الخرزة يا ملك الزمان فنزعها من عنقه وناولها لتلك الجارية داية الملك رومزان فاخذتها منه ثم سألت نزهة الزمان عن الخرزة الثالثة فأعطتها لها. فلما صارت الخرزتان في يد الجارية ناولتهما للملك رومزان فظهر له الحق والبرهان وتحقق أنه عم السلطان كان ما كان وأن أباه الملك عمر النعمان، فقام من وقته وساعته إلى الوزير دندان وعانقه ثم عانق الملك كان ما كان وعلا الصياح بكثرة الأفراح، وفي تلك الساعة انتشرت البشائر ودقت الكاسات والطبول وزمرت الزمور وزادت الأفراح وسمع عساكر العراق والشام ضجيج الروم بالأفراح فركبوا عن آخرهم وركب الملك الزبلكان وقل في نفسه: يا ترى ما سبب هذا الصياح والسرور الذي في عسكر الإفرنج والروم؟ وأما عساكر العراق فإنهم قد أقبلوا وعلى القتال عولوا وصاروا في الميدان ومقام الحرب والطعان.
فالتفت الملك رومزان فرأى العساكر مقبلين للحرب متهيئين فسأل عن سبب ذلك فأخبروه بالخبر فأمر قضي فكان ابنة أخيه شركان أن تسير من وقتها وساعتها إلى عسكر الشام والعراق وتعلمهم بحصول الاتفاق وأن الملك رومزان ظهر أنه عم السلطان كان ما كان فسارت قضي فكان بنفسها ونفت عنها الشرور والأحزان حتى ولت الملك الزبلكان وسلمت عليه وأعلمته بما جرى من الاتفاق وأن الملك رومزان ظهر أنه عمها وعم كان ما كان وحين أقبلت عليه وجدته باكي العين خائفاً على الأمراء والأعيان فشرحت له القصة من أولها إلى آخرها فزادت أفراحهم وزالت أتراحهم وركب الملك الزبلكان هو وجميع الأكابر والأعيان وسارت قدامهم الملكة قضي فكان حتى أوصلتهم إلى سرادق الملك رومزان، فلما دخلوا عليه وجدوه جالساً مع ابن أخيه السلطان كان ما كان وقد استشاره هو والوزير دندان في أمر الملك الزبلكان فاتفقوا على أنهم يسلمون إليه مدينة دمشق الشام ويتركونه ملكاً عليها كما كان مثل العادة وهم يدخلون إلى العراق فجعلوا الملك الزبلكان عاملاً على دمشق الشام، ثم أمروه بالتوجه إليها فتوجه بعساكره إليها ومشوا معه ساعة لأجل الوداع واجتمع العسكران مع بعضهم، ثم إن الملوك قالوا لبعضهم: ما بقيت قلوبنا تستريح ولا يشفي غيظنا إلا بأخذ الثأر وكشف العار بالإنتقام من العجوز شواهي الملقبة بذات الدواهي.
فعند ذلك سار الملك رومزان مع خواصه وأرباب دولته وفرح السلطان كان ما كان بعمه الملك رومزان ودعا للجارية مرجانة حيث عرفتهم ببعضهم ثم ساروا ولم يزالوا سائرين حتى وصلوا إلى أرضهم فسمع الحاجب الكبير سلسان فطلع وقبل يد الملك رومزان فخلع عليه، ثم إن الملك رومزان جلس وأجلس ابن أخيه السلطان كان ما كان إلى جانبه، فقال كان ما كان لعمه الملك رومزان: يا عم ما يصلح هذا الملك إلا لك، فقال له: معاذ الله أن أعارضك في ملكك فعند ذلك أشار إليهما الوزير دندان أن يكون الاثنان في الملك سواء وكل واحد يحكم يوماً فارتضيا بذلك.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخامسة والسبعين بعد المئة قالت بلغني أيها الملك السعيد أنهما اتفقا على أن كل واحد يحكم يوماً واحداً، ثم أولموا الولائم وذبحوا الذبائح وزادت بهم الأفراح وأقاموا على ذلك مدة من الزمان كل ذلك والسلطان كان ما كان يقطع ليله مع بنت عمه قضي فكان، وبعد تلك المدة بينما وهم قاعدون فرحون بهذا الأمر وانصلاح الشأن إذ ظهر لهم غبار قد علا وطار حتى سد الأقطار وقد أتى إليهم من التجار صارخ يستغيث وهو يصيح ويقول: يا ملوك الزمان كيف أسلم في بلاد الكفار وأنهب في بلادكم وهي بلاد العدل والأمان؟ فأقبل عليه الملك رومزان وسأله عن حاله فقال له: أنا تاجر من التجار ولي غائب عن الأوطان مدة مديدة من الزمان واستغرقت في البلاد نحو عشرين سنة من الأعوام وأن معي كتاباً من مدينة دمشق كان قد كتبه إلي المرحوم الملك شركان وسبب ذلك أنني أهديت له جارية، فلما قربت من تلك البلاد وكان معي مائة حمل من تحف الهند وأتيت بها إلى بغداد التي هي حرمكم ومحل أمنكم وعدلكم خرجت علينا عربان ومعهم أكراد مجتمعة من جميع البلاد فقتلوا رجالي ونهبوا أموالي وهذا شرح حالي، ثم إن التاجر بكى بين الملك رومزان وحوقل واشتكى فرحمه الملك ورق إليه وكذلك رحمه ابن أخيه الملك كان ما كان وحلفوا أنهم يخرجون إليه فخرجوا إليه في مائة فارس كل فارس يعد بين الرجال بألوف وذلك التاجر سار أمامهم يدلهم على الطريق، ولم يزالوا سائرين ذلك النهار وطول الليل إلى السحر حتى أشرفوا على واد غزير الأنهار كثير الأشجار فوجد القوم قد تفرقوا في ذلك وقسموا بينهم أحمال ذلك التاجر وبقي البعض فأطبق عليهم المائة فارس وأحاطوا بهم من كل مكان وصاح عليهم الملك رومزان وابن أخيه كان ما كان، فما كان غير ساعة حتى أسروا الجميع وكانوا ثلاثمائة فارس مجتمعين من أوباش العربان فلما أسروهم أخذوا ما معهم من مال التاجر وشدوا وثاقهم وطلعوا بهم إلى مدينة بغداد، فعند ذلك جلس الملك رومزان هو وابن أخيه الملك كان ما كان على تخت واحد مع بعضهما ثم عرضوا الجميع بين أيديهما وسألاهم عن حالهم وعن كبارهم فقالوا: ما لنا كبار سوى ثلاثة أشخاص وهم الذين جمعونا من سائر النواحي والأقطار فقالا لهم: ميزونا بأعيانهم فميزوهم لهما فأمر بالقبض عليهم وإطلاق بقية أصحابهم بعد أخذ جميع ما معهم من الأموال وتسليمه للتاجر، فتفقد التاجر قماشه وماله فوجده قد هلك ربعه فوعدوه أنهم يعوضون له جميع ما ضاع منه، فعند ذلك أخرج التاجر كتابين أحدهما بخط شركان والآخر بخط نزهة الزمان وقد كان التاجر اشترى نزهة الزمان من البدوي وهي بكر وقدمها لأخيها شركان وجرى بينهما ما جرى، ثم سمع أن الملك كان ما كان وقف على الكتابين وعرف خط عمه شركان وسمع حكاية عمته نزهة الزمان فدخل بذلك الكتاب الثاني الذي كانت كتبته للتاجر الذي ضاع منه المال وأخبرها كان ما كان بقصة التاجر من أولها إلى آخرها فعرفته نزهو الزمان وعرفت خطها. وأخرجت للتاجر الضيافات وأوصت عليه أخاها الملك رومزان وابن أخيها الملك كان ما كان فأمر له بأموال وعبيد وغلمان من أجل خدمته وأرسلت إليه نزهة الزمان مائة ألف درهم من المال وخمسين حملاً من البضائع وقد أتحفته بهدايا وأرسلت إليه تطلبه. فلما حضر طلعت وسلمت عليه وأعلمته أنها بنت الملك عمر النعمان وأن أخاها الملك رومزان وابن أخيها الملك كان ما كان ففرح التاجر بذلك فرحاً شديداً وهنأها بسلامتها واجتماعها بأخيها وابن أخيها وقبل يديها وشكرها على فعلها وقال لها: والله ما ضاع الجميل معك، ثم دخلت إلى خدرها وأقام التاجر عندهم ثلاثة أيام، ثم ودعهم ورحل إلى الشام وبعد ذلك أحضر الملوك الثلاثة أشخاً اللصوص الذين كانوا رؤساء قطاع الطريق وسألوهم عن حالهم فتقدم واحد منهم وقال: اعلموا أني رجل بدوي أقف في الطريق لأخطف الصغار والبنات البكار وأبيعهم للتجار ودمت على ذلك مدة من الزمان إلى هذه الأيام وأغراني الشيطان فاتفقت مع هذين الشقيين على جمع الأوباش من الأغراب والبلدان لأجل نهب الأموال وقطع طريق التجار، فقلوا له: احك لنا على أعجب ما رأيت في خطفك الصغار والبنات، فقال لهم: أعجب ماجرى لي يا ملوك الزمان أنني من مدة اثنتين وعشرين سنة خطفت بنتاً من بيت المقدس، ذات يوم من الأيام وكانت تلك البنت ذات حسن وجمال غير أنها كانت خدامة وعليها أثواب خلقة وعلى رأسها قطعة عباءة فرأيتها قد خرجت من الخان فخطفتها بحيلة في تلك الساعة، وحملتها على جمل وسقت بها، وكان أملي في أنني أذهب بها إلى أهلي في لبرية وأجعلها عندي ترعى الجمال وتجمع البعر من الوادي فبكت بكاءً شديداً فدنوت منها وضربتها ضرباً وجيعاً وأخذتها إلى مدينة دمشق فرآها معي تاجر فتحير عقله لما رآها وأعجبته فصاحتها وأراد اشتراءها مني ولم يزل يزيدني في ثمنها حتى بعتها له بمائة ألف درهم، فعندما طلبتها له رأيت منها فصاحة عظيمة وبلغني أن التاجر كساها كسوة مليحة وقدمها إلى صاحب دمشق فأعطاه قدر المبلغ الذي دفعه إلي مرتين وهذا يا ملوك الزمان أعجب ما جرى، ولعمري إن ذلك الثمن قليل في تلك البنت.
فلما سمع الملوك هذه الحكاية ولما سمعت نزهة الزمان من البدوي ما حكاه صار الضياء في وجهها ظلاماً وصاحت وقالت لأخيها رومزان: إن هذا البدوي الذي خطفني من بيت المقدس بعينه من غير شك، ثم إن نزهة الزمان حكت لهم جميع ما جرى لها معه في غربتها من الشدائد والضرب والجوع والذل والهوان، ثم قالت لهم: الآن حل لي قتله، ثم جذبت السيف وقامت إلى البدوي لقتله وإذا هو صاح وقال: يا ملوك الزمان لا تدعوها تقتلني حتى احكي لكم ما جرى لي من العجائب فقال لها ابن أخيها كان ما كان: يا عمتي دعيه يحكي لنا حكاية وبعد ذلك افعلي ما تريدين، فرجعت عنه فقال له الملوك: الآن احك لنا حكاية.
فقال: يا ملوك الزمان إن حكيت لكم حكاية عجيبة تعفوا عني قالوا: نعم، فابتدأ البدوي يحدثهم بأعجب ما وقع له وقال: اعلموا أني من مدة يسيرة أرقت ليلة أرقاً شديداً وما صدقت أن الصباح طلعت حتى قمت من وقتي وساعتي وتقلدت بسيفي وركبت جوادي واعتقلت رمحي وخرجت أريد الصيد والقنص، فواجهني جماعة في الطريق فسألوني عن قصدي فأخبرتهم به فقالوا: ونحن رفقاؤك فنزلنا كلنا مع بعضنا فبينما نحن سائرون وإذا بنعامة ظهرت لنا فقصدناها ففرت من بين أيدينا وهي فاتحة أجنحتها ولم تزل شاردة ونحن خلفها إلى الظهر حتى رمتنا في برية لا نبات فيها ولا ماء ولا نسمع فيها غير صفير الحيات وزعيق الجان وصريخ الغيلان. فلما وصلنا إلى ذلك المكان غابت عنا فلم ندر أفي سماء طارت أم في الأرض غارت فرددنا رؤوس الخيل وأردنا الرواح، ثم رأيت أن الرجوع في هذا الوقت الشديد الحر لا خير فيه ولا إصلاح وقد اشتد علينا الحر وعطشنا عطشاً شديداً ووقفت خيولنا فأيقنا بالموت. فبينما نحن كذلك إذ نظرنا من بعيد مرجاً أفيح فيه غزلان تمرح وهناك خيمة مضروبة وفي جابن الخيمة حصان مربوط وسنان يلمع على رمح مركوز فانتعشت نفوسنا من بعد اليأس ورددنا رؤوس خيلنا نحو تلك الخيمة نطلب ذلك المرج والماء وتوجه إليه جميع أصحابي وأنا في أولهم ولم نزل سائرين حتى وصلنا إلى ذلك المرج فوقفنا على عين فشربنا وسقينا خيلنا فأخذتني حمية الجاهلية وقصدت باب ذلك الخباء فرأيت فيه شاباً لا نبات بعارضيه وهو كأنه هلال وعن يمينه جارية هيفاء كأنها قضيب بان، فلما نظرت إليها وقعت محبتها في قلبي فسلمت على ذلك الشاب فرد علي السلام فقلت: يا أخا العرب أخبرني من أنت وما تكون لك تلك الجارية التي عندك؟ فأطرق الشاب رأسه إلى الأرض برهة ثم رفع رأسه وقال: أخبرني من أنت وما الخيل التي معك؟ فقلت: أنا حماد بن الفزاري الفارس الموصوف الذي أعد بين العرب بخمسمائة فارس ونحن خرجنا من محلنا نريد الصيد والقنص فأدركنا العطش فقصدت أنا باب تلك الخيمة لعلي أجد عندكم شربة ماء.
فلما سمع مني ذلك الكلام التفت إلى جارية مليحة وقال: ائتي إلى هذا الرجل بالماء وما حصل من الطعام فقامت الجارية تسحب أذيالها والحجال الذهب تخشخش في رجليها وهي تتعثر في شعرها وغابت قليلاً ثم أقبلت وفي يدها اليمنى إناء من فضة مملوء ماء بارد وفي يدها اليسرى قدح ملآن تمراً ولبناً وما حضر من لحم الوحوش فما استطعت أن آخذ من الجارية طعاماً ولا شراباً من شدة محبتي لها فتمثلت بهذين
كأن الخضاب على كـفـهـا
غراب على ثـلـجة واقـف
ترى الشمس والبدر من وجهها
قريبـين خـاف وذا خـائف
ثم قلت للشاب بعد أن أكلت وشربت: يا وجه العرب اعلم أني أوقفك على حقيقة خبري وأريد أن تخبرني بحالك وتوقفني على حقيقة خبرك، فقال الشاب: أما هذه الجارية فهي أختي فقلت: أريد أن تزوجني بها طوعاً وإلا أقتلك وآخذها غصباً، فعند ذلك أطرق الشاب رأسه إلى الأرض ساعة ثم رفع بصره إلي وقال لي: لقد صدقت في دعواك أنك فارس معروف وبطل موصوف وأنك أسد البيداء ولكن إن هجمتم علي غدراً وقتلتموني قهراً وأخذتم أختي فإن هذا يكون عاراً عليكم، وإن كنتم على ما ذكرتم من أنكم فرسان تعدون من الأبطال ولا تبالون بالحرب والنزال فأمهلوني قليلاً حتى ألبس آلة حربي وأتقلد سيفي وأعتقل برمحي وأركب فرسي وأصير وإياكم في ميدان الحرب فإن ظفرتم بي وقتلتموني فهذه الجارية أختي لكم.
فلما سمعت منه هذا الكلام قلت له: إن هذا هو الإنصاف وما عندنا خلاف، ثم رددت رأس جوادي إلى خلفي وقد زاد بي الجنون في محبة تلك الجارية ورجعت إلى أصحابي ووصفت لهم حسنها وجمالها وحسن الشاب الذي عندها وشجاعته وقوة جنانه وكيف أنه يصادم ألف فارس، ثم أعلمت أصحابي بجميع ما في الخباء من الأموال والتحف وقلت لهم:اعلموا أن هذا الشاب ما هو منقطع في تلك الأرض إلا لكونه ذا شجاعة عظيمة وأنا أوصيكم أن كل من يقتل هذا الغلام يأخذ أخته، فقالوا: رضينا بذلك، ثم إن أصحابي لبسوا آلة حربهم وركبوا خيولهم وقصدوا الغلام فوجدوه قد لبس آلة حربه وركب جواده ووثبت إليه أخته وتعلقت بركابه وبلت برقعها بدموعها وهي تنادي بالويل والثبور من خوفها على أخيها وتنشد هذه الأبيات:
إلى الله أشكـو مـحـنة وكـآبة
لعل إله العرش يرهقهم رعبـا
يريدون قتلاً يا أخـي تـعـمـدا
ولا شيء من قبل القتال ولا ذنبا
وقد عرف الأبطال أنـك فـارس
وأشجع من حل المشارق والغربا
تحامي من الأخت التي قل عزمها
فأنت أخوها وهي لك تدعو الربّا
فلا تترك الأعداء تملك مهجتـي
وتأخذني قهراً وتأسرني غصبـا
ولست وحق الله أبقـى بـبـلـدة
وأسكن لحداً فيه أفترش التربـا
فلما سمع أخوها شعرها بكى بكاءً شديداً ورد جواده إلى أخته وأجابها على شعرها بقوله:
قفي وانظري مني وقوع عجائب
إذا ما التقينا حين أثخنهم صربا
وإن برز الليث المقـدم فـيهـم
وأشجعهم قلباً وأثبتـهـم لـبـا
سأسقيه مني ضربة ثعـلـبـية
وأترك الرمح يستغرق الكعبـا
وإن لم أقاتل عنك أختي فليتني
قتيل وليت الطير تنهبني نهبا
أقاتل عنك ما استطعت تكرما
هذا حديث بعدنا يملأ الكتبـا
فلما فرغ من شعره قال: يا أختي اسمعي ما أقول لك وما أوصيك به،فقالت له: سمعاً وطاعة، فقال لها: إن هلكت فلا تمكني أحداً من نفسك، فعند ذلك لطمت على وجهها وقالت: معاذ الله أن أراك صريعاً وأمكن الأعداء مني، فعند ذلك مد الغلام يده إليها وكشف برقعها عن وجهها فلاحت لنا صورتها كالشمس من تحت الغمام فقبلها بين عينيها وودعها وبعد ذلك التفت وقال لنا: يا فرسان هل أنتم ضيفان أو تريدون الضرب والطعان، فإن كنتم ضيفاناً فأبشروا بالقرى وإن كنتم تريدون القمر الزاهر فليبرز لي منكم فارس بعد فارس في هذا الميدان ومقام الحرب والطعان، فعند ذلك برز إليه شجاع فقال له الشاب: ما اسمك وما اسم أبيك فإني حالف أني ما أقتل من اسمه موافق لاسمي واسم أبيه موافق لاسم أبي، فإن كنت بهذا الوصف فقد سلمت إليك الجارية، فقال له الفارس: اسمي بلال فأجابه الشاب بقوله:
كذبت في قولك مـن بـلال
وجئت بالزور وبالمـحـال
إن كنت شهماً فاستمع مقالي
مجندل الأبطال في المجـال
وصارمي ماض كما الهلال
فاصبر لطعن مرجف الجبال
ثم حملا على بعضهما فطعنه الشاب في صدره فخرج السنان من ظهره ثم برز إليه واحد فقال الشاب:
يا أيها الكلب وخيم الرجـس
فأين عال سعره من بخـس
وإنما الليث الكريم الجنـس
من لم يبال في الوغى بنفس
ثم لم يمهله الشاب دون أن تركه غريقاً في دمه، ثم نادى الشاب هل من مبارز؟ فبرز إليه واحد فانطلق على الشاب وجعل يقول:
إليك أقبلت وفي قلبي لـهـب
منه أنادي عند صحبي بالحرب
لما قتلت اليوم سادات العـرب
فاليوم لا تلقى فكاكاً من طلب
فلما سمع الشاب كلامه أجاب بقوله:
كذبت بئس أنت من الشيطان
قد جئت بالزور والبهتـان
اليوم تلقى فاتك الـسـنـان
في موقف الحرب والطعان
ثم طعنه في صدره فطلع السنان من ظهره، ثم قال: هل من مبارز؟ فخرج إليه الرابع وسأله الشاب عن اسمه فقال له الفارس: اسمي هلال فأنشد يقول:
أخطأت إذا أردت خوض بحري
وجئت بالزور وكـل أمـري
أنا الذي تسمع مني شـعـري
أختلس النفس ولسـت تـدري
ثم حملا على بعضهما واختلف بينهما ضربتا فكانت ضربة الشاب هي السابقة إلى الفارس فقتله وصار كل من نزل إليه يقتله، فلما نظرت أصحابي قد قتلوا قلت في نفسي: إن نزلت إليه في الحرب لم أطقه وإن هربت أبقى معيرة بين العرب، فلم يمهلني الشاب دون أن انقض علي وجذبني بيده فأطاحني من سرجي فوقعت مغشياً علي ورفع سيفه وأراد أن يضرب عنقي فتعلقت باذياله فحملني بكفه فصرت معه كالعصفور، فلما رأت ذلك الجارية فرحت بفعل أخيها وأقبلت عليه وقبلته بين عينيه، ثم إنه سلمني إلى أخته وقال لها: دونك وإياه وأحسني مثواه لأنه دخل في زمامنا، فقبضت الجارية على أطواق درعي وصارت تقودني كما تقود الكلب وفكت عن أخيها لامة الحرب وألبسته بدلة ونصبت له كرسياً من العاج فجلس عليها وقالت له: بيض
تقول وقد رأت في الحرب أختي
لوامع غرتي مثل الـشـعـاع
ألا لـلـه درك مـن شـجـاع
تذل لحربـه أسـد الـبـقـاع
فقلت لها سلي الأبطال عـنـي
إذا ما فـر أربـاب الـقـراع
أنا المعروف في سعدي وجـدي
وعزمي قد علا أي ارتـفـاع
أيا حماد قد نـازلـت جـيشـاً
يريك الموت يسعى كالأفاعـي
فلما سمعت شعره حرت في أمري ونظرت إلى حالتي وما صرت إليه من الأسر وتصاغرت إلى نفسي، ثم نظرت إلى الجارية أخت الشاب وإلى حسنها فقلت في نفسي: هذه الفتنة وصرت أتعجب من جمالها، وأجريت العبرات وأنشدت هذه الأبيات:
خليلي كف عن لومي وعذلي
فإنني للـمـلامة غـير واع
كلفت بـغـادة لـم تـبـد إلا
أن دعتني في محبتها الدواعي
أخوها في الهوى أمسى رقيبي
وصاحب همة وطويل بـاع
ثم إن الجارية أحضرت لأخيها الطعام فدعاني إلى الأكل معه ففرحت وأمنت على نفسي من القتل، ولما فرغ أخوها من الأكل أحضرت له آنية المدان، ثم إن الشاب أقبل على المدان وشرب حتى شعشع المدام في رأسه واحمر وجهه، فالتفت إلي وقال: أنا عابد بد تميم بن ثعلبة، إن الله وهب لك نفسك وأبقى عليك عرسك.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السادسة والسبعين بعد المئة قالت بلغني أيها الملك السعيد أن البدوي حماد قال: ثم أن عابد بن تميم بن ثعلبة قال لي: إن الله وهب لك نفسك وأبقى عليك عرسك وحياني بقدح شربته وحياني بثان وثالث ورابع فشربت الجميع ونادمني وحلفني أني لا أخونه فحلفت له ألفاً وخمسمائة يمين أني لا أخونه قط بل أكون له معيناً. فعند ذلك أمر أخته أن تأتيني بعشر خلع من الحرير وهذه بدلة منها على جسدي وأمرها أن تأتيني بناقة من أحسن النياق فاتتني بناقة محملة من التحف والزاد وأمرها أن تحضر لي الحصان الأشقر فأحضرته لي ثم وهب لي جميع ذلك وقمت عندهم ثلاثة أيام قال لي: يا أخي حماد أريد أن أنام قليلاً لأريح نفسي وقد استأمنت على نفسي وإن رأيت خيلاً ثائرة فلا تفزع منها واعلم أنهم من ثعلبة يطلبون حربي، ثم توسد رأسه ونام.
فلما استغرق في النوم وسوس لي إبليس بقتله فقمت بسرعة وجذبت سيفه من تحت رأسه وضربته ضربة أطحت رأسه عن جثته فعلمت بي أخته فوثبت من جانب الخباء ورمت بنفسها على أخيها وشقت عليها الثياب وأنشدت هذه الأبيات:
إلى الأهل بلغ ذا الشآم الـخـبـر
وما لامرئ مما الحكيم قضى مفر
وأنت صريع يا أخي متـجـنـدل
ووجهك يحكي حسنه دورة القمر
لقد كان يوم الشؤم يوم لـقـبـتـه
ورمحك بعد اطراد قد انكـسـر
وبعدك لا يرتاح للـخـيل راكـب
ولا تلد الأنثى نظيرك مـن ذكـر
وأصبح حماد لـك الـيوم قـاتـلاً
وقد خان أيماناً وبالعهد قد غـدر
يريد بـهـذا أن ينـال مــراده
لقد كذب الشيطان في كل ما أمر
فلما فرغت من شعرها قالت: يا ملعون الجدين لماذا قتلت أخي وخنته وكان مراده أن يردك إلى بلادك بالزاد والهدايا وكان مراده أن يزوجني لك في أول الشهر، ثم جذبت سيفاً كان عندها وجعلت قائمه في الأرض وطرفه في صدرها وانحنت عليه حتى طلع من ظهرها فخرت على الأرض ميتة فحزنت عليها وندمت حيث لا ينفع الندم وبكيت، ثم قمت مسرعاً إلى الخباء وأخذت ما خف حمله وغلا ثمنه وسرت إلى حال سبيلي، ومن خوفي وعجلتي لم ألتفت إلى أحد من أصحابي ولا دفنت الصبية ولا الشاب، وهذه الحكاية أعجب من حكايتي الأولى مع البنت الخادمة التي خطفتها من بيت المقدس.
فلما سمعت نزهة الزمان من البدوي هذا الكلام تبدل النور في عينيها بالظلام وقامت وجردت السيف وضربت به البدوي على عاتقه فأطلعته من علائقه فقال لها الحاضرون: لأي شيء استعجلت على قتله؟ فقالت: الحمد لله الذي فسح من أجلي حتى أخذت ثأري بيدي، ثم أنها أمرت العبيد أن يجروه من رجليه ويرموه للكلاب وبعد ذلك أقبلوا على الاثنين الباقيين من الثلاثة وكان أحدهم عبداً أسود فقالوا له: ما اسمك أنت فأصدقنا في حديثك قال: اسمي الغضبان وأخبرهم بما وقع له مع الملكة ابريزة بنت الملك حردوب ملك الروم وكيف قتلها وهرب، فلم يتم العبد كلامه حتى رمى الملك رومزان رقبته بالحسام وقال: الحمد لله الذي أحياني وأخذت ثأر أمي بيدي وأخبره أن دايته مرجانة حكت له عن هذا العبد الذي اسمه الغضبان، وبعد ذلك أقبلوا على الثالث وكان هو الجمال الذي اكتراه بيت المقدس إلى حمل ضوء المكان وتوصيله إلى المارستان الذي في دمشق الشام فذهب به وألقاه في المستوقد وذهب في حال سبيله، ثم قالوا له: أخبرنا أنت بخبرك وأصدق في حديثك فحكى لهم جميع ما وقع له مع السلطان ضوء المكان وكيف حمله من بيت المقدس بالدراهم وهو ضعيف على أن يوصله إلى الشام ويرميه بالمارستان وكيف جاء له أهل المقدس بالدراهم فأخذها وهرب بعد أن رماه في مستوقد الحمام.
فلما أتم كلامه أخذ السلطان كان ما كان السيف وضربه فرمى عنقه وقال: الحمد لله الذي أحياني حتى جازيت هذا الخائن بما فعل مع أبي، فإني قد سمعت هذه الحكاية بعينها من والدي السلطان ضوء المكان، فقال الملوك لبعضهم: ما بقي علينا إلا العجوز شواهي الملقبة بذات الدواهي فإنها سبب هذه البلايا حيث أوقعنا في الرزايا ومن لنا بها حتى نأخذ منها الثأر ونكشف العار، فقال لهم الملك رومزان عم كان ما كان: لا بد من حضورها ثم إن الملك رومزان كتب كتاباً من وقته وساعته وأرسله إلى جدته العجوز شواهي الملقبة بذات الدواهي وذكر لها فيه أنه غاب عن مملكته دمشق والموصل والعراق وكسر عسكر المسلمين وأسر ملوكهم وقال: أريد أن تحضري عندي من كل بد أنت والملكة صفية بنت الملك أفريدون ملك القسطنطينية ومن شئتم من أكابر النصارى من غير عسكر، فإن البلاد أمان لأنها صارت تحت أيدينا.
فلما وصل الكتاب إليها وقرأته وعرفت خط الملك رومزان فرحت فرحاً شديداً وتجهزت من وقتها وساعتها للسفر هي والملكة صفية أم نزهة الزمان ومن صحبتهم ولم يزالوا مسافرين حتى وصلوا إلى بغداد فتقدم الرسول وأخبرهم بحضورها فقال رومزان: إن المصلحة تقتضي أن نلبس اللبس الإفرنجي ونقابل العجوز حتى نأمن من خداعها وحيلها فقالوا سمعاً وطاعة ثم أنهم لبسوا لباس الإفرنج فلما رأت ذلك قضي فكان قالت: وحق الرب المعبود لولا أني أعرفكم لقلت أنكم إفرنج، ثم إن الملك رومزان تقدم أمامهم وخرجوا يقابلون العجوز في ألف فارس، فلما وقعت العين على العين ترجل رومزان عن جواده وسعى إليها فلما رأته وعرفته ترجلت إليه وعانقته ففرط بيده على أضلاعها حتى كاد أن يقصفها فقالت: ما هذا؟ فلم تتم كلامها حتى نزل إليها كان ما كان والوزير دندان وزعقت الفرسان على من معها من الجواري والغلمان وأخذوهم جميعهم ورجعوا إلى بغداد وأمرهم رومزان أن يزينوا بغداد فزينوها ثلاثة أيام، ثم أخرجوا شواهي الملقبة بذات الدواهي وعلى رأسها طرطور أحمر مكلل بروث الحمير وقدامها مناد ينادي: هذا جزاء من يتجارى على الملوك وعلى أولاد الملوك ثم صلبوها على باب بغداد.
و لما رأى أصحابها ما جرى أسلموا كلهم جميعاً ثم إن كان ما كان وعمه رومزان ونزهة الزمان والوزير دندان تعجبوا لهذه السيرة العجيبة وأمروا الكتاب أن يؤرخوها في الكتب حتى تقرأ من بعدهم وأقاموا بقية الزمان في ألذ عيش وأهنأه إلى أن أتاهم هادم اللذات ومفرق الجماعات وهذا آخر ما انتهى إلينا من تصاريف الزمان بالملك عمر النعمان وولده شركان وولده ضوء المكان وولده كان ما كان ونزهة الزمان وقضي فكان، ثم إن الملك قال لشهرزاد: أشتهي أن تحكي لي شيئاً من حكاية الطيور، فقالت: حباً وكرامة فقالت لها أختها: لم أر الملك في طول هذه المدة انشرح صدره غير هذه الليلة وأرجو أن تكون عاقبتك معه محمودة.
و أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
ثم زعقت على تاج الملوك وقالت له: اعبري يا جارية فعند ذلك عبر إلى داخل الدهليز كما أمرته وسكت الخادم ولم يتكلم، ثم إن تاج الملوك عد خمسة أبواب ودخل الباب السادس فوجد السيدة دنيا واقفة في انتظاره، فلما رأته عرفته فضمته إلى صدرها وضمها إلى صدره ثم دخلت العجوز عليهما وتحيلت على صرف الجواري ثم قالت السيدة دنيا للعجوز: كوني أنت البوابة ثم اختلت هي وتاج الملوك ولم يزالا في ضم وعناق والتفاف ساق على ساق إلى وقت السحر.
ولما أصبح الصباح غلقت عليهما الباب ودخلت مقصورة أخرى وجلست على جري عادتها وأتت إليها الجواري فقضت حوائجهن وصارت تحدثهن، ثم قالت لهن: اخرجن الآن من عندي فإني أريد أن أنشرح وحدي، فخرجت الجواري من عندها ثم إنها أتت إليهما ومعها شيء من الأكل فأكلوا وأخذوا في الهراش إلى وقت السحر فأغلقت عليهما مثل اليوم الأول، ولم يزالا على ذلك مدة شهر كامل. هذا ما كان من أمر تاج الملوك والسيدة دنيا. وأما ما كان من أمر الوزير وعزيز فإنهما لما توجه تاج الملوك إلى قصر بنت الملك ومكث تلك المدة علما أنه لا يخرج منه أبداً وأنه هالك لا محالة فقال عزيز: يا والدي ماذا نصنع؟ فقال الوزير: يا ولدي إن هذا الأمر مشكل وإن لم نرجع إلى أبيه ونعلمه فإنه يلومنا على ذلك ثم تجهزا في الوقت والساعة وتوجها إلى الأرض الخضراء والعمودين وتخت الملك سليمان شاه وسارا يقطعان الأودية في الليلة والنهار إلى أن دخلا على الملك سليمان شاه وأخبراه بما جرى لولده وأنه من حين دخل قصر بنت الملك لم يعلموا له خبر فعند ذلك قامت عليه القيامة واشتدت به الندامة وأمر أن ينادي في مملكته بالجهاد ثم أبرز العساكر إلى خارج مدينته ونصب لهم الخيام وجلس في سرادقه حتى اجتمعت الجيوش من سائر الأقطار، وكانت رعيته تحبه لكثرة عدله وإحسانه ثم سار في عسكر سد الأفق متوجهاً في طلب ولده تاج الملوك. هذا ما كان من أمر هؤلاء.
وأما ما كان من أمر تاج الملوك والسيدة دنيا فإنهما أقاما على حالهما نصف سنة وهما كل يوم يزدادان محبة في بعضهما وزاد على تاج الملوك العشق والهيام والوجد والغرام حتى أفصح لها عن الضمير وقال لها: اعلمي يا حبيبة القلب والفؤاد أني كلما أقمت عندك ازددت هياماً ووجداً وغراماً لأني ما بلغت المرام بالكلية فقالت له: وما تريد يا نور عيني؟ وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الرابعة والستين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن دنيا قالت لتاج الملوك: وما تريد يا نور عيني وثمرة فؤادي، إن شئت غير الضم والعناق والتفاف الساق على الساق فافعل الذي يرضيك وليس لله فينا شريك فقال: ليس مرادي هكذا وإنما مرادي أن أخبرك بحقيقتي فاعلمي إني لست بتاجر بل أنا ملك ابن ملك واسم أبي الأعظم سليمان شاه الذي أنفذ الوزير رسولاً إلى أبيك ليخطبك لي فلما بلغك الخبر ما رضيت، ثم إنه قص عليها قصته من الأول إلى الآخر وليس في الإعادة إفادة، وأريد الآن أن أتوجه إلى أبي ليرسل رسولاً إلى أبيك ويخطبك منه ونستريح.
فلما سمعت ذلك الكلام فرحت فرحاً شديداً لأنه وافق غرضها ثم على هذا الاتفاق، واتفق في الأمر المقدور أن النوم غلب عليهما في تلك الليلة من دون الليالي واستمرا إلى أن طلعت الشمس، وفي ذلك الوقت كان الملك شهرمان جالساً في دست مملكته وبين يديه أمراء دولته إذ دخل عليه عريف الصياغ وبيده حق كبير وفتحه بين يدي الملك وأخرج منه علبة لطيفة تساوي مائة ألف دينار لما فيها من الجواهر واليواقيت والزمرد والتفت إلى الخادم الكبير الذي جرى له مع العجوز ما جرى وقال له: يا كافور خذ هذه العلبة وامض بها إلى السيدة دنيا فأخذها الخادم ومضى حتى وصل إلى مقصورة بنت الملك فوجد بابها مغلقاً والعجوز نائمة على عتبته فقال الخادم: إلى هذه الساعة وأنتم نائمون؟ فلما سمعت العجوز كلام الخادم انتبهت من منامها وخافت منه وقالت له: اصبر حتى آتيك بالمفتاح ثم خرجت على وجهها هاربة.
هذا ما كان من أمرها. وأما ما كان من أمر الخادم فإنه عرف أنها مرتابة فخلع الثياب ودخل المقصورة فوجد السيدة دنيا معانقة لتاج الملوك وهما نائمان، فلما رأى ذلك تحير في أمره وهم أن يعود إلى الملك فانتبهت السيدة دنيا فوجدته فتغيرت واصفر لونها وقالت له: يا كافور استر ما ستر الله فقال: أنا ما أقدر أن أخفي شيئاً عن الملك، ثم أقفل الباب عليهما.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخامسة والستين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الخادم لما أقفل الباب عليهما رجع إلى الملك فقال له: هل أعطيت العلبة لسيدتك؟ فقال الخادم: خذ العلبة ها هي وأنا لا أقدر أن أخفي شيئاً، اعلم أني رأيت عند السيدة دنيا شاباً جميلاً نائماً معها في فراش واحد وهما متعانقان فأمر الملك بإحضارهما فلما حضرا بين يديه قال لهما: ما هذه الفعال؟ واشتد به الغيظ فأخذ نمشة وهم أن يضرب به تاج الملوك وقال له: ويلك من أنت؟ ومن أين أنت؟ ومن هو أبوك وما جسرك على ابنتي؟ فقال تاج الملوك: اعلم أيها الملك إن قتلتني هلكت وندمت أنت ومن معك في مملكتك فقال له الملك: ولم ذلك؟ فقال: اعلم أني ابن الملك سليمان شاه وما تدري إلا وقد أقبل عليك بخيله ورجاله. فلما سمع الملك شهرمان ذلك الكلام أراد أن يؤخر قتله ويضعه في السجن حتى ينظر صحة قوله، فقال له وزيره: يا ملك الزمان الرأي عندي أن تعجل قتل هذا العلق فإنه تجاسر على بنات الملوك فقال السياف: اضرب عنقه فإنه خائن، فأخذه السياف وشد وثاقه ورفع يده وشاور الأمراء أولاً وثانياً وقصد بذلك أن يكون في الأمر توان فزعق عليه الملك وقال: متى تشاور إن شاورت مرة أخرى ضربت عنقك، فرفع السياف يده حتى بان شعر إبطه وأراد أن يضرب عنقه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السادسة والستين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن السياف رفع يده وأراد أن يضرب عنقه وإذا بزعقات عالية والناس أغلقوا الدكاكين فقال السياف: لا تعجل ثم أرسل من يكشف الخبر فمضى الرسول ثم عاد إليه وقال له: رأيت عسكراً كالبحر العجاج المتلاطم بالأمواج وخيلهم في ركض وقد ارتجت لهم الأرض وما أدري خبرهم، فاندهش الملك وخاف على ملكه أن ينزع منه ثم التفت إلى وزيره وقال له: أما خرج أحد من عسكرنا إلى هذا العسكر؟ فما أتم كلامه إلا وحجابه قد دخلوا عليه ومعهم رسل الملك القادم ومن جملتهم الوزير فابتدأه بالسلام فنهض لهم قائماً وقربهم وسألهم عن شأن قدومهم فنهض الوزير من بينهم وتقدم إليه وقال له: اعلم أن الذي نزل بأرضك ليس كالملوك المتقدمين ولا مثل السلاطين السالفين. فقال له الملك: ومن هو؟ قال الوزير: هو صاحب العدل والأمان الذي سارت بعلو همته الركبان السلطان سليمان شاه صاحب الأرض الخضراء والعمودين وجبال أصفهان وهو يحب العدل والإنصاف ويكره الجور والاعتساف ويقول لك: إن ابنه عندك وفي مدينتك وهو حشاشة قلبه وثمرة فؤاده، فإن وجده سالماً فهو المقصود وأنت المشكور المحمود وإن كان فقد من بلادك أو أصابه شيء فأبشر بالدمار وخراب الديار لأنه يصير بلدك قفراً ينعق فيها البوم والغراب، وها أنا قد بلغتك الرسالة والسلام.
فلما سمع الملك شهرمان ذلك الكلام من الرسول انزعج فؤاده وخاف على مملكته وزعق على أرباب دولته ووزرائه وحجابه ونوابه فلما حضروا قال لهم: ويلكم انزلوا وفتشوا على ذلك الغلام وكان تحت يد السياف وقد تغير من كثرة ما حصل من الفزع، ثم إن الرسول لاحت منه التفاتة فوجد ابن ملكه على نطع الدم فعرفه وقام ورمى روحه عليه وكذلك بقية الرسل ثم تقدموا وحلوا وثاقه وقبلوا يديه ورجليه ففتح تاج الملوك عينيه فعرف وزير والده وعرف صاحبه عزيز فوقع مغشياً عليه من شدة فرحته بهما.
ثم إن الملك شهرمان صار متحيراً في أمره وخاف خوفاً شديداً لا تحقق مجيء هذا العسكر بسبب هذا الغلام فقام وتمشى إلى تاج الملوك وقبل رأسه ودمعت عيناه وقال له: يا ولدي لا تؤاخذني ولا تؤاخذ المسيء بفعله فارحم شيبتي ولا تخرب مملكتي فدنا منه تاج الملوك وقبل يده وقال له: لا باس عليك وأنت عندي بمنزلة والدي ولكن الحذر أن يصيب محبوبتي السيدة دنيا شيء.
فقال الملك شهرمان: لا تخف عليها فما يحصل لها إلا السرور، وسار الملك يعتذر إليه ويطيب خاطر وزير الملك سليمان شاه ووعده بالمال الجزيل على أن يخفي من الملك ما رآه، ثم بعد ذلك أمر كبراء دولته أن يأخذوا تاج الملوك ويذهبوا به إلى الحمام ويلبسوه بدلة من خيار الملابس ويأتوا بسرعة ففعلوا ذلك وأدخلوه الحمام وألبسوه البدلة التي أفردها له الملك شهرمان ثم أتوا به إلى المجلس.
فلما دخل على الملك شهرمان وقف له هو وجميع أرباب دولته وقام الجميع في خدمته. ثم إن تاج الملوك جلس يحدث وزير والده وعزيز بما وقع له، فقال له الوزير وعزيز: ونحن في تلك المدة مضينا إلى والدك فأخبرناه بأنك دخلت سراية بنت الملك ولم تخرج والتبس علينا أمرك، فحين سمع بذلك جهز العساكر ثم قدمنا هذه الديار وكان في قدومنا الفرح والسرور. فقال لهما: لا زال الخير يجري على أيديكما أولاً وآخراً، وكان الملك في ذلك الوقت قد دخل على ابنته السيدة دنيا فوجدها تبكي على تاج الملوك وقد أخذت سيفاً وركزت قبضته إلى الأرض وجعلت ذبابته على رأس قلبها بين نهديها وانحنت على السيف وصارت تقول: لا بد أن أقتل نفسي ولا أعيش بعد حبيبي. فلما دخل عليها أبوها ورآها على هذه الحالة صاح عليها وقال لها: يا سيدة بنات الملوك لا تفعلي وارحمي أباك وأهل بلدتك، ثم تقدم إليها وقال لها: أحاشيك أن يصيب والدك بسببك سوء، ثم أعلمها بالقصة وأن محبوبها ابن الملك سليمان شاه يريد زواجها وقال لها: إن أمر الخطبة والزواج مفوض إلى رأيك، فتبسمت وقالت له: أما قلت لك إنه ابن سلطان فأنا أخليه يصلبك على خشبة لا تساوي درهمين. فقال لها: بالله عليك أن ترحمي أباك فقالت له: رح إليه وائتني به فقال لها: على الرأس والعين، ثم رجع من عندها سريعاً ودخل على تاج الملوك وشاوره بهذا الكلام، ثم قام معه وتوجها إليها فلما رأت تاج الملوك عانقته قدام أبيها وتعلقت به وقالت له: أوحشتني، ثم التفتت إلى أبيها وقالت: هل أحد يفرط في مثل هذا الشاب المليح وهو ملك ابن ملك؟ فعند ذلك خرج الملك شهرمان ورد الباب عليهما ومضى إلى وزير أبي تاج الملوك ورسله وأمرهم أن يعلموا السلطان شاه بأن ولده بخير وعافية وهو في ألذ عيش، ثم إن السلطان شهرمان أمر بإخراج الضيافات والعلوفات إلى عساكر السلطان سليمان شاه والد تاج الملوك فلما خرجوا جميع ما أمر به أخرج مائة من الخيل ومائة هجين ومائة مملوك ومائة عبد ومائة جارية وأرسل الجميع إليه هدية، ثم بعد ذل توجه إليه هو وأرباب دولته وخواصه حتى صاروا في ظاهر المدينة.
فلما علم بذلك السلطان سليمان شاه تمشى خطوات إلى لقائه وكان الوزير وعزيز أعلماه ففرح وقال: الحمد لله الذي بلغ ولدي مناه، ثم إن الملك سليمان شاه أخذ الملك شهرمان بالحضن وأجلسه بجانبه على السرير وصار يتحدث هو وإياه ثم قدموا لهم الطعام فأكلوا حتى اكتفوا ثم قدموا لهم الحلويات ولم يمض إلا قليل حتى جاء تاج الملوك وقدم عليه بلباسه وزينته، فلما رآه والده قام له وقبله وقام له جميع من حضر وجلس بين أيديهم ساعة يتحدثون.
فقال الملك سليمان شاه: إني أريد أن أكتب كتاب ولدي على ابنتك على رؤوس الأشهاد فقال له: سمعاً وطاعة، ثم أرسل الملك شهرمان إلى القاضي والشهود فحضروا وكتبوا الكتاب وفرح العساكر بذلك وشرع الملك شهرمان في تجهيز ابنته. ثم قال تاج الملوك لوالده أن عزيزاً رجل من الكرام وقد خدمني خدمة عظيمة وتعب وسافر معي وأوصلني إلى بغيتي ولم يزل يصبر لي حتى قضيت حاجتي ومضى معنا سنتان وهو مشتت من بلاده، فالمقصود أننا نهيء له تجارة لن بلاده قريبة. فقال له والده: نعم ما رأيت، ثم هيأوا له مائة حمل من أغلى القماش وأقبل عليه تاج الملوك وودعه وقال له: اقبل هذه على سبيل الهدية فقبلها منه وقبل الأرض قدامه وقدام والده سليمان شاه ثم ركب تاج الملوك وسافر مع عزيز قدر ثلاثة أميال وبعدها أقسم عليه عزيز أن يرجع. وقال: بالله لولا والدتي ما صبرت على فراقك، فبالله عليك لا تقطع أخبارك عني، ثم ودعه ومضى إلى مدينته فوجد والدته بنت له في وسط الدار قبراً وصارت تزوره، ولما دخل الدار وجدها قد حلت شعرها ونشرته على القبر وهي تفيض دمع العين وتنشد هذين البيتين:
بالله يا قبر هل زالت محاسنـه
أو قد تغير ذات المنظر النضر
يا قبر ما أنت بستان ولا فلـك
فكيف يجمع فيك البدر والزهر
ثم صعدت الزفرات وأنشدت هذه الأبيات:
مالي مررت على القبور مسلما
قبر الحبيب فلم يرد جـوابـي
قال الحبيب وكيف رد جوابكـم
وأنا رهين جـنـادل وتـراب
أكل التراب محاسني فنسيتكـم
وحجبت عن أهلي وعن أحبابي
فلما أتمت شعرها إلا وعزيز داخل عليها، فلما رأته قامت إليه واحتضنته وسألته عن سبب غيابه فحدثها بما وقع له من أوله إلى آخره وأن تاج الملوك أعطاه من المال والأقمشة مائة حمل من القماش ففرحت بذلك وأقام عزيز عند والدته متحيراً فيما وقع له من الدليلة المحتالة التي خصته. هذا ما كان من أمر عزيز. وأما ما كان من أمر تاج الملوك فإنه دخل بمحبوبته السيدة دنيا وأزال بكارتها، ثم إن الملك شهرمان شرع في تجهيز ابنته للسفر مع زوجها وأبيه فأحضر لهم الزاد والهدايا والتحف، ثم حملوا وسار معهم الملك شهرمان ثلاثة أيام لأجل الوداع فأقسم عليه الملك سليمان شاه بالرجوع فرجع وما زال تاج الملوك ووالده وزوجته سائرين في الليل والنهار حتى أشرفوا على بلادهم وزينت لهم المدينة.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السابعة والستين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك سليمان شاه لما وصل إلى بلده جلس على سرير مملكته وابنه تاج الملوك في جانبه ثم أعطى وهب وأطلق من كان في الحبوس، ثم عمل لولده عرساً ثانياً واستمرت به المغاني والملاهي شهراً كاملاً. وازدحمت المواشط على السيدة دنيا وهي لا تمل من الجلاء ولا يمللن من النظر إليها، ثم دخل تاج الملوك على زوجته بعد أن اجتمع مع أبيه وأمه وما زالوا في ألذ العيش وأهنأه.
فعند ذلك قال ضوء المكان للوزير دندان: إن مثلك من ينادم الملوك ويسلك في تدبيرهم أحسن السلوك هذا كله وهم محاصرون للقسطنطينية حتى مضى عليهم أربع سنين ثم اشتاقوا إلى أوطانهم وضجرت العساكر من الحصار وإدامة الحرب في الليل والنهار فأمر الملك ضوء المكان بإحضار بهرام ورستم وتركاش، فلما حضروا قال لهم: اعلموا أننا قمنا هذه السنين وما بلغنا مراماً فازددنا غماً وهماً، وقد أتينا لنخلص ثأر الملك عمر النعمان فقلت أخي شركان فصارت الحسرة حسرتين والمصيبة مصيبتين، هذا كله من العجوز ذات الدواهي فإنها قتلت السلطان في مملكته وأخذت زوجته الملكة صفية وما كفاها ذلك حتى عملت الحيلة علينا، وذبحت أخي وقد حلفت الأيمان العظيمة أنه لا بد من أخذ الثأر فما تقولون أنتم فافهموا هذا الخطاب وردوا علي الجواب فأطرقوا رؤوسهم وأحالوا الأمر على الوزير دندان.
فعند ذلك تقدم الوزير دندان إلى الملك ضوء المكان، وقال له: اعلم يا ملك الزمان أنه ما بقي في إقامتنا فائدة والرأي أننا نرحل إلى الأوطان ونقيم هناك برهة من الزمان ثم نعود ونغزوا عبدة الأصنام فقال الملك: نعم هذا الرأي لأن الناس اشتاقوا إلى رؤية عيالهم وأنا أيضاً أقلقني الشوق إلى ولدي كان ما كان وإلى ابنة أخي قضى فكان لأنها في دمشق ولا أعلم ما كان من أمرهما.
فلما سمعت العساكر ذلك فرحوا ودعوا للوزير دندان ثم إن الملك ضوء المكان أمر المنادي أن ينادي بالرحيل بعد ثلاثة أيام، فابتدأوا في تجهيز أحوالهم وفي اليوم الرابع دقت الكاسات ونشرت الرايات، وتقدم الوزير دندان في مقدم العسكر وسار الملك في وسط العساكر، وبجانبه الحاجب الكبير وسارت الجيوش ومازالوا مجدين السير بالليل والنهار حتى وصلوا إلى مدينة بغداد ففرحت بقدومهم الناس وزال عنهم الهم والبأس ثم ذهب كل أمير إلى داره وطلع الملك إلى قصره ودخل على ولده كان ما كان، وقد بلغ من العمر سبع سنين وصار ينزل ويركب ولما استراح الملك من السفر دخل الحمام هو وولده كان ما كان ثم رجع وجلس على كرسي مملكته ووقف الوزير دندان بين يديه وطلعت الأمراء وخواص الدولة ووقفوا في خدمته. فعند ذلك أمر الملك ضوء المكان بإحضار صاحبه الوقاد، الذي أحسن إليه في غربته فحضر بين يديه فلما رآه الملك ضوء المكان قادماً عليه نهض له قائماً وأجلسه إلى جانبه وكان الملك ضوء المكان قد أخبر الوزير دندان بما فعل معه صاحبه الوقاد من المعروف فعظم في عينه وفي أعين الأمراء وكان الوقاد قد غلظ وسمن من الأكل والراحة، وصار عنقه كعنق الفيل وبطنه كبطن الدرفيل وصار طائش العقل لأنه كان لا يخرج من المكان الذي هو فيه فلم يعرف الملك بسيماه.
أقبل عليه الملك وبش في وجهه وحياه أعظم التحيات وقال له: ما أسرع ما نسيتني فأمعن فيه النظر فلما تحققه وعرفه قام له على الأقدام قال له: يا حبيبي من عملك سلطاناً؟ فضحك عليه فأقبل عليه الوزير بالكلام وشرح له بالقصة وقال له: إنه كان أخاك وصاحبك والآن صار ملك الأرض ولا بد أن يصل إليك منه خير كثير وها أنا أوصيك إذا قال لك: تمن علي فلا تتمن إلا شيئاً عظيماً لأنك عنده عزيز. فقال الوقاد: أخاف أن أتمنى عليه شيئاً فلا يسمح لي به أو لا يقدر عليه فقال له: والله لا بد أن أتمنى عليه الشيء الذي هو في خاطري وكل يوم أرجو منه أن يسمح لي به فقال له الوزير: طيب قلبك والله لو طلبت ولاية دمشق موضع أخيه لولاك عليها.
فعند ذلك قام الوقاد على قدميه فأشار له ضوء المكان أن يجلس فأبى، وقال: معاذ الله قد انفضت أيام قعودي في حضرتك فقال له السلطان: لا بل هي باقية إلى الآن فإنك كنت سبباً لحياتي والله لو طلبت مني مهما أردت لأعطيتك إياه فيمن علي الله، فقال: الله يا سيدي إني أخاف أن أتمنى شيئاً فلا تسمح لي به أو لا تقدر عليه. فضحك السلطان وقال له: لو تمنيت نصف مملكتي لشاركتك فيها فتمن ما تريد، قال الوقاد: أخاف أن أتمنى شيئاً لا تقدر عليه فغضب السلطان وقال له: تمن ما أردت فقال له تمنين عليك أن تكتب لي مرسوماً بمرافقة جميع الوقادين الذين في مدينة القدس فضحك السلطان وجميع من حضر وقال له: تمن غير هذا.
فقال الوقاد: أنا ما قلت لك إني أن أتمنى شيئاً لا تسمح لي به وما تقدر عليه فغمره الوزير ثانياً وثالثاً وفي كل مرة يقول: أتمنى عليك أن تجعلني رئيس الزبالين في مدينة القدس أو في دمشق فانقلب الحاضرون على ظهورهم من الضحك عليه وضربه الوزير.
فالتفت الوقاد إلى الوزير وقال له: ما تكون حتى تضربني ومالي ذنب فإنك أنت الذي قلت لي تمن شيئاً عظيماً.
ثم قال: دعوني أسير إلى بلادي فعرف السلطان أنه يلعب فصبر قليلاً، ثم أقبل عليه وقال له: يا أخي تمن علي أمراً عظيماً بمقامي لائقاً فقال له: أتمنى سلطنة دمشق موضع أخيك، فكتب له التوقيع بذلك وقال للوزير دندان ما يروح معه غيرك، وإذا أردت العودة فأحضر معك بنت أخي قضى فكان.
فقال الوزير سمعاً وطاعة، ثم أخذ الوقاد ونزل به وتجهز للسفر، وأمر ضوء المكان أن يخرجوا للوقاد تختاً جديداً وطقم سلطنة وقال للأمراء: من كان يحبني فليقدم إليه هدية عظيمة.
ثم سماه السلطان الزبلكان ولقبه بالمجاهد وبعد كملت حوائجه وطلع الزبلكان وفي خدمته الوزير دندان ثم دخل على ضوء المكان ليودعه فقام له وعانقه وأوصاه بالعدل بين الرعية وأمره أن يأخذ الأهبة للجهاد بعد سنتين ثم ودعه وانصرف.
وسار الملك المجاهد المسمى بالزبلكان، بعد أن أوصاه الملك ضوء المكان بالرعية خيراً وقدمت له الأمراء المماليك فبلغوا خمسة آلاف مملوك وركبوا خلفه وركب الحاجب الكبير وأمير الديلم بهرام وأمير الترك رستم وأمير العرب تركاش وساروا في توديعه ما زالوا سائرين معه ثلاثة أيام ثم عادوا إلى بغداد وسار السلطان الزبلكان هو والوزير دندان.
وما زالوا سائرين حتى وصلوا إلى دمشق وكانت الأخبار قد وصلت إليهم على أجنحة الطيور بأن الملك ضوء المكان سلطن على دمشق ملكاً يقال له: الزبلكان ولقبه بالمجاهد، فلما وصل إليهم الخبر زينوا له المدينة وخرج إلى ملاقاته كل من في دمشق ثم دخل دمشق وطلع القلعة وجلس على سرير المملكة ووقف الوزير دندان في خدمته يعرفه منازل الأمراء ومراتبهم وهم يدخلون عليه ويقبلون يديه ويلوحون له.
فأقبل عليهم الملك الزبلكان وخلع وأعطى ووهب، ثم فتح خزائن الأموال وأنفقها على جميع العساكر كبيراً وصغيراً، وحكم وعدل وشرع الزبلكان في تجهيز بنت السلطان قضى فكان وجعل لها محفة من الإبريسم وجهز الوزير وقدم له شيئاً من المال.
فأتى الوزير دندان، وقال له: أنت قريب عهد بالملك وربما تحتاج إلى الأموال أو نرسل إليك نطلب منك مالاً للجهاد أو غير ذلك ولما تهيأ الوزير دندان للسفر ركب السلطان المجاهد إلى وداعه وأحضر قضى فكان وأركبها في المحفة وأرسل معها عشر جوار برسم الخدمة.
وبعد أن سافر الوزير دندان رجع الملك المجاهد إلى مملكة ليدبرها واهتم بآلة السلاح وصار ينتظر الوقد الذي يرسل فيه الملك ضوء المكان هذا ما كان من أمر السلطان الزبلكان.
وأما ما كان من أمر الوزير دندان فإنه لم يزل يقطع المراحل بقضى فكان حتى وصل إلى الرحبة بعد شهر، ثم سار حتى أشرف على بغداد وأرسل يعلم ضوء المكان بقدومه فركب وخرج إلى لقائه فأراد الوزير دندان أن يترجل. فأقسم عليه الملك ضوء المكان أن لا يفعل فسار راكباً حتى جاء إلى جانبه وسأله عن المجاهد فأعلمه أنه بخير وأعلمه بقدوم قضى فكان بنت أخيه شركان ففرح وقال له: دونك والراحة من تعب السفر ثلاثة أيام.
ثم بعد ذلك تعال عندي فقال: حباً وكرامة، ثم دخل بيته وطلع الملك إلى قصره ودخل على ابنة أخيه قضى فكان وهي ابنة ثمان سنين فلما رآها فرح بها وحزن على أبيها وأعطاها حلياً ومصاغاً عظيماً، وأمر أن يجعلوها مع ابن عمها كان ما كان في مكان واحد وكانت أحسن أهل زمانها وأشجعهم لأنها كانت صاحبة تدبير وعقل ومعرفة بعواقب الأمور.
وأما كان ما كان فإنه كان مولعاً بمكارم الأخلاق ولكنه لا يفكر في عاقبة شيء ثم بلغ عمر كل واحد من الاثنين عشر سنين وصارت قضى فكان تركب الخيل وتطلع مع ابن عمها في البر، ويتعلمان الضرب بالسيف والطعن بالرمح حتى بلغ عمر كل منهما اثنتي عشرة سنة.
ثم إن الملك انتهت أشغاله للجهاد وأكمل الأهبة والاستعداد، فأحضر الوزير دندان وقال له: اعلم أني عزمت على شيء وأريد إطلاعك عليه فأسرع في رد الجواب.
فقال الوزير دندان: ما هو يا ملك الزمان، قال: عزمت على أن أسلطن ولدي كان ما كان وأفرح به في حياتي وأقاتل قدامه إلى أن يدركني الممات فما عندك من الرأي؟ فقبل الوزير دندان الأرض بين يدي الملك ضوء المكان. وقال له: اعلم أيها الملك السعيد صاحب الرأي السديد أن ما خطر ببالك مليح غير أنه لا يناسب في هذا الوقت الخصلتين، الأولى: أن ولدك كان ما كان صغير السن، والثانية: ما جرت به العادة أن من سلطن ولده في حياته لا يعيش إلا قليلاً، وهذا ما عندي من الجواب.
فقال: اعلم أيها الوزير أننا نوصي عليه الحاجب الكبير صار منا وعلينا، وقد تزوج أختي، فهو في منزلة أخي، فقال الوزير: افعل ما بدا لك فنحن ممتثلون أمرك.
فأرسل الملك إلى الحاجب الكبير فأحضره وكذلك أكابر مملكته وقال لهم إن هذا ولدي كان ما كان قد علمتم أنه فارس الزمان وليس له نظير في الحرب والطعان وقد جعلته سلطاناً عليكم والحاجب الكبير وصي عليه.
فقال الحاجب: يا ملك الزمان إنما أنا غريس نعمتك فقال ضوء المكان: أيها الحاجب إن ولدي كان ما كان وابنة أخي قضى فكان ولدا عم وقد زوجتها به وأشهد الحاضرين على ذلك.
ثم نقل لولده المال ما يعجز عن وصفه اللسان وبعد ذلك دخل على أخته نزهة الزمان وأعلمها بذلك ففرحت، وقالت: إن الاثنين ولداي والله تعالى يبقيك لهما مدى الزمان.
فقال: يا أختي إني قضيت من الدنيا غرضي وأمنت على ولدي ولكن ينبغي أن تلاحظيه بعينك وتلاحظي أمه ثم يوصي الحاجب ونزهة الزمان على ولده وعلى زوجته ليالي وأياماً وقد أيقن بكأس الحمام ولزم الوساد وصار الحاجب يتعاطى أحكام العباد وبعد سنة أحضر ولده كان ما كان والوزير دندان، وقال: يا ولدي إن هذا الوزير والدك من بعدي، واعلم أني راحل من الدار الفانية إلى الدار الباقية وقد قضيت غرضي من الدنيا ولكن بقي في قلبي حسرة يزيلها الله على يديك.
فقال ولده: وما تلك الحسرة يا والدي؟ فقال: يا ولدي أن أموت ولم تأخذ بثأر جدك عمر النعمان، وعمك الملك شركان من عجوز يقال لها ذات الدواهي فإن أعطاك الله النصر لا تغفل عن أخذ الثأر وكشف العار وإياك من كر العجوز وأقبل ما يقوله لك الوزير دندان لأنه عماد ملكنا من قديم الزمان فقال له ولده: سمعاً وطاعة ثم هملت عيناه بالدموع.
وبعد ذلك ازداد المرض بضوء المكان وصار أمر المملكة للحاجب فصار يحكم ويأمر وينهي واستمر على ذلك سنة كاملة وضوء المكان مشغول بمرضه ومازالت به الأمراض مدة أربع سنين والحاجب الكبير قائم بأمر الملك، وارتضى به أهل المملكة ودعت له جميع البلاد هذا ما كان من أمر ضوء المكان والحاجب.
وأما ما كان من أمر كان ما كان فإنه لم يكن له شغل إلا ركوب الخيل واللعب بالرمح والضرب بالنشاب وكذلك ابنة عمه قضى فكان وكانت تخرج هي وإياه من أول النهار إلى الليل فتدخل إلى أمها ويدخل هو إلى أمه فيجدها جالسة عند رأس أبيه تبكي فيخدمه بالليل.
وإذا أصبح يخرج هو وبنت عمه على عادتهما وطالت بضوء المكان التوجعات فبكى وأنشد هذه الأبيات:
تفانت قوتي ومضى زماني
وها أنا قد بقيت كما تراني
فيوم العز كنت أعز قـومـي
وأسبقهم إلى نـيل الأمـانـي
وقد فارقت ملكي بعـد عـزي
إلى ذل تخـلـل بـالـهـوان
ترى قبل الممات أرى غلامي
يكون على الورى ملكاً مكاني
ويفتك بالـعـداة لأخـذ ثـأر
بضرب السيف أو طعن السنان
أنا المغبون فـي هـزل وجـد
إذا مولاي لا يشفي جنـانـي
فلما فرغ من شعره وضع رأسه على الوسادة ونام فرأى في منامه قائلاً يقول له أبشر فإن ولدك يملك البلاد وتطيعه العباد فانتبه من منامه مسروراً ثم بعد أيام قلائل طرقه الممات فأصاب أهل بغداد مصاب عظيم وبكى عليه الوضيع والعظيم ومضى عليه الزمان كأنه ما كان وتغير حال كان ما كان وعزله أهل بغداد وجعلوه هو وعياله في بيت على حدتهم.
فلما رأت أم كان ما كان ذلك صارت في أذل الأحوال ثم قالت لا بد من قصد الحاجب الكبير وأرجو الرأفة من اللطيف الخبير فقامت من منزلها إلى أن أتت إلى بيت الحاجب الذي صار سلطاناً فوجدته جالساً على فراشه.
فدخلت عند زوجته نزهة الزمان، وقالت: إن الميت ماله صاحب فلا أحوجكم الله مدى الدهور والأعوام ولا زلتم تحكمون بالعدل بين الخاص والعام قد سمعت أذناك ورأت عيناك ما كنا فيه من الملك والعز والجاه والمال وحسن المعيشة والحال والآن انقلبت علينا الزمان وقصدنا الدهر بالعدوان، وأتيت إليك قاصدة إحسانك بعد إسدائي للإحسان لأن الرجل إذا مات ذلت بعده النساء والبنات، ث أنشدت هذه الأبيات:
كفاك بان الموت بادي العجـائب
وما غائب الأعمار عنا بغـائب
وما هـذه الأيام إلا مـراحـل
مواردها ممزوجة بالمصـائب
وحاضر قلبي مثل فقـد أكـارم
أحاطب بهم مستعظمات النوائب
فلما سمعت نزهة الزمان هذا الكلام تذكرت أخاها ضوء المكان وابنه كان ما كان فقربتها وأقبلت عليها وقالت: أنا والآن غنية وأنت فقيرة فوالله تركنا افتقارك إلا خوفاً من انكسار قلبك، لئلا يخطر ببالك أن ما نهديه إليك صدقة مع أن جميع ما نحن فيه من الخير منك ومن زوجك، فبيتنا بيتك ولك وما لنا وعليك ما علينا.
ثم خلعت عليها ثياباً فاخرة وأفردت لها مكاناً في القصر ملاصقا لمقصورتها وأقامت عندهم في عشية طيبة هي وولدها كان ما كان وخلعت عليه ثياب الملوك وأفردت لهما جواري برسم كل منهما.
ثم إن نزهة الزمان بعد مدة قليلة ذكرت لزوجها حديث زوجة أخيها ضوء المكان فدمعت عيناه وقال: إن شئت أنت تنتظري الدنيا بعدك فانظريها بعد غيرك فأكرمي مثواها.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثامنة والستين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد هذا ما كان من أمر نزهة الزمان وزوجها وأم ضوء المكان.
وأما ما كان من أمر كان ما كان وابنة عمه قضى فكان فإنهما كبرا وترعرعا حتى صار كأنهما غصنان مثمران أو قمران أزهران.
وبلغنا من العمر خمسة عشر عاماً وكانت قضى فكان من أحسن البنات المخدرات، بوجه جميل وخصر نحيل وردف ثقيل وريق كالسلسبيل وقد رشيق وثغر ألذ من الرحيق كما قال فيها بعض واصفيها هذين البيتين:
كان سلاف الخمر من ريقها بدت
وعنقودها من ثغرها الدر يقطف
وأعنابها مالت إذا ما ثـنـيتـهـا
فسبحان خلاق لـهـا لا يكـيف
وقد جمع الله كل المحاسن فيها فقدها يخجل الأغصان والورد يطلب من خدها الأمان وأما الريق فإنه يهزأ بالرحيق تسر القلب والناظر كما قال فيها الشاعر:
مليحة الوصف قد تمت محاسنها
أجفانها تفضح التكحيل بالكحل
كأن ألحاظها في قلب عاشقهـا
سيف بكف أمير المؤمنين علي
وأما كان ما كان فإنه كان بديع الجمال فائق الكمال عز في الحسن عن مثال الشجاعة تلوح بين عينيه تشهد له لا عليه وقيل كل القلوب إليه وحين اخضر منه العذار كثرت فيه الأشعار كقول بعضهم:
ما بان عذري فيه حتـى عـذرا
ومشى الدجى في خده متحـيرا
فأعجب لهم شهدوا ومسكنهم لظى
ولباسهم فيها الحرير الأخضـر
واتفق في بعض الأعياد أن قضى فكان خرجت تعيد على بعض أقاربها من الدولة والحواري حواليها، والحسن قد عمها وورد الخد يحسد خالها والأقحوان يبتسم عن بارق ثغرها فجعل كان ما كان يدور حولها ويطلق النظر إليها وهي كالقمر الزاهر فقوى جنانه بالشعر لسانه وأنشد هذين البيتين:
متى يشتفي قلب الدنو من الـبـعـد
ويضحك ثغر الوصل من زائد الصد
فيا ليت شعري هـل أبـيتـن لـيلة
بوصل حبيب عنده بعض ما عنـدي
فلما سمعت قضى فكان هذا الشهر أظهرت له الملامة والعتاب وتوعدته بأليم العقاب فاغتاظ كان ما كان وعاد إلى بغداد وهو غضبان ثم طلعت قضى فكان إلى قصرها وشكت ابن عمها إلى أمها فقالت لها: يا بنتي لعله ما أرادك بسوء وهل هو إلا يتيم ومع هذا لم يذكر شيئاً يعيبك فإياك أن تعلمي بذلك أحداً، فربما بلغ الخبر إلى السلطان فيقصر عمره ويخمد ذكره ويجعل أثره كأمس الدابر والميت الغابر وشاع في بغداد حب كان ما كان لقضى فكان وتحدثت به النسوان ثم إن كان ما كان ضاق صدره وقل صبره اشتغل باله ولم يخف على الناس حاله واشتهى أن يبوح بما في قلبه من لوعة البين فخاف من غضبها وأنشد هذين البيتين:
إذا خفت يوماً عتاب التـي
تغير أخلاقها الـصـافـية
صبرت عليها كصبر الفتى
على الكي في طلب العافية
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة التاسعة والستين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الحاجب الكبير لما صار سلطان، ثم أنه بلغه حب كان ما كان لقضي فكان فندم على جعلهما معاً في محل واحد.
ثم دخل على زوجته نزهة الزمان وقال: إن الجمع بين الخلفة والنار لمن أعظم الأخطار وليست الرجال على النساء بمؤتمنين ما دامت العيون في عج والمعاطف في لين وابن أخيك كان ما كان قد بلغ مبلغ الرجال فيجب منعه عن الدخول على ربات الحجال ومنع ابنتك عن الرجال أوجب لأن مثلها ينبغي أن يحجب. فقالت: صدقت أيها الملك العاقل والهمام الكامل فلما أصبح الصباح جاء كان ما كان ودخل على عمته نزهة الزمان على جري عادته وسلم عليها، فردت عليه السلام وقالت له: عندي لك كلام ما كنت احب أن أقوله لك. ولكن أخبرك به رغماً عني. فقال لها: وما ذاك الكلام؟ قالت: إن الملك سمع بحبك لقي فكان فأمر بحجبها عنك وإذا كان لك حاجة فأنا أرسلها إليك من خلف الباب ولا تنظر قضي فكان.
فلما سمع كلامها رجع ولم ينطق بحرف واحد وأعلم والدته بما قالته عمته فقالت له: إنما نشأ هذا من كثرة كلامك وقد علمت أن حديث حبك لقضي فكان شاع وانتشر في كل مكان وكيف تأكل زادهم بعد ذلك وتعشق ابنتهم؟ فقال: إني أريد الزواج بها لأنها بنت عمي وأنا أحق بها فقالت له أمه: أسكت لئلا يصل الخبر إلى الملك سلسان فيكون ذلك سبباً لغرقك في بحر الأحزان وهم يبعثوا لنا في هذه الليلة عشاء ولو كنا في بلد غير هذه لمتنا من ألم الجوع أو ذل السؤال.
فلما سمع كان ما كان كلام أمه زادت بقلبه الحسرات وأنشد هذه الأبيات:
أقلي من اللوم الـذي لا يفـارق
فقلبي إلى من تيمتني مفـارق
ولا تطلبي عند الـصـبـر ذرة
فصبري وبيت الله من طالـق
إذا سامني اللوام نهيا عصيتهـم
وهاأنا في دعوى المحبة صادق
وقد منعوني عنوة أن أزورهـا
وإني والرحمن ما أنا فـاسـق
وإن عظامي حين تسمع ذكرها
تشابه طيراً خلقهـن بـواشـق
ألا قل لمن قد لام في الحب أنني
وحق إلهي لبنت عمي لعاشـق
ولما فرغ من شعره قال لأمه: ما بقي لي عند عمتي ولا عند هؤلاء القوم مقام بل أخرج من القصر وأسكن في أطراف المدينة بجوار قوم صعاليك، ثم خرج وفعل كما قال وصارت أمه تتردد إلى بيت الملك سلسان وتأخذ منه ما تقتات به هي وإياه.
ثم إن قضي فكان اختلت بأم كان ما كان وقالت لها: يا امرأة عمي، كيف حال ولدك؟ فقالت: أنه باكي العين حزين القلب ليس له من أسر الغرام فكاك ومقتنص من هواك في أشراك، فبكت قضي فكان وقالت: والله ما هجرته بغضاً له ولكن خوفاً عليه من الأعداء وعندي من الشوق أضعاف ما عنده ولولا عثرات لسانه وخفقان جنانه ما قطع أبي عنه إحسانه وأولاه منعه وحرمانه ولكن أيام الورى دول والصبر في كل الأمور أجمل ولعل من حكم بالفراق أن يمن علينا بالتلاق. ثم أفاضت دمع العين وأنشدت هذين البيتين:
فعندي يا ابن عمي من غرامي
كأمثال الذي قد حل عـنـدك
ولكن كتمت عن الناس وجدي
فهلا كنت أنت كتمت وجدك
فشكرتها أم كان ما كان وخرجت من عندها وأعلمت ولدها كان ما كان بذلك فزاد شوقه إليها وقال: ما أبدلها من الحور بألفين وأنشد هذين البيتين:
فو الله لا أصغي إلى قـوم لائم
ولا بحت بالسر الذي كنت كاتما
وقد غاب عني من أرجى وصاله
وقد سهرت عيني وقد بات نائما
ثم مضت الأيام والليالي وهو يتقلب على جمر المقالي حتى مضى له من العمر سبعة عشر عاماً وقد كمل حسنه، ففي بعض الليالي أخذه السهر وقال في نفسه: ما لي أرى جسمي يذوب وإلى متى لا أقدر على نيل المطلوب وما لي عيب سوى عدم الجاه والمال. ولكن عند الله بلوغ الآمال، فينبغي أن أشرد نفسي عن بلادها حتى تموت أو تحظى بمرادها. ثم أضمر هذه العزمات وأنشد هذه الأبيات:
دع مهجتي تزداد في خفقانـهـا
ليس التذلل في الورى من شأنها
واعذر فإن حشاشتي كصحـيفة
لا شك أن الدمع من عنوانـهـا
ها بنت عمي قد بـدت حـورية
نزلت إلينا عن رضا رضوانهـا
من رام ألحاظ العيون معارضـاً
فتكاتها لم ينج من عـدوانـهـا
سأسير في الأرض الوسيعة منقذاً
نفسي وأمنحها سوى حرمانهـا
وأعود مسرور الفؤاد بمطلـبـي
وأقاتل الأبطال في مـيدانـهـا
ولسوف أشتاق الغـنـائم عـائداً
وأصول مقتدراً على أقرانـهـا
ثم إن كان ما كان خرج من القصر حافياً في قميص قصير الأكمام وعلى رأسه لبدة لها سبعة أعوام وصحبته رغيف له ثلاثة أيام، ثم سار في حندس الظلام حتى وصل إلى باب بغداد فوقف هناك. ولما فتحوا باب المدينة كان أول من خرج منه، ثم صار يقطع الأودية والقفار في ذلك النهار ولما أتى الليل طلبته أمه فلم تجده فضاقت عليها الدنيا باتساعها ولم تلتذ بشيء من متاعها ومكثت تنتظر أول يوم وثاني يوم وثالث يوم إلى أن مضى عشرة أيام فلم تر له خبراً فضاق صدرها ونادت قائلة: يا مؤنسي قد هيجت أحزاني حيث فارقتني وتركت أوطاني يا وولدي من أي الجهات أناديك؟ ويا هل ترى أي بلدٍ يأويك؟ ثم صعدت الزفرات وأنشدت هذه الأبيات:
علمنا بأن بعد غيبـتـكـم نـبـلـى
ومدت قسى للفراق لـنـا نـبـلا
وقد خلفوني بعـد شـد رحـالـهـم
أعالج كرب الموت إذ قطعوا الرملا
لقد هتف بي حنـين لـيل حـمـامة
مطوقة ناحت فقلت لهـا مـهـلا
لعمرك لو كانت كمثـلـي حـزينة
لما لبست طوقاً ولا خضبت رجـلا
وفارقني ألفي فـألـفـيت بـعـده
دواعي الهم لا تفارقـنـي أصـلا
ثم أنها امتنعت من الطعام والشراب وزادت في البكاء والانتحاب وصار بكائها على رؤوس الأشهاد. واشتهر حزنها بين العباد والبلاد، وصار الناس يقولون أين عينك يا ضوء المكان ويا ترى ما جرى على كان ما كان حتى بعد عن وطنه وخرج من المكان. وكان أبوه يشبع الجيعان ويأمر بالعدل والإحسان، ووصل خبر كان ما كان إلى الملك سلسان. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السبعين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك سلسان وصل إليه خبر كان ما كان من الكبار وقال: إنه ولد ملكنا ومن ذرية الملك عمر النعمان وقد بلغنا أنه تغرب عن الأوطان. فلما سمع الملك سلسان هذا الكلام اغتاظ غيظاً شديداً وتذكر إحسان أبيه إليه وانه أوصاه عليه فحزن على كان ما كان وقال: لابد من التفتيش عليه في سائر البلاد ثم بعث في طلبه الأمير تركاش في مائة فارس فغاب عشرة أيام ثم رجع وقال له: ما اطلعت له على خبر ولا وقفت له على أثر. فحزن عليه الملك سلسان حزناً شديداً، وأما أمه فإنها صارت لا يقر لها قرار ولا يطاوعها اصطبار وقد مضى له عشرون يوماً. هذا ما كان من أمر هؤلاء.
و أما ما كان من أمر كان ما كان فإنه لما خرج من بغداد صار متحيراً في أمره ولم يدر إلى أين يتوجه، ثم إنه سافر في البر ثلاثة أيام وحده ولم ير راجلاً ولا فارساً فطار رقاده وزاد سهاده وتفكر أهله وبلاده وصار يتقوت من نبات الأرض ويشرب من أنهارها ويقبل وقت الحر تحت أشجارها، ثم خرج من تلك الطريق إلى طريق أخرى وسار فيها ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع أشرف على أرض معشبة الفلوات مليحة النبات وهذه الأرض قد شربت من كؤوس الغمام على أصوات القمري والحمام فاخضرت رباها وطاب فلاها فتذكر كان ما كان بلاد أبيه فأنشد من فرط ما هو فيه:
خرجت وفي أملي عودة
ولكني لست أدري متى
وشردني أنني لـم أجـد
سبيلاً إلى دفع ما قد أتى
فلما فرغ من شعره أكل من ذلك النبات وتوضأ وصلى ما كان عليه من الفريضة وجلس يستريح ومكث طول ذلك النهار، فلما جاء الليل نام واستمر نائماً إلى نصف الليل ثم انتبه فسمع صوت إنسان ينشد هذه الأبيات:
ما العيش إلا أن يرى لك بارق
من ثغر من تهوى ووجه رائق
والموت أسهل من صدود حبيبة
لم يغشني منها خـيال طـارق
يا فرحة الندماء حيث تجمعـوا
وأقام معشوق هناك وعاشـق
لا سيما وقت الربـيع وزهـره
طاب الزمان بما إليه تسابـق
يا شارب الصهباء دونك ما ترى
أرض مزخرفة ومـاء دافـق
فلما سمع كان ما كان هذه الأبيات هاجت به الأشجان وجرت دموعه على خده كالغدران وانطلقت من قلبه النيران فقام ينظر قائل هذا الكلام فلم ير أحداً في جنح الظلام فأخذه القلق ونزل في مكانه إلى أسفل الوادي ومشى على شاطئ النهر فسمع صاحب الصوت يصعد الزفرات وينشد هذه الأبيات:
إن كنت تضمر ما في الحب إشفاقاً
فأطلق الدمع يوم البين إطـلاقـا
بيني وبين أحبائي عـهـود هـوى
لذا إليهم أظل الدهر مـشـتـاقـا
يرتاح قلبي إلى تيم ويطـربـنـي
نسيم تيم إذا مـا هـب أشـواقـا
يا سعد هل ربة الخلخال تذكرنـي
بعد البعاد لنا عـهـداً ومـيثـاقـا
وهل تعود ليالي الوصل تجمعـنـا
يوماً ويشرح كل بعضٍ ما لاقـى
قالت فتنت بنا وجدا فقلـت لـهـا
كم قد فتنت رعاك الله عـشـاقـا
لا متع الله طرفي في محاسنـهـا
إن كان من بعدها طيب الكرى ذاقا
يا لسعة في فؤادي ما رأيت لـهـا
سوى الوصال ورشف الثغر ترياقا
فلما سمع كان ما كان هذه الأشعار من صاحب الصوت ثاني مرة ولم ير شخصه عرف أن القائل عاشق منع من الوصول إلى من يحبه فقال في نفسه: لعلي اجتمع بهذا فيشكو كل واحد لصاحبه وأجعله أنيسي في غيبتي، ثم تنحنح ونادى: أيها السائر في الليل العاكر تقرب مني وقص علي لعلك تجدني معيناً لك على بليتك. فلما سمع صاحب الصوت هذا الكلام أجابه قائلاً: أيها المنادي السامع لإنشادي من تكون من الفرسان وهل أنت من الأنس أو الجان؟ فعجل علي بكلامك قبل دنو حمامك وامش، فقال كان ما كان: لاتفعل يا أخا العرب لأن أهلي لا يشتروني بفضة ولا ذهب وأنا رجل فقر ولا معي قليل ولا كثير فدع عنك هذه الأخلاق واتخذني من الرفاق واخرج بنا من أرض العراق. فلما سمع صاحب الصوت هذا الكلام وكان اسمه صباح غضب وزاد به الالتهاب وقال له: ويلك تراددني في الجواب يا أخس الكلاب، أدر كتافك وإلا أنزلت عليك العذاب، فتبسم كان ما كان وقال: كيف أدير الكتاف، أما عندك أوصاف؟ أما تخشى معايرة العربان حيث تأسر غلاماً بالذل والهوان وما اختبرته في حومة الميدان وعلمت أهو فارس أم جبان؟.
فضحك صباح وقال: يا الله العجب إنك في سن الغلام ولكنك كبير الكلام لأن هذا القول لا يصدر إلا عن البطل المصدام. فقال كان ما كان: الإنصاف أنك إذا شئت أخذي أسيراً خادماً لك أن ترمي سلاحك وتخفف لباسك وتصارعني وكل من صرع صاحبه بلغ منه مرامه وجعله غلامه.
فضحك صباح وقال: ما أظن كثرة كلامك إلا لدنو حمامك، ثم رمى سلاحه وشمر أذياله ودنا من كان ما كان وتجاذبا فوجده البدوي يرجح عليه كما يرجح للقنطار على الدينار، ونظر إلى ثبات رجليه في الأرض فوجدهما كالمأذنتين المؤسستين أو الجبلين الراسخين فعرف في نفسه قصر باعه وندم على الدنو من صراعه وقال في نفسه: ليتني قاتلته بسلاحي، ثم إن كان ما كان قبضه وتمكن منه وهزه فأحس أن أمعاءه تقطعت في بطنه.
فصاح أمسك يدك يا غلام فلم يلتفت إلى ما أبداه من الكلام بل حمله من الأرض وقصد به النهر فناداه صباح قائلاً: أيها البطل ما تريد أن تفعل بي قال: أريد أن أرميك في هذا النهر فإنه يوصلك إلى دجلة، والدجلة يوصلك إلى نهر عيسى ونهر عيسى يوصلك إلى الفرات والفرات يلقيك إلى بلادك فيراك قومك فيعرفونك ويعرفون مروءتك وصدق محبتك. فصاح صباح ونادى: يا فارس البطاح لا تفعل فعل القباح أطلقني بحياة بنت عمك سيدة الملاح فحطه كان ما كان في الأرض فلما رأى نفسه خالصاً ذهب إلى ترسه وسيفه وأخذهما وصار يشاور نفسه على الهجوم عليه فعرف كان ما كان ما يشاور نفسه عليه فقال له: قد عرفت ما في قلبك حيث أخذت سيفك وترسك فإنه قد خطر ببالي أنه ليس لك يد في الصراع تطول، ولو كنت على فرس تجول لكنت بسيفك تصول وهاأنا أبلغك ما تختار حتى لا يبقى في قلبك إنكار فأعطني الترس واهجم علي بسيف فإما تقتلني أو أقتلك. فرمى الترس وجرد سيفه وهجم به على كان ما كان فتناول الترس بيمينه وصار يلاقي به عن نفسه وصار صباح يضربه ويقول: مابقي إلا هذه الضربة الفاصلة فيتلقاها كان ما كان وتروح ضائعة ولم يكن مع كان ما كان ما يضرب به ولم يزل صباح يضرب بالسيف حتى كلت يده وعرف كان ما كان ضعف قوته وانحلال عزيمته فهجم عليه وهزه وألقاه في الأرض وكتفه بحبائل سيفه وجره من رجليه إلى جهة النهر. فقال صباح: ما تريد أن تصنع بي يا فارس الزمان وبطل الميدان؟ قال: ألم أقل لك أنني أرسلك إلى قومك في النهر حتى لا يشغل خاطرهم عليك وتتعوق عن عرس بنت عمك فتضجر صباح وبكى وصاح وقال: لا تفعل بي يا فارس الزمان واجعلني لك من بعض الغلمان. ثم أفاض دمع العين وأنشد هذين البيتين:
تغربت عن أهلي فيا طول غربتي
ويا ليت شعري هل أموت غريبا
أموت وأهلي ليس تعرف مقتلـي
وأودي غريباً لا أزور حـبـيبـا
فرحمه كان ما كان، وأطلقه بعد أن أخذ عليه العهود والمواثيق أنه يصحبه في الطريق ويكون له نعم الرفيق، ثم إن صباحاً أراد أن يقبل يد كان ما كان فمنعه من تقبيلها، ثم قام البدوي إلى جرابه وفتحه وأخذ منه ثلاث قرصات شعير وحطها قدام كان ما كان وجلس معه على شاطئ النهر وأكلا مع بعضهما، ثم توضأ وصليا وجلسا يتحدثان فيم ألقياه من صروف هذا الزمان.
فقال كان ما كان للبدوي: أين تقصد؟ فقال صباح: أقصد بغداد بلدك، وأقيم بها حتى يرزقني الله بالصداق فقال له: دونك والطريق. ثم ودعه البدوي وتوجه في طريق بغداد وأقام كان ما كان وقال في نفسه: يا نفسي أي وجه للرجوع مع الفقر والفاقة والله لا أرجع خائباً ولابد لي من الفرج إن شاء الله تعالى، ثم تقدم إلى النهر وتوضأ وصلى. فلما سجد ووضع جبهته على التراب ونادى به ربه قائلاً: اللهم منزل القطر ورازق الدود في الصخر أسألك أن ترزقني بقدرتك ولطيف رحمتك ثم سلم من صلاته وضاق به كل مسلك.
فبينما هو جالس يلتفت يميناً وشمالاً وإذا بفارس أقبل على جواد، وقد اقتعد ظهره وأرخى عنانه فاستوى كان ما كان جالساً وبعد ساعة وصل إليه الفارس وهو في آخر نفس لأنه كان به جرح بالغ. فلما وصل إليه جرى دمعه على خده مثل أفواه القرب وقال لكان ما كان: يا وجه العرب اتخذني ما عشت لك صديقاً فإنك لا تجد مثلي واسقني قليلاً من الماء، وإن كان شرب الماء لا يصلح للجروح سيما وقت خروج الروح وإن عشت أعطيتك ما يدفع فقرك وإن مت فأنت المسعود بحسن نيتك وكان تحت الفارس حصان يتحير في حسنه الإنسان ويكل عن وصفه اللسان وله قوائم مثل أعمدة الرخام معد ليوم الحرب والزحام، فلما نظر كان ما كان إلى ذلك الحصان أخذه الهيام وقال في نفسه: إن هذا الحصان لا يكون في هذا الزمان ثم أنه أنزل الفارس ورفق به وجرعه يسيراً من الماء ثم صبر عليه حتى أخذ الراحة وأقبل عليه وقال له: من الذي فعل بك هذه الفعال؟ فقال الفارس: أن أخبرك بحقيقة الحال. إني رجل سلال غيار طول دهري أسل الخيل وأختلسها في الليل والنهار واسمي غصان آفة كل فرس وحصان وقد سمعت بهذا الحصان في بلاد الروم عند الملك أفريدون وقد سماه بالقانون ولقبه بالمجنون وقد سافرت إلى القسطنطينية من أجله وصرت أراقبه فبينما أنا كذلك إذ خرجت عجوز معظمة عند الروم وأمرها عندهم في الخداع متناهي تسمى شواهي ذات الدواهي، ومعها هذا الجواد وصحبتها عشرة عبيد لا غير برسم خدمة هذا الحصان وهي تقصد بغداد تريد الدخول على الملك سلسان لتطلب منه الصلح والأمان، فخرجت في أثرهم طمعاً في الحصان وما زلت أتابعهم، ولا أتمكن من الوصول إليه لأن العبيد شداد الحرس عليه إلى أن أتوا تلك البلاد وخفت أن يدخلوا مدينة بغداد، فبينما أنا أشاور نفسي في سرقة الحصان إذ طلع عليهم غبار حتى سد الأقطار ثم انكشف الغبار عن خمسين فارساً مجتمعين لقطع الطريق على التجار ورئيسهم يقال لهم كهرداش ولكنه في الحرب كأسد يجعل الأبطال كالفراش. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الحادية والسبعين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الفارس المجروح قال لكان ما كان: فخرج على العجوز ومن معها كهرداش ثم أحاط بهم وهاش وناش فلم تمض ساعة حتى ربط العشرة عبيد والعجوز وتسلم الحصان وسار بهم وهو فرحان فقلت في نفسي: قد ضاع تعبي وبلغت أربي ثم صبرت حتى أنظر ما يؤول الأمر إليه.
فلما رأت العجوز روحها في الأسر بكت وقالت لكهرداش: أيها الفارس الهمام والبطل الضرغام ماذا تصنع بالعجوز والعبيد وقد لغت من الحصان ما تريد؟ وخادعته بلين الكلام، وحلفت أنها تسوق له الخيل والأنعام فأطلقها هي والعبيد، ثم سار هو والعبيد وأصحابه وتبعتهم حتى وصلت إلى هذه الديار وانا ألاحظه. فلما وجدت إليه سبيلاً سرقته وركبته، وأخرجت من مخلاتي سوطاً فضربته، فلما أحسوا بيلحقوني وأحاطوا بي من كل مكان ورموني بالسهام والسنان وأنا ثابت عليه وهو يقاتل عني بيديه ورجليه إلى أن خرج بي من بينهم مثل النجم الطارق والسهم الراشق، ولكن لما اشتد الكفاح أصابني بعض الجراح وقد مضى لي على ظهره ثلاثة أيام ولم أستطعم بطعام وقد ضعفت مني القوى وهانت علي الدنيا أحسنت إلي وأشفقت علي وأراك عاري الجسد ظاهر عليك الكمد، ويلوح عليك أثر النعمة فما يقال لك؟.
فقال: أنا يقال لي كان ما كان ابن الملك ضوء المكانبن الملك عمر النعمان قد مات والدي وربيت يتيماً وتولى رجل لئيم وصار ملكاً على الحقير والعظيم ثم حدثه بحديثه من أوله إلى آخره. فقال الرجل السلال وقد رق له: إنك ذو حسب عظيم وشر جسيم وليس لك شأن وتصير أفرس هذا الزمان فإن قدرت أن تحملني وتركب ورائي وتوديني إلى بلادي يكن لك الشرف في الدنيا والجر في يوم التناد فإنه لم يبق لي قوة أمسك بها نفسي وإن أمت في الطريق فزت بهذا الحصان وأنت أولى به من كل إنسان. فقال له كان ما كان والله لو قدرت أن أحملك على أكتافي لفعلت ولو كان عمري بيدي لأعطيتك نصفه من غير هذا الجواد لأني من أهل المعروف وإغاثة الملهوف وفعل الخير لوجه الله تعالى يسد سبعين باباً من البلاء، وعزم على أن يمله على الحصان ويسير متوكلاً على اللطيف الخبير. فقال له: اصبر علي قليلاً ثم أغمض عينيه وفتح يديه وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله وتهيأ للممات وأنشد هذه الأبيات:
ظلمت العباد وطفـت الـبـلاد
وأمضيت عمري بشرب الخمور
وخضت السيول لسل الـخـيول
وهدم الطلول بفعل الـنـكـور
وأمري عظيم وجرمي جـسـيم
وفاتول منـي تـمـام الأمـور
وأملت أنـي أنـال الـمـنـى
بذاك الحصان فأعيا مـسـيري
وطول الحـياة أسـل الـخـيول
فكانت وفاتي عـنـد الـغـدير
وآخر أمـري أنـي تـعـبـت
لرزق الغري اليتيم الـفـقـير
فلما فرغ من شعره أغمض عينيه وفتح فاه وشهق شهقة ففارق الدنيا فحفر له كان ما كان حفرة وواراه التراب، ثم مسح وجه الحصان ورآه لا يوجد في حوزة الملك سلسان، ثم أتته الأخبار من التجار بجميع ما جرى في غيبته بين الملك سلسان والوزير دندان خرج عن طاعة الملك سلسان هو ونصف العسكر وحلفوا أنهم ما لهم سلطان إلا كان ما كان واستوثق منهم بالأيمان ودخل بهم إلى جزائر الهند والبربر وبلاد السودان واجتمع معهم عساكر مثل البحر الزاخر لا يعرف لهم أول من آخر وعزم على أن يرجع بجميع الجيوش إلى البلاد ويقتل من يخالفه من العباد وأقسم أنه لا يرد سيف الحرب إلى غمده حتى يملك كان ما كان.
فلما بلغته هذه الأخبار غرق في بحر الأفكار، ثم إن الملك سلسان علم أن الدولة انحرفت عليه الكبار والصغار فغرق في بحر الهموم والأكدار وفتح الخزائن وفرق على أرباب الدولة الأموال والنعم وتمنى أن يقدم عليه كان ما كان ويجذب قلبه إليه بالملاطفة والإحسان ويجعله أميراً على العساكر الذين لم يزالوا تحت طاعته لتقوى به شرارة جمرته، ثم إن كان ما كان لما بلغه ذلك الخبر من التجار رجع مسرعاً إلى بغداد على ظهر ذلك الجواد.
فبينما الملك سلسان في ربكته حيران إذ سمع بقدوم كان ما كان فأخرج جميع العساكر ووجهاء بغداد ولاقوه ومشوا قدامه إلى القصر ودخلت الطواشية بالأخبار إلى أمه فجاءت إليه وقبلته بين عينيه، فقال: يا أماهد عيني أمضي إلى عمي السلطان سلسان الذي غمرني بالنعمة والإحسان.
ثم إن أرباب الدولة تحيروا في وصف ذلك الحصان وفي وصف صاحبه سيد الفرسان وقالوا للملك سلسان: أيها الملك إننا ما رأينا مثل هذا الإنسان ثم ذهب الملك سلسان وسلم عليه.
فلما رآه كان ما كان مقبلاً عليه قام إليه وقبل يديه ورجليه وقدم إليه الحصان هدية فرحب به وقال: أهلاً وسهلاً بولدي كان ما كان، والله لقد ضاقت بي الأرض لأجل غيبتك والحمد لله على سلامتك.
و أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثانية والسبعين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك سلسان قال أهلاً وسهلاً بولدي كان ما كان والله لقد ضاقت بي الأرض لجل غيبتك والحمد لله على سلامتك، ثم نظر السلطان إلى هذا الحصان المسمى القانون، فعرف أنه الحصان الذي رآه سنة كذا وكذا في حصار عبدة الصلبان مع أبيه ضوء المكان حين قتل عمه شركان وقال له لو قدر عليه أبوك لاشتراه بألف جواد ولكن الآن عاد العز إلى أهله وقد قبلناه ومنا لك وهبنا هو أنت أحق به من كل إنسان لأنك سيد الفرسان. ثم أمر أن يحضر لكان ما كان خلعة سنية وجملة من الخيل وأفرد له في القصر أكبر الدور وأقبل عليه العز والسرور. وأعطاه مالاً جزيلاً وأكرمه غاية الإكرام لأنه كان يخشى عاقبة الوزير دندان ففرح بذلك كان ما كان وذهب عنه الذل والهوان ودخل بيته وأقبل على أمه وقال: يا أمي ما حال ابنة عمي، فقالت والله يا ولدي انه كان عندي من غيبتك ما شغلني عن محبوبتك فقال يا أمي اذهبي إليها وأبلي عليها لعلها تجود علي بنظرة فقالت له إن المطامع تذل أعناق الرجال فدع عنك هذا المقال لئلا يقضي بك إلى الوبال فأنا أذهب إليها ولأ أدخل بهذا الكلام عليها.
فلما سمع من أمه ذلك أخبرها بما قاله السلال من أن العجوز ذات الدواهي طرقت البلاد وعزمت على أن تدخل بغداد وقال هي التي قتلت عمي وجدي ولا بد أن أكشف العار وآخذ بالثأر ثم ترك أمه وأقبل على عجوز عاهرة محتالة ماكرة اسمها سعدانة وشكا إليها حاله وما تجده من حب قضي فكان وسألها أن تتوجه العجوز إليها وتستعطفها عليه، فقالت له العجوز سمعاً وطاعة ثم فارقته ومضت إلى قصر قضي فكان واستعطفت قلبها عليه، ثم رجعت إليه وأعلمته بأن قضي فكان تسلم عليه ووعدتها أنها في نصف الليل تجيء إليه.
و أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثالثة والسبعين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن العجوز قالت لكان ما كان بأنها ستجيء إليك في نصف الليل ففرح لوعد ابنة عمه قضي فكان، فلما جاء نصف الليل أتته بملاءة سوداء من الحرير ودخلت عليه ونبهته من نومه وقالت له كيف تدعي أنك تحبني وأنت خلي البال نائم على أحسن حال، فانتبه وقال والله يا منية القلب أني ما نمت إلا طمعاً في أن يزورني منك طيف الخيال فعند ذلك عاتبت بعتاب لطيف
لو كنت تصدق في المحبة
ما جنحت إلى المـنـام
يا مدعي طرق المحـبة
في المـودة والـغـرام
والله يا ابـن الـعـم مـا
رقدت عيون المستهـام
فاستحيا منها كان ما كان، وتعانقا وتشاكيا ألم الفراق وعظيم الوجد والاشتياق ولم يزالا كذلك إلى أن بدت غرة الصباح وطلع الفجر ولاح فبكى كان ما كان بكاءً شديداً وصعد الزفرات وأنشد هذه الأبيات:
فيا زائري من بعد فرط صـدوده
وفي الثغر منه الدر في نظم عقده
فقبلته ألـفـاً وعـانـقـت قـده
وبت وخدي لاصق تحـت خـده
إلى أن بدا نور الصباح فراعـنـا
كحد حسام لاح من جوف غمـده
فلما فرغ من شعره ودعته قضي فكان ورجعت إلى خدرها وأظهرت بعض الجواري على سرها فذهبت جارية منهن إلى الملك سلسان وأعلمته بالخبر فتوجه إلى قضي فكان وجرد عليها الحسام وأراد أن يضرب عنقها فدخلت عليه أمها نزهة الزمان، وقالت له بالله لا تفعل بها ضرراً فإنك إن فعلت بها ضرراً يشيع الخبر بين الناس وتبقى معيرة عند ملوك الزمان وإن كان ما كان صاحب عرض ومروءة ولا يفعل أمراً يعاب عليه فاصبر ولا تعجل فإن أهل القصر وجميع بغداد قد ضاع عندهم أن الوزير دندان، قاد العسكر من جميع البلدان وجاء بهم ليملكوا كان ما كان.
فقال لها لابد أن أرميه في بلية بحيث لا أرض تقله ولا سماء تظلله وإني ما طيبت خاطره إلا لأجل أهل مملكتي، لئلا يميلوا إليه وسوف ترين ما يكون، ثم تركها وخرج يدير أمر مملكته هذا ما كان من أمر الملك سلسان. وأما كان ما كان فإنه أقبل على أمه في ثاني يوم وقال لها: يا أمي إني عزمت على شن الغارات وقطع الطرقات وسوق الخيل والنعم والعبيد والمماليك وإذا كثر مالي وحسن حالي خطبت قضي فكان من عمي سلسان، فقالت: يا ولدي إن أموال الناس غير سائبة، لأن دونها ضرب الصفاح وطعن الرمح ورجالاً تقتنص الأسود وتصيد الفهود فقال لها كان ما كان: هيهات أن أرجع عن عزيمتي إلا إذا بلغت منيتي ثم أرسل العجوز إلى قضي فكان ليعلمها أنه يريد السير حتى يحصل لها مهراً يصلح لها وقال للعجوز لابد أن تأتيني منها بالجواب. فقالت له: سمعاً وطاعة ثم ذهبت إليها ورجعت له بالجواب. وقالت له إنها في منتصف الليل تكون عندك فأقام سهران إلى نصف الليل من قلقه فلم يشعر إلا وهي داخلة عليه وتقول له: روحي فداك من السهر فنهض لها قائماً وقال: يا منية القلب روحي فداك من جميع الأسواء ثم أعلمها بما عزم عليه فبكت فقال لها: لا تبكي يا بنت العم فأنا الذي حكم علينا بالفراق أن يمن علينا بالتلاق والوفاق ثم إن كان ما كان أخذ في السفر ودخل عل أمه وودعها ونزل من القصر ونقله بسيفه ونعمم وتلثم وركب جواده القانون ومشى في شوارع المدينة وهو كالبدر حتى وصل إلى باب بغداد وإذا برفيقه صباح بن رباح خارج من المدينة، فلما رآه جرى في ركابه وحياه فرد عليه السلام فقال صباح يا أخي كيف صار لك هذا الجواد وهذا المال، وأنا الآن لا أملك غير سيفي؟ فقال له كان ما كان: لا يرجع الصياد بصيد إلا إلى قدر نبته وبعد فراقك بساعة حصلت لي السعادة وهل لك أن تأتي معي وتخلص النية في صحبتي ونسافر في تلك البرية؟ فقال: ورب الكعبة ما بقيت أدعوك إلا مولاي ثم جرى قدام الجواد وسيفه على عاتقه وجرابه بين كتفيه ولم يزالا سائرين في البر أربعة أيام وهما يأكلان من صيد الغزلان ويشربان من ماء العيون وفي اليوم الخامس أشرفا على تلٍ عال تحته مراتع فيهاإبل وغنم وبقر خيل قد ملأت الروابي والبطاح وأولادها الصغار تلعب حول المراح.
فلما رأى ذلك كان ما كان، زادت به الأفراح وامتلأ صدره بالإنشراح وعول على القتال وأخذ النياق والجمال فقال لصباح: انزل بنا على هذا المال الذي عن أهله وحيد ونقاتل دونه القريب والبعيد حتى يكون لنا في أخذه نصيب فقال صباح: يا مولاي إن أصحابه خلق كثير وجم غفير وفيهم أبطال من فرسان ورجال وإن رمينا أرواحنا في هذا الخطب الجسيم فإننا نكون من هوله على خطر عظيم فضحك كان ما كان وعلم أنه جبان فتركه وانحدر من الرابية عازماً على شن الغارات وترنم بإنشاد هذه الأبيات:
وآل نعمان هم ذوو الهـمـم
والسادة الضاربون في القسم
قوم إذا ما الهياج قام لـهـم
قاموا بأسواقه علـى قـدم
تنام عين الفقـير بـينـهـم
ولا يرى قبح صور العـدم
وإنني أرتـجـي مـعـاونة
من مالك الملك بارئ النسم
ثم حمل على ذلك المال مثل الجمل الهائج وساق جميع الإبل والبقر والغنم والخيل قدامه فتبادرت إليه العبيد بالسيوف النقال والرماح الطوال وفي أولهم فارس تركي إلا أنه شديد الحرب والكفاح عارف بأعمال سمر القنا وبيض الصفاح فحمل على كان ما كان وقال له: ويلك لو علمت لمن هذا المال ما فعلت هذه الفعال، اعلم أن هذه الأموال للعصابة الرومية والفرقة الجركسية الذين ما فيهم إلا كل بطل عابس وهم مائة فارس قد خرجوا عن طاعة كل سلطان وقد سرق منهم حصان وحلفوا بان لا يرجعوا من هنا إلا به.
فلما سمع كان ما كان هذا الكلام صاح قائلاً: هذا هو الحصان الذي تعنون وأنتم له طالبون وفي قتالي بسببه راغبون فبارزوني كلكم أجمعون وشانكم وما تريدون، ثم صرخ بين أذني القانون فخرج عليهم مثل الغول وعطف على الفارس وطعنه فأخرج كلاه ومال على ثانٍ وثالث ورابع فأعدمهم الحياة فعند ذلك هابته العبيد فقال لهم: يا بني الزواني سوقوا المال والخيول وإلا خضبت من دمائكم سناني فساقوا المال وأخذوا في الانطلاق وانحدر إليه صباح وأعلن بالصياح وزادت به الأفراح وإذا بغبار قد علا وطار حتى سد الأقطار وبان من تحته مائة فارس مثل الليوث العوابس. فلما رآهم صباح فر إلى الرابية وترك البطاح وصار يتفرج على الكفاح، وقال ما أنا بفارس إلا في اللعب والمزاح ثم إن المائة فارس داروا حول كان ما كان وأحاطوا به من كل مكان فتقدم إليه منهم وقال: أين تذهب بهذا المال؟ فقال له كان ما كان: دونك والقتال واعلم أم من دونه أسداً أروع وبطل صميدع وسيفاً أينما مال قطع فلما سمع الفارس ذلك الكلام لتفت إليه فرآه فارساً كالأسد الضرغام إلا أن وجهه بدر التمام وكان ذلك الفارس رئيس المائة فارس واسمه كهرداش.
فلما رأى كان ما كان مع كمال فروسيته بديع المحاسن يشبه حسنه حسن معشوقة له يقال لها فاتن وكانت من أحسن النساء وجهاً قد أعطاها الله من الحسن والجمال وكرم الخصال ما يعجز عن وصفه اللسان ويشغل قلب كل إنسان وكانت فرسان القوم تخشى سطوتها وأبطال ذلك القطر تخاف هيبتها وحلفت أنها لا تتزوج إلا من يقهرها وكان كهرداش من جملة خطابها فقالت لأبيها: ما يقربني إلا من يقهرني في الميدان وموقف الحرب والطعان. فلما بلغ كهرداش هذا القول اختشى أن يقاتل جارية وخاف من العار فقال في بعض خواصه: أنت كامل الخصال في الحسن والجمال فلو قاتلتها وكانت أقوى منك فإنك تغلبها لأنها إذا رأت حسنك وجمالك تنهزم قبالك حتى تملكها لأن النساء لهن غرض في الرجال ولا يخفى عنك هذا الحال، فأبى كهرداش وامتنع من قتالها واستمر على امتناعه من القتال إلى أن جرت له مع كان ما كان هذه الأفعال فظن أنه محبوبته فاتن قد عشقته لما سمعت بحسنه وشجاعته فتقدم إلى كان ما كان وقال: ويلك يا فاتن قد أتيت لتريني شجاعتك فانزلي عن جوادك حتى أتحدث معك فإني قد سقت هذه الأموال وقطعت الطريق على الفرسان والأبطال وكل هذا لحسنك وجمالك الذي ما له مثيل وتزوجيني حتى تخدمك بنات الملوك وتصيري ملكة هذه الأقطار.
فلما سمع كان ما كان هذا الكلام صارت ناره غيظه في اضطرام وقال: ويلك يا كلب الأعجام دع فاتناً وما بها ترتاب وتقدم إلى الطعن والضراب فعن قليل تبقى على التراب ثم صال وجال وطلب الحرب والنزال فلما نظر كهرداش إليه علم أنه فارس همام وبطل مصدام وتبين خطأ ظنه حيث لاح له عذار أخضر فوق خده كآس نبت خلال ورد أحمر وقال للذين معه: ويلكم ليحمل واحد منكم عليه ويظهر له السيف البتار والرمح الخطار واعلموا أن قتال الجماعة للواحد عار ولو كان في سنان رمحه بشعلة نار فعند ذلك حمل عليه فارس تحته جواد أدهم بتحجيل وغرة كالدرهم يحير العقل والناظر كما قال فيه الشاعر:
قد جاءك المهر الذي نزل الوغى
جذلان يخلط أرضه بسـمـائه
وكأنما لطم الصبـاح جـبـينـه
واقتص منه فخاض في أحشائه
ثم إن الفارس حمل عليه كان ما كان وتجاولا في الحرب برهة من الزمان وتضاربا ضرباً يحير الأفكار ويغشي الأبصار فسبقه كان ما كان بضربة بطل شجاع قطعت منه العمامة والمغفر فمال عن جواده كأنه البعير إذا انحدر وحمل عليه الثاني والثالث والرابع والخامس ففعل بهم كالأول، ثم حمل عليه الباقون وقد اشتد بهم القلق وزادت الحرق فما كان إلا ساعة التقطهم بسنان رمحه. فنظر كهرداش إلى هذا الحال فخاف من الإرتحال وعرف من نفسه أن عنده ثبات الجنان واعتقد أنه أوجد الأبطال والفرسان فقال لكان ما كان: قد وهبت لك دمك ودم أصحابي فخذ من المال ما شئت واذهب إلى حال سبيلك فقد رحمتك لحسن شبابك والحياة أولى بك، فقال له كان ما كان: لا عدمت مروءة الكرام ولكن اترك عنك هذا الكلام وفز بنفسك ولا تخشى الملام ولا تطمع نفسك في رد الغنيمة واسلك لنجاة نفسك طريقة مستقيمة فعند ذلك اشتد بكهرداش الغضب وحصل عنده ما يوجب العطب فقال لكان ما كان: ويلك لو عرفت من أنا ما نطقت بهذا الكلام في حومة الزحام فاسأل عني الأسد البطاش المعروف بكهرداش الذي نهب الملوك الكبار وقطع الطريق على جميع السفار وأخذ أموال التجار وهذا الحصان الذي تحتك طلبتي وأريد أن تعرفني كيف وصلت إليه حتى استوليت عليه، فقال: اعلم أن هذا الجواد كان سائراً إلى عمي الملك سلسان تحت عجوز كبيرة ولنا عندها ثأر من جهة جدي الملك عمر النعمان وعمي الملك شركان، فقال كهرداش: ويلك ومن أبوك لا أم لك فقال: اعلم أني كان ما كان ابن الملك ضوء المكان بن عمر النعمان. فلما سمع كهرداش هذا الخطاب قال: لا يستنكر عليك الكمال والجمع بين الفروسية والجمال، ثم قال له: توجه بأمان فإن أباك كان فضل وإحسان فقال له كان ما كان: أنا والله ما أوقرك يا مهان، فاغتاظ البدوي ثم حمل كل منهما على صاحبه فشدت لهما الخيل أذانها ورفعت أذنابها ولم يزالا يصطدمان حتى ظن كل منهما أن السماء قد انشقت، ثم بعد ذلك تقاتلا ككباش النطاح واختلفت بينهما طعنات الرماح فحاوله كهرداش بطعنة فزاغ عنها كان ما كان ثم كر عليه وطعنه في صدره فطلع السنان يلمع من ظهره وجمع الخيل والأسلاب وصاح في العبيد: دونكم والسوق الشديد.
فنزل عند ذلك صباح وجاء إلى كان ما كان وقال له: أحسنت يا فارس الزمان إني دعوت لك واستجاب ربي دعائي، ثم إن صباح قطع رأس كهرداش فضحك كان ما كان وقال له: ويلك يا صباح إني كنت أظن أنك فارس الحرب والكفاح فقال: لا تنسى عبدك من هذه الغنيمة لعلي أصل بسببها إلى زواج بنت عمي نجمة فقال له: لا بد لك من نصيب ولكن كن محافظاً على الغنيمة والعبيد، ثم إن كان ما كان سار متوجهاً إلى الديار ولم يزل سائراً بالليل والنهار حتى أشرف على مدينة بغداد وعلمت به جميع الأجناد ورأوا ما معه من الغنيمة والأموال ورأس كهرداش على رمح صباح وعرف التجار رأس كهرداش ففرحوا وقالوا: لقد أراح الله الخلق منه لأنه كان قاطع الطريق وتعجبوا من قتله ودعوا لقاتله، وأتى أهل بغداد إلى كان ما كان بما جرى من الأخبار فهابته جميع الرجال وخافته الفرسان والأبطال وساق ما معه إلى أن أوصله تحت القصر وركز الرمح الذي عليه رأس كهرداش إلى باب القصر وهب للناس وأعطاهم الخيل والجمال فأحبه أهل بغداد ومالت إليه القلوب ثم أقبل على صباح وأنزله في بعض الأماكن الفساح ثم دخل على أمه وأخبرها بما جرى له في سفره.
وقد وصل إلى الملك خبره فقام من مجلسه واختلى بخواصه وقال لهم: اعلموا أني أريد البوح لكم بسري وأبدي لكم مكنون أمري اعلموا أن كان ما كان هو الذي يكون سبباً لانقلاعنا من هذه الأوطان لأنه قتل كهرداش مع أن قبائل من الأكراد والأتراك وأمرنا معه يل إلى الهلاك وأكثر خوفنا من أقاربه، وقد علمتم بما فعل الوزير دندان فإنه جحد معروفي بعد الإحسان وخانني في الأيمان وبلغني أنه جمع عساكر البلدان وقصد أن يسلطن كان ما كان لأن السلطنة كانت لأبيه وجده، ولا شك أنه قاتلي لا محالة. فلما سمع خواً مملكته منه هذا الكلام قالوا له: أيها الملك إنه أقل من ذلك ولولا أننا علمنا بأنه تربيتك لم يقبل عليه منا أحد واعلم أننا بين يديك إن شئت قتله قتلناه وإن شئت ابعاده أبعدناه، فلما سمع كلامهم قال: إن قتله هو الصواب ولكن لابد من أخذ الميثاق فتحالفوا على أنهم لا بد أن يقتلوا كان ما كان فإذا أتى الوزير دندان وسمع بقتله تضعف قوته عما هو عازم عليه. فلما أعطوه العهد والميثاق على ذلك أكرمهم غاية الإكرام ثم دخل بيته وقد تفرق عنه الرؤساء وامتنعت العساكر من الركوب والنزول حتى يبصروا ما يكون لأنهم رأوا غالب العسكر مع الوزير دندان، ثم إن الخبر وصل إلى قضى فكان فحصل عندها غم زائد وأرسلت إلى العجوز التي عادتها أن تأتيها من عند ابن عمها بالأخبار فلما حضرت عندها أمرتها أن تذهب إليه وتخبره بالخبر، فلما سمع ذلك قال: بلغي بنت عمي سلامي وقولي لها: إن الأرض لله عز وجل يورثها من يشاء من عباده، وما أحسن قول الشاعر:
الملك لله ومن يظفر بنيل منـي
يردده قهر ويضمن عنده الدركا
لو كان لي أو لغيري قدر أنملة
من التراب لكان الأمر مشتركا
فرجعت العجوز إلى بنت عمه وأخبرتها بما قاله وأعلمتها بأن كان ما كان أقام في المدينة، ثم إن الملك سلسان صار ينتظر خروجه من بغداد ليرسل وراءه من يقتله فاتفق أنه خرج إلى الصيد والقنص وخرج صباح معه لأنه كان لا يفارقه ليلاً ولا نهاراً فاصطاد عشر غزلان وفيهن غزالة حلاء العيون صارت تتلفت يميناً وشمالاً فأطلقها فقال له صباح: لأي شيء أطلقت هذه الغزالة؟ فضحك كان ما كان وأطلق الباقي وقال: إن من المروءة إطلاق الغزلان التي لها أولاد وما تتلفت تلك الغزالة إلا لأن لها أولاد فأطلقتها وأطلقت الباقي في كرامتها. فقال له صباح: أطلقني حتى أروح إلى أهلي فضحك وضربه بعقب الرمح على قلبه فوقع على الأرض يتلوى كاثعبان، فبينما هما كذلك وإذا بغبرة سائرة وخيل تركض وبان من تحتها فرسان شجعان وسبب ذلك أن الملك سلسان أخبروه أن كان ما كان خرج إلى الصيد والقنص فأرسل أمير من الديلم يقال له جامع ومعه عشرين فراساً ودفع لهم المال ثم أمرهم أن يقتلوا كان ما كان فلما قربوا منه حملوا عليه وحمل عليهم فقتلهم عن آخرهم وإذا بالملك سلسان ركب وسار ولحق بالعسكر فوجدهم مقتولين فتعجب ورجع وإذا بأهاليهم قبضوا عليه وشدوا وثاقه، ثم إن كان ما كان توجه بعد ذلك من المكان وتوجه معه صباح البدوي. فبينما هو سائر في صريقه رأى شاباً على باب داره فألقى كان ما كان عليه السلام فرد الشاب عليه السلام ثم دخل وخرج ومعه قصعتان إحداهما فيها لبن والثانية ثريد والسمن في جوانبها يموج ووضع القصعتين قدام كان ما كان وقال له: تفضل علينا بالأكل من زادنا فامتنع كان ما كان وقال له الشاب: مالك أيها الإنسان لا تأكل؟ فقال له كان ما كان: اعلم أن الملك سلسان غصب ملكي ظلماً وعدواناً ثم إن ذلك الملك كان لأبي وجدي من قبلي فاستولى عليه قهراً بعد موت أبي ولم يعتبرني لصغر سني فنذرت أنني لا آكل لأحد زاد حتى أشفي فؤادي من غريمي. فقال له الشاب: ابشر فقد وفى الله نذرك واعلم أنه مسجون في مكان وأظنه يموت قريباً، فقال له كان ما كان: في أي بيت هو معتقل؟ فقال له: في تلك القبة العالية فنظر كان ما كان إلى قبة عالية ورأى الناس في تلك القبة يدخلون وعلى سلسان يلطمون وهو يتجرع غصن المنون فقام كان ما كان ومشى حتى وصل إلى تلك القبة وعاين ما فيها ثم عاد إلى موضعه وقعد على الأكل وأكل ما تيسر ووضع ما بقي من اللحم في مزودة ثم جلس مكانه ولم يزل جالساً إلى أن أظلم الليل ونام الشاب الذي ضيفه ثم ذهب كان ما كان إلى القبة التي فيها سلسان وكان حولها كلاب يحرسونها فوثب عليه كلب من الكلاب فرمى له قطعة لحم من الذي في مزوده وما زال يرمي للكلاب لحماً حتى وصل إلى القبة وتوصل إلى أن صار عند الملك سلسان ووضع يده على رأسه، فقال له بصوت عال: من أنت؟ فقال: أن كان ما كان الذي سعيت في قتله فأوقعك الله في سوء تدبيرك أما يكفيك أخذ ملكي وملك أبي وجدي حتى تسعى في قتلي؟ فحلف له الملك سلسان الأيمان الباطلة أنه لم يسع في قتله وأن هذا الكلام غير صحيح فصفح عنه كان ما كان وقال له: اتبعني فقال: لا أقدر أن أخطو خطوة واحدة لضعف قوتي، فقال كان ما كان: إذا كان الأمر كذلك نأخذ لنا فرسين ونركب أنا وأنت ونطلب البر ثم فعل كما قال وركب هو وسلسان وسارا حتى الصباح ثم صليا الصبح وسارا ولم يزالا كذلك حتى وصلا إلى بستان فجعلا يتحدثان فيه ثم قام كان ما كان إلى سلسان وقال له: هل بقي في لقبك من أمر تكرهه؟ قال سلسان: لا والله ثم اتفقوا على أنهم يرجعا إلى بغداد.
فقال صباح البدوي أنا أسبقكما لأبشر الناس فسبق يبشر النساء والرجال فخرجت إليه الناس بالدفوف والمزامير وبرزت قضي فكان وهي مثل البدر بهي الأنوار في دياجي الإعتكار فقابلها كان ما كان وحنت الأرواح للأرواح واشتاقت الأشباح للأشباح ولم يبق لأهل القصر حديث إلا في كان ما كان وشهد له الفرسان أنه أشجع أهل الزمان وقالوا: لا يصلح أن يكون سلطاناً علينا إلا كان ما كان ويعود إلى ملك جده كما كان وأما سلسان فإنه دخل على نزهة الزمان فقالت له: إني أرى الناس ليس لهم حديث إلا في كان ما كان ويصفونه بأوصاف يعجز عنها اللسان. فقال لها: ليس الخبر كالعيان، فإني رأيته ولم أر فيه صفة من صفات الكمال وما كل ما يسمع يقال ولكن الناس يقلد بعضهم بعضاً في مدحه ومحبته وأجرى الله على ألسنة الناس مدحه حتى مالت إليه قلوب أهل بغداد والوزير دندان الغادر الخوان قد جمع له عساكر من سائر البلدان ومن الذي يكون صاحب الأقطار ويرضى أي يكون تحت يد حاكم يتيم ما له مقدار فقالت له نزهة الزمان: وعلى ماذا عولت؟ قال: عولت على قتله ويرجع الوزير دندان خائباً في قصده، ويدخل تحت أمري وطاعتي ولا يبقى له إلا خدمتي فقالت له نزهة الزمان: الغدر قبيح بالأجانب فكيف بالأقارب والصواب أن تزوجه ابنتك قضي فكان وتسمع ما قيل فيما مضى من الزمان:
إذا رفع الزمان عليك شخصـاً
وكنت أحق فمنه ولو تصاعـد
أنله حتـى رتـبـتـه تـجـده
ينيلك إن دنوت وإن تـبـاعـد
ولا تقـل الـذي تـدريه فـيه
تكن ممن عن الحسنى تقاعـد
فكم في الخدر أبهى من عروسه
ولكن للعروس الدهر سـاعـد
فلما سمع سلسان هذا الكلام وفهم الشعر والنظام قام مغضباً من عندها وقال: لولا أني أعرف أنك تمزحين لعلوت رأسك بالسيف وأخمدت أنفاسك، فقالت: حيث غضبت مني فأنا أمزح معك ثم وثبت إليه وقبلت رأسه ويديه وقالت له: الصواب ما تراه وسوف أتدبر أنا وأنت في حيلة نقتله بها. فلما سمع منها هذا الكلام فرح وقال لها: عجلي بالحيلة وفرجي كربتي فلقد ضاق علي باب الحيل فقالت له: سوف أتحيل لك على إتلاف مهجته فقال لها: بأي شيء؟ فقالت له: بجاريتنا التي اسمها باكون فإنها بالمكر ذات فنون وكانت هذه الجارية من أنحس العجائز وعدم الخبث في مذهبها غير جائز وكانت ربت كان ما كان وقضي فكان غير أن كان ما كان يميل إليها كثيراً ومن فرط ميله كان ينام تحت رجليها. فلما سمع الملك سلسان من زوجته هذا الكلام قال: إن هذا الرأي هو الصواب، ثم أحضر الجارية باكون وحدثها بما جرى وأمرها أن تسعى في قتله ووعدها بكل جميل، فقالت له: أمرك مطاع ولكن أريد يا مولاي أن تعطيني خنجراً قد سقي بماء الهلاك لأعجل لك بإتلافه فقال لها سلسان: مرحباً بك ثم أحضر لها خنجراً يكاد أن يسبق القضاء وكانت هذه الجارية قد سمعت الحكايات والأشعار وتحفظ النوادر والأخبار فأخذت الخنجر وخرجت من الديار مفكرة فيما يكون به الدمار وأتت إلى كان ما كان وهو قاعد ينتظر وعد السيدة قضي فكان وكان في تلك الليلة قد تذكر بنت عمه قضي فكان فالتهبت من حبها في قلبه النيران.
فبينما هو كذلك وإذا بالجارية باكون داخلة عليه وهي تقول: آن أوان الوصال ومضت أيام الإنفصال فلما سمع ذلك قال لها: كيف حال قضي فكان فقالت له باكون: اعلم أنها مشتغلة بحبك فعند ذلك قام كان ما كان إليها وخلع أثوابها عليها ووعدها بكل جميل فقالت له: اعلم أنني أنام عندك الليلة وأحدثك بما سمعت من الكلام وأسليك بحديث كل متيم أمرضه الغرام، فقال له كان ما كان: حدثيني بحديث يفرح به قلبي ويزول به كربي فقالت له باكون: حباً وكرامةً ثم جلست إلى جانبه وذلك الخنجر من داخل أثوابها، فقالت له: اعلم أن أعذب ما سمعت أذني أن رجلاً كان يعشق الملاح وصرف عليهن ماله حتى افتقر وصار لا يملك شيئاً فضاقت عليه الدنيا فصار يمشي في الأسواق ويفتش على شيء يقتات به بينما هو ماش وإذا بقطعة مسمار شكته في إصبعه فسال دمه فقعد ومسح الدم وعصب إصبعه ثم قال وهو يصرخ، حتى جاز على الحمام ودخلها ثم قلع ثيابه فلما صار داخل الحمام وجدها نظيفة فجلس على الفسقية وما زال ينزح الماء على رأسه إلى أن تعب. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الرابعة والسبعين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد، ثم خرج إلى الحوض البارد فلم يجد أحداً فاختلى بنفسه وأطلع قطعة حشيش وبلعها فساحت في مخه فانقلب على الرخام وخيل له الحشيش أن مهتاراً كبيراً يكبسه وعبدين واقفان على رأسه واحد معه الطاسة والآخر معه آلة الحمام وما يحتاج إليه البلان فلما رأى ذلك قال في نفسه: كأن هؤلاء غلطوا في أو من طائفتنا الحشاشين، ثم إنه مد رجليه فتخيل له أن البلان قال له: يا سيدي قد أزف الوقت على طلوعك، واليوم نوبتك فضحك وقال في نفسه: ما شاء الله يا حشيش ثم قعد وهو ساكت، فقام البلان وأخذ بيده وأدار على وسطه مئزراً من الحرير الأسود ومشى وراءه العبدان بالطاسات والحوائج ولم يزالا به حتى أدخلاه الخلوة، وأطلقا فيها البخور فوجدها ملآنة من سائر الفواكه والمشموم، وشقا له بطيخة وأجلساه على كرسي من الآبنوس ووقف البلان يغسله والعبدان يصبان الماء ثم دلكوا دلكاً جيداً وقالوا له: يا مولانا الصاحب نعيم دائم، ثم خرجوا وردوا عليه الباب.
فلما خيل له ذلك قام ورفع المئزر من وسطه وصار يضحك إلى أن غشي عليه واستمر ساعة يضحك، ثم قال في نفسه: ما لهم يخاطبونني خطاب الوزير ويقولون: يا مولانا الصاحب فلعل الأمر التبس عليهم في هذه الساعة بعد ذلك يعرفونني ويقولون هذا زليط ويشبعون صكاً في رقبتي، ثم إنه استحمى وفتح الباب، فتخيل له أن مملوكاً صغيراً وطواشياً قد دخلا عليه فالمملوك معه بقجة ففتحها وأخرج منها ثلاث فوط من الحرير فرمى الأولى على رأسه والأخرى على أكتافه وحزمه بالثالثة، وقدم له الطواشي قبقاباً فلبسه وأقبلت عليه مماليكه وطواشيه وصاروا يستندونه وكل ذلك حصل وهو يضحك إلى أن خرج وطلع الليوان فوجد فرشاً عظيماً، لا يصلح إلا للملوك وتبادرت إليه الغلمان وأجلسوه على المرتبة وصاروا يكبسونه، حتى غلب عليه النوم.
فلما نام رأى في حضنه صبية فباسها ووضعها بين فخذيه وجلس منها مجلس الرجل من المرأة وقبض ذكره بيده وسحبها وعصرها تحت عنده وإذا بواحد يقول: إنتنبه يا زليط قد جاء الظهر وأنت نائم ففتح عينيه فوجد نفسه على الحوض البارد وحول هجماعة يضحكون عليه وعضوه قائم والفوطة انحلت من وسطه وتبين له كل هذا أضغاث أحلام أو تخيلات حشيش فاغتم ونظر إلى الذي نبهه وقال: كنت اصبر حتى أحطه فقال له الناس: أما تستحي يا حشاش وأنت نائم وذكرك قائم وصكوه حتى احمر قفاه وهو جيعان وقد ذاق طعم السعادة في المنام. فلما سمع كان ما كان من الجارية هذا الكلام ضحك حتى استلقى على قفاه وقال لباكون: يا دادتي إن هذا حديث عجيب فإني ما سمعت مثل هذه الحكاية فهل عندك غيرها؟ فقالت، ثم إن الجارية باكون لم تزل تحدث كان ما كان بمخاوف حكايات ونوادر مضحكات حتى غلبه النوم ولم تزل تلك الجارية جالسة عند رأسه حتى مضى غالب الليل فقالت في نفسها: هذا وقت تجوز الفرصة ثم نهضت وسلت الخنجر ووثبت على كان ما كان وأرادت ذبحه وإذ بأم كان ما كان دلت عليهما فلما رأتها باكون قامت لها واستقبلتها، ثم لحقها الخوف فصارت تنتفض كأنها الحمى فلما رأتها أم كان ما كان تعجبت ونبهت ولدها من النوم.
فلما استيقظ وجد أمه جالسة فوق رأسه وكان السبب في حياته مجيئها وسبب مجيء أمه أن قضي فكان سمعت الحديث والإتفاق على قتله فقالت لأمه: يا زوجة العم الحقي ولدك قبل أن تقتله العاهرة باكون وأخبرتها بما جرى من أوله إلى آخره فخرجت وهي لا تعقل شيئاً حتى دخلت في الساعة التي نام فيها وهمت باكون عليه تريد ذبحه فلما استيقظ قال لأمه: لقد جئت يا في وقت طيب ودادتي باكون حاضرة عندي في تلك الليلة، ثم التفت إلى باكون وقال لها: بحياتي عليك هل تعرفين حكاية أحسن من هذه الحكاية التي جدلتيني بها؟ فقالت له: وأين ما حدثتك به سابقاً مما أحدثك به الآن فإنه أعذب وأغرب ولكن أحكيه لك في غير هذا الوقت ثم قامت باكون وهي لا تصدق بالنجاة فقاله لها ك مع السلامة، ولمحت بمكرها أن أمها عندها خبر بما حصل فذهبت إلى حالها.
فعند ذلك قالت له والدته: يا ولدي هذه ليلة مباركة حيث نجاك الله من الملعونة فقال لها: وكيف ذلك؟ فأخبرته بالأمر من أوله إلى آخره فقال لها: يا والدتي الحي ما له قاتل وإن قتل لا يموت ولكن الأحوط لنا أن نرحل عن هؤلاء الأعداء والله يفعل ما يريد.
فلما أصبح الصباح خرج كان ما كان من المدينة واجتمع بالوزير دندان، وبعد خروجه حصلت أمور بين الملك سلسان ونزهة الزمان أوجبت خروج نزهة الزمان أيضاً من المدينة فاجتمعت بهم واجتمع عليهم جميع أرباب دولة الملك سلسان الذين يميلون إليهم فجلسوا يدبرون الحيلة، فاجتمع رأيهم على غزو ملك الروم وأخذ الثأر فلما توجهوا إلى غزو ملك الروم وقعوا في أسر الملك رومزان بعد أمور يطول شرحها كما يظهر من السياق.
فلما أصبح الصباح أمر الملك رومزان أن يحضر كان ما كان والوزير دندان وجماعتهما فحضروا بين يديه وأجلسهم بجانبه وأمر بإحضار الموائد فأكلوا وشربوا واطمأنوا بعد أن أيقنوا بالموت لما أمر بإحضارهم، وقالوا لبعضهم: إنه ما أرسل إلينا إلا لأنه يريد قتلنا. وبعد أن اطمأنوا قال لهم: إني رأيت مناماً قصصته على الرهبان فقالوا: ما يفسره لك إلا الوزير دندان فقال الوزير دندان: خير ما رأيت يا ملك الزمان فقال له: أيها الوزير رأيت إني في حفرة على ضفة بئر أسود وكان قوماً يعذبونني فأردت القيام فلما نهضت وقفت على أقدامي وما قدرت على الخروج من تلك الحفرة، ثم التفت فيها فرأيت فيها منطقة من ذهب فمددت يدي لآخذها فلما رفعتها من الأرض رأيتها منطقتين فشددت وسطي بهما فإذا هما قد صارتا منطقة وحدة وهذا أيها الوزير منامي والذي رأيته في لذيذ أحلامي فقال له الوزير دندان: اعلم يا مولانا أن رؤياك تدل على أن لك أخاً أو ابن أخ أو ابن عم أو أحد يكون من أهلك من دمك ولحمك وعل كل حال هو من العصب. فلما سمع الملك هذا الكلام نظر إلى كان ما كان ونزهة الزمان وقضي فكان والوزير دندان ومن معهم من الأساري وقال في نفسه: إذا رميت رقاب هؤلاء انقطعت قلوب عسكرهم بهلاك أصحابهم ورجعت إلى بلادي عن قريب لئلا يخرج الملك من يدي ولما صمم على ذلك استدعى بالسياف وأمره أن يضرب رقبة كان ما كان من وقته وساعته وإذا بداية الملك قد أقبلت في تلك الساعة فقالت له: أيها الملك السعيد على ماذا عولت؟ فقال لها: عولت على قتل هؤلاء الأساري الذين في قبضتي، وبعد ذلك أرمي رؤوسهم إلى أصحابهم، ثم أحمل أنا وأصحابي عليهم حملة واحدة فنقتل الذي نقتله ونهزم الباقي وتكون هذه وقعة الإنفصال وأرجع إلى بلادي عن قريب قبل أن يحدث بعد الأمور أمور في مملكتي، فعندما سمعت منه دايته هذا الكلام أقبلت عليه وقالت له بلسان الإفرنج: كيف يطيب عليك أن تقتل ابن أخيك وأختك وابنة أختك. فلما سمع الملك من دايته هذا الكلام اغتاظ غيظاً شديداً، وقال لها: يا ملعونة ألم تعلمي أن أمي قد قتلت وأن أبي قد مات مسموماً وأعطيتيني خرزة وقلت لي إن هذه الخرزة كانت لأبيك فلم لا تصدقيني في الحديث؟ فقالت له: كل ما أخبرتك به صدق، ولكن شأني وشأنك عجيب وأمري وأمرك غريب فأنني أنا اسمي مرجانة واسم أمك ابريزة وكانت ذات حسن وجمال وشجاعتها تضرب بها الأمثال واشتهرت بالشجاعة بين الأبطال وأما أبوك فإنه الملك عمر النعمان صاحب بغداد وخراسان من غير شك ولا ريب ولا زحم بالغيب وكان قد أرسل ولده شركان إلى بعض غزواته صحبة هذا الوزير دندان وكان منهم الذي كان، وكان أخوك الملك شركان تقدم على الجيوش وانفرد وحده عن عسكر ه فوقع عند أمك الملكة ابريزة في قصرها ونزلنا وإياها في خلوة للصراع فصادفنا ونحن في تلك الحالة فتصارع مع أمك فغلبته لباهر حسنها وشجاعتها ثم استضافته أمك مدة خمسة أيام في قصرها فبلغ أباها ذلك الخبر من العجوز شواهي الملقبة بذات الدواهي وكانت أمك قد أسلمت على يد شركان أخيك فأخذها وتوجه بها إلى مدينة بغداد سراً وكنت أنا وريحانة وعشرون جارية معها وكنا قد أسلمنا كلنا على يد الملك شركان، فلما دخلنا على أبيك الملك عمر النعمان ورأى أمك الملكة ابريزة وقع في قلبه محبتها فدخل عليها ليلة واختلى بها فحملت بك وكان مع أمك ثلاث خرزات فاعطتها لأبيك فأعطى خرزة لابنته نزهة الزمان، وأعطى الثانية لأخيك ضوء المكان وأعطى الثالثة لأخيك الملك شركان فأخذته منه الملكة ابريزة وحفظتها لك فلما قربت ولادتها اشتاقت أمك إلى أهلها واطلعتني على سرها فاجتمعت بعبد أسود يقال له الغضبان وأخبرته بالخبر سراً ورغبته في أن يسافر معنا فأخذنا العبد وطلع بنا من المدينة وهرب بنا وكانت أمك قربت ولادتها. فلما دخلنا على أوائل بلادنا في مكان منقطع أخذ أمك الطلق بولادتها، فحدث العبد نفسه بالخنا فأتى أمك فلما قرب منها راودها على الفاحشة فصرخت عليه صرخة عظيمة وانزعجت منه فمن عظم انزعاجها، وضعتك حالاً وكان في تلك الساعة قد طلع علينا في البر من ناحية بلادنا غبار قد علا وطار حتى سد الأقطار فخشي العبد على نفسه من الهلاك فضرب الملكة ابريزة بسيفها فقتلها من شدة غيظه وركب جواده وتوجه إلى حال سبيله وبعدما راح العبد انكشف الغبار عن جدك الملك حردوب ملك الروم فرأى أمك ابنته وهي في ذلك المكان قتيلة على الأرض جديلة فصعب ذلك عليه، وكبر لديه وسألني عن سبب قتلها وعن سبب خروجها خفية عن بلاد أبيها فحكيت له جميع ذلك من الأول إلى الآخر وهذا هو سبب العداوة بين أهل الروم وبين أهل بغداد. فعند ذلك احتملنا أمك وهي قتيلة ودفناها في قصرها وقد احتملتك أنا وربيتك وعلقت لك الخرزة التي كانت مع أمك الملكة ابريزة، ولما كبرت وبلغت مبلغ الرجال لم يمكنني أن أخبرك بحقيقة الأمر لأنني لو أخبرتك بذلك لثارت بينكم الحروب وقد أمرني جدك بالكتمان ولا قدرة لي على مخالفة أمر جدك حردوب ملك الروم فهذا سبب كتمان الخبر عنك وعدم إعلامك بأن أباك الملك عمر النعمان.
فلما استقللت بالمملكة أخبرتك وما أمكنني أن أعلمك إلا في هذا الوقت يا ملك الزمان وقد كشفت السر والبرهان وهذا ما عندي من الخبر وأنت برأيك أخبر، وكان الأساري قد سمعوا من الجارية مرجانة داية الملك هذا الملك جميعه فصاحت نزهة الزمان من وقتها وساعتها صيحة عظيمة وقالت هذا الملك رومزان أخي من أبي عمر النعمان وأمه الملكة ابريزة بنت الملك حردوب ملك الروم وأنا أعرف هذه الجارية حق المعرفة.
فلما سمع الملك رومزان هذا الكلام أخذته الحدة وصار متحيراً في أمره وأحضر من وقته وساعته نزهة الزمان بين يديه، فلما رآها حن الدم للدم واستخبرها عن قصته فحكت له فوافق كلامها كلام دايته فصح عند الملك أنه من غير شك ولا ارتياب وأن أباه الملك عمر النعمان فقام من تلك الساعة وحل كتاف أخته نزهة الزمان فتقدمت إليه وقبلت يديه ودمعت عيناها فبكى الملك لبكائها وأخذه حنو الأخوة ومال قلبه إلى ابن أخيه السلطان كان ما كان وقام ناهضاً على قدميه وأخذ السيف من السياف فأيقن الأسارى بالهلاك لما رأوا منه ذلك فأمر بإحضارهم بين يديه وفك وثاقهم وقال لدايته مرجانة: اشرحي حديثك الذي شرحتيه إلى هؤلاء الجماعة. فقالت دايته مرجانة: اعلم أيها الملك أن هذا الشيخ هو الوزير دندان وهو لي أكبر شاهد لأنه يعرف حقيقة الأمر، ثم إنها أقبلت عليهم من وقتها وساعتها وعلى من حضرهم من ملوك الروم وملوك الإفرنج وحدثتهم بذلك الحديث والملكة نزهة الزمان والوزير دندان ومن معها من الأسارى يصدقونها على ذلك، وفي آخر الحديث لاحت من الجارية مرجانة التفاتة فرأت الخرزة الثالثة بعينها رفيقة الخرزتين اللتين كانتا مع الملكة ابريزة في رقبة السلطان كان ما كان فعرفتها فصاحت صيحة عظيمة دوى لها الفضاء وقالت للملك: يا ولدي اعلم أنه قد زاد في ذلك صدق يقيني لأن هذه الخرزة التي في رقبة هذا الأسير نظير الخرزة التي وضعتها في عنقك وهذا الأسير هو ابن أخيك وهو كان ما كان، ثم إن الجارية التفت إلى كان ما كان وقالت له: أرني هذه الخرزة يا ملك الزمان فنزعها من عنقه وناولها لتلك الجارية داية الملك رومزان فاخذتها منه ثم سألت نزهة الزمان عن الخرزة الثالثة فأعطتها لها. فلما صارت الخرزتان في يد الجارية ناولتهما للملك رومزان فظهر له الحق والبرهان وتحقق أنه عم السلطان كان ما كان وأن أباه الملك عمر النعمان، فقام من وقته وساعته إلى الوزير دندان وعانقه ثم عانق الملك كان ما كان وعلا الصياح بكثرة الأفراح، وفي تلك الساعة انتشرت البشائر ودقت الكاسات والطبول وزمرت الزمور وزادت الأفراح وسمع عساكر العراق والشام ضجيج الروم بالأفراح فركبوا عن آخرهم وركب الملك الزبلكان وقل في نفسه: يا ترى ما سبب هذا الصياح والسرور الذي في عسكر الإفرنج والروم؟ وأما عساكر العراق فإنهم قد أقبلوا وعلى القتال عولوا وصاروا في الميدان ومقام الحرب والطعان.
فالتفت الملك رومزان فرأى العساكر مقبلين للحرب متهيئين فسأل عن سبب ذلك فأخبروه بالخبر فأمر قضي فكان ابنة أخيه شركان أن تسير من وقتها وساعتها إلى عسكر الشام والعراق وتعلمهم بحصول الاتفاق وأن الملك رومزان ظهر أنه عم السلطان كان ما كان فسارت قضي فكان بنفسها ونفت عنها الشرور والأحزان حتى ولت الملك الزبلكان وسلمت عليه وأعلمته بما جرى من الاتفاق وأن الملك رومزان ظهر أنه عمها وعم كان ما كان وحين أقبلت عليه وجدته باكي العين خائفاً على الأمراء والأعيان فشرحت له القصة من أولها إلى آخرها فزادت أفراحهم وزالت أتراحهم وركب الملك الزبلكان هو وجميع الأكابر والأعيان وسارت قدامهم الملكة قضي فكان حتى أوصلتهم إلى سرادق الملك رومزان، فلما دخلوا عليه وجدوه جالساً مع ابن أخيه السلطان كان ما كان وقد استشاره هو والوزير دندان في أمر الملك الزبلكان فاتفقوا على أنهم يسلمون إليه مدينة دمشق الشام ويتركونه ملكاً عليها كما كان مثل العادة وهم يدخلون إلى العراق فجعلوا الملك الزبلكان عاملاً على دمشق الشام، ثم أمروه بالتوجه إليها فتوجه بعساكره إليها ومشوا معه ساعة لأجل الوداع واجتمع العسكران مع بعضهم، ثم إن الملوك قالوا لبعضهم: ما بقيت قلوبنا تستريح ولا يشفي غيظنا إلا بأخذ الثأر وكشف العار بالإنتقام من العجوز شواهي الملقبة بذات الدواهي.
فعند ذلك سار الملك رومزان مع خواصه وأرباب دولته وفرح السلطان كان ما كان بعمه الملك رومزان ودعا للجارية مرجانة حيث عرفتهم ببعضهم ثم ساروا ولم يزالوا سائرين حتى وصلوا إلى أرضهم فسمع الحاجب الكبير سلسان فطلع وقبل يد الملك رومزان فخلع عليه، ثم إن الملك رومزان جلس وأجلس ابن أخيه السلطان كان ما كان إلى جانبه، فقال كان ما كان لعمه الملك رومزان: يا عم ما يصلح هذا الملك إلا لك، فقال له: معاذ الله أن أعارضك في ملكك فعند ذلك أشار إليهما الوزير دندان أن يكون الاثنان في الملك سواء وكل واحد يحكم يوماً فارتضيا بذلك.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخامسة والسبعين بعد المئة قالت بلغني أيها الملك السعيد أنهما اتفقا على أن كل واحد يحكم يوماً واحداً، ثم أولموا الولائم وذبحوا الذبائح وزادت بهم الأفراح وأقاموا على ذلك مدة من الزمان كل ذلك والسلطان كان ما كان يقطع ليله مع بنت عمه قضي فكان، وبعد تلك المدة بينما وهم قاعدون فرحون بهذا الأمر وانصلاح الشأن إذ ظهر لهم غبار قد علا وطار حتى سد الأقطار وقد أتى إليهم من التجار صارخ يستغيث وهو يصيح ويقول: يا ملوك الزمان كيف أسلم في بلاد الكفار وأنهب في بلادكم وهي بلاد العدل والأمان؟ فأقبل عليه الملك رومزان وسأله عن حاله فقال له: أنا تاجر من التجار ولي غائب عن الأوطان مدة مديدة من الزمان واستغرقت في البلاد نحو عشرين سنة من الأعوام وأن معي كتاباً من مدينة دمشق كان قد كتبه إلي المرحوم الملك شركان وسبب ذلك أنني أهديت له جارية، فلما قربت من تلك البلاد وكان معي مائة حمل من تحف الهند وأتيت بها إلى بغداد التي هي حرمكم ومحل أمنكم وعدلكم خرجت علينا عربان ومعهم أكراد مجتمعة من جميع البلاد فقتلوا رجالي ونهبوا أموالي وهذا شرح حالي، ثم إن التاجر بكى بين الملك رومزان وحوقل واشتكى فرحمه الملك ورق إليه وكذلك رحمه ابن أخيه الملك كان ما كان وحلفوا أنهم يخرجون إليه فخرجوا إليه في مائة فارس كل فارس يعد بين الرجال بألوف وذلك التاجر سار أمامهم يدلهم على الطريق، ولم يزالوا سائرين ذلك النهار وطول الليل إلى السحر حتى أشرفوا على واد غزير الأنهار كثير الأشجار فوجد القوم قد تفرقوا في ذلك وقسموا بينهم أحمال ذلك التاجر وبقي البعض فأطبق عليهم المائة فارس وأحاطوا بهم من كل مكان وصاح عليهم الملك رومزان وابن أخيه كان ما كان، فما كان غير ساعة حتى أسروا الجميع وكانوا ثلاثمائة فارس مجتمعين من أوباش العربان فلما أسروهم أخذوا ما معهم من مال التاجر وشدوا وثاقهم وطلعوا بهم إلى مدينة بغداد، فعند ذلك جلس الملك رومزان هو وابن أخيه الملك كان ما كان على تخت واحد مع بعضهما ثم عرضوا الجميع بين أيديهما وسألاهم عن حالهم وعن كبارهم فقالوا: ما لنا كبار سوى ثلاثة أشخاص وهم الذين جمعونا من سائر النواحي والأقطار فقالا لهم: ميزونا بأعيانهم فميزوهم لهما فأمر بالقبض عليهم وإطلاق بقية أصحابهم بعد أخذ جميع ما معهم من الأموال وتسليمه للتاجر، فتفقد التاجر قماشه وماله فوجده قد هلك ربعه فوعدوه أنهم يعوضون له جميع ما ضاع منه، فعند ذلك أخرج التاجر كتابين أحدهما بخط شركان والآخر بخط نزهة الزمان وقد كان التاجر اشترى نزهة الزمان من البدوي وهي بكر وقدمها لأخيها شركان وجرى بينهما ما جرى، ثم سمع أن الملك كان ما كان وقف على الكتابين وعرف خط عمه شركان وسمع حكاية عمته نزهة الزمان فدخل بذلك الكتاب الثاني الذي كانت كتبته للتاجر الذي ضاع منه المال وأخبرها كان ما كان بقصة التاجر من أولها إلى آخرها فعرفته نزهو الزمان وعرفت خطها. وأخرجت للتاجر الضيافات وأوصت عليه أخاها الملك رومزان وابن أخيها الملك كان ما كان فأمر له بأموال وعبيد وغلمان من أجل خدمته وأرسلت إليه نزهة الزمان مائة ألف درهم من المال وخمسين حملاً من البضائع وقد أتحفته بهدايا وأرسلت إليه تطلبه. فلما حضر طلعت وسلمت عليه وأعلمته أنها بنت الملك عمر النعمان وأن أخاها الملك رومزان وابن أخيها الملك كان ما كان ففرح التاجر بذلك فرحاً شديداً وهنأها بسلامتها واجتماعها بأخيها وابن أخيها وقبل يديها وشكرها على فعلها وقال لها: والله ما ضاع الجميل معك، ثم دخلت إلى خدرها وأقام التاجر عندهم ثلاثة أيام، ثم ودعهم ورحل إلى الشام وبعد ذلك أحضر الملوك الثلاثة أشخاً اللصوص الذين كانوا رؤساء قطاع الطريق وسألوهم عن حالهم فتقدم واحد منهم وقال: اعلموا أني رجل بدوي أقف في الطريق لأخطف الصغار والبنات البكار وأبيعهم للتجار ودمت على ذلك مدة من الزمان إلى هذه الأيام وأغراني الشيطان فاتفقت مع هذين الشقيين على جمع الأوباش من الأغراب والبلدان لأجل نهب الأموال وقطع طريق التجار، فقلوا له: احك لنا على أعجب ما رأيت في خطفك الصغار والبنات، فقال لهم: أعجب ماجرى لي يا ملوك الزمان أنني من مدة اثنتين وعشرين سنة خطفت بنتاً من بيت المقدس، ذات يوم من الأيام وكانت تلك البنت ذات حسن وجمال غير أنها كانت خدامة وعليها أثواب خلقة وعلى رأسها قطعة عباءة فرأيتها قد خرجت من الخان فخطفتها بحيلة في تلك الساعة، وحملتها على جمل وسقت بها، وكان أملي في أنني أذهب بها إلى أهلي في لبرية وأجعلها عندي ترعى الجمال وتجمع البعر من الوادي فبكت بكاءً شديداً فدنوت منها وضربتها ضرباً وجيعاً وأخذتها إلى مدينة دمشق فرآها معي تاجر فتحير عقله لما رآها وأعجبته فصاحتها وأراد اشتراءها مني ولم يزل يزيدني في ثمنها حتى بعتها له بمائة ألف درهم، فعندما طلبتها له رأيت منها فصاحة عظيمة وبلغني أن التاجر كساها كسوة مليحة وقدمها إلى صاحب دمشق فأعطاه قدر المبلغ الذي دفعه إلي مرتين وهذا يا ملوك الزمان أعجب ما جرى، ولعمري إن ذلك الثمن قليل في تلك البنت.
فلما سمع الملوك هذه الحكاية ولما سمعت نزهة الزمان من البدوي ما حكاه صار الضياء في وجهها ظلاماً وصاحت وقالت لأخيها رومزان: إن هذا البدوي الذي خطفني من بيت المقدس بعينه من غير شك، ثم إن نزهة الزمان حكت لهم جميع ما جرى لها معه في غربتها من الشدائد والضرب والجوع والذل والهوان، ثم قالت لهم: الآن حل لي قتله، ثم جذبت السيف وقامت إلى البدوي لقتله وإذا هو صاح وقال: يا ملوك الزمان لا تدعوها تقتلني حتى احكي لكم ما جرى لي من العجائب فقال لها ابن أخيها كان ما كان: يا عمتي دعيه يحكي لنا حكاية وبعد ذلك افعلي ما تريدين، فرجعت عنه فقال له الملوك: الآن احك لنا حكاية.
فقال: يا ملوك الزمان إن حكيت لكم حكاية عجيبة تعفوا عني قالوا: نعم، فابتدأ البدوي يحدثهم بأعجب ما وقع له وقال: اعلموا أني من مدة يسيرة أرقت ليلة أرقاً شديداً وما صدقت أن الصباح طلعت حتى قمت من وقتي وساعتي وتقلدت بسيفي وركبت جوادي واعتقلت رمحي وخرجت أريد الصيد والقنص، فواجهني جماعة في الطريق فسألوني عن قصدي فأخبرتهم به فقالوا: ونحن رفقاؤك فنزلنا كلنا مع بعضنا فبينما نحن سائرون وإذا بنعامة ظهرت لنا فقصدناها ففرت من بين أيدينا وهي فاتحة أجنحتها ولم تزل شاردة ونحن خلفها إلى الظهر حتى رمتنا في برية لا نبات فيها ولا ماء ولا نسمع فيها غير صفير الحيات وزعيق الجان وصريخ الغيلان. فلما وصلنا إلى ذلك المكان غابت عنا فلم ندر أفي سماء طارت أم في الأرض غارت فرددنا رؤوس الخيل وأردنا الرواح، ثم رأيت أن الرجوع في هذا الوقت الشديد الحر لا خير فيه ولا إصلاح وقد اشتد علينا الحر وعطشنا عطشاً شديداً ووقفت خيولنا فأيقنا بالموت. فبينما نحن كذلك إذ نظرنا من بعيد مرجاً أفيح فيه غزلان تمرح وهناك خيمة مضروبة وفي جابن الخيمة حصان مربوط وسنان يلمع على رمح مركوز فانتعشت نفوسنا من بعد اليأس ورددنا رؤوس خيلنا نحو تلك الخيمة نطلب ذلك المرج والماء وتوجه إليه جميع أصحابي وأنا في أولهم ولم نزل سائرين حتى وصلنا إلى ذلك المرج فوقفنا على عين فشربنا وسقينا خيلنا فأخذتني حمية الجاهلية وقصدت باب ذلك الخباء فرأيت فيه شاباً لا نبات بعارضيه وهو كأنه هلال وعن يمينه جارية هيفاء كأنها قضيب بان، فلما نظرت إليها وقعت محبتها في قلبي فسلمت على ذلك الشاب فرد علي السلام فقلت: يا أخا العرب أخبرني من أنت وما تكون لك تلك الجارية التي عندك؟ فأطرق الشاب رأسه إلى الأرض برهة ثم رفع رأسه وقال: أخبرني من أنت وما الخيل التي معك؟ فقلت: أنا حماد بن الفزاري الفارس الموصوف الذي أعد بين العرب بخمسمائة فارس ونحن خرجنا من محلنا نريد الصيد والقنص فأدركنا العطش فقصدت أنا باب تلك الخيمة لعلي أجد عندكم شربة ماء.
فلما سمع مني ذلك الكلام التفت إلى جارية مليحة وقال: ائتي إلى هذا الرجل بالماء وما حصل من الطعام فقامت الجارية تسحب أذيالها والحجال الذهب تخشخش في رجليها وهي تتعثر في شعرها وغابت قليلاً ثم أقبلت وفي يدها اليمنى إناء من فضة مملوء ماء بارد وفي يدها اليسرى قدح ملآن تمراً ولبناً وما حضر من لحم الوحوش فما استطعت أن آخذ من الجارية طعاماً ولا شراباً من شدة محبتي لها فتمثلت بهذين
كأن الخضاب على كـفـهـا
غراب على ثـلـجة واقـف
ترى الشمس والبدر من وجهها
قريبـين خـاف وذا خـائف
ثم قلت للشاب بعد أن أكلت وشربت: يا وجه العرب اعلم أني أوقفك على حقيقة خبري وأريد أن تخبرني بحالك وتوقفني على حقيقة خبرك، فقال الشاب: أما هذه الجارية فهي أختي فقلت: أريد أن تزوجني بها طوعاً وإلا أقتلك وآخذها غصباً، فعند ذلك أطرق الشاب رأسه إلى الأرض ساعة ثم رفع بصره إلي وقال لي: لقد صدقت في دعواك أنك فارس معروف وبطل موصوف وأنك أسد البيداء ولكن إن هجمتم علي غدراً وقتلتموني قهراً وأخذتم أختي فإن هذا يكون عاراً عليكم، وإن كنتم على ما ذكرتم من أنكم فرسان تعدون من الأبطال ولا تبالون بالحرب والنزال فأمهلوني قليلاً حتى ألبس آلة حربي وأتقلد سيفي وأعتقل برمحي وأركب فرسي وأصير وإياكم في ميدان الحرب فإن ظفرتم بي وقتلتموني فهذه الجارية أختي لكم.
فلما سمعت منه هذا الكلام قلت له: إن هذا هو الإنصاف وما عندنا خلاف، ثم رددت رأس جوادي إلى خلفي وقد زاد بي الجنون في محبة تلك الجارية ورجعت إلى أصحابي ووصفت لهم حسنها وجمالها وحسن الشاب الذي عندها وشجاعته وقوة جنانه وكيف أنه يصادم ألف فارس، ثم أعلمت أصحابي بجميع ما في الخباء من الأموال والتحف وقلت لهم:اعلموا أن هذا الشاب ما هو منقطع في تلك الأرض إلا لكونه ذا شجاعة عظيمة وأنا أوصيكم أن كل من يقتل هذا الغلام يأخذ أخته، فقالوا: رضينا بذلك، ثم إن أصحابي لبسوا آلة حربهم وركبوا خيولهم وقصدوا الغلام فوجدوه قد لبس آلة حربه وركب جواده ووثبت إليه أخته وتعلقت بركابه وبلت برقعها بدموعها وهي تنادي بالويل والثبور من خوفها على أخيها وتنشد هذه الأبيات:
إلى الله أشكـو مـحـنة وكـآبة
لعل إله العرش يرهقهم رعبـا
يريدون قتلاً يا أخـي تـعـمـدا
ولا شيء من قبل القتال ولا ذنبا
وقد عرف الأبطال أنـك فـارس
وأشجع من حل المشارق والغربا
تحامي من الأخت التي قل عزمها
فأنت أخوها وهي لك تدعو الربّا
فلا تترك الأعداء تملك مهجتـي
وتأخذني قهراً وتأسرني غصبـا
ولست وحق الله أبقـى بـبـلـدة
وأسكن لحداً فيه أفترش التربـا
فلما سمع أخوها شعرها بكى بكاءً شديداً ورد جواده إلى أخته وأجابها على شعرها بقوله:
قفي وانظري مني وقوع عجائب
إذا ما التقينا حين أثخنهم صربا
وإن برز الليث المقـدم فـيهـم
وأشجعهم قلباً وأثبتـهـم لـبـا
سأسقيه مني ضربة ثعـلـبـية
وأترك الرمح يستغرق الكعبـا
وإن لم أقاتل عنك أختي فليتني
قتيل وليت الطير تنهبني نهبا
أقاتل عنك ما استطعت تكرما
هذا حديث بعدنا يملأ الكتبـا
فلما فرغ من شعره قال: يا أختي اسمعي ما أقول لك وما أوصيك به،فقالت له: سمعاً وطاعة، فقال لها: إن هلكت فلا تمكني أحداً من نفسك، فعند ذلك لطمت على وجهها وقالت: معاذ الله أن أراك صريعاً وأمكن الأعداء مني، فعند ذلك مد الغلام يده إليها وكشف برقعها عن وجهها فلاحت لنا صورتها كالشمس من تحت الغمام فقبلها بين عينيها وودعها وبعد ذلك التفت وقال لنا: يا فرسان هل أنتم ضيفان أو تريدون الضرب والطعان، فإن كنتم ضيفاناً فأبشروا بالقرى وإن كنتم تريدون القمر الزاهر فليبرز لي منكم فارس بعد فارس في هذا الميدان ومقام الحرب والطعان، فعند ذلك برز إليه شجاع فقال له الشاب: ما اسمك وما اسم أبيك فإني حالف أني ما أقتل من اسمه موافق لاسمي واسم أبيه موافق لاسم أبي، فإن كنت بهذا الوصف فقد سلمت إليك الجارية، فقال له الفارس: اسمي بلال فأجابه الشاب بقوله:
كذبت في قولك مـن بـلال
وجئت بالزور وبالمـحـال
إن كنت شهماً فاستمع مقالي
مجندل الأبطال في المجـال
وصارمي ماض كما الهلال
فاصبر لطعن مرجف الجبال
ثم حملا على بعضهما فطعنه الشاب في صدره فخرج السنان من ظهره ثم برز إليه واحد فقال الشاب:
يا أيها الكلب وخيم الرجـس
فأين عال سعره من بخـس
وإنما الليث الكريم الجنـس
من لم يبال في الوغى بنفس
ثم لم يمهله الشاب دون أن تركه غريقاً في دمه، ثم نادى الشاب هل من مبارز؟ فبرز إليه واحد فانطلق على الشاب وجعل يقول:
إليك أقبلت وفي قلبي لـهـب
منه أنادي عند صحبي بالحرب
لما قتلت اليوم سادات العـرب
فاليوم لا تلقى فكاكاً من طلب
فلما سمع الشاب كلامه أجاب بقوله:
كذبت بئس أنت من الشيطان
قد جئت بالزور والبهتـان
اليوم تلقى فاتك الـسـنـان
في موقف الحرب والطعان
ثم طعنه في صدره فطلع السنان من ظهره، ثم قال: هل من مبارز؟ فخرج إليه الرابع وسأله الشاب عن اسمه فقال له الفارس: اسمي هلال فأنشد يقول:
أخطأت إذا أردت خوض بحري
وجئت بالزور وكـل أمـري
أنا الذي تسمع مني شـعـري
أختلس النفس ولسـت تـدري
ثم حملا على بعضهما واختلف بينهما ضربتا فكانت ضربة الشاب هي السابقة إلى الفارس فقتله وصار كل من نزل إليه يقتله، فلما نظرت أصحابي قد قتلوا قلت في نفسي: إن نزلت إليه في الحرب لم أطقه وإن هربت أبقى معيرة بين العرب، فلم يمهلني الشاب دون أن انقض علي وجذبني بيده فأطاحني من سرجي فوقعت مغشياً علي ورفع سيفه وأراد أن يضرب عنقي فتعلقت باذياله فحملني بكفه فصرت معه كالعصفور، فلما رأت ذلك الجارية فرحت بفعل أخيها وأقبلت عليه وقبلته بين عينيه، ثم إنه سلمني إلى أخته وقال لها: دونك وإياه وأحسني مثواه لأنه دخل في زمامنا، فقبضت الجارية على أطواق درعي وصارت تقودني كما تقود الكلب وفكت عن أخيها لامة الحرب وألبسته بدلة ونصبت له كرسياً من العاج فجلس عليها وقالت له: بيض
تقول وقد رأت في الحرب أختي
لوامع غرتي مثل الـشـعـاع
ألا لـلـه درك مـن شـجـاع
تذل لحربـه أسـد الـبـقـاع
فقلت لها سلي الأبطال عـنـي
إذا ما فـر أربـاب الـقـراع
أنا المعروف في سعدي وجـدي
وعزمي قد علا أي ارتـفـاع
أيا حماد قد نـازلـت جـيشـاً
يريك الموت يسعى كالأفاعـي
فلما سمعت شعره حرت في أمري ونظرت إلى حالتي وما صرت إليه من الأسر وتصاغرت إلى نفسي، ثم نظرت إلى الجارية أخت الشاب وإلى حسنها فقلت في نفسي: هذه الفتنة وصرت أتعجب من جمالها، وأجريت العبرات وأنشدت هذه الأبيات:
خليلي كف عن لومي وعذلي
فإنني للـمـلامة غـير واع
كلفت بـغـادة لـم تـبـد إلا
أن دعتني في محبتها الدواعي
أخوها في الهوى أمسى رقيبي
وصاحب همة وطويل بـاع
ثم إن الجارية أحضرت لأخيها الطعام فدعاني إلى الأكل معه ففرحت وأمنت على نفسي من القتل، ولما فرغ أخوها من الأكل أحضرت له آنية المدان، ثم إن الشاب أقبل على المدان وشرب حتى شعشع المدام في رأسه واحمر وجهه، فالتفت إلي وقال: أنا عابد بد تميم بن ثعلبة، إن الله وهب لك نفسك وأبقى عليك عرسك.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السادسة والسبعين بعد المئة قالت بلغني أيها الملك السعيد أن البدوي حماد قال: ثم أن عابد بن تميم بن ثعلبة قال لي: إن الله وهب لك نفسك وأبقى عليك عرسك وحياني بقدح شربته وحياني بثان وثالث ورابع فشربت الجميع ونادمني وحلفني أني لا أخونه فحلفت له ألفاً وخمسمائة يمين أني لا أخونه قط بل أكون له معيناً. فعند ذلك أمر أخته أن تأتيني بعشر خلع من الحرير وهذه بدلة منها على جسدي وأمرها أن تأتيني بناقة من أحسن النياق فاتتني بناقة محملة من التحف والزاد وأمرها أن تحضر لي الحصان الأشقر فأحضرته لي ثم وهب لي جميع ذلك وقمت عندهم ثلاثة أيام قال لي: يا أخي حماد أريد أن أنام قليلاً لأريح نفسي وقد استأمنت على نفسي وإن رأيت خيلاً ثائرة فلا تفزع منها واعلم أنهم من ثعلبة يطلبون حربي، ثم توسد رأسه ونام.
فلما استغرق في النوم وسوس لي إبليس بقتله فقمت بسرعة وجذبت سيفه من تحت رأسه وضربته ضربة أطحت رأسه عن جثته فعلمت بي أخته فوثبت من جانب الخباء ورمت بنفسها على أخيها وشقت عليها الثياب وأنشدت هذه الأبيات:
إلى الأهل بلغ ذا الشآم الـخـبـر
وما لامرئ مما الحكيم قضى مفر
وأنت صريع يا أخي متـجـنـدل
ووجهك يحكي حسنه دورة القمر
لقد كان يوم الشؤم يوم لـقـبـتـه
ورمحك بعد اطراد قد انكـسـر
وبعدك لا يرتاح للـخـيل راكـب
ولا تلد الأنثى نظيرك مـن ذكـر
وأصبح حماد لـك الـيوم قـاتـلاً
وقد خان أيماناً وبالعهد قد غـدر
يريد بـهـذا أن ينـال مــراده
لقد كذب الشيطان في كل ما أمر
فلما فرغت من شعرها قالت: يا ملعون الجدين لماذا قتلت أخي وخنته وكان مراده أن يردك إلى بلادك بالزاد والهدايا وكان مراده أن يزوجني لك في أول الشهر، ثم جذبت سيفاً كان عندها وجعلت قائمه في الأرض وطرفه في صدرها وانحنت عليه حتى طلع من ظهرها فخرت على الأرض ميتة فحزنت عليها وندمت حيث لا ينفع الندم وبكيت، ثم قمت مسرعاً إلى الخباء وأخذت ما خف حمله وغلا ثمنه وسرت إلى حال سبيلي، ومن خوفي وعجلتي لم ألتفت إلى أحد من أصحابي ولا دفنت الصبية ولا الشاب، وهذه الحكاية أعجب من حكايتي الأولى مع البنت الخادمة التي خطفتها من بيت المقدس.
فلما سمعت نزهة الزمان من البدوي هذا الكلام تبدل النور في عينيها بالظلام وقامت وجردت السيف وضربت به البدوي على عاتقه فأطلعته من علائقه فقال لها الحاضرون: لأي شيء استعجلت على قتله؟ فقالت: الحمد لله الذي فسح من أجلي حتى أخذت ثأري بيدي، ثم أنها أمرت العبيد أن يجروه من رجليه ويرموه للكلاب وبعد ذلك أقبلوا على الاثنين الباقيين من الثلاثة وكان أحدهم عبداً أسود فقالوا له: ما اسمك أنت فأصدقنا في حديثك قال: اسمي الغضبان وأخبرهم بما وقع له مع الملكة ابريزة بنت الملك حردوب ملك الروم وكيف قتلها وهرب، فلم يتم العبد كلامه حتى رمى الملك رومزان رقبته بالحسام وقال: الحمد لله الذي أحياني وأخذت ثأر أمي بيدي وأخبره أن دايته مرجانة حكت له عن هذا العبد الذي اسمه الغضبان، وبعد ذلك أقبلوا على الثالث وكان هو الجمال الذي اكتراه بيت المقدس إلى حمل ضوء المكان وتوصيله إلى المارستان الذي في دمشق الشام فذهب به وألقاه في المستوقد وذهب في حال سبيله، ثم قالوا له: أخبرنا أنت بخبرك وأصدق في حديثك فحكى لهم جميع ما وقع له مع السلطان ضوء المكان وكيف حمله من بيت المقدس بالدراهم وهو ضعيف على أن يوصله إلى الشام ويرميه بالمارستان وكيف جاء له أهل المقدس بالدراهم فأخذها وهرب بعد أن رماه في مستوقد الحمام.
فلما أتم كلامه أخذ السلطان كان ما كان السيف وضربه فرمى عنقه وقال: الحمد لله الذي أحياني حتى جازيت هذا الخائن بما فعل مع أبي، فإني قد سمعت هذه الحكاية بعينها من والدي السلطان ضوء المكان، فقال الملوك لبعضهم: ما بقي علينا إلا العجوز شواهي الملقبة بذات الدواهي فإنها سبب هذه البلايا حيث أوقعنا في الرزايا ومن لنا بها حتى نأخذ منها الثأر ونكشف العار، فقال لهم الملك رومزان عم كان ما كان: لا بد من حضورها ثم إن الملك رومزان كتب كتاباً من وقته وساعته وأرسله إلى جدته العجوز شواهي الملقبة بذات الدواهي وذكر لها فيه أنه غاب عن مملكته دمشق والموصل والعراق وكسر عسكر المسلمين وأسر ملوكهم وقال: أريد أن تحضري عندي من كل بد أنت والملكة صفية بنت الملك أفريدون ملك القسطنطينية ومن شئتم من أكابر النصارى من غير عسكر، فإن البلاد أمان لأنها صارت تحت أيدينا.
فلما وصل الكتاب إليها وقرأته وعرفت خط الملك رومزان فرحت فرحاً شديداً وتجهزت من وقتها وساعتها للسفر هي والملكة صفية أم نزهة الزمان ومن صحبتهم ولم يزالوا مسافرين حتى وصلوا إلى بغداد فتقدم الرسول وأخبرهم بحضورها فقال رومزان: إن المصلحة تقتضي أن نلبس اللبس الإفرنجي ونقابل العجوز حتى نأمن من خداعها وحيلها فقالوا سمعاً وطاعة ثم أنهم لبسوا لباس الإفرنج فلما رأت ذلك قضي فكان قالت: وحق الرب المعبود لولا أني أعرفكم لقلت أنكم إفرنج، ثم إن الملك رومزان تقدم أمامهم وخرجوا يقابلون العجوز في ألف فارس، فلما وقعت العين على العين ترجل رومزان عن جواده وسعى إليها فلما رأته وعرفته ترجلت إليه وعانقته ففرط بيده على أضلاعها حتى كاد أن يقصفها فقالت: ما هذا؟ فلم تتم كلامها حتى نزل إليها كان ما كان والوزير دندان وزعقت الفرسان على من معها من الجواري والغلمان وأخذوهم جميعهم ورجعوا إلى بغداد وأمرهم رومزان أن يزينوا بغداد فزينوها ثلاثة أيام، ثم أخرجوا شواهي الملقبة بذات الدواهي وعلى رأسها طرطور أحمر مكلل بروث الحمير وقدامها مناد ينادي: هذا جزاء من يتجارى على الملوك وعلى أولاد الملوك ثم صلبوها على باب بغداد.
و لما رأى أصحابها ما جرى أسلموا كلهم جميعاً ثم إن كان ما كان وعمه رومزان ونزهة الزمان والوزير دندان تعجبوا لهذه السيرة العجيبة وأمروا الكتاب أن يؤرخوها في الكتب حتى تقرأ من بعدهم وأقاموا بقية الزمان في ألذ عيش وأهنأه إلى أن أتاهم هادم اللذات ومفرق الجماعات وهذا آخر ما انتهى إلينا من تصاريف الزمان بالملك عمر النعمان وولده شركان وولده ضوء المكان وولده كان ما كان ونزهة الزمان وقضي فكان، ثم إن الملك قال لشهرزاد: أشتهي أن تحكي لي شيئاً من حكاية الطيور، فقالت: حباً وكرامة فقالت لها أختها: لم أر الملك في طول هذه المدة انشرح صدره غير هذه الليلة وأرجو أن تكون عاقبتك معه محمودة.
و أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.