قبل خمسة عشر عاما قابلني بحث لطيف بمجلة القانون الجنائي البريطانية ، كان عنوانه كيف تقنع هيئة المحلفين.
كيف تقنع هيئة المحلفين كان بحثا صغيرا لم يتجاوز عشر صفحات...، ولكنه بالتأكيد قدم عصارة علم النفس القضائي . وهو علم يدرس الجوانب النفسية في الدعوى القضائية والبعض قصره على الدعوى الجنائية دون المدنية بغير سبب جوهري.
كذلك سنجد مؤلفا عربيا قيما عن علم النفس القضائي من حيث التأصيل للعلامة المرحوم رمسيس بهنام. وفي كل الأحوال فإن مسألة اجتراح علم جديد داخل القانون مرتبط بعلم آخر لن يتوقف لفيض القانون واتساع محيطه المنظم للعلاقات الانسانية المختلفة. وبالتالي فمسألة ان نضع محددات حاسمة لتعامل جميع أطراف الدعوى مع بعضهم بذكاء ومعرفة كل واخد منهم بسيكولوجية الآخر لا يمكن أن تشكل قاعدة مطلقة. الأمر يتعلق عموما بكل دعوى على حدة.. من حيث طبيعة محل الدعوى وطبيعة القاضي (منفتحا او متشددا ، محافظا أم ليبراليا...الخ).. ومن حيث محامي الخصم والشهود والخصم نفسه بل حتى حاجب المحكمة. فكل حركة وسكنة لها انعكاسات نفسية تختلف من شخص لآخر. فهياج المدعى عليه قد يؤثر تأثيرا ضارا ضد مصلحته ، وغضب المحامي قد يثير نزعة الانتقام لدى القاضي. ولذلك فمراعاة الجانب النفسي مهمة جدا في الحقل القضائي. ورغم أنني شخصيا لم اتمتع بهذه القدرة الهامة ولكني رأيت المحامين الكبار يحترفون هذه الفراسة النفسية ، فيضحكوا عندما يحتاج الجميع لكسر حدة النقاش أثناء الجلسة أويتجهموا في لحظة أخرى. وكل ذلك بمعرفة أكسبتها لهم الخبرة وليس العلم التجريدي. لكن هذا لا يمنعني من الإدلاء برؤيتي (التجريدية هذه) ، من باب المثاقفة والنقاش ، ومن باب فتح حقل بحثي جديد لطلبة الدراسات العليا القانونية. فهؤلاء نراهم مؤخرا وقد انكبوا على الابحاث القاعدية مهملين علوما قانونية شيقة وواعدة بل وهامة جدا كعلم النفس القضائي وعلم الاجتماع الجنائي وفلسفة القانون ... الخ. الطلبة لا يميلون غالبا إلى الدخول الى فوهة المدفع هذه ربما توجسا وربما لأن طبيعة البحث عن الدرجة العلمية توهن عزيمة الاستكشاف والتقصي والمغامرة.. هذا فضلا عن قلة المراجع.. (مع ذلك يمكن التغلب على قلة المراجع باستخدام مناهج استقصائية ميدانية كمنهج دراسة الحالة مثلا ومنهج التحليل الإحصائي ...الخ).
وعودا إلى الموضوع الذي ساعمل فيه عصفا ذهنيا محضا ، وهو كيف تحكي القصة كمحامي...
هنا أولا يجب أن أشير إلى نقطة اختلاف جوهرية بين نظامنا القضائي العربي والانظمة الغربية (لاتينية أو قانون عام).. فنظامنا العربي لا يعرف هيئة المحلفين ، وعلى حسب علمي فلم أجد نظاما قانونيا عربيا يأخذ بنظام هيئة المحلفين. وهذه نقطة اختلاف هامة. فهيئة المحلفين لها ضوابط كثيرة بقوانين تنظمها سواء من حيث القضايا التي تكون فيها هيئة المحلفين إجبارية أو اختيارية وسواء من حيث عدد اعضائها إذا كانت هيئة صغرى أم كبرى ، وسواء من حيث حدود الأدلة التي يجب أن تعتمد عليها في تكوين رأيها وسواء في حريتها كنظام يدعم دور القانون الطبيعي الممثل في الضمير المستنير بحرية أو بالحدود التي يجب على القاضي أن يلزم بها الهيئة هذا بالاضافة الى كيفية اختيار الأعضاء والمخصصات المالية التي تعوضهم عن ساعات العمل التي أهدروها بحضور الجلسات.. الخ.
هذا النظام غير موجود لدينا ومع ذلك فهذا لا يعني نقصا في نظامنا ولا كمالا في نظامهم ، فقد نال هذا النظام نقدا كافيا ومع ذلك كانت النتائج حوله متساوية سلبا وإيجابا. لكن يمكن ملاحظة أن جل الانتقادات التي توجه لهذا النظام تكمن في الخلل الذي ينجم عن استجابات نفسية معينة. فمن أحد أهم الانتقادات أن الجوانب النفسية هي التي تتحكم في قرارات المحلفين. فعندما تثور قضية بين شركة ضخمة ذات رأسمال ملياري وعامل أو متضرر فقير فإن الهيئة ستقف ضد الشركة الغنية ليس من باب العدل القاعدي وإنما لأن لدى أغلب البشر شعور بالكره للرأسمالية والاغنياء واعتقادهم أن الأغنياء يستغلون الفقراء كما تصورهم الماركسية. كذلك عندما يكون خصما الدعوى رجل وامرأة فغالبا ما تميل الهيئة للمرأة ، كما قد تتأثر الهيئة بالجوانب العنصرية الأخرى كاللون والدين واللغة ...الخ. هذا فضلا عن ضعف المام اغلب الناس بمبادئ علم القانون.
لقد قرأت مسرحية قديمة عن هيئة محلفين اجمعت فيها الآراء على اعدام المتهم... غير أن أحد اعضائها ونسبة لشعوره بالملل وليس بالعدل.. قرر مخالفة الجميع وبدأ في اقناعهم بشكل مثير جدا بعكس رأيهم ، وبعد جدال طويل حاذق وذكي استمر لساعات انقلب الاجماع على الاعدام إلى اجماع على البراءة.
ولكن عدم وجود نظام المحلفين لا يعني أن الجانب النفسي لا يلعب دوره في نظامنا القضائي ، لقد رأينا مثلا تأثير الرأي العام على بعض الأحكام القضائية ورأينا أيضا أن المحامي الذي عينته المحكمة لأحد المتهمين بالاغتصاب قد اوقع المتهم في ورطة أكبر مما لو لم يكن قد قبل الترافع عنه.... لقد كتبت عن هذا الخطأ الجسيم الذي وقع فيه محامي المتهم حينما أخذ يسيء لمن يفترض أن يدافع عنه وذلك بحجة الأخلاق والضمير . هذا أيضا ناتج حتما عن انعكاس بشاعة الجريمة في نفسية محامي المتهم... بعض القضايا يتأثر فيها القاضي بشخصية المتهم ومركزه السياسي أو الأدبي وبشهرته... الخ. وهنا سيتضح الاختلاف بين نظامنا والنظام الذي يأخذ بالمحلفين كجزء من هيئة المحكمة. ففي حين يكون على المحامي مراعاة الجانب النفسي للقاضي وممثل النيابة العامة في الدعاوى الجنائية في نظامنا فإن المحامي يهتم أكثر بانطباعات هيئة المحلفين في النظام الآخر. وإذا كان على المحامي اقناع القاضي عندنا بقضيته (إدعاء أو دفاعا) فإن عليه اقناع المحلفين في النظام الآخر.
وإذا كان اعتماد نظامنا هنا على المرافعة المكتوبة فإنه هناك يعتمد فوق هذا على المرافعة الشفوية. وإذا كان المحامي عندنا يعتمد على الدفوع القانونية فالمحامي هناك يجب أن يضم إليها جوانب ذات تأثيرات عاطفية. وإذا كان التخاطب في الترافع عندنا يتم بين طرفين عالمين بالقانون ، فهو هناك يتم بين طرفين أحدهما غالبا أقل علما بالقانون أو حتى جاهل به.
بالرغم من ذلك فإن كتابة المرافعة الختامية عندنا ؛ وخلافا لما هو جار ؛ يجب ألا تخلو من الاهتمام بالجانب النفسي للقاضي سواء قاضي الموضوع أو قاضي القانون. فالمرافعة فضلا عن كونها تحاول جاهدة أن تطرح حقيقتها كحقيقة قانونية ومن ثم تعتمد على الضوابط القانونية من حيث الاثبات والاركان والعناصر ...الخ لكنها فوق هذا يجب ألا تخلو تماما من الانعطافات الذكية تجاه الاستقطاب العاطفي ، فمرافعة الختام لا يقرؤها قاضي الموضوع فقط بل حتى قاضي القانون وهو بسببل مراجعة محضر الجلسات لاكتشاف خطأ في تفسير القانون أو تطبيقه.
لذلك فعندما يطرح المحامي مرافعته الكتابية إدعاءا أو دفاعا ، فعليه أن يهتم بملكة الاستقطاب العاطفي إلى جانب الاقناع القانوني. وهنا يندمج القانون بالأدب ، بفن القص والنظم.. أي بفن ترتيب جذاب ومشوق للحكي والسرد ، بحيث تعمل الآليتان على إيقاع تأكيد صدق المزاعم في نفس القاضي والقاضي الذي سيأتي بعده ثم بعده وهكذا. سنجد أن تاريخ القضاء قد حفل بالعديد من المرافعات التي جمعت بين القانون والأدب الرفيع وقد استطاع بعض المجتهدين جمع العديد منها وتأليف كتب عديدة عن الأدب القضائي. في قضية اغتيال النقراشي باشا مثلا استمرت مرافعة الدفاع لساعات طوال ، ورغم أنها لم تتمكن من ايجاد ثغرات قانونية جوهرية لكنها اعتبرت من أعظم المرافعات من الناحية البلاغية.
فالمحامي عندما يتلو مرافعته أو يكتبها يجب أن يتمتع بالقدرة على تحفيز واستفزاز جوانب نفسية لدى القاضي فالقاضي هو إنسان مثلنا في كل الأحوال ، يتأثر كما نتأثر حتى ولو اجتهد قدر استطاعته أن يبلغ الحياد ، لكن من منا يمكن أن يكون محايدا على نحو مطلق؟ هذا مستحيل . وعلى العكس من ذلك فيجب على المحامي بقدر المستطاع أن يتجنب إثارة نقاط على نحو يستثير حفيظة القاضي ، على سبيل المثال ؛ بدلا عن استخدام جملة :( أخطأت محكمة الموضوع... أو تجاهلت محكمة الموضوع ...الخ) فعلى المحامي أن يستخدم جملا أقل عدائية وأكثر توقيرا للمحكمة حتى ولو كان حكمها المطعون فيه قد جاء ضد مصلحة موكله.. ، فعليه أن يقول مثلا :( ربما لم تنتبه محكمة الموضوع إلى كذا وكذا... أو .... نحسب أننا قد نخالف محكمة الموضوع في استدلالها على كذا وكذا ...الخ)... فالاهتمام بالجانب النفسي للكلمة مهم جدا. وهناك علم كامل لعلم النفس اللغوي...، فللكلمة تأثيرها الخطير جدا والذي على أساسه قد تحيا رقاب أو تطير رقاب.
أن تترافع يعني أن تحكي قصة ، أن تحكيها بحيث تستخدم اللغة المراوغة وغير الفجة لتحويل موكلك إلى ملاك أو شيطنة الخصم... أن تستخدم المعطيات والوقائع استخداما بكل مصداقية وبدون تحريف ولكن في نفس الوقت بدون أن تحول مركز موكلك القانوني الى مركز سيئ وقلق ومهدد. لقد لاحظت بعض البرلمانات هذا الاستخدام النفسي والذي قد يبلغ أحيانا استخدام بينة الأخلاق على نحو مفرط. ففي جرائم الاغتصاب مثلا يمكن لمحامي الاتهام أن يستخدم ماضي الضحية الجنسي لتشكيل رأي سلبي تجاه المجني عليه. لذلك فالمشرع الأمريكي استحدث قانونا جديدا يحظر التعرض لماضي الضحية الجنسي وإلا فلن يكون ذلك دليلا مقبولا أمام القضاء. لكن مجرد جعل الجزاء على التعرض لماضي الضحية الجنسي هو عدم الاعتداد قانونا بهذا الماضي كقرينة قانونية لا يعني أن التعرض المخالف للقانون فقد كل أثره. نعم فقد أثره القانوني المباشر ولكنه لم يفقد أثره النفسي لا في نفس القاضي ولا نفوس أعضاء هيئة المحلفين. فالمحامي قد لا يلتزم بالقانون ليس جهلا به وإنما لأنه يريد أن يحكي قصته بشكل مقنع عاطفيا قبل أن تكون قصته مقنعة بمنطق القانون.
كيف تقنع هيئة المحلفين كان بحثا صغيرا لم يتجاوز عشر صفحات...، ولكنه بالتأكيد قدم عصارة علم النفس القضائي . وهو علم يدرس الجوانب النفسية في الدعوى القضائية والبعض قصره على الدعوى الجنائية دون المدنية بغير سبب جوهري.
كذلك سنجد مؤلفا عربيا قيما عن علم النفس القضائي من حيث التأصيل للعلامة المرحوم رمسيس بهنام. وفي كل الأحوال فإن مسألة اجتراح علم جديد داخل القانون مرتبط بعلم آخر لن يتوقف لفيض القانون واتساع محيطه المنظم للعلاقات الانسانية المختلفة. وبالتالي فمسألة ان نضع محددات حاسمة لتعامل جميع أطراف الدعوى مع بعضهم بذكاء ومعرفة كل واخد منهم بسيكولوجية الآخر لا يمكن أن تشكل قاعدة مطلقة. الأمر يتعلق عموما بكل دعوى على حدة.. من حيث طبيعة محل الدعوى وطبيعة القاضي (منفتحا او متشددا ، محافظا أم ليبراليا...الخ).. ومن حيث محامي الخصم والشهود والخصم نفسه بل حتى حاجب المحكمة. فكل حركة وسكنة لها انعكاسات نفسية تختلف من شخص لآخر. فهياج المدعى عليه قد يؤثر تأثيرا ضارا ضد مصلحته ، وغضب المحامي قد يثير نزعة الانتقام لدى القاضي. ولذلك فمراعاة الجانب النفسي مهمة جدا في الحقل القضائي. ورغم أنني شخصيا لم اتمتع بهذه القدرة الهامة ولكني رأيت المحامين الكبار يحترفون هذه الفراسة النفسية ، فيضحكوا عندما يحتاج الجميع لكسر حدة النقاش أثناء الجلسة أويتجهموا في لحظة أخرى. وكل ذلك بمعرفة أكسبتها لهم الخبرة وليس العلم التجريدي. لكن هذا لا يمنعني من الإدلاء برؤيتي (التجريدية هذه) ، من باب المثاقفة والنقاش ، ومن باب فتح حقل بحثي جديد لطلبة الدراسات العليا القانونية. فهؤلاء نراهم مؤخرا وقد انكبوا على الابحاث القاعدية مهملين علوما قانونية شيقة وواعدة بل وهامة جدا كعلم النفس القضائي وعلم الاجتماع الجنائي وفلسفة القانون ... الخ. الطلبة لا يميلون غالبا إلى الدخول الى فوهة المدفع هذه ربما توجسا وربما لأن طبيعة البحث عن الدرجة العلمية توهن عزيمة الاستكشاف والتقصي والمغامرة.. هذا فضلا عن قلة المراجع.. (مع ذلك يمكن التغلب على قلة المراجع باستخدام مناهج استقصائية ميدانية كمنهج دراسة الحالة مثلا ومنهج التحليل الإحصائي ...الخ).
وعودا إلى الموضوع الذي ساعمل فيه عصفا ذهنيا محضا ، وهو كيف تحكي القصة كمحامي...
هنا أولا يجب أن أشير إلى نقطة اختلاف جوهرية بين نظامنا القضائي العربي والانظمة الغربية (لاتينية أو قانون عام).. فنظامنا العربي لا يعرف هيئة المحلفين ، وعلى حسب علمي فلم أجد نظاما قانونيا عربيا يأخذ بنظام هيئة المحلفين. وهذه نقطة اختلاف هامة. فهيئة المحلفين لها ضوابط كثيرة بقوانين تنظمها سواء من حيث القضايا التي تكون فيها هيئة المحلفين إجبارية أو اختيارية وسواء من حيث عدد اعضائها إذا كانت هيئة صغرى أم كبرى ، وسواء من حيث حدود الأدلة التي يجب أن تعتمد عليها في تكوين رأيها وسواء في حريتها كنظام يدعم دور القانون الطبيعي الممثل في الضمير المستنير بحرية أو بالحدود التي يجب على القاضي أن يلزم بها الهيئة هذا بالاضافة الى كيفية اختيار الأعضاء والمخصصات المالية التي تعوضهم عن ساعات العمل التي أهدروها بحضور الجلسات.. الخ.
هذا النظام غير موجود لدينا ومع ذلك فهذا لا يعني نقصا في نظامنا ولا كمالا في نظامهم ، فقد نال هذا النظام نقدا كافيا ومع ذلك كانت النتائج حوله متساوية سلبا وإيجابا. لكن يمكن ملاحظة أن جل الانتقادات التي توجه لهذا النظام تكمن في الخلل الذي ينجم عن استجابات نفسية معينة. فمن أحد أهم الانتقادات أن الجوانب النفسية هي التي تتحكم في قرارات المحلفين. فعندما تثور قضية بين شركة ضخمة ذات رأسمال ملياري وعامل أو متضرر فقير فإن الهيئة ستقف ضد الشركة الغنية ليس من باب العدل القاعدي وإنما لأن لدى أغلب البشر شعور بالكره للرأسمالية والاغنياء واعتقادهم أن الأغنياء يستغلون الفقراء كما تصورهم الماركسية. كذلك عندما يكون خصما الدعوى رجل وامرأة فغالبا ما تميل الهيئة للمرأة ، كما قد تتأثر الهيئة بالجوانب العنصرية الأخرى كاللون والدين واللغة ...الخ. هذا فضلا عن ضعف المام اغلب الناس بمبادئ علم القانون.
لقد قرأت مسرحية قديمة عن هيئة محلفين اجمعت فيها الآراء على اعدام المتهم... غير أن أحد اعضائها ونسبة لشعوره بالملل وليس بالعدل.. قرر مخالفة الجميع وبدأ في اقناعهم بشكل مثير جدا بعكس رأيهم ، وبعد جدال طويل حاذق وذكي استمر لساعات انقلب الاجماع على الاعدام إلى اجماع على البراءة.
ولكن عدم وجود نظام المحلفين لا يعني أن الجانب النفسي لا يلعب دوره في نظامنا القضائي ، لقد رأينا مثلا تأثير الرأي العام على بعض الأحكام القضائية ورأينا أيضا أن المحامي الذي عينته المحكمة لأحد المتهمين بالاغتصاب قد اوقع المتهم في ورطة أكبر مما لو لم يكن قد قبل الترافع عنه.... لقد كتبت عن هذا الخطأ الجسيم الذي وقع فيه محامي المتهم حينما أخذ يسيء لمن يفترض أن يدافع عنه وذلك بحجة الأخلاق والضمير . هذا أيضا ناتج حتما عن انعكاس بشاعة الجريمة في نفسية محامي المتهم... بعض القضايا يتأثر فيها القاضي بشخصية المتهم ومركزه السياسي أو الأدبي وبشهرته... الخ. وهنا سيتضح الاختلاف بين نظامنا والنظام الذي يأخذ بالمحلفين كجزء من هيئة المحكمة. ففي حين يكون على المحامي مراعاة الجانب النفسي للقاضي وممثل النيابة العامة في الدعاوى الجنائية في نظامنا فإن المحامي يهتم أكثر بانطباعات هيئة المحلفين في النظام الآخر. وإذا كان على المحامي اقناع القاضي عندنا بقضيته (إدعاء أو دفاعا) فإن عليه اقناع المحلفين في النظام الآخر.
وإذا كان اعتماد نظامنا هنا على المرافعة المكتوبة فإنه هناك يعتمد فوق هذا على المرافعة الشفوية. وإذا كان المحامي عندنا يعتمد على الدفوع القانونية فالمحامي هناك يجب أن يضم إليها جوانب ذات تأثيرات عاطفية. وإذا كان التخاطب في الترافع عندنا يتم بين طرفين عالمين بالقانون ، فهو هناك يتم بين طرفين أحدهما غالبا أقل علما بالقانون أو حتى جاهل به.
بالرغم من ذلك فإن كتابة المرافعة الختامية عندنا ؛ وخلافا لما هو جار ؛ يجب ألا تخلو من الاهتمام بالجانب النفسي للقاضي سواء قاضي الموضوع أو قاضي القانون. فالمرافعة فضلا عن كونها تحاول جاهدة أن تطرح حقيقتها كحقيقة قانونية ومن ثم تعتمد على الضوابط القانونية من حيث الاثبات والاركان والعناصر ...الخ لكنها فوق هذا يجب ألا تخلو تماما من الانعطافات الذكية تجاه الاستقطاب العاطفي ، فمرافعة الختام لا يقرؤها قاضي الموضوع فقط بل حتى قاضي القانون وهو بسببل مراجعة محضر الجلسات لاكتشاف خطأ في تفسير القانون أو تطبيقه.
لذلك فعندما يطرح المحامي مرافعته الكتابية إدعاءا أو دفاعا ، فعليه أن يهتم بملكة الاستقطاب العاطفي إلى جانب الاقناع القانوني. وهنا يندمج القانون بالأدب ، بفن القص والنظم.. أي بفن ترتيب جذاب ومشوق للحكي والسرد ، بحيث تعمل الآليتان على إيقاع تأكيد صدق المزاعم في نفس القاضي والقاضي الذي سيأتي بعده ثم بعده وهكذا. سنجد أن تاريخ القضاء قد حفل بالعديد من المرافعات التي جمعت بين القانون والأدب الرفيع وقد استطاع بعض المجتهدين جمع العديد منها وتأليف كتب عديدة عن الأدب القضائي. في قضية اغتيال النقراشي باشا مثلا استمرت مرافعة الدفاع لساعات طوال ، ورغم أنها لم تتمكن من ايجاد ثغرات قانونية جوهرية لكنها اعتبرت من أعظم المرافعات من الناحية البلاغية.
فالمحامي عندما يتلو مرافعته أو يكتبها يجب أن يتمتع بالقدرة على تحفيز واستفزاز جوانب نفسية لدى القاضي فالقاضي هو إنسان مثلنا في كل الأحوال ، يتأثر كما نتأثر حتى ولو اجتهد قدر استطاعته أن يبلغ الحياد ، لكن من منا يمكن أن يكون محايدا على نحو مطلق؟ هذا مستحيل . وعلى العكس من ذلك فيجب على المحامي بقدر المستطاع أن يتجنب إثارة نقاط على نحو يستثير حفيظة القاضي ، على سبيل المثال ؛ بدلا عن استخدام جملة :( أخطأت محكمة الموضوع... أو تجاهلت محكمة الموضوع ...الخ) فعلى المحامي أن يستخدم جملا أقل عدائية وأكثر توقيرا للمحكمة حتى ولو كان حكمها المطعون فيه قد جاء ضد مصلحة موكله.. ، فعليه أن يقول مثلا :( ربما لم تنتبه محكمة الموضوع إلى كذا وكذا... أو .... نحسب أننا قد نخالف محكمة الموضوع في استدلالها على كذا وكذا ...الخ)... فالاهتمام بالجانب النفسي للكلمة مهم جدا. وهناك علم كامل لعلم النفس اللغوي...، فللكلمة تأثيرها الخطير جدا والذي على أساسه قد تحيا رقاب أو تطير رقاب.
أن تترافع يعني أن تحكي قصة ، أن تحكيها بحيث تستخدم اللغة المراوغة وغير الفجة لتحويل موكلك إلى ملاك أو شيطنة الخصم... أن تستخدم المعطيات والوقائع استخداما بكل مصداقية وبدون تحريف ولكن في نفس الوقت بدون أن تحول مركز موكلك القانوني الى مركز سيئ وقلق ومهدد. لقد لاحظت بعض البرلمانات هذا الاستخدام النفسي والذي قد يبلغ أحيانا استخدام بينة الأخلاق على نحو مفرط. ففي جرائم الاغتصاب مثلا يمكن لمحامي الاتهام أن يستخدم ماضي الضحية الجنسي لتشكيل رأي سلبي تجاه المجني عليه. لذلك فالمشرع الأمريكي استحدث قانونا جديدا يحظر التعرض لماضي الضحية الجنسي وإلا فلن يكون ذلك دليلا مقبولا أمام القضاء. لكن مجرد جعل الجزاء على التعرض لماضي الضحية الجنسي هو عدم الاعتداد قانونا بهذا الماضي كقرينة قانونية لا يعني أن التعرض المخالف للقانون فقد كل أثره. نعم فقد أثره القانوني المباشر ولكنه لم يفقد أثره النفسي لا في نفس القاضي ولا نفوس أعضاء هيئة المحلفين. فالمحامي قد لا يلتزم بالقانون ليس جهلا به وإنما لأنه يريد أن يحكي قصته بشكل مقنع عاطفيا قبل أن تكون قصته مقنعة بمنطق القانون.