نجم عبد الكريم - من آداب الخصومات!.. السجال الأدبي الفكري.. بين توفيق الحكيم وطه حسين.. درس لمن يتراشقون هذه الأيام..!!

بات التراشق بالالفاظ النابية والاصرار بحرص على اختيار الكلمات الجارحة سمة من سمات المواجهات التي نقرأها ونشاهدها عبر ما (تتحفنا) به وسائط الاعلام في كل يوم.

وكان من الممكن البحث عن ايجاد اعذار للمتراشقين لو انهم يفعلون ذلك نتيجة خصومات شخصية لا تخرج عن نطاق قضاياهم التي لا تتجاوز دائرة حدودهم!! ولكن الكارثة ان قضايانا السياسية والاقتصادية والاجتماعية صارت مادة يومية للمتراشقين لينظروا لها تحت اجواء مشحونة بالتوتر والعصبية، فصار يكتنف حياتنا نوع من الجهل المتعلل بالبحث الفكري، وانه لعمري اشد ضراوة من الارهاب الفكري.

* * * وتعالوا بنا نلقي نظرة على نوع من انواع الخصومات التي كانت تحدث في اوائل القرن الماضي على صدر الصفحات بين اولئك العمالقة الذين جعلوا من خصوماتهم واحات فكرية يسيح فيها القارئ لها مستلهما منها العبر تلو العبر، لأنها ـ أي الخصومات ـ وان كانت تنطلق من الذات، الا انها في النهاية كانت تصب في الموضوع.. ففي خصومة حدثت بين طه حسين وتوفيق الحكيم، وقد كتب كل منهما رأيه فيما جرى بينهما. كتب توفيق الحكيم في (2/07/1934) مقالة بعنوان (خصومة) جاء فيها: «بعثت اليه اول النهار بالرسالة التي سماها «باقية على الدهر» ثم اويت آخر النهار الى بيتي، فوجدت اسطوانات «بيتهوفن» التي استعارها مني، قد ردها اليَّ، فعلمت انها القطيعة، فوقفت واجما في مكاني.. وزالت آثار الغضب، ولم يبق في نفسي الا الم عميق: لقد انتهى كل شيء بيني وبين الدكتور طه حسين..!! ولم استطع ان اقرأ شيئا في ليلتي، وما ان اقبل الصباح، حتى اوفدت الى الدكتور طه حسين صديقين كريمين يحادثانه في أمر الرسالة، فاذا به قد دفعها الى المطبعة، واذا به يأبى الا ان يعلن الخصومة الى الناس.. وحاول الصديقان عبثا ان يحولا بينه، وبين هذا الاعلان.. وحاولا عبثا ان يقنعاه بابقاء الخصومة سرا بيننا حتى يعرض امرها على الاستاذ الجليل لطفي السيد، وكلانا ولده، وهو اول من جمع بين القلوب النافرة، لو كان الى ذلك سبيل.. لكن الدكتور طه اراد ان ينتقم فتناول القلم ووضع قصة روى فيها ما كان من امري وامره.

قرأت القصة، فدهشت.. اي روعة واي ابداع! انها في ذاتها اثر من آثار الفن الخالد، اني اشهد انها عمل فني عظيم.. فيها من سعة الخيال وروعة الاسلوب، ما يضمن لها البقاء.. انها هي التي ستبقى على الدهر.

لقد اعجبت حقيقة بهذه القصة اعجابا شديدا.. وهي عندي من اقوى ما كتب الدكتور.. ولقد انساني اطارها الادبي ما احتوته من اتهامات قاسية، وماذا يهم؟ ان شخصي ليس يعنيني كثيرا، كما انه ليس يعني صديقي الدكتور منذ اليوم، انما الذي حفلت به حقيقة، واحفل به الآن هو تلك القطعة التي تشيع الحرارة في جوانبها، ويمتلئ اسلوبها بمرارة مؤلمة.. قطعة لا ينساها من يقرأها.. واغلب ظني ان الدكتور قد اصر على نشرها لأنه يعلم انه قد كتب شيئا جميلا.. واني الآن لأرضى ان يضحي شخصي الزائل في سبيل ظهور هذه القطعة الباقية.. على ان القارئ وقد فرغ من القصة، لا بد ان يسأل نفسه: ما كل هذا الذي بين توفيق وبين الدكتور؟ واني امد القارئ بالجواب فأقول: لا شيء في رأيي غير صداقة لا يمكن ان تزول لأنها صلة بين قلبين اجتمعا على حب الجمال الاعلى، جمال الفن والحقيقة، ولئن قامت خصومة بيننا اليوم او في الغد، فهي خصومة من اجل الرأي والتفكير، ان الشخصية الحرة هي كل ما يحتاج اليه الاديب الحقيقي.. ومهما يكن من قيمة الصداقة الادبية العظيمة لا ينبغي ان تفتات على هذه الحرية.. ان الدكتور طه حسين العميد الرفيع المقام، والزعيم الجليل الشأن في ادبنا العربي الحديث يفهم هذا حق الفهم.. وانه ليعلم اني اقدره احسن تقدير، واضعه من نفسي في اسمى مكان، واحفظ له على الزمن ما اسدى اليَّ من جميل، ولا انسى انه هو الذي القى الضوء على وجودي.. غير انه يخطئ اذا فهم ان صداقتي له معناها التزام موافقته على كل رأي ادبي يبديه، والتسليم والتأمين على كل ما يخرج من قلمه او من فيه.. ان الحكم المطلق اذا صلح في دولة السياسة، فهو لا يصلح في دولة الادب، واني لا أخال صديقي الدكتور طه نفسه يرضى لي او يرضى لفني وتفكيري هذه الحرية المقيدة.. هذه هي كل الخصومة التي بينه وبيني.. فهو قد استاء مني اذ عارضته في بعض آرائه في مقالات نشرت في «الرسالة» او في «المصور» وفاته اني اجد لذة عقلية في معارضة منطقه السليم وآرائه المستقيمة دون ان احفل بالنتائج.. ولقد استاء كذلك مني يوم اخرجت الطبعة الثانية من «اهل الكهف» بغير مقدمته، وعقيدتي انه على حق في هذا الاستياء لو انه فهم من تصرفي اني قصدت خدش كبريائه، او اني رأيت احدا غيره اولى منه بهذا التقديم! اما وقد فهم اني لا اقصد هذا ولا ذاك وان الحقيقة لا تعدو اني شخص بسيط لا امقت شيئا في الادب مثل المقدمات، واني روح حر يأبى ان يقيد نصوصه بتفسيرات فضلا عما قام في ذهني يومئذ من ابطائه انه غير جاد في وعده بالمقدمة.. فهل تراه يصر بعد ذلك على اتهامي بسوء القصد؟.. اني احب الحرية، حرية التصرف، حرية الكلام، حرية ابداء الرأي.. واعتقد ان اثمن كنز يغدقه المجتمع على رجال الفن هو «الحرية»، واعتقد ان خير هدية اهديها صديقي العزيز علي هي «الحرية» ولقد بلغ من اخلاصي في صداقتي لطه حسين ان اعطيته «حريتي».. فهو لن ينسى اني ما اتصرف في عمل ادبي بغير رأيه، وما استشارني احد في امر يتصل بكتبي الا احلت الامر عليه، وانتظرت كلمته فيه.. على اني احب من جهة اخرى ان استعير بعض هذه الحرية احيانا لأناقشه في فكرة من الفكر، او احاوره في مسألة، او ارد عليه في مقال، فأنا كما يعلم الدكتور طه ذو طبيعة لا تسير على نظام.

اني اعطي كثيرا، ثم آخذ فجأة، ثم اعود فأرد ما اخذت.. وعلى صديقي ان يكون رحب الصدر، سخي النفس، كمصرف فتح لي فيه حساب جار.. واني اشهد ان الدكتور طه حسين يحمل نفسا من انبل النفوس واندرها، ولقد سجلت هذه الشهادة في قلبي قبل ان اسجلها في كتابي الفرنسي الذي بعثت به اليه منذ شهرين.. غير ان الدكتور لم يعرفني حق المعرفة، واراه يأخذ بعض تصرفاتي على سبيل الجد، حيث لا ينبغي ان تؤخذ على سبيل الجد.. ولست ادري ماذا كان يضيره لو انه غضب ما شاء من رسالتي العنيفة ثم مزقها دون ان يحفل بها، ودون ان يعلن امرها للناس، ودون ان يدخل الناس بيننا، وهو يعلم لو رجع الى قلبه ان لا شيء في هذا الوجود يستطيع ان يحول بيني وبينه، ومع ذلك فان هذه الرسالة الغريبة قد أدت الى الادب العربي اجل خدمة، فهي التي ألهمت الدكتور كتابة قصة من اروع القصص، واني اؤكد للدكتور انها خير نموذج للون جديد من الادب كان ينبغي ان يوجد.. واخشى ان تحدثني نفسي بتكرير فعلتي كلما طاقت نفسي الى متعة فنية، وكلما انست في انتاجنا الحديث فراغا..

وبعد، فيا صديقي الدكتور انا محزون حقا. فقد فكرت، فاذا خطيئتي بديهية، فقد كان يجب على الاقل ان استشيرك قبل ان ابعث بتلك الرسالة.. فماذا ترى في موقفي منك؟

ويزيدني حزنا لطفك تتجاوز في سهولة وكرم عن كل هذا.. انما انت في حقيقة الامر فنان كبير، فنان حقا.. واني لاعترف بأني لم امنح هذه النفس، ولست انا خليقا بالفن ولا بك، واليك الآن ما تمت عزيمتي عليه اذا احتفظت بغضبك علي فسأعرض عن كل حياة ادبية».

* * * هكذا كانوا يختصمون، والى منطق العقل يحتكمون، وكما قرأتم وجهة نظر توفيق الحكيم.. كان لا بد لكم ان تقرأوا ما كتبه طه حسين لكن المجال لا يتسع إذ يكفينا الاستشهاد بما كتبه توفيق لتقارنوا بين تراشق خصومات هذه الايام والتي تصل في بعض الاحيان الى درجة من الاسفاف والتهريج، وبين تلك الخصومات الادبية التي تعطي قارئها دروسا في معاني الحرية واحترام الرأي الآخر.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى