الحسَّانى حسن عبد الله - بعضُ الخفىِّ في سيرة العقاد

قيل قديمًا في المتنبى إنه ملأ الدنيا وشَغَل الناس. ولو أريدَ للكلمة أن تصدُقَ على أحد في العصر الحديث لكان العقاد أجدرَ الناس في زعمى بأنْ يكونَه. أجلْ، هو كذلك ملأ الدنيا وشَغَل الناس. لكن فرقٌ بين مَلءٍ وملءٍ، وشغلٍ وشغل. كان المتنبى جوَّاب آفاق، أما العقاد فكان كالقابع في بيته لا يفارقه إلا ليعود إليه، أشْبهَ ما يكون برهين المحبسيْن. بيْدَ أنه كان بمواهبه جوَّاب آفاق كذلك على نحو آخر. مكَّنه قلم بليغ تمدُّه مخيِّلة محلِّقة، وطَلَبٌ للعلم لا يفتر، وحسٌّ قومىٌّ أصيل. وهذه الصفةُ الأخيرةُ هى أولُ ما خَطَر لى بعد موافقتى على اقتراح الأخ الكريم السّمّاح عبدالله أن أعرض لسيرة العقاد، أو جانب من سيرته. وليستْ هذه هى المرة الأولى التى ألتفتُ فيها إلى هذا الجانب المهم في حياة العقاد أو سيرته. كانت الأولى في مشاركة لى فى احتفال بذكراه عُقد في المجلس الأعلي للآداب منذ حوالى أربعة أعوام. كانت كلمتى عن "فلسفة الجمال" عنده، وفيها تطرّقتُ إلى العلاقة عنده بين معنى "الجمال" ومعنى "الحرية"، وفيها أشرتُ إلى كراهة العقاد الشديدة للاستبداد، وشهدتُ بأني سمعتُه يسبُّ عبدالناصر سبًّا قبيحًا. وذلك شيء أثار دهشة بعض الناس وفضول آخرين؛ ماذا كان لفظ السبِّ؟ لكني لم أُرضِ فضولًا لأحد، ولا أزال مصرًّا على إبائى التصريحَ باللفظ لأنه لم يكن صريحًا فحسب، بل بلغ الغايةَ في القبح. ولستُ أحبُّ أن أكون راويًا لبذاءة. لكنْ بقى في القصة ما يُروى بلْ ما يجبُ أن يُروَى. قال العقاد ما قال تعقيبًا على إبراهيم الوردانى وهو صفحىٌّ متأدِّبٌ كان يكتب فى "الجمهورية"، التى وُجدت مع وجود النظام الجمهوريّ الجديد. وفي يومٍ من أيام سنةِ ثلاثٍ وستين وتسعمئةٍ وألف فوجئ الناس بصفحة كاملة فى "الجمهورية" فحواها أن النظام الحاكم أخطأ في سماحه للعقاد بالاستمرار في الكتابة، لأن العقاد عدو له. فكان ينبغى أن يُقصى لا أن يمكَّن. وبعد عصر ذلك اليوم جاء العقاد من شقته الأصلية إلى شقة ابن أخيه ليشرب قهوته مع تلاميذه في الندوة الخاصة حيث يكون أكثر إحساسًا بالأمن. وكان طبيعيًا أن يسأله أحدُهم ماذا ترى فيما كتبه الوردانى؟ أطرق الرجلُ برهةً يسيرةً ثم رفع رأسه كالمتنمِّر المتوثِّب وقال ما قال مما عففْتُ عن ذكره، ومما أوجِبُ ذكرَه الآن لشدة حاجتنا إلى أن نتأمَّله طويلًا. قال ما معناه: علم الوردانى أني لا أقْدر على الرد على مثل هذا الكلام، ولو كان الجو السياسى يسمح لصاحب الرأي أن يذيع رأيَه دون حرجٍ أو خوف لكنتُ كفيلًا بأن أجبرَ هذا الرجل على أن يترك البلد باختياره بعد أربع يوميات فقط في "الأخبار". ولكمْ أن تتصوّروا نصّ ما قال إذا استبدلتم "بهذا الرجل" الكلمة القبيحة المتروكة، وإذا ترجمتم بضع كلمات من اللسان العربى إلى اللسان العامى. قال العقاد نصًّا: "يعزِّلْ من البلد باختياره". والآن مطلوب منا جميعًا أن نتفكَّر: ماذا كان يمكن أن تحْويَه أربع مقالاتٍ مما يجبرُ جبَّارًا على أن يهجر ملكه باختياره. "تنبيه": كلمة "ملك" فى صفة النظام الحالِّ محلَّ النظام الملكىِّ سبقنى إليها أحمد عبدالمعطى حجازى فى مرثيته الشهيرة. معنى هذا أنا كنَّا جميعًا مملوكين، أو لنقلْ أوضح وأصرح "أرقَّاء"، وأن الذي جدَّ علينا يوم الثالث والعشرين من يوليو سنة اثنتيْن وخمسين وتسعمئة وألف لم يكن إلا استمرارًا لاستبداد سابق قاده جبَّار سابق اسمه محمد على باشا. ولدىَّ تنبيهٌ آخرُ بعدُ. فى كلمتى عن أحمد حجازى وعمود الشعر أشرتُ فى مستهلِّها إلى رحيل فاروقٍ عن مصر مطرودًا منها، وأنه كان في وداعه السفير الأمريكي "كافرى". غَمُضت الإشارة على بعض الناس. أقول موضِّحًا والمحسنُ القراءةَ لا حاجة به إلى إيضاح: إن بلادنا، كلَّ بلادنا لا مصر وحدها ألعوبة فى يد الغرب، وإن لم نعرفْ هذا ونرتِّبْ عليه المسلكَ السياسيَّ الجدير بالعارفين فنحن بلا شك فى الهالكين. وكأن هذا النذير المعلنَ الآن معلنٌ من قبلُ، ختمتُ به منذ زمن بعيد قصيدةً لى عن بيل كلينتون كان عنوانها "لا سلامٌ عليك"، قلتُ:
ألا كلُّ ما حولنا مذبحٌ ، ألا كلُّ ما حولنا مسرحُ
وأخيرًا معذرةً إن رأيتم شيئًا من التقصير فى الكلام عن الموضوع. إن سيرة العقاد -وإن تكنْ محدودة- وسَّعتها سعة أُفُقه، وكان الوفاءُ بالكلام عنها يقتضى عرضَ جوانبَ فيها متنوّعة، لكنّ الوقت لا يسمح بإدراك هذا المطلب. وعذرٌ آخرُ أن الواقع الذى نحيا فى مضطرَبه هذه الأيام مستوْلٍ بالضرورة على كل لُبّ. فلا مناصَ من الإصغاء إليه في كل ما نأتى وما نَدَع. فلما قيل لي كلمنا عن العقاد، أو عن سيرته، كان الخاطرالأول كما قلتُ سابقًا هو تلك الكلمة التى كانت حبيسةً فى صدري أعوامًا طالت والتى منعنى ضيقى بالبذاءة من ذكرها، ثم هُديت إلى ذِكْر سائرها الذي رأيتُ فيه الخيرَ كلّ الخير. رأيت فيه كيف يَمْثُل فى كلمة بصيرة جريئة عزمٌ صادق على الجهاد الصحيح، الجهادِ بمعنى الكلمة القائمِ على حُسن البصر وحُسن السياسة وحُسن الخلق.
"يعزِّلْ من البلد باختياره". هنا يجتمع الذكاء والحيلة والفضيلة. ويَعزُب الحمقُ والجهل والهمجية. هنا لا لزومَ لأن تُراقَ قطرةُ دمٍ واحدة من إنسانٍ خلقه الله فى الأصل أعجب الخلق ليحيا لا ليُذبح. هنا نحن فى غنًى عن محاكاة الفرنسيين فى وحشيتهم التى لم يزل الغرب يدعوها بالتنوير. هنا لو كان الأمر بيد العقاد عندما شبَّت الثورةُ الفرنسية لوجد الوسيلة إلى إجبار "ماري أنطوانيت" على أن "تعزِّلْ" من فرنسا باختيارها بدلًا من شنقها. ورحم اللهُ أديبنا العظيم.

الحساني حسن عبدالله


أعلى