الحسَّانى حسن عبد الله - مقدمة لدرس طبيعة العروض العربى.. القِسْم الأوَّل

تمهيد
طبيعةُ الشىءِ حقيقتُه، أو صفتُه الجوهريةُ المميزةُ له عمّا سواه. وطبيعةُ العروض العربى - على هذا - غَرَضٌ لكل ناظرٍ فيه. إلا أنّ كُتبَ العروضِ المأثورةَ عندنا لم تستعمل الكلمةَ صراحةً وإنْ صرَّحتْ بقوانينه أو بما يقومُ عليه مِن قواعدَ فى تفصيلٍ وافٍ محقِّقٍ لفائدةِ العلم الأولى وهى تقريرُ الموازين. لكنَّ إغفالَ الكلمةِ يبدو أنه أَغرى المستشرقين - إلى جانبِ إغراءاتٍ أخرى بطبيعة الحال - بالخَوْضِ فى المسألة. ولَمّا كانت لغاتُهم مغايرةً فى أصْل الخِلقةِ للعربية، وكان العروضُ مَبْنيًّا على الشعر، وكان الشعرُ مبنيًّا على اللغةِ، فقد شقّ عليهم ذوقُ الشعرِ واللغةِ والإدراكُ الصحيحُ للقوانين. ذلك أمرٌ مفهوم، أمَّا غيرُ المفهوم فهو أن ينقادَ لهم بعضُ علمائنا الـمُحْدثين، ممن لفّوا لَفَّهم، وأنْ يعتدّوا ما جاءوا به "علمًا" جديدًا يعالجُ ما ظُنّ عيبًا أو عيوبًا فى العلم القديم. ونحن إِذَنْ كأنا بإزاء عروضَيْن، عروضِ الخليلِ - رضوانُ الله عليه - وعروضِ أهل الغرب. وهذا ما لا يُقبلُ، لأن العروض علْمٌ واحد، ولن يكونَ إلا واحدًا. وهذا الذى قلتُه لك الآن قولٌ مُجمل، سيأتيك بيانُه فيما بعدُ، فاصبرْ.
الأوزانُ الشعريةُ التى بين أيدينا قديمة، لكنْ مِن الصعب أن يُقال فى نشأتها كلامٌ يُطمأنُّ إليه، إذْ إن بعضَها عريقٌ، وبعضُها يُظن أنه وُجد بعد العصر الجاهلى، ولكوْنها باعتراف أهل العلم عندنا وعند غيرنا مُنبئةً عن غرابةٍ وفذاذةٍ وقابليّةٍ للبقاء حتى عصرنا الحاضر بعد زمانٍ طويلٍ حيّةً ناضرةً سائغةً، حارت البريّةُ فيها، فكثر فيها التأوّلُ والرّجْم بالغيب، ولا خيرَ فى علمٍ يُبْنى على الظن.
والذى تريدُه هذه المقدمةُ الخلوصُ من الحيرة، وأن يتأدّى أهلُ العلم إلى كلمةٍ سواءٍ تُبْرئه مما حاق به من اضطراب. ثُم إنى أريدك أن تربط تلك الفوضى العروضيةَ بفوضى أخرى أشدَّ منها وأخطر. وهل يَخْفى عليك ما نحن فيه من سوء الحال؟! لَكأن داءً توحّش أنشب نيوبَه فى كل جوانب حياتنا، فحيثما يـمَّمْتَ لقيت موجًا يلتطم، أو ريحًا تهبُّ، أو أُوارًا يتلظّى، وكأن البلاء عَمَّ حتى لم يبْق لنا إلا اليقينُ بأنا لا نجتمعُ على ضلالة. ولعله لا يشقُّ عليك أن تجد وجْهَ الارتباط بين الفوضَيَيْن إن كنتَ ممن يعنيهم الـهَمُّ العام. فإن آثرتَ أن تُغمض عينيْك حتى لا ترى ما يشقُّ عليك مما هو بَيِّن لكل ذى عينيْن فإنى أدعوك إلى مراجعةِ كثير من المقالات والبحوث والكتب التى تصدَّى أصحابُها لمعالجة المسألة "القومية" فى العصر الحاضر، وخصوصًا فى نصف القرن الأخير، وخصوصًا من أهل الفلسفة وعلم النفسِ لترى مبلغَ الاهتمامِ بالحالة الفكرية العامة للأمة، ولترى من وجهٍ آخرَ مبلغَ ما نحن فيه من تَيَهان.
وأكتفى باستشهادِ اثنيْن كلاهما فى تخصّصه شيخٌ عَلَم. يقول الأستاذ الدكتور محمود حمدى زقزوق ناعيًا علينا تقليدَ الغرب: "الخطأُ الذى يقعُ فيه أغلبُ الدارسين للفكر الغربىّ هو أنهم يدرسونه بعيون الغرب، فتراهم يردّدون مجرّدَ ترديد ما يقوله الآخرون. وإذا كان هناك نقدٌ فهو أيضًا نقدُ مفكرى الغربِ لمفكرى الغرب" ... ثم يقول: "نحن فى حاجة ماسّةٍ إلى تغيير أساسىّ فى توجّهاتنا الفكرية لنعرف بكل دقةٍ مَن نحن؟ وما هى أهدافنا الحقيقية؟ وماذا نريد؟ وكيف السبيلُ لتحقيق ما نريده؟ ... ثم يقول: "لا ينبغى بأى حال من الأحوال أن ينفصل الفكر عن المجتمع، ويتجاهلَ مقوِّماتِ المجتمع، تلك المقوّماتِ التى تعطِى لكل مجتمع هويّتَه المتميزة وشخصيتَه المستقلة".[مِن كتاب "مقدّمة فى الفلسفة الإسلامية"]
أمّا الشهادةُ الأخرى فهى للأستاذ الدكتور مصطفى سويف، رحمةُ الله عليه، يقول مِن مقالٍ جَعَلَ عنوانَه "الوعىُ المفقود": "دعانى إلى كتابة هذا المقال دواعٍ متعددةٌ، يأتى بعضُها من خَارجِ الوطن، وبعضُها من داخله، وكلُّها تنذر بأمورٍ بالغةِ السوء تهَدّد مستقبلَ هذه الأمة القريب والبعيد معًا ... وأمامَ هذا الزّحف المتسارع نحونا مِن مصادر التهديد بالغةِ العدوانية على هُويَّتنا وحقنا فى الحياة الحرة الكريمة رأيتُ أن ملاذنا الأولَ فى مواجهته هو شحذُ الوعى إلى أقصى المدى." وفى موضع آخرَ يقول: "فى أوقات التغيّرات الاجتماعية الشاملة والمتسارعة - وهو ما يحدثُ فى مجتمعنا الآنَ - تختلط الأمورُ على الناس، وتهتز فى نفوسها القيم ... ومِن ثَم يصبح فرضَ عينٍ على كل مَن آنس فى نفسه الصلاحيةَ أن يُسْهم بقدْرِ استطاعته فى وضع النقاط على الحروف".[مِن كتاب "مِن بعيد ومن قريب"]
ثُم إنى أريدُك قبل أن نرجعَ أدراجَنا أن تظلَّ على ذُكْرٍ من أمرين جديرين بالذكر دائمًا فيما سَلَف من كلام الشيخيْن العَلَميْن، أولًا أنا مقلّدون، وثانيا أنا مهدَّدون. أمّا التقليدُ فهو الآفةُ التى إذا تمكّنتْ مِن قومٍ فعُدَّهم فى الهالكين، ولقد حذَّر منها قديمًا أبو حامدٍ ناظرًا إليها من وجهٍ، كما حذَّر منها بعده ابنُ تيميةَ ناظرًا إليها من وجهٍ آخر، فارجعْ إليهما تجدْ بإذن الله ما ينفعك. وهى - بعدُ - الآفةُ التى سترى مِن أمرها عجبًا فيما يلى عندما نسبحُ فى بحار العروض.
وأمّا التهديدُ فيكفيك منه أن تعودَ بالذاكرة القهقرى، وأن تُعمل مُخيّلتك لتشهدَ خيلَ نابليونَ وهى تقتحمُ الأزهرَ قبل أكثرَ من مئتىْ عامٍ، ولتشهدَه هو نفسَه وهو يُسقط منّا بأمْره شهيدًا كل يومٍ ليُشيعَ الخوفَ، كما قال، فى أفئدة المقاومين بُغْيةَ زجْرهم. ثم لعلك راءٍ بعدُ أننا أوْلى من الأمريكيين بأن نهتف مثلما هتفوا سنة 1983 فى بيانهم الشهير: "نحن أمةٌ فى خطر".
نَعَمْ فى خطَر. وإلَّا فقُلْ لى بربكَ هل يُعقلُ أن يقول فينا قائلٌ إن العروضَ العربى مستمدٌّ من العروض اليونانى؟! [راجع: المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها: عبدالله الطيب]، وهل يُعقلُ أن يقول فينا قائلٌ إن الشعرَ العربىَّ قديمَه وحديثَه معيبٌ، وأنْ لا شىء يخلّصُه مِن عيبه إلا استعارةُ العروض الإنجليزى؟! [راجع كتاب "النويهى": الشعر الجديد]، وهل يُعقلُ أن يقولَ فينا قائلٌ إن العروض العربى فاسدٌ فسادًا لا علاج له إلا تَرْكُهُ؟! [راجع كتاب أبو ديب: "فى البنية الإيقاعية للشعر العربى: نَحو بديلٍ جذرى لعروض الخليل.]. ثم أخيرًا وليس آخرًا هل يُعقلُ أن يقولَ مستشرقٌ إن الوتِد المجموعَ قسمان، حَرْفُه المتحركُ قسمٌ وآخِرُه قسمٌ، ثُـمَّ أن يكون فينا من علمائنا الكبار من يَعتدُّ هذا القولَ شيئًا يُؤْبَهُ له ويُرَى مسألةً من مسائل العروض تُبحثُ وتُدرس وتُفحص وهى لا تساوى عند أدْنى النظرِ قُلامةَ ظفْر؟! [راجع مقالتىْ "فايل" فى دائرة المعارف الإسلامية، 1913م، 1960م، وكتاب شكرى عياد: موسيقا الشعر العربى.]. أىُّ شىءٍ هذا، وهل هو خطلٌ عروضىٌّ فقط أم خطلٌ عام؟! كيف جازَ فينا ما لا يجوز؟!
هذه مسألةٌ عسيرٌ بلوغُ جوابٍ واضحٍ عليها، وتقصِّيها يخرجُنا من العروض إلى الفلسفة. من موضوعٍ "علمىّ" محدّد إلى موضوعٍ كأنه لا يريد أن يتحدد، بين مشكلة خاصة بالوجود القومى كلِّه ومشكلةٍ مزعومة خاصةٍ بالعروض العربى كلِّه، استفحلتْ حتى قيل لا حلَّ لها إلا بإحلال عروضٍ جديد محلَّ عروض الخليل. إنما اضطرنى إلى مجاوزة التخصص أن العروضيين من أهل الزمن الحاضر تجاوزوه، وأسرفوا حتى غفلوا عن تناقضاتٍ شنيعة، وحتى قال قائلهم إن ما نحن فيه من تخلّفٍ وعجزِ ما يقال له العقلُ العربى عن اللّحاق بركب النهضة العلمية العالمية الحديثة إنما هو من أثر طرائقنا القديمة فى التفكير، ومنها طريقتنا فى النظر إلى طبيعة علم العروض. وهذا المنحى فى رؤية واقعنا هو - عندى - ليس فكرًا، وإنما هو حالة نفسية شاذّة، تستبدّ بأصحابها فيميلون إلى بـخس أنفسهم وتضخيم غيرهم، ولو استبدّتْ أكثرَ رضُوا بها حتى يَفْتِك بهم الاستخذاء.
أعطانا الخليل علمًا نافعًا، معتَمَدًا عندنا وعند غيرنا، فماذا أعطانا منكروه؟! إليك مثلًا: رأى المستشرقون أن العروضيين العربَ القدماء جهلوا قسمةَ "المقاطع" اللغوية إلى قصيرٍ وطويل، وأن هذا عيبٌ - فيما زعموا - خطير، ونظر الدكتور محمد مندور فيما زعموا ووافقهم عليه، ثم ذهب يطلب علةَ العيب فهداه نظره إلى أنها عدمُ اطلاع العرب على العروض اليونانى، كأنه أراد أنهم لو اطلعوا عليه لوجب عليهم أن يأخذوا به! ورَأَى الدكتور عبدالله الطيب - وهو من كبار العارفين باللغة فى العصر الحديث - أن العروض العربى اختراعٌ عجيبٌ، مدهش أشدَّ الإدهاش، وأنه يلزمُ لهذا أن يُبحث فى مصدره فهداه البحثُ إلى افتراض عجيب كذلك، مدهشٍ كلَّ الإدهاش، أن العروض اليونانى بَلَغَ العربَ بعد رحلته إلى فارسٍ فأخذوا به لكونه قائمًا على القسمة المقطعية المعتمَدة فى فقه اللغة الحديث، وهى القسمة القائمة فى الشعر العربى واللغة العربية، وبهذا استبعَد أن يكون العرب اهتدوا إلى عروضهم استجابةً لهداية الفطرة، وكأنه أراد أن العبقرية العربيةَ من الضآلة بحيث لا يُتصور أن تبتكر وإنما قُصاراها أن تقلّد ! وواضحٌ أننا بإزاء تعارضٍ حادّ. فى طرفٍ: "عَرَفَ" العربُ العروضَ اليونانىَّ، وفى الطرف الآخر: "لم يعرفوه".!
وهاك مثلًا آخر: فى بعض لغاتِ الغرب كالإنجليزية والألمانية ظاهرةٌ يقالُ لها بالإنجليزية Stress، وبالألمانية Druck أو Akzent، وليس لها فى العربية أو علومها اسمٌ أو ذكْرٌ، والسببُ أنها ليست فى لغتنا ظاهرة أساسية، لكن بعض اللغويين المحدثين عربًا وغير عرب ظنوها شيئًا قابلًا لأن يكون له فى العربية شأن فاعتنوْا بدرسها وسُميت مع برجشتراسر - المستشرق الألمانى - "الضغطَ"، ومع إبراهيم أنيس "النبرَ" وقُدّر للفظ الأخير أن يشيع. والنبرُ نوعان، نبرُ شدةٍ، ونبر ارتفاع، والأولُ هو المقصود فيما يتعلق بلغتنا. قال الألمانى: لا وجود له فى العربية، وقال العرب: هو موجود وله قوانين. وواضحٌ هنا كذلك أننا بإزاء تعارضٍ حادٍّ. [راجع لبرجشتراسر: التطور النحوى، ولأنيس: الأصوات اللغوية.] ولعلَّ فى هذيْن الشاهديْن ما يكفى دليلًا على أن مسألة طبيعةِ العروض العربى قد وقعتْ فى حيْصَ بَيْصَ منذ ما وقعتْ فى أيدى العروضيين المحْدثين عربًا وغيرَ عرب. وسنرى فيما يلى - فى المقدّمة وما بعدها من تفاصيلَ إن شاء اللهُ - مزيدًا من الدليل.
لكنْ لم يزل عندى ما أجدُه لازمًا أن تشتملَه هذه الكلمةُ التمهيدية. وعسى أن ينحصرَ فيما يلى:
1. لكلّ لغةٍ خصائصُها؛ بعضُها جوهرٌ، أى مميِّزٌ أساسى، وبعضُها عَرَض، أىْ يُوجَدُ غيرَ مميِّز. هذه حقيقةٌ يجبُ أن تكون فى بالك وأنت تنظرُ فى مباحث العروض، وفى كل مبحثٍ لغوىّ. لأن الغفلةَ عنها مفضيةٌ حتمًا إلى خطأ. وهذا ما وقع فيه العروضيّون المحدثون فى محاولاتهم المخفقةِ فى تفهّم العروض العربىّ. غفلوا فكان ما كان من تخليط، أو مما دعوناه من قبلُ بالحيصَ بيص. وخُذْ شعر اليونانية القديمة مثلًا - إن عروضه - كما يقول الخبراء - كمىّ أى يقومُ على قسمة مقاطعه إلى قصير وطويل. والنبرُ قائمٌ فيه كذلك، لكنه عَرَض فيه لا جوهر. فلو حاول شاعرٌ يونانى أن يستبدلَ بالكمِّ النبرَ لما جاء إلى قومه إلا بقبيحٍ مستهجن. وخُذ مثلًا آخر من الإنجليزية، إنّ عروضَها نبرىّ، أى يقوم على قسمة مقاطعه إلى خفيفٍ وثقيل، والكمُّ قائمٌ فيه كذلك، لكنه ثانوىّ - فلو حاول شاعرٌ إنجليزىّ أن يستبدل بالنبر الكمَّ لكان محتّمًا أن يخفق، ولَـمَا أتى إلا بغثاء. وهذا ما جرى مرةً فى تاريخ الشعر الإنجليزى واضطُرّ أصحابُ المحاولة إلى العدول عنها لثبوت أنها عملٌ غيرُ صالح.
ثم نأتى إلى لغتنا. قائمٌ فيها على نحوٍ ما الكمُّ - أى تباينُ المقاطع، أو ما سُـمِّى بالمقاطع، من حيث طولُها أو زمنُ النطق بها. وقائمٌ فيها النبرُ على نحوٍ ما، أىْ قسمة المقاطع إلى شديد وغير شديد. لكنَّ الصفتيْن كلتاهما عَرَضٌ لا جوهر. وإذَنْ يثبتُ إذا صحَّت الحقيقةُ المقرّرةُ سابقًا - وهى صحيحة بلا ريب - أن اعتمادَ إحدى الصفتيْن، أو كلتيهما، جوهرًا هو ضَرْبٌ من الخَرَق. أما الصفة الجوهرُ فى العربية فآتٍ ذكرُها فيما بعدُ فى فِقرةٍ من فِقرِ المقدمة.
2. قديمًا قال أبو العلاء:
وإنى - وإنْ كنتُ الأخيرَ زمانُه - لآتٍ بما لمْ تستطعْهُ الأوائلُ
كلُّ ذى طموحٍ يقولُ قولةَ شاعرنا الحكيمِ تلك. وحَسَنٌ أن يكونَ لك عقلٌ عامل. وأن تحاولَ السموّ، لكنْ ليس حسنًا الاعتسافُ والادّعاءُ واستعجالُ بلوغِ الغاية. وكأن شيئًا من هذه الآفاتِ أصاب العروضيّين المحْدثين عربًا وغيرَ عرب. وكأن مطلبًا لكل منهم أن يزعمَ أنه مجدِّد، أو أنه أحدُ "صناديدِ أخرياتِ الزمانِ". لا بأس. ألَمْ نقلْ من قبلُ إن التقليد عيب؟ بلى قيل. لكنْ فاتنى استدراكٌ: إذا دَفَع بك تَرْكُ التقليد إلى التهوّرِ فالتقليدُ حينئذٍ خيرٌ من التجديد بلا ريب. ولو أنك تقصّيت كلَّ ما جاءنا به أولئك المحْدثون لوجدتَ عند كلٍّ منهم شيئًا من التهور. لكنْ دعنا ننظرُ إلى الشاطئ الآخرِ لنرى ماذا هنالك. تحت عنوان "أسسٌ جديدةٌ لدراسة العروض العربىّ" يقول الدكتور شكرى محمد عيّاد رحمة الله عليه: "منذ نحو رُبع قرنٍ، أى قبل حركة الشعر الجديد بعدة سنوات، وقبل أن تنشر نازك الملائكة كتابها "قضايا الشعر المعاصر" بنحو عشرين عامًا، كانت الجامعةُ مركزًا لدراسة رائدةٍ تبحث عن أسس جديدة للعلوم اللغوية العربية، فظهر إحياء النحو لإبراهيم مصطفى فى أواخر الثلاثينيات، وقام حوله جدلٌ غير قليل، وظهرت دراسات مفردة عن تاريخ البلاغة العربية ومناهج تجديدها لأمين الخولى، لـخّصها بعد سنواتٍ فى كتابه "فن القول" 1947 ثم جمعها فى كتابه "مناهج تجديد" - 1961. وكان للعروض نصيبٌ من هذا الجهد ..." ثم يقول بعد كلام: "يجبُ إذَنْ أن يُدرس العروض العربى من جديدٍ على أسس من علمى الأصوات والموسيقا. لكن هذا ليس كلَّ شىءٍ فى تجديد العروض، فإن المادة التى أقام عليها علماءُ العروض علْمَهم تحتاج أيضًا إلى إعادة النظر". [راجع: موسيقا الشعر العربى - مشروع دراسة علمية.]
أما بعد فإن العلم - قطعًا - إضافة. والإضافةُ تجديد. والإضافة، أو التجديدُ، شأنُ العلم والعلماءِ حيثما كان علمٌ وعلماء، وفى كل زمان. لكنْ قلْ لى بربكَ ما هذا الذى انتابنا حديثًا - وكأنه حُمَّى - فجعلنا نسرف فى الإلحاح على ذكْرِ الجدةِ ومشتقات الجدة فى موجِبٍ وبلا موجب؟! لم يكن الحالُ هكذا قديمًا. وبين يديك تاريخنا كلُّه فانظرْ هل تجدُ فيه مثلَ هذه الحمى؟! يبدو أن القدماء كانوا أعقل.
فإذا كان الدكتور شكرى وضَع كتابه استجابةً لما عمَّتْ به البلوى أو لما سُمى بروح العصرِ، أو رأى أن الجدّة فى ذاتها مطلب دون اعتبارٍ لنتائجها فقد جانبه السداد. إن طالبَ العلم، المحبَّ له، لا يعنيه إلا إدراكُ الصواب، وهو فى طلبه حتى يَـجدَه. وإذا بَلَغَ مرادَه فإن أهل الاختصاص سيشهدون له لا محالة. ولن يكون بحاجة إلى أن يُطنطِنَ أو يُطَنطَن له بأنه مجدِّد، أو أنه أتى "بما لم تستطعْه الأوائلُ".
3. العقلُ - فى جوهره - قرار. لا أقول ‘عندى’ لأن هذه قضيةٌ بديهية، وهى إذَنْ صادقةٌ عندى وعند كل أحد. لكنّ متفلسفًا يونانيًّا قديمًا اسمُه ‘بروتاجوراس’ زَعَمَ عكسَها. وهى بداهةٌ انتفعَ بها شاعرُنا القديم نابغةُ بنى ذُبيانَ فى قوله:
نُبّئت أنّ أبا قابوسَ أوعدنى، ولا قرارَ على زأرٍ من الأسدِ
مصوِّرًا أحسنَ تصويرٍ حالةَ المطارَدِ الخائف. أقول إن الذى يرضَى بعكس تلك القضيةِ إنما يختار لنفسه واعيًا أو غيرَ واعٍ تلك الحالةَ البائسةَ التى يكون عليها كلُّ مطاردٍ خائف. حالةٌ لا يرضاها، أى لا يَقرُّ عليها، عاقل - لأن العقلَ إنما جُعِل للركون إلى شىء، شىء ما، سُمّىَ فى علم الفلسفة بالحقيقة. وكأن العقادَ حذّرنا التوغلَ فى طلبها حتى نجدَ أنفسَنا عاجزين عن القرار، فى قوله:
إذا ما ارتقيْتَ رفيعَ الذُّرَى، فإياكَ والقمةَ الباردةْ
أىْ حيثُ تنْبَتُّ فلا تقْوَى على اتّخاذ وُجهةٍ أو رأىٍ يُتَّجه إليه.
تلك الحالةُ البائسةُ أزعمُ أن نارَها تدنو، وأنها توشك أن تصبح عندنا مما تعُمُّ به البلْوَى. هناك عديدٌ من الشواهد، وشاهدى الآن مستمدٌّ من كتاب "موسيقا الشعر: مشروعُ دراسةٍ علمية" لشكرى عيّاد، غَفَرَ اللهُ له. رَأَى مستهلَّ كتابهِ أن الدراساتِ العروضيةَ الحديثةَ لا تتفق على آراء واحدة، ‘فنحن إذَنْ أمامَ علمٍ يخضعُ لتغير سريع، ككثير من الدراساتِ العلمية فى هذا العصر’. قال: ‘ولكنا لا نضيق بذلك فنحن نعلمُ أن وظيفةَ القواعدِ - فى كثير من الأحيان - هى تغطيةُ ‘الجهل’. ثم قال كالمحتجّ لرأيه ‘إننا لو استطعنا أن نصلَ إلى الحقيقة كلها يومًا فى أى أمر من الأمور لَوجب أن ننقطع عن التفكير فيها، وفى هذا الانقطاع نفسِه فناءُ الحقيقة’. ثم قال: ‘حسْبنا إذَنْ أننا فى سَعْينا نحو الحقيقة العلمية تتكشف لنا أشياءُ يثبتُ صدقُها بالممارسة العلمية وإن ظلّتْ الحقائقُ نفسُها بعيدةً عنا، بلْ وإن ازدادت بُعدا، كما يُفاجأُ المرءُ بأنه كلما ارتفع وَجَد الأفقَ أمامه أكثر اتساعًا’. ثم يعترف الأستاذُ فى ختام رأيه بأن معظمَ ما كُتب من النقد حول الشعر الجديد ‘عَجَز عن أن يقدّم خدمةً حقيقيةً للشعر - جديده وقديمه - باتّخاذه موقف الهجوم أو الدفاع’ تلك هى الخلاصةُ عنده: لا تهاجمْ ولا تدافعْ. أى لا تقلْ - فى أىّ من الأمور نَعَمْ ولا تقلْ لا. وحسْبُك من النظر - بعبارته - "توضيحُ المشكلات" أى مجردَ توضيحٍ، وإياكَ أن تَقْطعَ فتخرجَ عن مقتضى ‘مناهج البحث العلمى’، أو ما سمّاه ‘مشروع دراسةٍ علمية’! ولعلك لست فى حاجةٍ إلى بيان يوضح لك وجه الشبه بين هذا الكلام وكلام اليونانى القديم، الذى ‘وصف فى تاريخ الفلسفة بأنه مجرد سفسطة، أىْ - بالعربية - ليس إلا لغوًا. ويشق علىّ الاستطرادُ فى الوصف لأن الرجل برغم فداحة الخطأ إن كان كبا فى هذه فله فى غيرها إحسانات تشهد له بأنه أحد أهل الفضل.


الحساني حسن عبد الله



أعلى