هل هناك أشباح في أحذية فان غوغ ؟
ليكن هذا السؤال هو الذي تركبه الفلسفة في هذه الطرق الانتقالية والقناطر المتحركة وعواصف الرمل والنار التي تعصف بنا في هذه الثورات العربية الرائعة.. أيّ سؤال بوسعه حينئذ أن يحملنا الى الحقيقة في فنّ الرسم. هنا نبدأ بالتفكيك بوصفه سحرا وبدريدا باعتباره يحمل اسمه جيّدا: ساحر يلعب بالكلمات ويبعثرها كيفما راق مزاجه.. شيطان يكتب عن الحقيقة.. لكنه لن يحدثنا عنها بنفس أسلوب الفلاسفة التقليديين.. ولن يصالحنا مع أي شكل من الواقع .
ينفتح نص دريدا في الفصل الرابع والأخير من كتابه " الحقيقة في فنّ الرسم " اذن على الجملة التالية.. فلندخل سويّا هذا النص لأن قارئا واحدا لا يكفي.. فالمتوحدون قد تداهمهم الأشباح.. يقول دريدا بكل بساطة ما يلي: " وبالرغم من ذلك. انّي لم أعد أتذكّر البتّة من كان يقول " ليس هناك أشباح في لوحات فان غوغ"؟ لكنّنا لدينا فعلا ههنا قصّة أشباح. بيد أنّه ينبغي أن ننتظر أن نصير أكثر من اثنين من أجل أن نبدأ ".
ما رأيكم في هذه البداية؟ قد تقولون عادية وقد تقولون قصصية وقد تبدو لكم مُخيفة وغرائبية عجائبية لأنها بدأت ببثّ الأشباح في قلوبكم.. هل يخيفنا دريدا من التفكيك بنثر الأشباح على قارعة النصوص والرسوم؟ هل يهدّدنا بعودة الأشباح لو لم ننصف مناطق الصمت والهامش ومواقع الأحذية الفاغرة التي لا وجه لها ولا أقدام ولا طريق؟
بوسعكم أن تُفكروا بما شئتم من المعاني والتأويلات. ذلك أنّه بقدر ما تولد فيكم تحت وقع الأحذية من امكانيات الفلسفة والأسئلة بقدر ما ينجح التفكيك. لكن ما ذا يقصد دريدا بالأشباح؟ وما علاقة الأشباح بالأحذية؟ الأشباح هي كما يعرف الجميع أرواح تائهة عن جثامينها هاجرتها وطارت تبحث لها عن أجسام أخرى لم يدركها الفناء. فالأشباح تحبّ الحياة وتهرب من الموتى. لكن لماذا نخاف الأشباح؟ ولا ننسى الدور التربوي للأشباح التي كانت تُصاحب مخيّلاتنا الصغيرة ونحن أطفالا.. وكان آباِؤنا يهدّدونا بها كلما حاولنا المُغامرة فيما أبعد من دائرة المسموح به. دريدا يستعمل الأشباح هنا كي يُغرينا بالسير معه نحو المجهول. فالأشباح تُغري بالفلسفة لأنها تكره الموتى وتطير بحثا عن الحياة في أجسام أخرى.
نحن اذن ازاء قصة أشباح. انها تسكن تحديدا لوحة أحذية فان غوغ. من أين جاءت الى هذه اللوحة؟ أيّ الجثامين هاجرت؟ وأيّ الأجسام الحيّة تطلب؟ وما هي شروط الانتساب الى هذه الأشباح؟ ولأوّل مرّة يصير للأشباح شرف الاقامة في نصوص الفلسفة.. لأنّ هذه الأشباح هي نصوص الفلاسفة أنفسهم وتأويلاتهم للحقيقة في فنّ الرسم. ولكل منّا حينئذ حق اختيار شبحه المُفضّل ان كان بوسعه أن يختار جسمه جيّدا. وان كان بوسعه أن يختار حياته وموته جيّدا.. لدينا اذن أكثر من شبح في هذه القصة عن الأحذية بعامة وعن أحذية فان غوغ نموذجا. وما علاقة النموذج بالنسخ حينئذ؟ وما الفرق بين الشبح والنسخة والطيف والمسخ..؟ الشبح روح تائهة لجثمان والنسخة تحاكي الأصل والطيف هو الشكل الأخفّ والأضعف من الكائن والمسخ كائن خيالي مرعب ..
أيّ الأشباح هو الأقرب الى الفلسفة؟ هو شبح الفيلسوف نفسه الذي يمضي جسمه الذي به كتب وفكّرويبقى شبحه بين السطور راعيا أمينا ووريثا شرعيا لشخص الفيلسوف وعقله وقلمه. ههنا وازاء لوحة أحذية فان غوغ سوف تتضاعف الأشباح وتتكاثر الأرواح التائهة المتنازعة على ملكية هذه الأحذية: فان غوغ نفسه وهيدغر وشابيرو ودريدا مُصمم هذا الركح الفلسفي العجيب التراجيدي والعدمي معا. وربّما أشباح أخرى لكل قارئ تجرّأ على الاقامة قليلا أو كثيرا في هذا النص الشبحي لأنه لا شيء غير حروف وجمل و كثير من اللعب و قليل من جنون الكتابة .
انها بداية للفلسفة لا تشبه أيّ أسلوب آخر في البدايات. فالتفكيك مُضادّ لفلسفات النسق التقليدية التي تُؤمن بالبدايات والنهايات. لا بداية للنصوص ولا للفلسفة ولا للكتابة ما دمنا نسكن العالم على نحو دائري.. نحن كائنات تحيا وفق هندسة كُروية منذ كوبرنيك وغاليلي.. لا أحد بوسعه أن يستعيد ذاكرة الكسمولوجيا القديمة حيث السماء فوقنا مليئة بالآلهة والأرض حظيرة للنوع الحيواني برمته.. ودريدا لم يعد يذكر.. بداية مضادة للذاكرة ولفنّ التذكر الأفلاطوني.. نسيان مقصود أو سياسات أخرى للذاكرة.. لا يهم لأننا لا نتذكر ههنا غير الأحذية والأشباح التي تسكنها بعد رحيل أقدامها عنها.. أحذية فان غوغ اذن قد تكون على ملكية شبح يزورها ليلا كلّما أنهكه التشرّد.. هو شبح بلا منزل قارّ يلتجىء الى الأحذية بوصفها مقرّه الآمن الوحيد.. شبح لا ينشط الاّ ليلا فهو يقتات من الظلام حينما تنجح أجهزة النفوذ في تنويم الجميع.. تبقى الفلسفة والعقول الحرّة يقظة وتنشط في شكل أشباح …
دريدا
ولأنّنا ازاء قصّة أشباح علينا أن ننتظرقليلا.. وبالتالي على الكتابة أن تتريّث و على النصوص أن تُبطئ الخطى. علينا ألاّ نحثّ خطانا وان اقتضى الأمر أن نُمسك عن الكلام لأن الأشباح لا تقيم الاّ ضمن الصمت. يوصينا دريدا بأن ننتظر سويّا على حافة النصوص وعلى حافة الأحذية حتّى يصير كلّ منّا أكثر من واحد.. علينا أن نحمل أشباحنا معنا كي ندخل هذه القصّة ذلك أن عزلة الفيلسوف لم تعد وصفة ناجعة للتفلسف. ان التفكيك شأن جماعي لأناّ لن نقاوم الأشباح المندسّة بيننا الاّ ونحن جماعات. حذار فأنت لن تكتب عن الأحذية وحيدا. سوف يُصاحبك فان غوغ وتُصاحبك أحذيته. ومعك سوف تسير الفلاّحة صاحبة القدمين المتعبتين، وسوف يصحبك هيدغر وشابيرو ودريدا نفسه ويصاحبك فن الرسم وتُصاحبك الفلسفة. لا تُحاول أن تُقصي أيّا من أصحابك فأنت تحتاج الى أقدامهم جميعا كي تنصف الأحذية .
بداية للدخول في الأحذية لا تشبه أيّة بداية أخرى.. ههنا بقدر ما تتماثل أساليب البداية بقدر ما تفشل الفلسفة ويتعطّل التفكيك. فلنجرّب فنّ الاختلاف ولنذهب بتجاربنا الفريدة الى أقصى حدودها علّنا نعثر على شيء من الفلسفة أي من الحرية أي من امكانيات الحياة نفسها.. علّنا بالأحرى نضاعف الأشباح بدلا عن اقصائها ومُطاردتها أو الهروب منها خوفا ورعبا.. فالأشباح التي تُغرينا بالتفلسف هنا وتراودنا على الكتابة هي الفلسفة نفسها، نصوصها وكل ما تبقى من الأفكار في حقولها …
كيف نبدأ في الفلسفة وكيف ننتهي؟ سؤال شغل هيغل ومن بعده هيدغر واستأنفه على نحو تفكيكي دريدا. ويبدو أنّ الجميع قد اتّفقوا هذه المرّة أن ليس هناك بداية للفكر ولانهاية.. لأننا نقيم داخل الدائرة. بوسعنا أن نبدأ من النهاية أو من الوسط أو من أيّ هامش. لا فرق من أين ندخل في الفلسفة لأنّه لا وجود لطريق جاهز سلفا وسابق عن مسارات التفلسف. ولاننا غادرنا عصرالكتاب ودخلنا عصر الكتابة بوسعنا أن نبدأ من "كفانا قولا. هاوية وهجاء للهاوية". ماذا نفهم من هذه البداية الخاصة بفنّ التفكيك؟ وحينما نكفّ عن القول كيف سنتفلسف في الحقيقة أو في فنّ الرسم أو في الأحذية؟ وهل نكفّ عن ممارسة الفلسفة حينما نكفّ عن القول؟ وهل نصمُتُ كلما توقفنا عن الكلام؟ وحينما هناك صمت هل يتعطل التفكير؟
يُجيبنا دريدا كاتبا لغة الصمت: " أن نبدأ وأن ننتهي بـ" كفى" لا علاقة للأمر بالكفاية ولا باكتفاء الاكتفاء ولا بأي شكل من القناعة والرضا.." نحن لا نكفّ عن الكلام لأنّا اكتفينا منه وأخذنا منه نصيبنا أولأنّا رضينا واقتنعنا واكتفينا.. بل لأنّا تحررنا من الكلام ونطلب الآن أن نكتب الصمت بكلّ أطيافه المسكوت عنها والمقصية والمُهمّشة والتي تقف على الحدود والتخوم بلا أوراق رسمية للدخول في قارة غطرسة اللوغوس. ههنا يصير التفلسف اقامة ثرية في الصمت بدلا عن لوغوس بأنساقه ومفاهيمه وكل أشكال تواطئه مع أجهزة النفوذ .
بدأنا اذن والبادئ أظلم. من هي أحذية فان غوغ؟ كيف سنعيدها الى أصحابها و كيف سنقيم في خوائها المُظلم وفي عتمتها الحالكة؟ لقد ذهب في اعتقاد الجميع أنّ الأمر يتعلّق بزوج من الأحذية. لكنّ دريدا يتصدّى لهذا الاعتقاد. هيدغر اعتقد بأنّها زوج من الأحذية لفلاّحة تجوب الحقول، أماّ شابيرو المُختص في النقد الفني وصاحب كتاب حول رسومات فان غوغ تحديدا، فقد ذهب الى القول بأنّها أحذية الرسّام نفسه .لكن لا أحد وضع " هويّة" هذه الأحذية موضع شكّ أو سؤال. ويسأل دريدا مفاجئا الجميع: ومن أين أتاهم اليقين بأنّ الأمر يتعلّق بزوج من الأحذية.". وما معنى الزوج حينئذ؟". هنا يتدخّل فنّ التفكيك مُسائلا أكثر الأمور التي نتوهّم أنّها بديهية بذاتها. ليس ثمّة نقطة أرخميديس في التفكير.. نحن نسيرعلى أرض زلقة لا نعرف اللحظة التي سوف نسقط فيها ولا اللحظة التي سوف ندرك فيها برّ الأمان.
وحينما نقول أنّها زوج من الأحذية ففي طيّات اعتقادنا هذا ثمّة الكثير من الأحكام المُسبقة الخفية ومن علامات غطرسة اللوغوس. ثمّة الرغبة في اختزالهما في هُويّة واحدة وفي السكوت عن عجرفة براديغم الهُوية الذي يُفكّر بالأصول والذاكرة واستبداد الهو الهو الذي لا يقبل الاختلاف والتعدد.. ثمّة أيضا الرغبة في المُصالحة وفي الوصل وفي طمس الثقوب ومواقع الخلاف والعطالة.. ثمّة رغبة في النسق والنظام وفي المُحافظة على استقرار الوقائع و النصوص وانقاذ الواجهة.. ثمّة استئناف لرسم فلسفي لاهوتي معا يختزل الوجود منذ أفلاطون وأرسطو الى ديكارت وكانط في الثنائيات بين المادّة والصورة والله والعباد والمتناهي واللامتناهي والجوهر المفكّر والجوهر الممتدّ والذات والموضوع.. والأخطر من كلّ ذلك على مصير الأحذية هو أنّ وراء الوصل بينها واختزالها في مؤسسة الزوج والزواج ثمّة رغبة في اسنادها الى ذات تملكها.. ثمّة براديغم العودة الى الذات وثمّة براديغم الملكية الخاصة.
ليست أحذية فان غوغ "زوجا من الأحذية" .انّما هما حذاءان منفصلان لا علاقة لأحدهما بالآخر غير علاقة الجوار الاعتباطية. بل وأكثر من ذلك لا هُويّة لهذه الأحذية غير أنّها انّما " صُمّمت من أجل أن تبقى هناك" على ذمّة فنّ الرسم. وكلّ معارك النسب والاسترداد والهُوية هي معارك ثانوية. انّها مودعة في فضاء اللوحة فاغرة الأفواه مُبهمة لا تبالي بمن ينظر اليها ولا بمن يتخاصم في شأنها. بل انّها هي التي تحدّق فينا وتضحك ملء قدميها التي هاجرتها من سخف معاركنا وتأويلاتنا المُتغطرسة التي تدّعي امكانية معرفة حقائق الأشياء وتطويعها وتخزينها في المخزن الكبير للعقل البشري.
يقول دريدا: ".. وانّ انفصالهما لأمر بديهي. انّها أحذية مُنحلّة، مُهملة ومنفصلة عن الذات الحاملة والمُستحوذة أو المالكة، بل هي مُنفصلة حتّى عن الذات المُؤلّفة _المُوقّعة.. وهي مُنفصلة في حدّ ذاتها (لأنّ خيوطها مُنحلّة)."
لذلك يقف دريدا طويلا عند ضرورة كسر جهاز الوصل البديهي بينهما …فتراه يتوقف عمدا وعلى نحو تراجيدي عند السؤال التالي: " ما هو الزوج في هذه الحالة؟ هل سوف تُغيّبون سؤالي؟ أو أنّكم، ومن أجل ألاّ تُصغوا اليه، تُضاعفون من السرعة في تبادل هذه الأصوات.. هذه الخُطب اللامُتكافئة؟ ولسوف تختفي قوافيكم سريعا ..مُتقاطعة ، مُتشابكة معا، مُجتمعة برمّتها ضمن نقطة تقاطع انقطاعاتكم نفسها .لن تُنكروا ذلك : اختصارات ظاهرة وكثرة مُتصنّعة تماما. وتبقى حقبكم بلا أصول قابلة للحساب بلا وجهة، بيد أنّها تشترك في النفوذ. وانّكم في كلّ ذلك لتجعلونني بعيدا عنكم، أنا نفسي ومطلبي، الى حدّ يقع فيه اجتنابي كما لو كنت كارثة. غير أنّي أُصرُّ ضرورة : ما هو الزوج في هذه الحالة ؟ "
هكذا تُكتب أسئلة الصمت.. ضدّ أسئلة الكلام التي كلّما تكلّمت الاّ وأسكتت أسئلة أخرى.. خطاب الكلام هو خطاب مستعجل يحثّ الخطى مُتجاهلا للأسئلة الحقيقية لأنها أسئلة تُشوش عليه صفاءه المزعوم.. وويل حينئذ لكل من يصرّ على تعطيل سرعة النسق و لهفته على الاستقرار الموهوم. سوف يقع اقصاؤه واستبعاده كأنّه "كارثة ". انّ التفكيك كارثة على كلّ هذه الخطابات المُتصنعة وعلى هذا الضجيج والتهريج الذي يُغيّب الأسئلة الحقيقية .
من هي اذن هذه الأحذية؟ يجيب دريدا قائلا: " وفي كلّ الأحوال فهما منفصلتان، تُحدّقان فينا بفم فاغر أي بفم أبكم، فاسحتين مجال الكلام والحيرة أمام أولئك الذين دفعتهم الى الكلام.. وهي لتدفع الى الكلام على وجه الحقيقة. وانّها لتصير كما لو كانت مُدركة لكوميديا هذا الأمر الى حدّ الضحكة المُتواصلة المكتومة باستمرار. ازاء هذا التمشّي ضدّ الواثق من نفسه، يضحك الشيء (الحذاء) سواءا كان زوجا أو لم يكن ."
وتنفجر كل الأسئلة عن هوية الأحذية. ههنا نسأل فقط وقد لا يأتي الينا غير سؤال آخر. فالتفكيك هو فنّ ولادة الأسئلة.. فنّ للتفلسف يُبعثر كلّ الأسئلة التقليدية الملهوفة على الاجابات. ههنا نسأل اذن لكن ليس من أجل الاجابة.. فلا مجال لعودة منطق الثنائيات الى حقل التفكير.كل البديهيات يقع بلبلتها. نسأل " من هي الأحذية" فيأتينا قول مُغاير عمّا افترضه السؤال أو انتظره. نتحول من هو الواحد الى " هُما منفصلتان ".. لا يجمع بينهما أيّ شيء غير " فم فاغر" لكنه لا يرغب في الكلام بل هو " أبكم" يرفض التواصل والتواطؤ مع النسق. هويّة الأحذية صارت من نوع مُغاير للمفاهيم التقليدية للهويّة. انها فقط تفسح مجال الكلام والحيرة.. انّها هُوية طريفة لأنها تهب الفلسفة امكانية الكتابة والتفكير لا بالحقائق المجرّدة والسماوات البعيدة والعلل الأولى بل التفكير بما لا يُفكّر فيه: التفكير بالأحذية. وتستحيل هذه الأحذية من موضوع تتأمله الذات ومن منتوج يصلح للاستعمال الى شيء ضاحك من فرط سذاجة هذه الكوميديا التي ينسجها اللوغوس حول الفنّ وحول امكانيات تأويله.
لكن ليس ثمّة كوميديا فحسب. والمجال لا يتّسع للضحك من كل كلام عن أحذية فان غوغ. انما في الأمر " لحظة انهيار مُحزن، ساخرو مرضي ودالّ".298.
انهيار لأيّ شيء؟ ودالّ على ماذا؟ انهيار للأحذية؟ وهل لها مكان آخر غير مواقع الانهيار؟ فهي مُنهارة بطبعها ما دامت تقبع في الطابق السفلي لعالمنا. دريدا نفسه يدفعنا الى هذا الانهيار. انهيار النصّ والفكر الذي لا يعرف من أين يدخل ضمن هذا الانهيار.. ووفق أيّة حركة.. حركة النظر من بعيد أم حركة السقوط الحرّ أم حركة الدوران العبثي ضمن الدائرة.. احراج يدفعنا اليه التفكيك قائلا: " لست أدري بعدُ ممّ أنطلق. ولست أدري ان كان ينبغي أن أتكلّم أو أن أكتب.. أن تنسج خطابا حول موضوعك أو حول أيّ موضوع كان، ربّما يكون ذلك أوّل شيء يقع استبعاده.."
ويضاعف دريدا من ألعاب اللغة ومن اقتدارها على التلاعب بالفكر وبالقارئ وبالدلالة معا. ويطلب منّا ألاّ ننزعج من غموض الطريق ومن أشباح الأحذية. ويوصينا بأن " لا مجال للتهوّر هنا ولا للتّعجّل نحو الاجابة. فالتسرّع في الخُطى.. ربّما يكون ذاك هو الأمر الذي لم يكن بوسعنا أبدا اجتنابه أمام اثارة هذه اللوحة المشهورة".
ويكثر دريدا من مفاعيل التفكيك ومن احراجاته وألغازه وريبيّته الجذرية مُخلخلا كُلّ أشكال البديهيات وناثرا أنماط مُغايرة من التفكير والمُسائلة. يقول: " لكنّني لا أعرف بعدُ من أين المسير وان كان ينبغي أن أتكلّم أو أن أكتب، ولا بخاصّة وفق أيّة نبرة، وتبعا لأيّ رمز ومن أجل أيّ ركح ووفق أيّ ايقاع، ايقاع البدو ام ايقاع الحضر، ايقاع عصر الحرف أم ايقاع التقنية الصناعية.." 300 أسئلة أكثر من الأجوبة وشكوك أكثر من كل أشكال اليقين ..
يتعلّق الأمر بأحذية لا تسير بل هي مودعة لحالها بلا سند وحيدة.. تقبع في أحد أركان فنّ الرسم. ليست زوجا من الأحذية بل قد تكون حذائين يسريين. فدريدا يجد هذه الأحذية حذائين يسريين من كلّ صوب.. بقدرما نُحدّق فيهما و تحدّق هي بدورها فينا بقدر ما تكون أقلّ شبها بزوج قديم من الأحذية.
وتبدأ المكنة في تفكيك لوحة أحذية فان غوغ.. تبدأ من النهاية.. تبدأ حيثما تتوقف آلة اللوغوس الفلسفي عن العمل. عمّال جدد للفلسفة سوف يولدون على يد دريدا وسوف ينتثرون وينتتشرون في عمق النصوص فاتحين قارّات جديدة تُغري بالتفكير. يقبض دريدا على الأحذية في عرائها التشكيلي بعد أن حرّرها من الزوج التقليدي المّتصالح مع نفسه الجامع بين اليمين واليسار في هوية واحدة، هي ذات الأحذية التي بها نسير في ركب النسق والنظام والاطار وبها نتأقلم مع المؤسّسات ونهلّل لها .
لكن "ماذا عن أحذية حينما لا تسير؟ وحينما تُوضع جانبا، باقية لزمن يكاد يكون طويلا بل والى الأبد، خارجة عن الاستعمال؟ ماذا تعني؟ ما قيمتها؟.. على ما يدُلُّ فائض القيمة أو ناقص القيمة التي لها؟ ومُقابل أيّ شيء يُمكن استبدالها ؟"
يجمّد دريدا اذن الأحذية ويعيدها الى فضاء اللوحة.. لكن المعركة مع فلسفات الفنّ التقليدية لم تنته. يتعلّق الأمر هنا بعلاقة الفنّ بالسوق. فمنذ قرنين من الزمن سقط ميدان الفنّ في حقل البضاعة. ولم يسقط لوحده بل سقطت معه كلّ دائرة الثقافة وصارت الحضارة برمتها في كنف النظام الرأسمالي الى بضاعة مُطلقة. وتراكمت السلع وفائض القيمة واقتصاد السوق. كيف نحرر الفنّ من البضاعة ؟
تلك معركة لا تخص في الحقيقة دريدا. ذلك أنّ من خاضها بشكل شرس هو على وجه التحديد ثيودور أدرنو وبنيامين. أدرنو يرى ضرورة تحرير الفنّ من السوق بنوع جديد من الجماليات سمّاها جماليات القبح. وبنيامين رأى في الاستنساخ التقني للفنّ وتراكمه انفتاحه على الجماهير. هي معركة بين فنّ جذري سالب مضادّ للتواصل وللمتعة وللجميل التقليدي، وبين فنّ فقد سحره في عصر التقنية لكنه تحوّل بذلك الى آداة خلق لوعي جماهيري ثوري .
لكنّ معركة دريدا معركة مُغايرة. يقول: " نعم، لنفترض مثلا حذاءين ( ذوي خيوط) أيمنين أو حذاءين أيسرين.. لم يعُد الأمر يتعلّق بزوج.. انّه شيء أحولُ وأعرج. لست أدري ، على نحو عجيب، ومريب وربّما مُهدّد وشيطاني قليلا .لقد كان لديّ أحيانا هذا الانطباع مع مثل هذه الأحذية لفان غوغ. وانّي أتسائل ما اذا كان شابيرو وهيدغر قد تسرّعا في صنع الزوج من أجل أن يطمئنّا .فقبل كلّ تفكير، هيّا نطمئنّ الى الزوج ".
بعيدا عن اليمين واليسار وبعد نهاية عصر الايديولوجيات لم يتبق من غطرسة اللوغوس غير الحًوًلِ. معاناة وتشويش وغشاء على الأبصار. ههنا لم نعد نعرف كيف التوجه في الفكر. صار اللوغوس أحولا. وصار ينظر الى اليمين واليسار معا. ولم يعد يميّز بينهما. لم يعد اليسار يساراحقيقيا. ولا اليمين يمينا مطلقا. وصار بذلك الحذاء أعرجا. لكنّ هذه الوضعية ليست مريحة لأحد. لذلك أسرع كلّ من هيدغر وشابيرو الى صنع الزوج وتحويل الأحذية الى أعضاء نسقيين طيّعين لآلة التفكير التقليدية سجينة الثنائيات التي سرعان ما تُصالح بينها حتى تضمن اقامة آمنة على دروب الفكر.
كيف التوجه في الفكر حينما يصير الفكر أحولا وكيف المسير بأحذية عرجاء؟ لم يبق من الأحذية بعد طلاق الزوج غير " اسم المشية، أي قريبا جدّا من الأرض، وفي الدرجة الأسفل، الأكثر ذاتية أو خفاءا لما نُسمّيه الثقافة أو المُؤسّسة، الحذاء …"
كيف اختراق الطبقات السفلية من الثقافة؟ كيف نمشي وأنظارنا موجّهة هذه المرّة الى حيث تقبع الأحذية ومن يجاورها حذو النعل بالنعل؟ لن نخلعها هذه المرّة لأننا لن ندخل بها المعابد. انما نسير بها حيث هي، أي فيما أبعد من كل مكر الفكر التقليدي، حيث تُقيم الأفواه الفاغرة والأقدام العرجاء من فرط الاهمال والتهميش .
لمن هذه الأحذية ؟
يتعلّق الأمر بنوع من المُراسلة المجازية بين اجابتين. هي مجازية لأنّها من صنع دريدا. وفي الحقيقة ما حصل هو نقد لاذع، صدر عن شابيرو أحد المختصين في النقد الفني وفي لوحات فان غوغ تحديدا، لتأويل هيدغر للوحة أحذية فان غوغ .
هيدغر
هيدغر رأى في هذه الأحذية ملكا لعالم الفلاحة أي ملكا للأرض بوصفها الأصل والحضن الذي يهب الكينونة، لكن شابيرو أعاد هذه الأحذية لصاحبها فاعتقد أنّ الرسّام لم يرسم في الحقيقة غير أحذيته. ركح عجيب لاعادة الأحذية الى أصحابها ومناورة مثيرة حول سياسة الحقيقة في فنّ الرسم. أمّا دريدا فيوجّه الحقيقة نحو وجهة أخرى..فهو يكشف أوّلا أنّ فضاء الصمت الذي التجأت اليه هذه اللوحة قد استولى عليه نفوذ الكلام والنقد والمعاني الموهومة. وأنّه على صناعة التفكيكك ثانيا أن تحرّرُ هذه اللوحة الصامتة وهذه الأحذية المُهملة والمتروكة والخارجة عن دائرة الاستعمال والتي لا نسب لها من نفوذ الذات المُتغطرسة. لذلك يتسائل مُتهكّما " لمن هذه الأقدام التي نريد اعادة الأحذية اليها" ومن هي الذات الحاملة لها؟ وكم من مُدن اخترقت وعبرت وكم من الحروب تحمّلت؟ وكم من المُهجّرين والمُضطهدين حملت؟ وكم من التوابيت والجنازات شيّعت؟ وكم أماتت وكم أحيت؟ ..
ولنبدأ بتأويل هيدغر. لأنّ ذاك هو مربط النعامة وأصل كلّ هذه الخصومة حول الأحذية. انّ مُساءلة هيدغر للوحة أحذية فان غوغ تتنزّل تحديدا ضمن اشكالية أصل الأثر الفنّي. حيث تظهر هذه الأحذية على سطح نصّ هيدغر حينما يضطرّ الى تجسيد السؤال عن "ماهية الفنّ التي تكمن فعلا في الأثر". لكن كيف ادراك ماهية الفنّ بما هي تعود الى أصل الأثر الفنّي؟ علينا أن نتوقف قليلا عند لحظة " الدور" التأويلي الذي يلقاه هيدغر وهو بصدد السير في شعاب تائهة في عالم الفنّ. وهو ما يعلن عنه النص التالي. يقول هيدغر: " ماذا يكون الفن، انّما يجب أن يُستقى من الأثر. وماذا يكون الأثر؟ لا يُمكننا أن نُجرّبه الاّ من ماهية الفنّ. وقد يُلاحظ أيّا كان بسهولة من الجهد أنّنا نتحرّك في دور. وقد يقضي الذهن المُشترك بأن نتحاشى هذا الدور،لكونه خرقا للمنطق. ويظنّ المرء أنّ ماذا يكون الفنّ قد يُقبل أن يُستخرج من فحص مُقارن للآثار الفنية القائمة. ولكن أنّى لنا أن نكون على يقين من كوننا نتّخذ فعلا آثارا فنّية قاعدة لهكذا فحص، اذا كُنّا لا نعلم قبلُ ما هو الفنّ؟.. بذلك ليس لنا بُدّ من أن نقطع مسيرة هذا الدور. وما كان ذلك علاجا مُؤقّتا و ما كان نقصا.فانّ وضع الخطى على هذا الطريق هو للفكر العرسُ، متى فرضنا أيضا أنّ الفكر أيضا من عمل اليد. وليست الخطوة الرئيسة من الأثر الى الفنّ من جهة، ما هي الخطوة من الفنّ الى الأثر هي وحدها دورا، انّ كل واحدة من الخطوات التي نُحاول، انّما تدورضمن هذا الدور".
انّ االسير نحو أصل الأثر الفني ليس سيرا على طريق مستقيم بل هو اندفاع مثير وتدحرج داخل دائرة لا نملك ضمنها الا قطعها كاملة والطواف داخلها. وليس في الأمر أية لعنة ولا خطيئة ولا شعورا بالذنب. انما سيرنا لملاقاة ماهية الفنّ بوصفه ما به ننشدّ الى العالم وما به ينتصب العالم بل ويأتينا وينفتح على المدى، هو العُرس بعينه، عُرس الفكر .
ويبدأ السير ضمن الدور التأويلي بسؤال مثير هو التالي: " الى أين ينتمي الأثر؟" ونخطو بذلك خطوة جديدة تنقلنا من ما هو الأثر الفني؟ الى أين ينتمي؟ ما هو العالم الذي ينتصب داخله؟ ما هي الصلات التي تشده الى الأرض فتفتحه على العالم؟ يجيبنا هيدغر " انّ الأثر لا ينتمي بما هو كذلك الا الى الميدان الذي يُفتح عبره هو ذاته.. انه ضمن الأثر انما يكون حدوث الحقيقة قيد الفعل ."
و من أجل تسمية الحقيقة قيد الفعل و تجسيدها يحيلنا هيدغر على لوحة أحذية فان غوغ. حيث يستعين بهذا الأثر على تحديد السبيل الذي بوسعنا التوجه وفقه ضمن الدور التأويلي لاشكالية أصل الأثر الفني ومنبته. علينا أن نتوقف عند مفهوم الأثر نفسه. هل هو مصنوع من أجل الاستعمال ولمنفعة مُحددة؟ هل هو شيء بوسعنا اختزاله ضمن الزوج التقليدي للمادة والصورة؟ ويبدو أن هذا الزوج هو بمثابة "الرسم المفهومي بامتياز لكل نظرية الفنّ ولكلّ استطيقا".
لكن يبدو أن هذا التصور للأشياء النابع من هذه الثنائية التقليدية مادة وصورة يعوقنا عن السير قُدما نحو ما يجعل من الشيء شيئا ومن الكائن كائنا ومن الأثر أثرا. ان اختزال الأثر في الشيء والشيء في ثنائية المادة والصورة يكشف عن غطرسة هذه المفاهيم وبداهتها الوهمية والمزعومة. خطوة أخرى تدفعنا خارج رسومات الاستطيقا التقليدية.لكن هيدغر يُحذرنا بألّا نستعجل.. ههنا لا عجلة ولا استباق ولا اجابات مسبقة.. علينا أن نتمهل حتى لا نسقط في هاوية المسار التقليدي.. بوسعنا حينئذ أن نضمن لأنفسنا سبيلا أفضل و من دون العودة الى أية نظرية فلسفية.. وهنا نلتقي بأحذية فان غوغ. زوج من الأحذية لريفية.. ومن أجل وصفها لا نحتاج البتة الى أن تكون هذه الأحذية حاضرة نُصب أعيننا. لكن هل نقتصر على تمثّل هذا الزوج من الأحذية " هكذا" " بعامة"..؟ ولو اكتفينا بالنظر الى هذه اللوحة ذات الأحذية الفارغة التي توجد هنا دون أن نستعملها.. لكننا بذلك لن نتعلم شيئا عمّا به يكون المصنوع مصنوعا.. هل يعني ذلك أنّ خروج المصنوع من دائرة الاستعمال يلقي به في سلّة المُهملات أي اللامعنى؟ بل وأكثرمن ذلك اننا لا نستطيع عبر لوحة أحذية فان غوغ أن نُحدّد أين توجد الأحذية ..
الى أين تنتمي الأحذية؟ ما هو العالم الذي تفتحه وما هي الأرض التي هي لها بمثابة الحضن والرحم؟ انّها أحذية لريفية عادت لتوّها من الحقول. انّ أحذية فان غوغ هي ملك لعالم الفلاحة.. انها تأتينا من الأرض.. انها تنتمي الى نداء الأرض. كل الأسئلة عن علاقة هذا الأثر بالمنفعة هي أسئلة لا جدوى منها.. فقد تصلح الأحذية للرقص أيضا .
لكن هذه الأحذية الماثلة في لوحات فان غوغ وقد رسمها أكثر من ثمانية مرة هي ما هي فهي توجد على نحو أكثر صراحة من الريفية نفسها. لكن هذه الريفية التي تلبس هذه الأحذية وتُقضي معها يوما كاملا تجوب الحقول وتعتني بالأرض وتكدّ من أجل قوتها اليومي، لا تنظر البتة الى هذه الأحذية و هي لا تشعر بها حتى مجرد الشعور. وانها واقفة وانها لتسير بواسطة هذه الأحذية. ذاك هو كيف تصلح هذه الأحذية على وجه الحقيقة.
ورغم ذلك لا شيء نبصر في هذه اللوحة غير فضاء وسيع مُبهم.. فحينما نكتفي بالنظر الى هذه الأحذية وحتى حينما نحدق بها مليا لا شيء نظفر به.. ههنا تنتهي احداثية الاستطيقا التقليدية القائمة على اختزال الفن والعالم برمته في ثنائية الذات والموضوع. مع هيدغر نغادر استطيقا الذات و تكف بذلك الأحذية عن أن تكون مجرد موضوع لذات تحكم على جماله أو قبحه وفق مزاج الذائقة المتغطرسة .مع هيدغر تكف الأشياء عن المثول أمامنا في شيئيتها المدقعة وفي برودها الموضوعي.. بل ربما تكون الأشياء هي التي تأتي الينا لأنها تنجلي في باحة المنفتح أمامنا حيزنا البصري. نحن لا نلتقي أشياء العالم على نحو ارادي وبلوحة مقولات جاهزة.. وان الفنّ نفسه يصنع عالما ويشدّنا اليه بما ينتصب في باحة الكينونة الوسيعة.. لوحة أحذية فان غوغ تصنع عالما خاصا بها تنتمي اليه وتجذبنا نحوه وتغرينا بالاقامة فيه.. ما يهمّنا هنا لم يعد جمالها أو قبحها بل كونها علامة على الكيان.. والا ماذا في أحذية شعثاء غبراء مترهلة مغبرة مكفهرة متروكة بلا سوق ولا ثمن ولا مساحيق تلمعها، غير كونها تدعو الى عالم مغاير جدير بأن نسائله ونجعله وجهة للفكر نفسه ؟؟؟؟
لا شيء في هذه الأحذية اذن حتى نبذة من تراب الحقل أو من الطريق بوسعه أن يُحدّد لنا على الأقل مجال استعمالها. ورغم ذلك يرى هيدغر أنّه " داخل ظلمة الخواء الحميم للحذاء يتجذر من بعيد تعب خطوات كدّ الفلاحة وجهدها اليومي وداخل خشونة الحذاء وصلابة حمولته يُثبّت بطء حركات الخطى بين الحقول. كل آثار الخطى مُتشابهة.. وجلد الحذاء وقد بللته قطرات الندى التي داعبت أرض الحقول. وفيما أسفل من النعال تمتد وحدة الطريق الريفية التي تتوه مساء وعبر هذه الأحذية يمرّ النداء الصامت الى الأرض وتمرّ أيضا هبتها المُضمرة ووعدها بالحبّات الناضجة. وعبر هذه الأحذية يولد من جديد الخوف الأخرس ازاء امكانية ضمان الخبز اليومي وتولد أيضا الفرحة الصامتة بالنجاة من جديد من خطر الفاقة وقلق رهيب من وطأة الموت المُهدّد"
تنتمي لوحة أحذية فان غوغ حسب هيدغر اذن الى نداء الأرض. يقول " انّ هذا المصنوع ينتمي الى الأرض وانه محمي ومُحصن داخل عالم الريفية وانه داخل هذه الملكية تسكن هذه الأحذية الى ذاتها". انها أحذية الريفية وهي أحذية الدرب الطويل والحقول الواسعة.. وفي هذه الأحذية امكانية أن تتوه الفلاحة ليلا.. وألاّ تجد الطريق ..
كيف يُفكّك دريدا هذا الدور التأويلي الذي يُعيد لوحة الأحذية الى نداء الأرض؟ .
ان دريدا لن يقيم في هذه الأحذية.. ولن يتخذ منها صنما.. انما سوف يتخذ على عاتقه مهمة تحرير الفلسفة من هذا التأويل الذي جذبنا معه الى الدائرة.. دائرة العودة الى أصل الأثر الفني ودائرة نداء الأرض.. الارض التي تحضن العالم و العالم الذي يشده الأثر.. لن يقيم دريدا في الأرض لأنّ هذه الأحذية قد تكون بلا أرض وبلا أصل بل هي أحذية منبتة أو مهجرة.. ثمة انفعالات غامضة سوف تُؤججها هذه الأحذية عن غير قصد: معارك بين اليهودي المنبت المهجر الذي لا أرض له و المسيحي اليميني القومي السعيد بتأويلية للمعاني قد لا تصلح الا للأرستقراطيين والرومانسيين.. هي معارك بين اليسار واليمين أي بين شابيرو وهيدغر.. ورغم ذلك يوصينا دريدا بأنه " لا ينبغي أن نترك هذه الأحذية بين أيادي شابيرو وهيدغر". لماذا نحرر الأحذية من ايديولوجيات اليمين واليسار واليهودي والمسيحي والحضري و الريفي ؟
انّ أهمّ عيب سقط فيه هيدغرفي تأويله للوحة أحذية فان هو ما سمّاه دريدا " سذاجة المرجع"، وهي سذاجة ارتكبها هيدغر ثلاث مرّات في حق الأحذية: في المرّة الأولى حينما اعتقد بأنها زوج من الأحذية. وفي المرّة الثانية حينما أعادها مُتعجلا الى الريفية. وأخيرا حينما ماثل بين اللوحات الثمانية للأحذية مُعتقدا أنّها واحدة .
يقول دريدا: " ان هيدغر لا يُخيّب آمالنا فقط.. انّما هو يجعلنا ننفجر ضحكا.. من أين أتى بأنّ الأحذية هي أحذية تعود الى ريفية". انّ التفكير في هذه اللوحة وفق احداثية الأصل يفتح"نا بالأحرى على الهاوية". كيف لا يتفطن هيدغرالى أن وراء رسم فان غوغ للأحذية مرّات عديدة قصّة فلسفية أكثر غموض و تعقيد من مجرّد المحاكاة و تكرار الرسم وانتاج التماثل؟ يقول دريدا: " انّ الأستاذ هيدغر يعرف جيّدا أنّ فان غوغ قد رسم هذه الأحذية عدة مرّات، لكنه لا يُعيّن هُويّة اللوحة التي يقصدها، وكأنّما الصياغات المختلفة قابلة للتبادل، وهي تُمثل جميعا نفس الحقيقة"352.
انه بالرغم من أنّ هيدغر كان يوصي بالتمهّل وعدم التعجّل فهو قد سقط في فخّ هذه الأحذية الفاغرة التي تُغري بأن نلقي فيها بأقدامنا وبأن نحثّ الخطى فلا نفعل حينها غير السقوط في نسج الأوهام والأحكام والبديهيات الساذجة حولها. والا ماذا يعني أن نستعجل على اسنادها الى ذات تلبسها؟ ألا تصلح الأحذية الا من أجل استعمالها؟ وماذا عن أحذية خارجة عن دائرة الأستعمال؟ وماذا عن أحذية لا تصلح الا لفن الرسم؟ يقول دريدا: " ان هيدغر يُلقي بنفسه سريعا في " المرجع" وفي مرجع جدُّ مهمّ لوحة ذائعة الصيت.. كأنّما الشيء بديهي جدّا و واضح جدّا.. وهل يستنتج هيدغر من جملة أحذية فان غوغ في الأحذية نوعا من اللوحة العامّة.. انها فرضية بائسة ينبغي طرحها جانبا"
ماير شابيرو و لوحة أحذية فان غوغ: ماير شابيرو مؤرخ للفنّ الأمريكي (1904، 1996) عُرف بدفاعه عن الفنّ الحديث وبقراءته الماركسية لتاريخ الفنّ. و كان من الذين حضروا دروس هيدغر حول أصل الأثر الفنّي. وكتب كتابا حول فان غوغ (نُشر بنيويورك سنة 1950) .ما يهمنا هو أنّ شابيرو قدّم قراءة للوحة أحذية فان غوغ يُعيد فيها هذه الأحذية الى فان غوغ نفسه.
يكشف دريدا عن ثلاثة عقائد في تأويل شابيرو هي التالية:
أوّلا: أنّ أحذية مرسومة بوسعها أن تعود فعلا وأن يقع ارجاعها حقّا الى ذات حقيقية ذات هوية واسم محدد.
ثانيا: أنّ الأحذية هي أحذية سواء كانت رسما أو أحذية فعلا، فهي أحذية فحسب وبكل بساطة هي ما هي متطابقة مع نفسها وقابلة للتأقلم مع الأقدام .
ثالثا: أنّ أقداما (مرسومة شبحية أو فعلية) تنتمي الى جسد خاص. وأنّها ليست قابلة للفصل عنه .
هذه عقائد ثلاثة ليس بوسعها أن تصمد. انّها تنهزم بمجرد ما يحدث ضمن هذا الرسم .
انّ المعركة بين شابيرو وهيدغر حول أحذية فان غوغ ليست مجرّد معركة بين الريفي المسكون بالحنين الى الحقول والحضري المُحبّ لحياة المُدن. يتعلق الأمر بتقاطع عجيب بين معارك شتّى: معارك هويات بين المسيحي عاشق التأويل والمعاني السعيدة لكينونة شاعرية في العالم، واليهودي المُهجّر المنبتّ. معارك ايديولوجيات بين اليمين المحافظ واليسار الغاضب. غير أنّهما يشتركان في الكثير من العقائد والأوهام الساذجة ازاء فنّ الرسم من قبيل: انتمائهما الى براديغم الذات المُتغطرسة التي تعتقد في ضرورة أن تنتسب هذه الأحذية الى ذات تملكها.. اعتقادهما في أنّ ما رسمه فان غوغ هو فعلا أحذية.. اعتقادهما في الثنائيات التقليدية التي تختزل الأحذية في زوج من اليمين واليسار…
هل وقع انصاف الأحذية ؟
لا أحد بوسعه أن يدعي ملكية أحذية فان غوغ حتى فان غوغ نفسه. لا أحد مذنب في هذه القصة ولا أحد مُتهم. لا ذنب على الرسوم. كل ما وقع تحت اغراء التفكيك هو الكتابة والرسم والحقيقة. كل ما وقع هو محبّة الحكمة. ومحبة بذر الكتابة وتبذيرها وتناسل الحروف. أمّا عن أحذية فان غوغ فهي ملك لفن الرسم فحسب .ليست هذه الأحذية للبيع. لقد صممت من أجل أن تبقى هناك. متروكة لحالها مودعة في فضاء الصمت. أعيدوها الى صمتها وأبعدوا عنها غطرسة اللوغوس و أكاذيب الخُطب. ورغم ذلك ما زالت هذه الأحذية تشهد على كرامة الانساني .فيما أبعد من اليمين واليسار لا تزال تبقى هذه الأحذية شاهدا على ما تبقى من الانساني فينا. وبالرغم من أنها أحذية مُهملة لكنها أحذية لا تُنسى..
لا تصلح هذه الأحذية الى أيّ شيء من فرط ما وقع استعمالها.هي أحذية لا جمال فيها ورغم ذلك هي أثر فني لا يُنسى. انها لا تنتمي الى تاريخ الجمال ولا الى براديغم الاستطيقا بل هي أثر فنّي فقط دونما وصاية ولا أبوّة فارغة.
وحين شعر فان غوغ يوما أنّه مُهدّد، تمسّك بأحذيته كمن يتمسّك بورقة قشّ لأنّها آخر ما تبقى من كرامته. وحين تقطّعت بها السُّبُلُ لم تجد أحذية فان غوغ من ملجأ لها غير فنّ الرسم. انّه عالمها الوحيد واليه تنتمي. ويبدو أنّ لهذه الأحذية كرامتها الخاصة مثل الكرامة التي للشيوخ والمُسنّين والضعفاء والمُشرّدين وكلّ الذين أخرجهم النسق عن دائرة الاستعمال. وللأحذية الحق في أن ترفع قضية استرداد حقوق مثل المُعطلين والمُهمّشين والمغضوب عليهم والغاضبين والذين لا سكن لهم ولا عمل ولا منزلة اجتماعية ولا أفق.. لا أحد ينتظرهم ولا أحد يستقبلهم ..
ليست أحذية فان غوغ أحذية فقط وربّما ليست أحذية أصلا. وسوف تبقى هذه الأحذية قابعة في فضاء فنّ الرسم، لا شيء يحتضنها غير اللوحة المُعلّقة على الجدار. عليها حينئذ أن تتحمّل الوحدة واليُتم وبرودة الجدران.. لكنّ برودة اللوحة أجمل عندها من معارك الأصل والذات والهوية.. وفضاء الصمت عندها أرحم من غطرسة اللوغوس.. ما يتبقى في هذه الأحذية الفاغرة الفم معاني أخرى وثورات سوف تأتي..
ليكن هذا السؤال هو الذي تركبه الفلسفة في هذه الطرق الانتقالية والقناطر المتحركة وعواصف الرمل والنار التي تعصف بنا في هذه الثورات العربية الرائعة.. أيّ سؤال بوسعه حينئذ أن يحملنا الى الحقيقة في فنّ الرسم. هنا نبدأ بالتفكيك بوصفه سحرا وبدريدا باعتباره يحمل اسمه جيّدا: ساحر يلعب بالكلمات ويبعثرها كيفما راق مزاجه.. شيطان يكتب عن الحقيقة.. لكنه لن يحدثنا عنها بنفس أسلوب الفلاسفة التقليديين.. ولن يصالحنا مع أي شكل من الواقع .
ينفتح نص دريدا في الفصل الرابع والأخير من كتابه " الحقيقة في فنّ الرسم " اذن على الجملة التالية.. فلندخل سويّا هذا النص لأن قارئا واحدا لا يكفي.. فالمتوحدون قد تداهمهم الأشباح.. يقول دريدا بكل بساطة ما يلي: " وبالرغم من ذلك. انّي لم أعد أتذكّر البتّة من كان يقول " ليس هناك أشباح في لوحات فان غوغ"؟ لكنّنا لدينا فعلا ههنا قصّة أشباح. بيد أنّه ينبغي أن ننتظر أن نصير أكثر من اثنين من أجل أن نبدأ ".
ما رأيكم في هذه البداية؟ قد تقولون عادية وقد تقولون قصصية وقد تبدو لكم مُخيفة وغرائبية عجائبية لأنها بدأت ببثّ الأشباح في قلوبكم.. هل يخيفنا دريدا من التفكيك بنثر الأشباح على قارعة النصوص والرسوم؟ هل يهدّدنا بعودة الأشباح لو لم ننصف مناطق الصمت والهامش ومواقع الأحذية الفاغرة التي لا وجه لها ولا أقدام ولا طريق؟
بوسعكم أن تُفكروا بما شئتم من المعاني والتأويلات. ذلك أنّه بقدر ما تولد فيكم تحت وقع الأحذية من امكانيات الفلسفة والأسئلة بقدر ما ينجح التفكيك. لكن ما ذا يقصد دريدا بالأشباح؟ وما علاقة الأشباح بالأحذية؟ الأشباح هي كما يعرف الجميع أرواح تائهة عن جثامينها هاجرتها وطارت تبحث لها عن أجسام أخرى لم يدركها الفناء. فالأشباح تحبّ الحياة وتهرب من الموتى. لكن لماذا نخاف الأشباح؟ ولا ننسى الدور التربوي للأشباح التي كانت تُصاحب مخيّلاتنا الصغيرة ونحن أطفالا.. وكان آباِؤنا يهدّدونا بها كلما حاولنا المُغامرة فيما أبعد من دائرة المسموح به. دريدا يستعمل الأشباح هنا كي يُغرينا بالسير معه نحو المجهول. فالأشباح تُغري بالفلسفة لأنها تكره الموتى وتطير بحثا عن الحياة في أجسام أخرى.
نحن اذن ازاء قصة أشباح. انها تسكن تحديدا لوحة أحذية فان غوغ. من أين جاءت الى هذه اللوحة؟ أيّ الجثامين هاجرت؟ وأيّ الأجسام الحيّة تطلب؟ وما هي شروط الانتساب الى هذه الأشباح؟ ولأوّل مرّة يصير للأشباح شرف الاقامة في نصوص الفلسفة.. لأنّ هذه الأشباح هي نصوص الفلاسفة أنفسهم وتأويلاتهم للحقيقة في فنّ الرسم. ولكل منّا حينئذ حق اختيار شبحه المُفضّل ان كان بوسعه أن يختار جسمه جيّدا. وان كان بوسعه أن يختار حياته وموته جيّدا.. لدينا اذن أكثر من شبح في هذه القصة عن الأحذية بعامة وعن أحذية فان غوغ نموذجا. وما علاقة النموذج بالنسخ حينئذ؟ وما الفرق بين الشبح والنسخة والطيف والمسخ..؟ الشبح روح تائهة لجثمان والنسخة تحاكي الأصل والطيف هو الشكل الأخفّ والأضعف من الكائن والمسخ كائن خيالي مرعب ..
أيّ الأشباح هو الأقرب الى الفلسفة؟ هو شبح الفيلسوف نفسه الذي يمضي جسمه الذي به كتب وفكّرويبقى شبحه بين السطور راعيا أمينا ووريثا شرعيا لشخص الفيلسوف وعقله وقلمه. ههنا وازاء لوحة أحذية فان غوغ سوف تتضاعف الأشباح وتتكاثر الأرواح التائهة المتنازعة على ملكية هذه الأحذية: فان غوغ نفسه وهيدغر وشابيرو ودريدا مُصمم هذا الركح الفلسفي العجيب التراجيدي والعدمي معا. وربّما أشباح أخرى لكل قارئ تجرّأ على الاقامة قليلا أو كثيرا في هذا النص الشبحي لأنه لا شيء غير حروف وجمل و كثير من اللعب و قليل من جنون الكتابة .
انها بداية للفلسفة لا تشبه أيّ أسلوب آخر في البدايات. فالتفكيك مُضادّ لفلسفات النسق التقليدية التي تُؤمن بالبدايات والنهايات. لا بداية للنصوص ولا للفلسفة ولا للكتابة ما دمنا نسكن العالم على نحو دائري.. نحن كائنات تحيا وفق هندسة كُروية منذ كوبرنيك وغاليلي.. لا أحد بوسعه أن يستعيد ذاكرة الكسمولوجيا القديمة حيث السماء فوقنا مليئة بالآلهة والأرض حظيرة للنوع الحيواني برمته.. ودريدا لم يعد يذكر.. بداية مضادة للذاكرة ولفنّ التذكر الأفلاطوني.. نسيان مقصود أو سياسات أخرى للذاكرة.. لا يهم لأننا لا نتذكر ههنا غير الأحذية والأشباح التي تسكنها بعد رحيل أقدامها عنها.. أحذية فان غوغ اذن قد تكون على ملكية شبح يزورها ليلا كلّما أنهكه التشرّد.. هو شبح بلا منزل قارّ يلتجىء الى الأحذية بوصفها مقرّه الآمن الوحيد.. شبح لا ينشط الاّ ليلا فهو يقتات من الظلام حينما تنجح أجهزة النفوذ في تنويم الجميع.. تبقى الفلسفة والعقول الحرّة يقظة وتنشط في شكل أشباح …
دريدا
ولأنّنا ازاء قصّة أشباح علينا أن ننتظرقليلا.. وبالتالي على الكتابة أن تتريّث و على النصوص أن تُبطئ الخطى. علينا ألاّ نحثّ خطانا وان اقتضى الأمر أن نُمسك عن الكلام لأن الأشباح لا تقيم الاّ ضمن الصمت. يوصينا دريدا بأن ننتظر سويّا على حافة النصوص وعلى حافة الأحذية حتّى يصير كلّ منّا أكثر من واحد.. علينا أن نحمل أشباحنا معنا كي ندخل هذه القصّة ذلك أن عزلة الفيلسوف لم تعد وصفة ناجعة للتفلسف. ان التفكيك شأن جماعي لأناّ لن نقاوم الأشباح المندسّة بيننا الاّ ونحن جماعات. حذار فأنت لن تكتب عن الأحذية وحيدا. سوف يُصاحبك فان غوغ وتُصاحبك أحذيته. ومعك سوف تسير الفلاّحة صاحبة القدمين المتعبتين، وسوف يصحبك هيدغر وشابيرو ودريدا نفسه ويصاحبك فن الرسم وتُصاحبك الفلسفة. لا تُحاول أن تُقصي أيّا من أصحابك فأنت تحتاج الى أقدامهم جميعا كي تنصف الأحذية .
بداية للدخول في الأحذية لا تشبه أيّة بداية أخرى.. ههنا بقدر ما تتماثل أساليب البداية بقدر ما تفشل الفلسفة ويتعطّل التفكيك. فلنجرّب فنّ الاختلاف ولنذهب بتجاربنا الفريدة الى أقصى حدودها علّنا نعثر على شيء من الفلسفة أي من الحرية أي من امكانيات الحياة نفسها.. علّنا بالأحرى نضاعف الأشباح بدلا عن اقصائها ومُطاردتها أو الهروب منها خوفا ورعبا.. فالأشباح التي تُغرينا بالتفلسف هنا وتراودنا على الكتابة هي الفلسفة نفسها، نصوصها وكل ما تبقى من الأفكار في حقولها …
كيف نبدأ في الفلسفة وكيف ننتهي؟ سؤال شغل هيغل ومن بعده هيدغر واستأنفه على نحو تفكيكي دريدا. ويبدو أنّ الجميع قد اتّفقوا هذه المرّة أن ليس هناك بداية للفكر ولانهاية.. لأننا نقيم داخل الدائرة. بوسعنا أن نبدأ من النهاية أو من الوسط أو من أيّ هامش. لا فرق من أين ندخل في الفلسفة لأنّه لا وجود لطريق جاهز سلفا وسابق عن مسارات التفلسف. ولاننا غادرنا عصرالكتاب ودخلنا عصر الكتابة بوسعنا أن نبدأ من "كفانا قولا. هاوية وهجاء للهاوية". ماذا نفهم من هذه البداية الخاصة بفنّ التفكيك؟ وحينما نكفّ عن القول كيف سنتفلسف في الحقيقة أو في فنّ الرسم أو في الأحذية؟ وهل نكفّ عن ممارسة الفلسفة حينما نكفّ عن القول؟ وهل نصمُتُ كلما توقفنا عن الكلام؟ وحينما هناك صمت هل يتعطل التفكير؟
يُجيبنا دريدا كاتبا لغة الصمت: " أن نبدأ وأن ننتهي بـ" كفى" لا علاقة للأمر بالكفاية ولا باكتفاء الاكتفاء ولا بأي شكل من القناعة والرضا.." نحن لا نكفّ عن الكلام لأنّا اكتفينا منه وأخذنا منه نصيبنا أولأنّا رضينا واقتنعنا واكتفينا.. بل لأنّا تحررنا من الكلام ونطلب الآن أن نكتب الصمت بكلّ أطيافه المسكوت عنها والمقصية والمُهمّشة والتي تقف على الحدود والتخوم بلا أوراق رسمية للدخول في قارة غطرسة اللوغوس. ههنا يصير التفلسف اقامة ثرية في الصمت بدلا عن لوغوس بأنساقه ومفاهيمه وكل أشكال تواطئه مع أجهزة النفوذ .
بدأنا اذن والبادئ أظلم. من هي أحذية فان غوغ؟ كيف سنعيدها الى أصحابها و كيف سنقيم في خوائها المُظلم وفي عتمتها الحالكة؟ لقد ذهب في اعتقاد الجميع أنّ الأمر يتعلّق بزوج من الأحذية. لكنّ دريدا يتصدّى لهذا الاعتقاد. هيدغر اعتقد بأنّها زوج من الأحذية لفلاّحة تجوب الحقول، أماّ شابيرو المُختص في النقد الفني وصاحب كتاب حول رسومات فان غوغ تحديدا، فقد ذهب الى القول بأنّها أحذية الرسّام نفسه .لكن لا أحد وضع " هويّة" هذه الأحذية موضع شكّ أو سؤال. ويسأل دريدا مفاجئا الجميع: ومن أين أتاهم اليقين بأنّ الأمر يتعلّق بزوج من الأحذية.". وما معنى الزوج حينئذ؟". هنا يتدخّل فنّ التفكيك مُسائلا أكثر الأمور التي نتوهّم أنّها بديهية بذاتها. ليس ثمّة نقطة أرخميديس في التفكير.. نحن نسيرعلى أرض زلقة لا نعرف اللحظة التي سوف نسقط فيها ولا اللحظة التي سوف ندرك فيها برّ الأمان.
وحينما نقول أنّها زوج من الأحذية ففي طيّات اعتقادنا هذا ثمّة الكثير من الأحكام المُسبقة الخفية ومن علامات غطرسة اللوغوس. ثمّة الرغبة في اختزالهما في هُويّة واحدة وفي السكوت عن عجرفة براديغم الهُوية الذي يُفكّر بالأصول والذاكرة واستبداد الهو الهو الذي لا يقبل الاختلاف والتعدد.. ثمّة أيضا الرغبة في المُصالحة وفي الوصل وفي طمس الثقوب ومواقع الخلاف والعطالة.. ثمّة رغبة في النسق والنظام وفي المُحافظة على استقرار الوقائع و النصوص وانقاذ الواجهة.. ثمّة استئناف لرسم فلسفي لاهوتي معا يختزل الوجود منذ أفلاطون وأرسطو الى ديكارت وكانط في الثنائيات بين المادّة والصورة والله والعباد والمتناهي واللامتناهي والجوهر المفكّر والجوهر الممتدّ والذات والموضوع.. والأخطر من كلّ ذلك على مصير الأحذية هو أنّ وراء الوصل بينها واختزالها في مؤسسة الزوج والزواج ثمّة رغبة في اسنادها الى ذات تملكها.. ثمّة براديغم العودة الى الذات وثمّة براديغم الملكية الخاصة.
ليست أحذية فان غوغ "زوجا من الأحذية" .انّما هما حذاءان منفصلان لا علاقة لأحدهما بالآخر غير علاقة الجوار الاعتباطية. بل وأكثر من ذلك لا هُويّة لهذه الأحذية غير أنّها انّما " صُمّمت من أجل أن تبقى هناك" على ذمّة فنّ الرسم. وكلّ معارك النسب والاسترداد والهُوية هي معارك ثانوية. انّها مودعة في فضاء اللوحة فاغرة الأفواه مُبهمة لا تبالي بمن ينظر اليها ولا بمن يتخاصم في شأنها. بل انّها هي التي تحدّق فينا وتضحك ملء قدميها التي هاجرتها من سخف معاركنا وتأويلاتنا المُتغطرسة التي تدّعي امكانية معرفة حقائق الأشياء وتطويعها وتخزينها في المخزن الكبير للعقل البشري.
يقول دريدا: ".. وانّ انفصالهما لأمر بديهي. انّها أحذية مُنحلّة، مُهملة ومنفصلة عن الذات الحاملة والمُستحوذة أو المالكة، بل هي مُنفصلة حتّى عن الذات المُؤلّفة _المُوقّعة.. وهي مُنفصلة في حدّ ذاتها (لأنّ خيوطها مُنحلّة)."
لذلك يقف دريدا طويلا عند ضرورة كسر جهاز الوصل البديهي بينهما …فتراه يتوقف عمدا وعلى نحو تراجيدي عند السؤال التالي: " ما هو الزوج في هذه الحالة؟ هل سوف تُغيّبون سؤالي؟ أو أنّكم، ومن أجل ألاّ تُصغوا اليه، تُضاعفون من السرعة في تبادل هذه الأصوات.. هذه الخُطب اللامُتكافئة؟ ولسوف تختفي قوافيكم سريعا ..مُتقاطعة ، مُتشابكة معا، مُجتمعة برمّتها ضمن نقطة تقاطع انقطاعاتكم نفسها .لن تُنكروا ذلك : اختصارات ظاهرة وكثرة مُتصنّعة تماما. وتبقى حقبكم بلا أصول قابلة للحساب بلا وجهة، بيد أنّها تشترك في النفوذ. وانّكم في كلّ ذلك لتجعلونني بعيدا عنكم، أنا نفسي ومطلبي، الى حدّ يقع فيه اجتنابي كما لو كنت كارثة. غير أنّي أُصرُّ ضرورة : ما هو الزوج في هذه الحالة ؟ "
هكذا تُكتب أسئلة الصمت.. ضدّ أسئلة الكلام التي كلّما تكلّمت الاّ وأسكتت أسئلة أخرى.. خطاب الكلام هو خطاب مستعجل يحثّ الخطى مُتجاهلا للأسئلة الحقيقية لأنها أسئلة تُشوش عليه صفاءه المزعوم.. وويل حينئذ لكل من يصرّ على تعطيل سرعة النسق و لهفته على الاستقرار الموهوم. سوف يقع اقصاؤه واستبعاده كأنّه "كارثة ". انّ التفكيك كارثة على كلّ هذه الخطابات المُتصنعة وعلى هذا الضجيج والتهريج الذي يُغيّب الأسئلة الحقيقية .
من هي اذن هذه الأحذية؟ يجيب دريدا قائلا: " وفي كلّ الأحوال فهما منفصلتان، تُحدّقان فينا بفم فاغر أي بفم أبكم، فاسحتين مجال الكلام والحيرة أمام أولئك الذين دفعتهم الى الكلام.. وهي لتدفع الى الكلام على وجه الحقيقة. وانّها لتصير كما لو كانت مُدركة لكوميديا هذا الأمر الى حدّ الضحكة المُتواصلة المكتومة باستمرار. ازاء هذا التمشّي ضدّ الواثق من نفسه، يضحك الشيء (الحذاء) سواءا كان زوجا أو لم يكن ."
وتنفجر كل الأسئلة عن هوية الأحذية. ههنا نسأل فقط وقد لا يأتي الينا غير سؤال آخر. فالتفكيك هو فنّ ولادة الأسئلة.. فنّ للتفلسف يُبعثر كلّ الأسئلة التقليدية الملهوفة على الاجابات. ههنا نسأل اذن لكن ليس من أجل الاجابة.. فلا مجال لعودة منطق الثنائيات الى حقل التفكير.كل البديهيات يقع بلبلتها. نسأل " من هي الأحذية" فيأتينا قول مُغاير عمّا افترضه السؤال أو انتظره. نتحول من هو الواحد الى " هُما منفصلتان ".. لا يجمع بينهما أيّ شيء غير " فم فاغر" لكنه لا يرغب في الكلام بل هو " أبكم" يرفض التواصل والتواطؤ مع النسق. هويّة الأحذية صارت من نوع مُغاير للمفاهيم التقليدية للهويّة. انها فقط تفسح مجال الكلام والحيرة.. انّها هُوية طريفة لأنها تهب الفلسفة امكانية الكتابة والتفكير لا بالحقائق المجرّدة والسماوات البعيدة والعلل الأولى بل التفكير بما لا يُفكّر فيه: التفكير بالأحذية. وتستحيل هذه الأحذية من موضوع تتأمله الذات ومن منتوج يصلح للاستعمال الى شيء ضاحك من فرط سذاجة هذه الكوميديا التي ينسجها اللوغوس حول الفنّ وحول امكانيات تأويله.
لكن ليس ثمّة كوميديا فحسب. والمجال لا يتّسع للضحك من كل كلام عن أحذية فان غوغ. انما في الأمر " لحظة انهيار مُحزن، ساخرو مرضي ودالّ".298.
انهيار لأيّ شيء؟ ودالّ على ماذا؟ انهيار للأحذية؟ وهل لها مكان آخر غير مواقع الانهيار؟ فهي مُنهارة بطبعها ما دامت تقبع في الطابق السفلي لعالمنا. دريدا نفسه يدفعنا الى هذا الانهيار. انهيار النصّ والفكر الذي لا يعرف من أين يدخل ضمن هذا الانهيار.. ووفق أيّة حركة.. حركة النظر من بعيد أم حركة السقوط الحرّ أم حركة الدوران العبثي ضمن الدائرة.. احراج يدفعنا اليه التفكيك قائلا: " لست أدري بعدُ ممّ أنطلق. ولست أدري ان كان ينبغي أن أتكلّم أو أن أكتب.. أن تنسج خطابا حول موضوعك أو حول أيّ موضوع كان، ربّما يكون ذلك أوّل شيء يقع استبعاده.."
ويضاعف دريدا من ألعاب اللغة ومن اقتدارها على التلاعب بالفكر وبالقارئ وبالدلالة معا. ويطلب منّا ألاّ ننزعج من غموض الطريق ومن أشباح الأحذية. ويوصينا بأن " لا مجال للتهوّر هنا ولا للتّعجّل نحو الاجابة. فالتسرّع في الخُطى.. ربّما يكون ذاك هو الأمر الذي لم يكن بوسعنا أبدا اجتنابه أمام اثارة هذه اللوحة المشهورة".
ويكثر دريدا من مفاعيل التفكيك ومن احراجاته وألغازه وريبيّته الجذرية مُخلخلا كُلّ أشكال البديهيات وناثرا أنماط مُغايرة من التفكير والمُسائلة. يقول: " لكنّني لا أعرف بعدُ من أين المسير وان كان ينبغي أن أتكلّم أو أن أكتب، ولا بخاصّة وفق أيّة نبرة، وتبعا لأيّ رمز ومن أجل أيّ ركح ووفق أيّ ايقاع، ايقاع البدو ام ايقاع الحضر، ايقاع عصر الحرف أم ايقاع التقنية الصناعية.." 300 أسئلة أكثر من الأجوبة وشكوك أكثر من كل أشكال اليقين ..
يتعلّق الأمر بأحذية لا تسير بل هي مودعة لحالها بلا سند وحيدة.. تقبع في أحد أركان فنّ الرسم. ليست زوجا من الأحذية بل قد تكون حذائين يسريين. فدريدا يجد هذه الأحذية حذائين يسريين من كلّ صوب.. بقدرما نُحدّق فيهما و تحدّق هي بدورها فينا بقدر ما تكون أقلّ شبها بزوج قديم من الأحذية.
وتبدأ المكنة في تفكيك لوحة أحذية فان غوغ.. تبدأ من النهاية.. تبدأ حيثما تتوقف آلة اللوغوس الفلسفي عن العمل. عمّال جدد للفلسفة سوف يولدون على يد دريدا وسوف ينتثرون وينتتشرون في عمق النصوص فاتحين قارّات جديدة تُغري بالتفكير. يقبض دريدا على الأحذية في عرائها التشكيلي بعد أن حرّرها من الزوج التقليدي المّتصالح مع نفسه الجامع بين اليمين واليسار في هوية واحدة، هي ذات الأحذية التي بها نسير في ركب النسق والنظام والاطار وبها نتأقلم مع المؤسّسات ونهلّل لها .
لكن "ماذا عن أحذية حينما لا تسير؟ وحينما تُوضع جانبا، باقية لزمن يكاد يكون طويلا بل والى الأبد، خارجة عن الاستعمال؟ ماذا تعني؟ ما قيمتها؟.. على ما يدُلُّ فائض القيمة أو ناقص القيمة التي لها؟ ومُقابل أيّ شيء يُمكن استبدالها ؟"
يجمّد دريدا اذن الأحذية ويعيدها الى فضاء اللوحة.. لكن المعركة مع فلسفات الفنّ التقليدية لم تنته. يتعلّق الأمر هنا بعلاقة الفنّ بالسوق. فمنذ قرنين من الزمن سقط ميدان الفنّ في حقل البضاعة. ولم يسقط لوحده بل سقطت معه كلّ دائرة الثقافة وصارت الحضارة برمتها في كنف النظام الرأسمالي الى بضاعة مُطلقة. وتراكمت السلع وفائض القيمة واقتصاد السوق. كيف نحرر الفنّ من البضاعة ؟
تلك معركة لا تخص في الحقيقة دريدا. ذلك أنّ من خاضها بشكل شرس هو على وجه التحديد ثيودور أدرنو وبنيامين. أدرنو يرى ضرورة تحرير الفنّ من السوق بنوع جديد من الجماليات سمّاها جماليات القبح. وبنيامين رأى في الاستنساخ التقني للفنّ وتراكمه انفتاحه على الجماهير. هي معركة بين فنّ جذري سالب مضادّ للتواصل وللمتعة وللجميل التقليدي، وبين فنّ فقد سحره في عصر التقنية لكنه تحوّل بذلك الى آداة خلق لوعي جماهيري ثوري .
لكنّ معركة دريدا معركة مُغايرة. يقول: " نعم، لنفترض مثلا حذاءين ( ذوي خيوط) أيمنين أو حذاءين أيسرين.. لم يعُد الأمر يتعلّق بزوج.. انّه شيء أحولُ وأعرج. لست أدري ، على نحو عجيب، ومريب وربّما مُهدّد وشيطاني قليلا .لقد كان لديّ أحيانا هذا الانطباع مع مثل هذه الأحذية لفان غوغ. وانّي أتسائل ما اذا كان شابيرو وهيدغر قد تسرّعا في صنع الزوج من أجل أن يطمئنّا .فقبل كلّ تفكير، هيّا نطمئنّ الى الزوج ".
بعيدا عن اليمين واليسار وبعد نهاية عصر الايديولوجيات لم يتبق من غطرسة اللوغوس غير الحًوًلِ. معاناة وتشويش وغشاء على الأبصار. ههنا لم نعد نعرف كيف التوجه في الفكر. صار اللوغوس أحولا. وصار ينظر الى اليمين واليسار معا. ولم يعد يميّز بينهما. لم يعد اليسار يساراحقيقيا. ولا اليمين يمينا مطلقا. وصار بذلك الحذاء أعرجا. لكنّ هذه الوضعية ليست مريحة لأحد. لذلك أسرع كلّ من هيدغر وشابيرو الى صنع الزوج وتحويل الأحذية الى أعضاء نسقيين طيّعين لآلة التفكير التقليدية سجينة الثنائيات التي سرعان ما تُصالح بينها حتى تضمن اقامة آمنة على دروب الفكر.
كيف التوجه في الفكر حينما يصير الفكر أحولا وكيف المسير بأحذية عرجاء؟ لم يبق من الأحذية بعد طلاق الزوج غير " اسم المشية، أي قريبا جدّا من الأرض، وفي الدرجة الأسفل، الأكثر ذاتية أو خفاءا لما نُسمّيه الثقافة أو المُؤسّسة، الحذاء …"
كيف اختراق الطبقات السفلية من الثقافة؟ كيف نمشي وأنظارنا موجّهة هذه المرّة الى حيث تقبع الأحذية ومن يجاورها حذو النعل بالنعل؟ لن نخلعها هذه المرّة لأننا لن ندخل بها المعابد. انما نسير بها حيث هي، أي فيما أبعد من كل مكر الفكر التقليدي، حيث تُقيم الأفواه الفاغرة والأقدام العرجاء من فرط الاهمال والتهميش .
لمن هذه الأحذية ؟
يتعلّق الأمر بنوع من المُراسلة المجازية بين اجابتين. هي مجازية لأنّها من صنع دريدا. وفي الحقيقة ما حصل هو نقد لاذع، صدر عن شابيرو أحد المختصين في النقد الفني وفي لوحات فان غوغ تحديدا، لتأويل هيدغر للوحة أحذية فان غوغ .
هيدغر
هيدغر رأى في هذه الأحذية ملكا لعالم الفلاحة أي ملكا للأرض بوصفها الأصل والحضن الذي يهب الكينونة، لكن شابيرو أعاد هذه الأحذية لصاحبها فاعتقد أنّ الرسّام لم يرسم في الحقيقة غير أحذيته. ركح عجيب لاعادة الأحذية الى أصحابها ومناورة مثيرة حول سياسة الحقيقة في فنّ الرسم. أمّا دريدا فيوجّه الحقيقة نحو وجهة أخرى..فهو يكشف أوّلا أنّ فضاء الصمت الذي التجأت اليه هذه اللوحة قد استولى عليه نفوذ الكلام والنقد والمعاني الموهومة. وأنّه على صناعة التفكيكك ثانيا أن تحرّرُ هذه اللوحة الصامتة وهذه الأحذية المُهملة والمتروكة والخارجة عن دائرة الاستعمال والتي لا نسب لها من نفوذ الذات المُتغطرسة. لذلك يتسائل مُتهكّما " لمن هذه الأقدام التي نريد اعادة الأحذية اليها" ومن هي الذات الحاملة لها؟ وكم من مُدن اخترقت وعبرت وكم من الحروب تحمّلت؟ وكم من المُهجّرين والمُضطهدين حملت؟ وكم من التوابيت والجنازات شيّعت؟ وكم أماتت وكم أحيت؟ ..
ولنبدأ بتأويل هيدغر. لأنّ ذاك هو مربط النعامة وأصل كلّ هذه الخصومة حول الأحذية. انّ مُساءلة هيدغر للوحة أحذية فان غوغ تتنزّل تحديدا ضمن اشكالية أصل الأثر الفنّي. حيث تظهر هذه الأحذية على سطح نصّ هيدغر حينما يضطرّ الى تجسيد السؤال عن "ماهية الفنّ التي تكمن فعلا في الأثر". لكن كيف ادراك ماهية الفنّ بما هي تعود الى أصل الأثر الفنّي؟ علينا أن نتوقف قليلا عند لحظة " الدور" التأويلي الذي يلقاه هيدغر وهو بصدد السير في شعاب تائهة في عالم الفنّ. وهو ما يعلن عنه النص التالي. يقول هيدغر: " ماذا يكون الفن، انّما يجب أن يُستقى من الأثر. وماذا يكون الأثر؟ لا يُمكننا أن نُجرّبه الاّ من ماهية الفنّ. وقد يُلاحظ أيّا كان بسهولة من الجهد أنّنا نتحرّك في دور. وقد يقضي الذهن المُشترك بأن نتحاشى هذا الدور،لكونه خرقا للمنطق. ويظنّ المرء أنّ ماذا يكون الفنّ قد يُقبل أن يُستخرج من فحص مُقارن للآثار الفنية القائمة. ولكن أنّى لنا أن نكون على يقين من كوننا نتّخذ فعلا آثارا فنّية قاعدة لهكذا فحص، اذا كُنّا لا نعلم قبلُ ما هو الفنّ؟.. بذلك ليس لنا بُدّ من أن نقطع مسيرة هذا الدور. وما كان ذلك علاجا مُؤقّتا و ما كان نقصا.فانّ وضع الخطى على هذا الطريق هو للفكر العرسُ، متى فرضنا أيضا أنّ الفكر أيضا من عمل اليد. وليست الخطوة الرئيسة من الأثر الى الفنّ من جهة، ما هي الخطوة من الفنّ الى الأثر هي وحدها دورا، انّ كل واحدة من الخطوات التي نُحاول، انّما تدورضمن هذا الدور".
انّ االسير نحو أصل الأثر الفني ليس سيرا على طريق مستقيم بل هو اندفاع مثير وتدحرج داخل دائرة لا نملك ضمنها الا قطعها كاملة والطواف داخلها. وليس في الأمر أية لعنة ولا خطيئة ولا شعورا بالذنب. انما سيرنا لملاقاة ماهية الفنّ بوصفه ما به ننشدّ الى العالم وما به ينتصب العالم بل ويأتينا وينفتح على المدى، هو العُرس بعينه، عُرس الفكر .
ويبدأ السير ضمن الدور التأويلي بسؤال مثير هو التالي: " الى أين ينتمي الأثر؟" ونخطو بذلك خطوة جديدة تنقلنا من ما هو الأثر الفني؟ الى أين ينتمي؟ ما هو العالم الذي ينتصب داخله؟ ما هي الصلات التي تشده الى الأرض فتفتحه على العالم؟ يجيبنا هيدغر " انّ الأثر لا ينتمي بما هو كذلك الا الى الميدان الذي يُفتح عبره هو ذاته.. انه ضمن الأثر انما يكون حدوث الحقيقة قيد الفعل ."
و من أجل تسمية الحقيقة قيد الفعل و تجسيدها يحيلنا هيدغر على لوحة أحذية فان غوغ. حيث يستعين بهذا الأثر على تحديد السبيل الذي بوسعنا التوجه وفقه ضمن الدور التأويلي لاشكالية أصل الأثر الفني ومنبته. علينا أن نتوقف عند مفهوم الأثر نفسه. هل هو مصنوع من أجل الاستعمال ولمنفعة مُحددة؟ هل هو شيء بوسعنا اختزاله ضمن الزوج التقليدي للمادة والصورة؟ ويبدو أن هذا الزوج هو بمثابة "الرسم المفهومي بامتياز لكل نظرية الفنّ ولكلّ استطيقا".
لكن يبدو أن هذا التصور للأشياء النابع من هذه الثنائية التقليدية مادة وصورة يعوقنا عن السير قُدما نحو ما يجعل من الشيء شيئا ومن الكائن كائنا ومن الأثر أثرا. ان اختزال الأثر في الشيء والشيء في ثنائية المادة والصورة يكشف عن غطرسة هذه المفاهيم وبداهتها الوهمية والمزعومة. خطوة أخرى تدفعنا خارج رسومات الاستطيقا التقليدية.لكن هيدغر يُحذرنا بألّا نستعجل.. ههنا لا عجلة ولا استباق ولا اجابات مسبقة.. علينا أن نتمهل حتى لا نسقط في هاوية المسار التقليدي.. بوسعنا حينئذ أن نضمن لأنفسنا سبيلا أفضل و من دون العودة الى أية نظرية فلسفية.. وهنا نلتقي بأحذية فان غوغ. زوج من الأحذية لريفية.. ومن أجل وصفها لا نحتاج البتة الى أن تكون هذه الأحذية حاضرة نُصب أعيننا. لكن هل نقتصر على تمثّل هذا الزوج من الأحذية " هكذا" " بعامة"..؟ ولو اكتفينا بالنظر الى هذه اللوحة ذات الأحذية الفارغة التي توجد هنا دون أن نستعملها.. لكننا بذلك لن نتعلم شيئا عمّا به يكون المصنوع مصنوعا.. هل يعني ذلك أنّ خروج المصنوع من دائرة الاستعمال يلقي به في سلّة المُهملات أي اللامعنى؟ بل وأكثرمن ذلك اننا لا نستطيع عبر لوحة أحذية فان غوغ أن نُحدّد أين توجد الأحذية ..
الى أين تنتمي الأحذية؟ ما هو العالم الذي تفتحه وما هي الأرض التي هي لها بمثابة الحضن والرحم؟ انّها أحذية لريفية عادت لتوّها من الحقول. انّ أحذية فان غوغ هي ملك لعالم الفلاحة.. انها تأتينا من الأرض.. انها تنتمي الى نداء الأرض. كل الأسئلة عن علاقة هذا الأثر بالمنفعة هي أسئلة لا جدوى منها.. فقد تصلح الأحذية للرقص أيضا .
لكن هذه الأحذية الماثلة في لوحات فان غوغ وقد رسمها أكثر من ثمانية مرة هي ما هي فهي توجد على نحو أكثر صراحة من الريفية نفسها. لكن هذه الريفية التي تلبس هذه الأحذية وتُقضي معها يوما كاملا تجوب الحقول وتعتني بالأرض وتكدّ من أجل قوتها اليومي، لا تنظر البتة الى هذه الأحذية و هي لا تشعر بها حتى مجرد الشعور. وانها واقفة وانها لتسير بواسطة هذه الأحذية. ذاك هو كيف تصلح هذه الأحذية على وجه الحقيقة.
ورغم ذلك لا شيء نبصر في هذه اللوحة غير فضاء وسيع مُبهم.. فحينما نكتفي بالنظر الى هذه الأحذية وحتى حينما نحدق بها مليا لا شيء نظفر به.. ههنا تنتهي احداثية الاستطيقا التقليدية القائمة على اختزال الفن والعالم برمته في ثنائية الذات والموضوع. مع هيدغر نغادر استطيقا الذات و تكف بذلك الأحذية عن أن تكون مجرد موضوع لذات تحكم على جماله أو قبحه وفق مزاج الذائقة المتغطرسة .مع هيدغر تكف الأشياء عن المثول أمامنا في شيئيتها المدقعة وفي برودها الموضوعي.. بل ربما تكون الأشياء هي التي تأتي الينا لأنها تنجلي في باحة المنفتح أمامنا حيزنا البصري. نحن لا نلتقي أشياء العالم على نحو ارادي وبلوحة مقولات جاهزة.. وان الفنّ نفسه يصنع عالما ويشدّنا اليه بما ينتصب في باحة الكينونة الوسيعة.. لوحة أحذية فان غوغ تصنع عالما خاصا بها تنتمي اليه وتجذبنا نحوه وتغرينا بالاقامة فيه.. ما يهمّنا هنا لم يعد جمالها أو قبحها بل كونها علامة على الكيان.. والا ماذا في أحذية شعثاء غبراء مترهلة مغبرة مكفهرة متروكة بلا سوق ولا ثمن ولا مساحيق تلمعها، غير كونها تدعو الى عالم مغاير جدير بأن نسائله ونجعله وجهة للفكر نفسه ؟؟؟؟
لا شيء في هذه الأحذية اذن حتى نبذة من تراب الحقل أو من الطريق بوسعه أن يُحدّد لنا على الأقل مجال استعمالها. ورغم ذلك يرى هيدغر أنّه " داخل ظلمة الخواء الحميم للحذاء يتجذر من بعيد تعب خطوات كدّ الفلاحة وجهدها اليومي وداخل خشونة الحذاء وصلابة حمولته يُثبّت بطء حركات الخطى بين الحقول. كل آثار الخطى مُتشابهة.. وجلد الحذاء وقد بللته قطرات الندى التي داعبت أرض الحقول. وفيما أسفل من النعال تمتد وحدة الطريق الريفية التي تتوه مساء وعبر هذه الأحذية يمرّ النداء الصامت الى الأرض وتمرّ أيضا هبتها المُضمرة ووعدها بالحبّات الناضجة. وعبر هذه الأحذية يولد من جديد الخوف الأخرس ازاء امكانية ضمان الخبز اليومي وتولد أيضا الفرحة الصامتة بالنجاة من جديد من خطر الفاقة وقلق رهيب من وطأة الموت المُهدّد"
تنتمي لوحة أحذية فان غوغ حسب هيدغر اذن الى نداء الأرض. يقول " انّ هذا المصنوع ينتمي الى الأرض وانه محمي ومُحصن داخل عالم الريفية وانه داخل هذه الملكية تسكن هذه الأحذية الى ذاتها". انها أحذية الريفية وهي أحذية الدرب الطويل والحقول الواسعة.. وفي هذه الأحذية امكانية أن تتوه الفلاحة ليلا.. وألاّ تجد الطريق ..
كيف يُفكّك دريدا هذا الدور التأويلي الذي يُعيد لوحة الأحذية الى نداء الأرض؟ .
ان دريدا لن يقيم في هذه الأحذية.. ولن يتخذ منها صنما.. انما سوف يتخذ على عاتقه مهمة تحرير الفلسفة من هذا التأويل الذي جذبنا معه الى الدائرة.. دائرة العودة الى أصل الأثر الفني ودائرة نداء الأرض.. الارض التي تحضن العالم و العالم الذي يشده الأثر.. لن يقيم دريدا في الأرض لأنّ هذه الأحذية قد تكون بلا أرض وبلا أصل بل هي أحذية منبتة أو مهجرة.. ثمة انفعالات غامضة سوف تُؤججها هذه الأحذية عن غير قصد: معارك بين اليهودي المنبت المهجر الذي لا أرض له و المسيحي اليميني القومي السعيد بتأويلية للمعاني قد لا تصلح الا للأرستقراطيين والرومانسيين.. هي معارك بين اليسار واليمين أي بين شابيرو وهيدغر.. ورغم ذلك يوصينا دريدا بأنه " لا ينبغي أن نترك هذه الأحذية بين أيادي شابيرو وهيدغر". لماذا نحرر الأحذية من ايديولوجيات اليمين واليسار واليهودي والمسيحي والحضري و الريفي ؟
انّ أهمّ عيب سقط فيه هيدغرفي تأويله للوحة أحذية فان هو ما سمّاه دريدا " سذاجة المرجع"، وهي سذاجة ارتكبها هيدغر ثلاث مرّات في حق الأحذية: في المرّة الأولى حينما اعتقد بأنها زوج من الأحذية. وفي المرّة الثانية حينما أعادها مُتعجلا الى الريفية. وأخيرا حينما ماثل بين اللوحات الثمانية للأحذية مُعتقدا أنّها واحدة .
يقول دريدا: " ان هيدغر لا يُخيّب آمالنا فقط.. انّما هو يجعلنا ننفجر ضحكا.. من أين أتى بأنّ الأحذية هي أحذية تعود الى ريفية". انّ التفكير في هذه اللوحة وفق احداثية الأصل يفتح"نا بالأحرى على الهاوية". كيف لا يتفطن هيدغرالى أن وراء رسم فان غوغ للأحذية مرّات عديدة قصّة فلسفية أكثر غموض و تعقيد من مجرّد المحاكاة و تكرار الرسم وانتاج التماثل؟ يقول دريدا: " انّ الأستاذ هيدغر يعرف جيّدا أنّ فان غوغ قد رسم هذه الأحذية عدة مرّات، لكنه لا يُعيّن هُويّة اللوحة التي يقصدها، وكأنّما الصياغات المختلفة قابلة للتبادل، وهي تُمثل جميعا نفس الحقيقة"352.
انه بالرغم من أنّ هيدغر كان يوصي بالتمهّل وعدم التعجّل فهو قد سقط في فخّ هذه الأحذية الفاغرة التي تُغري بأن نلقي فيها بأقدامنا وبأن نحثّ الخطى فلا نفعل حينها غير السقوط في نسج الأوهام والأحكام والبديهيات الساذجة حولها. والا ماذا يعني أن نستعجل على اسنادها الى ذات تلبسها؟ ألا تصلح الأحذية الا من أجل استعمالها؟ وماذا عن أحذية خارجة عن دائرة الأستعمال؟ وماذا عن أحذية لا تصلح الا لفن الرسم؟ يقول دريدا: " ان هيدغر يُلقي بنفسه سريعا في " المرجع" وفي مرجع جدُّ مهمّ لوحة ذائعة الصيت.. كأنّما الشيء بديهي جدّا و واضح جدّا.. وهل يستنتج هيدغر من جملة أحذية فان غوغ في الأحذية نوعا من اللوحة العامّة.. انها فرضية بائسة ينبغي طرحها جانبا"
ماير شابيرو و لوحة أحذية فان غوغ: ماير شابيرو مؤرخ للفنّ الأمريكي (1904، 1996) عُرف بدفاعه عن الفنّ الحديث وبقراءته الماركسية لتاريخ الفنّ. و كان من الذين حضروا دروس هيدغر حول أصل الأثر الفنّي. وكتب كتابا حول فان غوغ (نُشر بنيويورك سنة 1950) .ما يهمنا هو أنّ شابيرو قدّم قراءة للوحة أحذية فان غوغ يُعيد فيها هذه الأحذية الى فان غوغ نفسه.
يكشف دريدا عن ثلاثة عقائد في تأويل شابيرو هي التالية:
أوّلا: أنّ أحذية مرسومة بوسعها أن تعود فعلا وأن يقع ارجاعها حقّا الى ذات حقيقية ذات هوية واسم محدد.
ثانيا: أنّ الأحذية هي أحذية سواء كانت رسما أو أحذية فعلا، فهي أحذية فحسب وبكل بساطة هي ما هي متطابقة مع نفسها وقابلة للتأقلم مع الأقدام .
ثالثا: أنّ أقداما (مرسومة شبحية أو فعلية) تنتمي الى جسد خاص. وأنّها ليست قابلة للفصل عنه .
هذه عقائد ثلاثة ليس بوسعها أن تصمد. انّها تنهزم بمجرد ما يحدث ضمن هذا الرسم .
انّ المعركة بين شابيرو وهيدغر حول أحذية فان غوغ ليست مجرّد معركة بين الريفي المسكون بالحنين الى الحقول والحضري المُحبّ لحياة المُدن. يتعلق الأمر بتقاطع عجيب بين معارك شتّى: معارك هويات بين المسيحي عاشق التأويل والمعاني السعيدة لكينونة شاعرية في العالم، واليهودي المُهجّر المنبتّ. معارك ايديولوجيات بين اليمين المحافظ واليسار الغاضب. غير أنّهما يشتركان في الكثير من العقائد والأوهام الساذجة ازاء فنّ الرسم من قبيل: انتمائهما الى براديغم الذات المُتغطرسة التي تعتقد في ضرورة أن تنتسب هذه الأحذية الى ذات تملكها.. اعتقادهما في أنّ ما رسمه فان غوغ هو فعلا أحذية.. اعتقادهما في الثنائيات التقليدية التي تختزل الأحذية في زوج من اليمين واليسار…
هل وقع انصاف الأحذية ؟
لا أحد بوسعه أن يدعي ملكية أحذية فان غوغ حتى فان غوغ نفسه. لا أحد مذنب في هذه القصة ولا أحد مُتهم. لا ذنب على الرسوم. كل ما وقع تحت اغراء التفكيك هو الكتابة والرسم والحقيقة. كل ما وقع هو محبّة الحكمة. ومحبة بذر الكتابة وتبذيرها وتناسل الحروف. أمّا عن أحذية فان غوغ فهي ملك لفن الرسم فحسب .ليست هذه الأحذية للبيع. لقد صممت من أجل أن تبقى هناك. متروكة لحالها مودعة في فضاء الصمت. أعيدوها الى صمتها وأبعدوا عنها غطرسة اللوغوس و أكاذيب الخُطب. ورغم ذلك ما زالت هذه الأحذية تشهد على كرامة الانساني .فيما أبعد من اليمين واليسار لا تزال تبقى هذه الأحذية شاهدا على ما تبقى من الانساني فينا. وبالرغم من أنها أحذية مُهملة لكنها أحذية لا تُنسى..
لا تصلح هذه الأحذية الى أيّ شيء من فرط ما وقع استعمالها.هي أحذية لا جمال فيها ورغم ذلك هي أثر فني لا يُنسى. انها لا تنتمي الى تاريخ الجمال ولا الى براديغم الاستطيقا بل هي أثر فنّي فقط دونما وصاية ولا أبوّة فارغة.
وحين شعر فان غوغ يوما أنّه مُهدّد، تمسّك بأحذيته كمن يتمسّك بورقة قشّ لأنّها آخر ما تبقى من كرامته. وحين تقطّعت بها السُّبُلُ لم تجد أحذية فان غوغ من ملجأ لها غير فنّ الرسم. انّه عالمها الوحيد واليه تنتمي. ويبدو أنّ لهذه الأحذية كرامتها الخاصة مثل الكرامة التي للشيوخ والمُسنّين والضعفاء والمُشرّدين وكلّ الذين أخرجهم النسق عن دائرة الاستعمال. وللأحذية الحق في أن ترفع قضية استرداد حقوق مثل المُعطلين والمُهمّشين والمغضوب عليهم والغاضبين والذين لا سكن لهم ولا عمل ولا منزلة اجتماعية ولا أفق.. لا أحد ينتظرهم ولا أحد يستقبلهم ..
ليست أحذية فان غوغ أحذية فقط وربّما ليست أحذية أصلا. وسوف تبقى هذه الأحذية قابعة في فضاء فنّ الرسم، لا شيء يحتضنها غير اللوحة المُعلّقة على الجدار. عليها حينئذ أن تتحمّل الوحدة واليُتم وبرودة الجدران.. لكنّ برودة اللوحة أجمل عندها من معارك الأصل والذات والهوية.. وفضاء الصمت عندها أرحم من غطرسة اللوغوس.. ما يتبقى في هذه الأحذية الفاغرة الفم معاني أخرى وثورات سوف تأتي..