لم يكن كتاب "الديوان" الشرارة الأولى التي أطلقها العقاد والمازني في عشرينيات القرن الماضي، لكنها كانت الأهم والأكثر تأثيرًا لعدة أسباب، أولا لأنها سعت إلى تأسيس جمالية جديدة للقصيدة العربية، ثانيًا لأنها في دعوتها للتخلص من أغراض الشعر القديم والمناداة بالوحدة العضوية للقصيدة؛ أرست دعائم ارتباط شرطي بين التمسك بالقديم والتأخر الفني، ويُمكن اعتبار أن هذا الديالكتيك ظل هو القائد للأجيال القادمة حتى ضد العقاد ورفاقه الذين فوجئوا بتيار التحرر الجامح، فأنكروا أن تكون لهم يد فيه.
صحيح أنه سبقت العقاد محاولات ليست قليلة لتطوير القصيدة العربية وتخليصها من تقليديتها وفتح آفاق أكبر لها. إلا أن العقل العربي في العشرينيات أحس بعطشه للحوار الثقافي، والذي شغل الشعر النصيبَ الأكبرَ منه على صفحات الجرائد والمجلات، وطُرحت أسئلة حول ماهية الشعر؟ ودور الشاعر؟ وأغراض الشعر ومدى اتصاله بالقديم وبالحياة المعاصرة؟ ومع الانغماس في الحداثة وما بعدها، صار اهتمام الأدباء للحوار الثقافي أقل مما كان، وأصبح كل منهم منكفئ على مفهومه الخاص للشعر، وإن لم تخلو الساحة من مساجلات أدبية، إلا أن ذلك الفتور النسبي في الشغف بالحوار حول الشعر زاد فرص التعددية الشعرية، إلا أنه جعل مفهوم الشعر إما تصورًا شخصيًا، أو تهويمات ذاتية.
التمرد المُباح
الوحدة العضوية
أشار مطران خليل مطران إلى أن القصيدة العربية القديمة تفتقد إلى الارتباط بين معانيها، وأن تنوع المضمون داخل القصيدة الواحدة بلا تسلسل ولا ترابط يدعم أركانها؛ يربك القارئ وصلته بالمعنى، ووصف ديوانه "الخليل" عام 1908م بالشعر العصري، فهل كان عصريا بالفعل؟
يُحسب لمطران الوعي المُبكر بالوحدة العضوية، وفي عام 1909م قال "العقاد" بوحدة القصيدة باعتبارها كائنًا حيًّا، وشبه أصحاب مذهب وحدة البيت القديم مثل حافظ إبراهيم بمن "أخذ قطعة من الحرير وقطعة من المخمل وقطعة من الكتان، وكل منها صالح لصنع كساء فاخر من نسجه ولونه، ولكنها إذا أجمعت على كساء واحد فتلك هي «مرقعية الدراويش»"[1].
وهكذا اتجهت القصيدة العربية إلى التركيز والتكثيف، والتخلص من العبارات الزائدة التي اعتنت باللفظ على حساب المعنى، ما أمكنها أن تلج إلى مساحات من الجمال الذي اتكأ على الأخيلة عند الرومانسيين، والنفس عند أدباء المهجر، أو الذهن عند جماعة أبولو.
التخلص من البحر الشعري
رغم تلك النقلة النوعية في مسار القصيدة العربية، إلا أنها لم تخرج على التعريف القديم للشعر على أنه كلامٌ مقفى موزون، وسرعان ما شنّ شعراء ما بعد الحرب العالمية الثانية ثورة على الشق الأول من التعريف وهو "القافية"، حيث اعتبروها تقييدًا للخيال الشعري، وذلك لم يكن اختراعًا خالصًا آنذاك، فهناك محاولات عديدة في العصر الحديث للخروج على أوزان "الخليل"، منها "البارودي" و"شوقي"[2]، ويضيف إليهم الدكتور محمد أبو الأنوار قصيدة مجهولة لطه حسين نشرها عام 1909م، بعنوان "آه لو عدل"[3]. ورغم أن هذه المحاولات الثلاث أشارت ضمنيًا إلى رحابة موسيقى الشعر لاستيعاب أوزان جديدة غير خليلية، إلا أنها لم تكن الأولى من نوعها في تاريخ الشعر العربي، فقد خالفت بعض قصائد لعروة بن الورد وأمية بن الصلت وعبيد بن الأبرص الأوزان المعروفة، وقديمًا قال أبو العتاهية: أنا أكبر من العروض"، ولم يتم رعاية هذه المحاولات -القديمة أو المعاصرة- من قبل أصحابها باعتبارها اتجاها لتحرير الشعر من بحور الخليل.
وعلى ذلك يظهر مصطلح "الشعر الحر"، للدلالة على تنوع البحور داخل القصيدة الواحدة، ويعد أحمد زكي أبو شادي صاحب بداية جادة في كتابة الشعر الحر الذي لا يلتزم في القصيدة بوحدة البحر، بل نجد أربعة أوزان في قصيدة واحدة.
ولم تكفِ قصائد "أبو شادي" أن تجعل الشعر حرَّا من وجهة نظر الشباب المُنادين بالتحرر من كل إطار عروضي ملتزم، ما يجعل القصيدة أقرب الشبه بصيغ الشعر الأوروبي، إلا أن النقاد في النصف الأول من القرن العشرين فصلوا تلك النماذج الشابة عن "الشعر الحر" لأبي شادي، واعتبروا هذه القصيدة "شعرًا منثورًا"، وهو المصطلح الذي سيتم تداوله طويلًا، حتى يُصبح فيما بعد "شعر التفعيلة"، والذي لمع فيه أسماء كثيرة مثل السياب ونازك الملائكة والبياتي، وغيرهم كثُر.
ولقد كان العقاد أشد المُعارضين للشعر المنثور، لأنه نقض عمود الشعر، لدرجة أنه كان يحيل دواوين صلاح عبد الصبور وعبد المعطي حجازي من لجنة الشعر إلى النثر، لأنهم لم يلتزموا بعمود الشعر، واكتفوا بالتمسك بالوزن، ويتساءل: ألا يكون الكلام العادي موزونا على عواهنه، فهل يجعله ذلك شعرًا؟ ويردّ الفريقُ الآخر هل يجعلُ "العروض" المنظومات مثل ألفية ابن مالك شعرًا؟ ويظل تعريف الشعر شائكًا وعصيَا، لعدة أسباب، أولها التعميم، ثانيها الفصل الحاد بين الشكل والمضمون، وربما كانت هذه النقاط وغيرها أيضا من العوائق التي وقفت طويلًا ضد نهوض مفهوم بنيوي للشعر.
ولقد نادى صلاح عبد الصبور ببناء الشعر، وعارض رأيًا شاع منذ الأربعينيات في كتابات محمد غنيمي هلال وأحمد الشايب وغيرهم، أن الشعر أساسه العاطفة، أما النثر أساسه الفكر، وأشار إلى أن ماهية القصيدة في ذاتها كالإنسان، أي لها عقل وروح، "إذا طغى العقل كانت القصيدة عملا غائيا مقصودًا لذاته، وإذا طغت الروح تصبحُ القصيدة لعبا ممتنعا مستغنيا بذاته عن الغاية"[4].
القصيدة الخرساء تتكلم
بمجرد ما عرّبَ أدونيس مصطلح «قصيدة النثر» لـ سوزان برنار، في مطلع الخمسينيات، وكأن الحمى قد انتشرت في المشهد الشعري ككل، واتجه الشباب إلى المناداة بالتخلص لا من الأغراض القديمة للشعر فقط، ولا من البحور الخليلية فقط، ولكن التخلص من الوزن تمامًا!
وسرعان ما تكتل ضد القصيدة الوليدة عدد من المتمردين السابقين، مثل نازك الملائكة، والمتمردين الأول مثل العقاد، ومن الصعب الجزم أن كل الشباب كانوا آنذاك منجذبين نحو هذه الشطحة الأدونسية بحد وصف محمود أمين العالم، والذي رأى مُبكرًا أن القصيدة يمكن أن تحتاج إلى التخلص من الوزن، بعد أن تُقدم كل ما لديها في أوزانها المعروفة، ولكن ليس الآن.
وبينما حرصَ العقاد على أن يكون محافظا في الشعر معتزا بهذه المحافظة، ويرى الخروج عليها انحلالا وإفسادًا، وانبرى يهاجم كتاب "شعر التفعيلة"، ويوجه لهم تجريحًا عنيفًا في الصحف هنا وهناك؛ كان الدكتور طه حسين يرى أنه "ليس على الشعراء بأس من أن يتحرروا من قيود الوزن والقافية إذا نافرت أمزجتهم وطبائعهم، لا يُطلب إليهم في هذه الحرية إلا أن يكونوا صادقين غير متكلفين، وصادرين عن أنفسهم غير مقلدين لهذا الشاعر الأجنبي أو ذاك، ومبدعين فيما ينشئون غير مُسفين إلى سخف القول وما لا غناء فيه"[5].
ومع الزمن أصبح المتمردون في نظر العقاد ورفاقه، مُحافظين في نظر أدونيس وأتباعه، ولم يتقبل شعراء التفعيلة قصيدة النثر، حتى وقت قريب، وأخذوا يناقشون أبرز إشكالياتها مثل المُصطلح، والإيقاع، والمعيار الجمالي، كما جاء في عدة مقالات لـ أحمد عبد المعطي حجازي بعنوان "قد أُفسد القول حتى أُحمدَ الصمم" والتي جُمعت فيما بعد في كتاب "قصيدة النثر أو القصيدة الخرساء".
قال صلاح عبد الصبور، في حوار مع جهاد فاضل: "ليسموها قصيدة نثر أو ليسموها شعرا منثورا أما أنا فلا أحب التسمية الأولى ولكن كثيرا من أصوات الشعر المنثور تهزني".
وأشار شريف رزق إلى أن "مصطلح قصيدة النثر ليس بعيدًا عن هوية هذا النوع الإشكالي، فهي قصيدة لأنها تبنين شعري مقصود شعرًا في الأساس، اكتسبت التعريف بإضافتها إلى النثر لأنه الحقل الذي تتشكل في تربته وتنبت في مكوناته في شكل منظم، وإذا كان النثر يُشير معجميًّا إلى التفريق والتبعثر، فإن القصيدة هنا هي النظام الصاعد في هذا الفضاء المُحتشد بالمتناثر في غير نظام"[6].
ربما يكون مفهوم الإيقاع من أكثر المفاهيم إشكالًا فيما يتعلق بالشعر، لأنه يتداخل مع مفهوم الوزن، خاصة إذا ما نظرنا إلى الإيقاع باعتباره نقلة موسيقية من الشعر المعتمد على بحر محدد، إلى شعر التفعيلة. ويرى أصحاب عمود الشعر أن الإيقاع يتحقق من نظم التفعيلات في البيت الواحد، أما شعراء التفعيلة يرون أن الإيقاع يتخلص من "سيمتريته" ويصبح "هارموني" أكثر، عند الانتقال من نظم الأبيات والبحور إلى شعر التفعيلة بما يتيح حرية أكبر في حركة التفعيلات، وتنويع الإيقاع الموسيقي.ولكن عندما تتخلص قصيدة النثر من الوزن فهل معنى ذلك أنها قصيدة بلا إيقاع؟
حاول شريف رزق إيضاح أن قصيدة النثر إذا هجرت الوزن العروضي، فهي لا تتخلى عن إيقاعها الخاص[7]، منطلقًا من أن الإيقاع كمصطلح فني هو التنظيم، له حدوده وقوانينه في الشعر والنثر معًا، إذ يناط به تنظيم اللغة ليسهل أداء وظائفها المُبتغاة. ولأن الشعر جزء من هذه اللغة، فإنه يعد لغة فوق اللغة، بمعنى أنه يُوَظِّف اللغة جمالياً (فنياً) في مفارقة واضحة للمستوى المعياري لهذه اللغة، فلغة الشعر "هي إعادة تنظيم للغة العادية". فالإيقاع هو الميزان، والميزان هو الإيقاع، والعلاقة بينهما كعلاقة العين والبصر.
وأشار أنسي الحاج إلى أن قصيدة النثر تحتوي على "وزن شخصي"، وأنها خارج الإيقاع الموسيقي تماما، "ولكن هذه الأوزان ليست أوزانا صالحة للقياس عليها أو اعتمادها أو تقنينها"[8].
ويعزوا بعض النقاد هذه الخلافات بين شعراء قصيدة النثر حول بعض المصطلحات والمفاهيم عندما قرروا تحريرها؛ إلى عدم الوعي والنضج الفني، ما يجعل القصيدة في مأزق إشكالي آخر.. أنه في حال غياب القدرة على القياس، هل يمكن أن ينهض أي معيار جمالي عام لهذه القصيدة؟
ومع ذلك لم يُغفل شريف رزق حماسه إلى أن قصيدة النثر ستصبح هي متن الإبداع الشعري، وديوان العربية القادم، لأنها الأقدر على استيعاب متغيرات العصر، بلا قيود تحد من جموحها نحو أراضٍ وعرة من المعاني الإنسانية التي حذرت القصيدة العربية من ولوجها، وهذا بالضبط ما أوضحه محمد آدم، "فقصيدة النثر جاءت نتيجة زواج المجتمع الرعوي والزراعي، واندماج ثقافة الصحراء ببلدان الحضارة القديمة"[9].
وخلال العقدين الأخيرين زاد إقبال الأجيال الجديدة على كتابة قصيدة النثر، واعتبرها روادها نجاحا ساحقًا لدعواهم، بينما رأى أصحاب القصيدة الموزونة ذلك خطرًا على الشعر حيث اختلط السمين بالغث، وصارت "قصيدة النثر" قبلة للمدعين وأنصاف الموهوبين، كما أوضح الدكتور ماهر شفيق فريد: "لقد كنتُ من أكبر أنصار قصيدة النثر من حيث المبدأ، وقد كتبتُ على صفحاتِ الأهرامِ منذ سنوات قلائل أن المستقبل لقصيده النثر، ولكني أجدني الآن مضطرًا إلى مراجعة موقفي، فلستُ أرى لها مُستقبلا يُذكر، وإنما أرى حاضرًا بائسًا وماضيًا فيه درر قليلة وخبثٌ كثير"[10].
ومؤخرًا؛ يصرح أحمد عبد المعطي حجازي، بأن "القصيدة الخرساء" كان مجرد رأي عام، نابع من القلق على مصير الشعر، ولكن هل عنى بذلك أن قصيدة النثر قدمت ما يُبدد القلق بشأنها؟ وفي الوقت الذي تدعي فيه قصيدة النثر أنها الأكثر عصرية، يرى أصحاب التفعيلة أن قصيدتهم الأكثر تأثيرًا في المجال العام، ويُقبل عليها القراء، وبينما يقر شعراء قصيدة النثر بخيانة روادها، وغياب النقاد، وتعنت الأكاديميين، وعدم استعداد القارئ العربي لتلقيها، إلا أنها استطاعت أن تشغل سطرًا في تاريخ حافل من الحوار حول الشعر.
المراجع:
[1] أفيون الشعوب، عباس محمود العقاد، ص109، هنداوي للنشر، 2013م.
[2] موسيقى الشعر، إبراهيم أنيس، مكتبة الأنجلو المصرية، 1965م، ص199.
[3] الحوار الأدبي حول الشعر، محمد أبو الأنوار، مكتبة الشباب، 1975م، ص690.
[4] حياتي في الشعر، صلاح عبد الصبور، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1995م، ص26.
[5] من أدبنا المعاصر، طه حسين، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2014، ص35-36.
[6] آفاق الشعرية العربية الجديدة في قصيدة النثر، شريف رزق، دار الكفاح للنشر والتوزيع، 2015م.
[7] آفاق الشعرية العربية الجديدة في قصيدة النثر، شريف رزق، دار الكفاح للنشر والتوزيع، 2015م. ص40.
[8] مجلة الجديد، فبراير 2019م.
[9] راجع: حوار مع محمد آدم، جريدة الدستور المصرية، 6يوليو 2018م.
[10] قصيدة النثر أو القصيدة الخرساء، أحمد عبد المعطي حجازي، دبي الثقافية، 2008م، ص186.
صحيح أنه سبقت العقاد محاولات ليست قليلة لتطوير القصيدة العربية وتخليصها من تقليديتها وفتح آفاق أكبر لها. إلا أن العقل العربي في العشرينيات أحس بعطشه للحوار الثقافي، والذي شغل الشعر النصيبَ الأكبرَ منه على صفحات الجرائد والمجلات، وطُرحت أسئلة حول ماهية الشعر؟ ودور الشاعر؟ وأغراض الشعر ومدى اتصاله بالقديم وبالحياة المعاصرة؟ ومع الانغماس في الحداثة وما بعدها، صار اهتمام الأدباء للحوار الثقافي أقل مما كان، وأصبح كل منهم منكفئ على مفهومه الخاص للشعر، وإن لم تخلو الساحة من مساجلات أدبية، إلا أن ذلك الفتور النسبي في الشغف بالحوار حول الشعر زاد فرص التعددية الشعرية، إلا أنه جعل مفهوم الشعر إما تصورًا شخصيًا، أو تهويمات ذاتية.
التمرد المُباح
الوحدة العضوية
أشار مطران خليل مطران إلى أن القصيدة العربية القديمة تفتقد إلى الارتباط بين معانيها، وأن تنوع المضمون داخل القصيدة الواحدة بلا تسلسل ولا ترابط يدعم أركانها؛ يربك القارئ وصلته بالمعنى، ووصف ديوانه "الخليل" عام 1908م بالشعر العصري، فهل كان عصريا بالفعل؟
يُحسب لمطران الوعي المُبكر بالوحدة العضوية، وفي عام 1909م قال "العقاد" بوحدة القصيدة باعتبارها كائنًا حيًّا، وشبه أصحاب مذهب وحدة البيت القديم مثل حافظ إبراهيم بمن "أخذ قطعة من الحرير وقطعة من المخمل وقطعة من الكتان، وكل منها صالح لصنع كساء فاخر من نسجه ولونه، ولكنها إذا أجمعت على كساء واحد فتلك هي «مرقعية الدراويش»"[1].
وهكذا اتجهت القصيدة العربية إلى التركيز والتكثيف، والتخلص من العبارات الزائدة التي اعتنت باللفظ على حساب المعنى، ما أمكنها أن تلج إلى مساحات من الجمال الذي اتكأ على الأخيلة عند الرومانسيين، والنفس عند أدباء المهجر، أو الذهن عند جماعة أبولو.
التخلص من البحر الشعري
رغم تلك النقلة النوعية في مسار القصيدة العربية، إلا أنها لم تخرج على التعريف القديم للشعر على أنه كلامٌ مقفى موزون، وسرعان ما شنّ شعراء ما بعد الحرب العالمية الثانية ثورة على الشق الأول من التعريف وهو "القافية"، حيث اعتبروها تقييدًا للخيال الشعري، وذلك لم يكن اختراعًا خالصًا آنذاك، فهناك محاولات عديدة في العصر الحديث للخروج على أوزان "الخليل"، منها "البارودي" و"شوقي"[2]، ويضيف إليهم الدكتور محمد أبو الأنوار قصيدة مجهولة لطه حسين نشرها عام 1909م، بعنوان "آه لو عدل"[3]. ورغم أن هذه المحاولات الثلاث أشارت ضمنيًا إلى رحابة موسيقى الشعر لاستيعاب أوزان جديدة غير خليلية، إلا أنها لم تكن الأولى من نوعها في تاريخ الشعر العربي، فقد خالفت بعض قصائد لعروة بن الورد وأمية بن الصلت وعبيد بن الأبرص الأوزان المعروفة، وقديمًا قال أبو العتاهية: أنا أكبر من العروض"، ولم يتم رعاية هذه المحاولات -القديمة أو المعاصرة- من قبل أصحابها باعتبارها اتجاها لتحرير الشعر من بحور الخليل.
وعلى ذلك يظهر مصطلح "الشعر الحر"، للدلالة على تنوع البحور داخل القصيدة الواحدة، ويعد أحمد زكي أبو شادي صاحب بداية جادة في كتابة الشعر الحر الذي لا يلتزم في القصيدة بوحدة البحر، بل نجد أربعة أوزان في قصيدة واحدة.
ولم تكفِ قصائد "أبو شادي" أن تجعل الشعر حرَّا من وجهة نظر الشباب المُنادين بالتحرر من كل إطار عروضي ملتزم، ما يجعل القصيدة أقرب الشبه بصيغ الشعر الأوروبي، إلا أن النقاد في النصف الأول من القرن العشرين فصلوا تلك النماذج الشابة عن "الشعر الحر" لأبي شادي، واعتبروا هذه القصيدة "شعرًا منثورًا"، وهو المصطلح الذي سيتم تداوله طويلًا، حتى يُصبح فيما بعد "شعر التفعيلة"، والذي لمع فيه أسماء كثيرة مثل السياب ونازك الملائكة والبياتي، وغيرهم كثُر.
ولقد كان العقاد أشد المُعارضين للشعر المنثور، لأنه نقض عمود الشعر، لدرجة أنه كان يحيل دواوين صلاح عبد الصبور وعبد المعطي حجازي من لجنة الشعر إلى النثر، لأنهم لم يلتزموا بعمود الشعر، واكتفوا بالتمسك بالوزن، ويتساءل: ألا يكون الكلام العادي موزونا على عواهنه، فهل يجعله ذلك شعرًا؟ ويردّ الفريقُ الآخر هل يجعلُ "العروض" المنظومات مثل ألفية ابن مالك شعرًا؟ ويظل تعريف الشعر شائكًا وعصيَا، لعدة أسباب، أولها التعميم، ثانيها الفصل الحاد بين الشكل والمضمون، وربما كانت هذه النقاط وغيرها أيضا من العوائق التي وقفت طويلًا ضد نهوض مفهوم بنيوي للشعر.
ولقد نادى صلاح عبد الصبور ببناء الشعر، وعارض رأيًا شاع منذ الأربعينيات في كتابات محمد غنيمي هلال وأحمد الشايب وغيرهم، أن الشعر أساسه العاطفة، أما النثر أساسه الفكر، وأشار إلى أن ماهية القصيدة في ذاتها كالإنسان، أي لها عقل وروح، "إذا طغى العقل كانت القصيدة عملا غائيا مقصودًا لذاته، وإذا طغت الروح تصبحُ القصيدة لعبا ممتنعا مستغنيا بذاته عن الغاية"[4].
القصيدة الخرساء تتكلم
بمجرد ما عرّبَ أدونيس مصطلح «قصيدة النثر» لـ سوزان برنار، في مطلع الخمسينيات، وكأن الحمى قد انتشرت في المشهد الشعري ككل، واتجه الشباب إلى المناداة بالتخلص لا من الأغراض القديمة للشعر فقط، ولا من البحور الخليلية فقط، ولكن التخلص من الوزن تمامًا!
وسرعان ما تكتل ضد القصيدة الوليدة عدد من المتمردين السابقين، مثل نازك الملائكة، والمتمردين الأول مثل العقاد، ومن الصعب الجزم أن كل الشباب كانوا آنذاك منجذبين نحو هذه الشطحة الأدونسية بحد وصف محمود أمين العالم، والذي رأى مُبكرًا أن القصيدة يمكن أن تحتاج إلى التخلص من الوزن، بعد أن تُقدم كل ما لديها في أوزانها المعروفة، ولكن ليس الآن.
وبينما حرصَ العقاد على أن يكون محافظا في الشعر معتزا بهذه المحافظة، ويرى الخروج عليها انحلالا وإفسادًا، وانبرى يهاجم كتاب "شعر التفعيلة"، ويوجه لهم تجريحًا عنيفًا في الصحف هنا وهناك؛ كان الدكتور طه حسين يرى أنه "ليس على الشعراء بأس من أن يتحرروا من قيود الوزن والقافية إذا نافرت أمزجتهم وطبائعهم، لا يُطلب إليهم في هذه الحرية إلا أن يكونوا صادقين غير متكلفين، وصادرين عن أنفسهم غير مقلدين لهذا الشاعر الأجنبي أو ذاك، ومبدعين فيما ينشئون غير مُسفين إلى سخف القول وما لا غناء فيه"[5].
ومع الزمن أصبح المتمردون في نظر العقاد ورفاقه، مُحافظين في نظر أدونيس وأتباعه، ولم يتقبل شعراء التفعيلة قصيدة النثر، حتى وقت قريب، وأخذوا يناقشون أبرز إشكالياتها مثل المُصطلح، والإيقاع، والمعيار الجمالي، كما جاء في عدة مقالات لـ أحمد عبد المعطي حجازي بعنوان "قد أُفسد القول حتى أُحمدَ الصمم" والتي جُمعت فيما بعد في كتاب "قصيدة النثر أو القصيدة الخرساء".
قال صلاح عبد الصبور، في حوار مع جهاد فاضل: "ليسموها قصيدة نثر أو ليسموها شعرا منثورا أما أنا فلا أحب التسمية الأولى ولكن كثيرا من أصوات الشعر المنثور تهزني".
وأشار شريف رزق إلى أن "مصطلح قصيدة النثر ليس بعيدًا عن هوية هذا النوع الإشكالي، فهي قصيدة لأنها تبنين شعري مقصود شعرًا في الأساس، اكتسبت التعريف بإضافتها إلى النثر لأنه الحقل الذي تتشكل في تربته وتنبت في مكوناته في شكل منظم، وإذا كان النثر يُشير معجميًّا إلى التفريق والتبعثر، فإن القصيدة هنا هي النظام الصاعد في هذا الفضاء المُحتشد بالمتناثر في غير نظام"[6].
ربما يكون مفهوم الإيقاع من أكثر المفاهيم إشكالًا فيما يتعلق بالشعر، لأنه يتداخل مع مفهوم الوزن، خاصة إذا ما نظرنا إلى الإيقاع باعتباره نقلة موسيقية من الشعر المعتمد على بحر محدد، إلى شعر التفعيلة. ويرى أصحاب عمود الشعر أن الإيقاع يتحقق من نظم التفعيلات في البيت الواحد، أما شعراء التفعيلة يرون أن الإيقاع يتخلص من "سيمتريته" ويصبح "هارموني" أكثر، عند الانتقال من نظم الأبيات والبحور إلى شعر التفعيلة بما يتيح حرية أكبر في حركة التفعيلات، وتنويع الإيقاع الموسيقي.ولكن عندما تتخلص قصيدة النثر من الوزن فهل معنى ذلك أنها قصيدة بلا إيقاع؟
حاول شريف رزق إيضاح أن قصيدة النثر إذا هجرت الوزن العروضي، فهي لا تتخلى عن إيقاعها الخاص[7]، منطلقًا من أن الإيقاع كمصطلح فني هو التنظيم، له حدوده وقوانينه في الشعر والنثر معًا، إذ يناط به تنظيم اللغة ليسهل أداء وظائفها المُبتغاة. ولأن الشعر جزء من هذه اللغة، فإنه يعد لغة فوق اللغة، بمعنى أنه يُوَظِّف اللغة جمالياً (فنياً) في مفارقة واضحة للمستوى المعياري لهذه اللغة، فلغة الشعر "هي إعادة تنظيم للغة العادية". فالإيقاع هو الميزان، والميزان هو الإيقاع، والعلاقة بينهما كعلاقة العين والبصر.
وأشار أنسي الحاج إلى أن قصيدة النثر تحتوي على "وزن شخصي"، وأنها خارج الإيقاع الموسيقي تماما، "ولكن هذه الأوزان ليست أوزانا صالحة للقياس عليها أو اعتمادها أو تقنينها"[8].
ويعزوا بعض النقاد هذه الخلافات بين شعراء قصيدة النثر حول بعض المصطلحات والمفاهيم عندما قرروا تحريرها؛ إلى عدم الوعي والنضج الفني، ما يجعل القصيدة في مأزق إشكالي آخر.. أنه في حال غياب القدرة على القياس، هل يمكن أن ينهض أي معيار جمالي عام لهذه القصيدة؟
ومع ذلك لم يُغفل شريف رزق حماسه إلى أن قصيدة النثر ستصبح هي متن الإبداع الشعري، وديوان العربية القادم، لأنها الأقدر على استيعاب متغيرات العصر، بلا قيود تحد من جموحها نحو أراضٍ وعرة من المعاني الإنسانية التي حذرت القصيدة العربية من ولوجها، وهذا بالضبط ما أوضحه محمد آدم، "فقصيدة النثر جاءت نتيجة زواج المجتمع الرعوي والزراعي، واندماج ثقافة الصحراء ببلدان الحضارة القديمة"[9].
وخلال العقدين الأخيرين زاد إقبال الأجيال الجديدة على كتابة قصيدة النثر، واعتبرها روادها نجاحا ساحقًا لدعواهم، بينما رأى أصحاب القصيدة الموزونة ذلك خطرًا على الشعر حيث اختلط السمين بالغث، وصارت "قصيدة النثر" قبلة للمدعين وأنصاف الموهوبين، كما أوضح الدكتور ماهر شفيق فريد: "لقد كنتُ من أكبر أنصار قصيدة النثر من حيث المبدأ، وقد كتبتُ على صفحاتِ الأهرامِ منذ سنوات قلائل أن المستقبل لقصيده النثر، ولكني أجدني الآن مضطرًا إلى مراجعة موقفي، فلستُ أرى لها مُستقبلا يُذكر، وإنما أرى حاضرًا بائسًا وماضيًا فيه درر قليلة وخبثٌ كثير"[10].
ومؤخرًا؛ يصرح أحمد عبد المعطي حجازي، بأن "القصيدة الخرساء" كان مجرد رأي عام، نابع من القلق على مصير الشعر، ولكن هل عنى بذلك أن قصيدة النثر قدمت ما يُبدد القلق بشأنها؟ وفي الوقت الذي تدعي فيه قصيدة النثر أنها الأكثر عصرية، يرى أصحاب التفعيلة أن قصيدتهم الأكثر تأثيرًا في المجال العام، ويُقبل عليها القراء، وبينما يقر شعراء قصيدة النثر بخيانة روادها، وغياب النقاد، وتعنت الأكاديميين، وعدم استعداد القارئ العربي لتلقيها، إلا أنها استطاعت أن تشغل سطرًا في تاريخ حافل من الحوار حول الشعر.
المراجع:
[1] أفيون الشعوب، عباس محمود العقاد، ص109، هنداوي للنشر، 2013م.
[2] موسيقى الشعر، إبراهيم أنيس، مكتبة الأنجلو المصرية، 1965م، ص199.
[3] الحوار الأدبي حول الشعر، محمد أبو الأنوار، مكتبة الشباب، 1975م، ص690.
[4] حياتي في الشعر، صلاح عبد الصبور، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1995م، ص26.
[5] من أدبنا المعاصر، طه حسين، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2014، ص35-36.
[6] آفاق الشعرية العربية الجديدة في قصيدة النثر، شريف رزق، دار الكفاح للنشر والتوزيع، 2015م.
[7] آفاق الشعرية العربية الجديدة في قصيدة النثر، شريف رزق، دار الكفاح للنشر والتوزيع، 2015م. ص40.
[8] مجلة الجديد، فبراير 2019م.
[9] راجع: حوار مع محمد آدم، جريدة الدستور المصرية، 6يوليو 2018م.
[10] قصيدة النثر أو القصيدة الخرساء، أحمد عبد المعطي حجازي، دبي الثقافية، 2008م، ص186.