من الواضح أن العالم يتجه حاليا ً نحو الالتحاق الكامل الشامل بالحضارة الغربية ، ويظن نفسه يسير مع الركب الحضاري للبشرية . لنحصر النظر في أنفسنا نحن العرب . و لنأخذ في البدء المثقفين العرب كمثال . فنحن نفكر بمفاهيم الغرب ..
في إحدى الجلسات قال الأستاذ الياس مرقص ، مدللا ً على مدى تبعيتنا الفكرية للغرب ، ما معناه ، إن بضع عشرات من المصطلحات العربية الحديثة التي تشكل وعاء الثقافة العربية الحالية ، سواء منها الأجنبي الأصل ڪ " الديموقراطية " أو العربي الأصل ڪ " الحرية " تعبر عن مفاهيم غربية . أرجو أن أكون قد أحسنت نقل ملاحظة الأستاذ الياس . لكن المقصود واضح ، فنحن بذلك لا نستخدم في الحقيقة مجرد مصطلحات عربية مترجمة عن اللغات الأوروبية الغربية ، بل نستخدم مفاهيم غربية . بتعبير آخر ، نحن نفكر غربيا ً .
إلى هذا الحد وصلت تبعيتنا الفكرية للغرب . وليس في الأمر مبالغة . فالأداة اللغوية ليست مجرد شكل في فعلها ، بل ترتبط بها مضامين معينة . لذلك نرى أصحاب المدارس الفكرية يبدعون لغتهم الخاصة المناسبة لنظريتهم وفهمهم لما يدرسونه . و أنت ، إ ن أخذت بمصطلحاتهم ( يقال أحيانا ً : لغتهم ) ، قبلت عادة بمفاهيمهم ، ما لم تعط للمصطلح مضمونا ً جديدا ً ( كما فعل مثلا ً هيغل بعبارة " جدل " الافلاطونية ) . و إذا قبلت مفاهيمهم ، فأنت أقرب إلى أن تكون قبلت بنظرتهم أو بنظريتهم . وقد استطاع الغرب أن يبرمج أدمغة المثقفين العرب بمجموعة من المصطلحات و المفاهيم التي يصبحون بها أميل إلى فهم الأمور بعقليته، و بالتالي ميالين لأن يعالجوها بما ينسجم مع ثقافته ( ثقافة الغرب ) ، مع حضارته التي هي هو ، بمعنى من المعاني .
كثيرا ما نقرأ كتابات عربية يستخدم مؤلفوها مصطلحات ، دون أن يوضحوا مضامينها . تسمع نقاشا ً بين اثنين يطول ، ويطول معه الخلاف ، و في النهاية تكتشف أنهما يتحدثان عن شيئين مختلفين بنفس الاسم . عندنا أزمة فهم و مفاهيم ، أزمة تحديد المفاهيم و تمييزها بالأسماء ( أي المصطلحات ) . الغرب أنجز هذه المهمة ويواصل إنجازها بقدر حاجته . أما نحن فكان ما فعلناه – في أفضل الأحوال – هو أن اقتبسنا هذه المنجزات . أجدادنا فعلوا في هذا المجال ما يناسبهم ن بينما نحن – ففي أفضل حالاتنا – قطعنا صلتنا الفكرية بهم ، حتى دون نقد و تفنيد ، واستوردنا مفاهيمنا ، مثلما استوردنا الآلات و الأجهزة و المعدات و المنتجات . لم ننتبه إلى أن بعض المصطلحات و المفاهيم الغربية ليس لها ما يقابلها في واقعنا ، فتوهمنا وجودها ؛ كما تجاهلنا أو انكرنا أمورا في حياتنا ، لأن الغربيين لم يتحدثوا عنها . حتى تاريخنا اعتمدنا في فهمه كل الاعتماد على المستشرقين . وكنا تلاميذ نجباء لدرجة أننا قبلنا بأحكامهم العنصرية علينا أليس الأستاذ فهيما ً أكثر من التلاميذ ؟! وكل ذلك بدعوى العلمية و الموضوعية .
لا أستطيع أن افصل في هذه النقطة بإعطاء أمثلة ملموسة ، لان المجال لا يتسع . كذلك ولنفس السبب لا مجال لتناول جميع مظاهر التبعية الثقافية . لنتفحص الأمر فيما يلي في أدب القصة العربية . حقا ً إن الأدب العربي الحديث مقتبس عن الأدب الأوروبي ، كما تقول كتب الأدب التقليدية . ليس في هذا شك . لكن ، ما يتوقف عنده المرء هو أن يسمع ويقرأ ، إن الأوروبيين هم الذين أبدعوا هذا الفن الأدبي وتفضلوا على العالم بجماليته ، و إن الأدب العربي لم يعرف قبلئذ ٍ القصة بالمفهوم الحديث لهذا الجنس الأدبي . هذا قول يردده كثير من المثقفين العرب ، بالطبع نقلا ً عن أساتذتهم الغربيين . قد نعذر الغربيين لقلة إطلاعهم ، وقد نهاجمهم لعنصريتهم ولكن ، ماذا نقول عن دارسي الأدب العرب الذين لم يروا ما تزخر به مؤلفات عربية مثل ألف ليلة وليلة و الأغاني وغيرهما من قصص مكتملة الشروط الفنية بأكثر المقاييس الحديثة صرامة ؟! . طبعا ً نجد في ألف ليلة و ليلة إلى جانب القصة الحكاية الشعبية و الخرافة و في الأغاني النادرة و النكتة ، غير أنه ليس صعبا على دارس الأدب تمييز القصص ( بالمفهوم الحديث ) عن الحكايات و الخرافات و النوادر و النكات في هذه المؤلفات . إنني أدعو دارسي الأدب إلى مقارنة أدب بوكاشيو مثلا ً ( 1313 – 1375 ) ، وهو رائد القصة الإيطالية " 10 " ، بألف ليلة و ليلة ، ليروا أين أصل القصة الحديثة في العالم وكيف تكون السرقات الأدبية . أنا أعلم أنه فات الأوان على المطالبة بتطوير القصة العربية انطلاقا من الأغاني أو ألف ليلة وليلة أو المقامات ، لكنني في نفس الوقت لا أفهم ، كيف يمكن – كما يحاول أدباؤنا – أن تتطور القصة العربية على نمط القصة الأوروبية مع اختلاف الواقعين العربي و الأوروبي . فليس هذا سوى تبعية أدبية .
لننتقل إلى مجال ثقافي ثالث ، أكثر شعبية : الكساء . نحن الآن نتشبه بالغرب في ألبستنا . لقد خلعنا ثيابنا التقليدية الأصيلة و ارتدينا ثيابهم . أصبح زينا في نظرنا رمزا ً للتخلف و الرجعية . حتى إن بعض الدول العربية لا تسمح للعاملين في إدارتها و منشآتها بمزاولة العمل باللباس العربي ؛ أصبح رسميا ً مجرد " فولكلور " . البدوي و الريفي و المدني التقليديين ، العجائز عادة ، هم الذين ما زالوا محافظين على أزيائنا العربية ، وبشكل مشوه أو غير أصيل ، لأن صناعات و حرف الألبسة عندنا توجهت نحو الأزياء العصرية ، أي الغربية . هم يفصلون هناك ، ونحن هنا نلبس . نحن هنا نرقص على تطبيلهم و تزميرهم هناك . أصبحت القبعة الأوروبية بأشكالها المتعددة مألوفة في مجتمعنا أكثر من الكوفية والطربوش و العرقية . فعلنا هذا دون أن نسأل عن مساوئ ألبستنا و محاسن ألبستهم ، عن العملي و الجمالي و الصحي في أزيائنا و أزيائهم ؛ دون أن نفكر بمدى صلاحية ألبستهم لبيئتنا الطبيعية و تناسبها مع إمكانياتنا الاقتصادية ، بمدى ملاءمتها لأخلاقياتنا وجمالياتنا . فما الذي جرى لنا ؟ في الحقيقة لم أجد أفضل من تفسير ابن خلدون لهذه الظاهرة حيث يقول : " إن المغلوب مولع أبدا ً بالإقتداء بالغالب في شعاره وزيه و نحلته و سائر أحواله وعوائده . والسبب في ذلك أن النفس أبدا ً تعتقد الكمال في من غلبها و انقادت إليه : إما لنظره بالكمال بما وفر عندها من تعظيمه . أو لما تغالط به من انقيادها ليس لغلب طبيعي ، إنما هو لكمال الغالب ؛ فإذا غالطت بذلك و اتصل لها اعتقادا ً ، فانتحلت جميع مذاهب الغالب و تشبهت به ؛ و ذلك هو الإقتداء .
أو لما تراه – و الله أعلم – من أن الغالب لها ليس بعصبية و لا قوة ، و إنما هو بما انتحلته من العوائد و المذاهب ، تغالط أيضا ً بذلك عن الغلب ؛ وهذا راجع للأول . ولذلك ترى المغلوب يتشبه أبدا ً بالغالب في ملبسه و مركبه و سلاحه ، في اتخاذها و أشكالها . بل و في سائر أحواله " "11 " .
يحاول البعض تفسير هذه الظاهرة بالمقارنة و المفاضلة بين لباسنا ولباسهم . فما الفائدة من ذلك ، إذا كان اللباس الأوروبي نفسه محكوم بما يسمى " الموضة " و معناها " الزي " . والزي بالمفهوم الغربي و الممارسة الغربية متبدل على الدوام . وهو لا يخضع في تبدله هذا لأي اعتبار آخر قبل الاعتبار التجاري . فالبارحة كان الفستان طويلا ً إلى القدمين وواسعا ً , واليوم تراه قصيرا ً إلى فوق الركبة و ضيقاً وغدا ً يكون متوسط الطول و الاتساع ... وهكذا . و لا تسأل عن السبب ، فما من جواب . مرة تكون الموضة فستانا ً ، وفي مرة أخرى بنطالا ً ، وفي ثالثة ما بين بين . و البنطال الذي كان البارحة ضيقا ً في الأعلى وواسعا ً في الأسفل يغطي الحذاء ، تراه اليوم واسعا ً في الأعلى وضيقا ً في الأسفل يظهر من تحته الجراب ، وغدا ً يكون بأكمله ضيقا ً وقصيرا ً دون جراب ... مرة بأزرار ، وأخرى بسحاب . مرة بجيوب وأخرى دون جيوب . بنطاق أو حمالات أو دونهما ... وهكذا . كذلك لا تسألهم عن السبب . إنما أن أجيبك : السبب هو الضرورة التجارية . لأنه ن إذا بقيت الموضة على حالها ، فإن فيض الإنتاج سوف يغرق الرأسمالية ويهدد بالتالي الحضارة الغربية .
فالرأسمالية بحاجة ماسة إلى سوق متجددة ، تصرّف فيها المزيد فالمزيد من السلع ، لتجني المزيد فالمزيد من الأرباح التي تستدعي إيجاد المزيد فالمزيد من مجالات الاستثمار و أسواق التصريف ... و إذا لم تكن ثمة حاجة لهذه السلع ، فيجب خلقها ، مثلا ً بالموضة ، بجعل بضائع صالحة عن طريق الموضة غير صالحة ، أي بالهدر . من حيث المبدأ تريد الرأسمالية طلبا ً على منتجاتها ، أكثر مما ترغب بتلبية الحاجات . هذا يعني ، أنها تفضل أن تخلق الحاجات لتصريف بضائعها على أن تسعى لسد الحاجات المتواجدة لدى الناس بصورة طبيعية . و لذلك فالهدر و الإسراف ليس استثناء ، بل هو ضرورة في النظام الرأسمالي . و هكذا نرى الحضارة الغربية الحديثة تجارية استهلاكية ؛ فهل هي بهذه الصفة جديرة بالتعميم على العالم ، جديرة بالاقتباس و التقليد و الإتباع ؟! .
يجب أن أقول بصراحة أنا لست ضد لباسنا الحالي ، و لا أطلب العودة إلى القنباز و الشروال و العباية . هذا ليس المقصود من حديثي و نقدي . قد تكون ألبستنا الحديثة أفضل ، وقد لا تكون . و ما الفرق ؟ إنما المشكلة تكمن في أننا لا نقرر بأنفسنا ، ماذا نخلع و ماذا نرتدي ؛ و لا نتزيا بهذا الزي أو ذاك ، لأنه عملي أو جميل أو صحي أو لأي سبب آخر سوى تقليد الغرب . و الأمر ينسحب على جميع أحوالنا الأخرى . لم تعد نساؤنا ترضى بغير العطور الأوروبية ، وخاصة الباريسية ، مع أن زهورهم لا رائحة لها . فالعطور التي يصدرونها إلينا هي عصارة زهورنا . أصبح الجمال في نظرنا هو جمالهم : الأشقر أجمل من الأسمر ، والأسود عبد . لذلك ترى سمراواتنا مستشقرات الشعر ، وكأنهن جئن من كوكب آخر . الشعر السابل مثل شعرهم أحب إلينا من شعرنا المجعد . لذلك نستورد أدوات التسبيل و نسبل شعرنا ، لكننا نجعده أيضا ً إذا هم جعدوه . شبابنا يطيلون شعورهم ، إن أطال الغربيون . ويرسلون لحاهم ، إن هم أرسلوا .
و يحلقون الشاربين ، إن هم حلقوا . ونساؤنا يسرحن شعرهن بحسب الدارج في باريس و لندن و نيويورك : مرة طويل كذنب الحصان و مرة قصير كالصبي ، مرة كالخنفسة و أخرى كالسبع و ثالثة كالهدهد و القرقفان ... نشاهد أفلامهم ويقلد شبابنا و صبايانا ممثليهم و ممثلاتهم ، فحفظنا أسماءهم وسيرة حياتهم ، و ألفنا طبيعة الغرب المتوحش أكثر من صحراء نجد و بادية الشام . نغني أغانيهم و نرقص على موسيقاهم . نسينا ألعابنا و تسالينا ، وأخذنا نلعب ألعابهم و نتسلى تسلياتهم . نعيّد في أعيادهم ، وعل طريقتهم ... نؤرخ بتقويمهم بدعوى أنه تقويم شمسي عالمي ، مع أنهم اختاروا بداية السنة في يوم مكفهر بارد لا يدعو للتفاؤل ولا يفرح القلوب . ولو أرادوه عالميا ً لغيروا جميع التقاويم وبدأوا السنة الشمسية بالحادي والعشرين من آذار ( في التقويم الحالي ) ، أول أيام الربيع ، كما كان يفعل الأقدمون ... ونستطيع أن نتابع التعداد و نتابع ...
إنه الاستعمار الثقافي السلال كالأفعى . وهو أخطر من الاستعمار الاقتصادي ، لأن الاستعمار الاقتصادي يبقى برانيا ً . فهو استغلال لقوة عملنا و نهب لثرواتنا ، استغلال و نهب لأشياء نستطيع فيما بعد أن نجددها أو أن نجد بدائل عنها ، طالما بقينا موجودين . أما الاستعمار الثقافي فهو استعمار جواني ، للعقل و النفسية و الروح . هو إمحاء للهوية وطمس للشخصية وقطع للانتماء ، وبالتالي أضعاف للولاء للذات أو قضاء عليه دون حرب و دون مقاومة .
___________________
10 ) نقرأ في قاموس " كناور" عن الأدب العالمي ، إن بوكاشيو أبدع بقصصه " ديكاميرون " نموذج القصة الذي مازال حتى اليوم صالحا ً
للتعريف بهذا الجنس الأدبي . انظر ط 3 ، ميونخ 1986 ، ص 92/93 .
11 ) مقدمة ابن خلدون ، طبعة دار القلم ، بيروت 1978 ، ص 147 .
_____
* على دروب الثقافة الديموقراطية - بو علي ياسين
سلسلة دراسات معاصرة – دار حوران للدراسات و النشر والتوزيع
الطبعة الأولى 1994 - الصفحة 38
في إحدى الجلسات قال الأستاذ الياس مرقص ، مدللا ً على مدى تبعيتنا الفكرية للغرب ، ما معناه ، إن بضع عشرات من المصطلحات العربية الحديثة التي تشكل وعاء الثقافة العربية الحالية ، سواء منها الأجنبي الأصل ڪ " الديموقراطية " أو العربي الأصل ڪ " الحرية " تعبر عن مفاهيم غربية . أرجو أن أكون قد أحسنت نقل ملاحظة الأستاذ الياس . لكن المقصود واضح ، فنحن بذلك لا نستخدم في الحقيقة مجرد مصطلحات عربية مترجمة عن اللغات الأوروبية الغربية ، بل نستخدم مفاهيم غربية . بتعبير آخر ، نحن نفكر غربيا ً .
إلى هذا الحد وصلت تبعيتنا الفكرية للغرب . وليس في الأمر مبالغة . فالأداة اللغوية ليست مجرد شكل في فعلها ، بل ترتبط بها مضامين معينة . لذلك نرى أصحاب المدارس الفكرية يبدعون لغتهم الخاصة المناسبة لنظريتهم وفهمهم لما يدرسونه . و أنت ، إ ن أخذت بمصطلحاتهم ( يقال أحيانا ً : لغتهم ) ، قبلت عادة بمفاهيمهم ، ما لم تعط للمصطلح مضمونا ً جديدا ً ( كما فعل مثلا ً هيغل بعبارة " جدل " الافلاطونية ) . و إذا قبلت مفاهيمهم ، فأنت أقرب إلى أن تكون قبلت بنظرتهم أو بنظريتهم . وقد استطاع الغرب أن يبرمج أدمغة المثقفين العرب بمجموعة من المصطلحات و المفاهيم التي يصبحون بها أميل إلى فهم الأمور بعقليته، و بالتالي ميالين لأن يعالجوها بما ينسجم مع ثقافته ( ثقافة الغرب ) ، مع حضارته التي هي هو ، بمعنى من المعاني .
كثيرا ما نقرأ كتابات عربية يستخدم مؤلفوها مصطلحات ، دون أن يوضحوا مضامينها . تسمع نقاشا ً بين اثنين يطول ، ويطول معه الخلاف ، و في النهاية تكتشف أنهما يتحدثان عن شيئين مختلفين بنفس الاسم . عندنا أزمة فهم و مفاهيم ، أزمة تحديد المفاهيم و تمييزها بالأسماء ( أي المصطلحات ) . الغرب أنجز هذه المهمة ويواصل إنجازها بقدر حاجته . أما نحن فكان ما فعلناه – في أفضل الأحوال – هو أن اقتبسنا هذه المنجزات . أجدادنا فعلوا في هذا المجال ما يناسبهم ن بينما نحن – ففي أفضل حالاتنا – قطعنا صلتنا الفكرية بهم ، حتى دون نقد و تفنيد ، واستوردنا مفاهيمنا ، مثلما استوردنا الآلات و الأجهزة و المعدات و المنتجات . لم ننتبه إلى أن بعض المصطلحات و المفاهيم الغربية ليس لها ما يقابلها في واقعنا ، فتوهمنا وجودها ؛ كما تجاهلنا أو انكرنا أمورا في حياتنا ، لأن الغربيين لم يتحدثوا عنها . حتى تاريخنا اعتمدنا في فهمه كل الاعتماد على المستشرقين . وكنا تلاميذ نجباء لدرجة أننا قبلنا بأحكامهم العنصرية علينا أليس الأستاذ فهيما ً أكثر من التلاميذ ؟! وكل ذلك بدعوى العلمية و الموضوعية .
لا أستطيع أن افصل في هذه النقطة بإعطاء أمثلة ملموسة ، لان المجال لا يتسع . كذلك ولنفس السبب لا مجال لتناول جميع مظاهر التبعية الثقافية . لنتفحص الأمر فيما يلي في أدب القصة العربية . حقا ً إن الأدب العربي الحديث مقتبس عن الأدب الأوروبي ، كما تقول كتب الأدب التقليدية . ليس في هذا شك . لكن ، ما يتوقف عنده المرء هو أن يسمع ويقرأ ، إن الأوروبيين هم الذين أبدعوا هذا الفن الأدبي وتفضلوا على العالم بجماليته ، و إن الأدب العربي لم يعرف قبلئذ ٍ القصة بالمفهوم الحديث لهذا الجنس الأدبي . هذا قول يردده كثير من المثقفين العرب ، بالطبع نقلا ً عن أساتذتهم الغربيين . قد نعذر الغربيين لقلة إطلاعهم ، وقد نهاجمهم لعنصريتهم ولكن ، ماذا نقول عن دارسي الأدب العرب الذين لم يروا ما تزخر به مؤلفات عربية مثل ألف ليلة وليلة و الأغاني وغيرهما من قصص مكتملة الشروط الفنية بأكثر المقاييس الحديثة صرامة ؟! . طبعا ً نجد في ألف ليلة و ليلة إلى جانب القصة الحكاية الشعبية و الخرافة و في الأغاني النادرة و النكتة ، غير أنه ليس صعبا على دارس الأدب تمييز القصص ( بالمفهوم الحديث ) عن الحكايات و الخرافات و النوادر و النكات في هذه المؤلفات . إنني أدعو دارسي الأدب إلى مقارنة أدب بوكاشيو مثلا ً ( 1313 – 1375 ) ، وهو رائد القصة الإيطالية " 10 " ، بألف ليلة و ليلة ، ليروا أين أصل القصة الحديثة في العالم وكيف تكون السرقات الأدبية . أنا أعلم أنه فات الأوان على المطالبة بتطوير القصة العربية انطلاقا من الأغاني أو ألف ليلة وليلة أو المقامات ، لكنني في نفس الوقت لا أفهم ، كيف يمكن – كما يحاول أدباؤنا – أن تتطور القصة العربية على نمط القصة الأوروبية مع اختلاف الواقعين العربي و الأوروبي . فليس هذا سوى تبعية أدبية .
لننتقل إلى مجال ثقافي ثالث ، أكثر شعبية : الكساء . نحن الآن نتشبه بالغرب في ألبستنا . لقد خلعنا ثيابنا التقليدية الأصيلة و ارتدينا ثيابهم . أصبح زينا في نظرنا رمزا ً للتخلف و الرجعية . حتى إن بعض الدول العربية لا تسمح للعاملين في إدارتها و منشآتها بمزاولة العمل باللباس العربي ؛ أصبح رسميا ً مجرد " فولكلور " . البدوي و الريفي و المدني التقليديين ، العجائز عادة ، هم الذين ما زالوا محافظين على أزيائنا العربية ، وبشكل مشوه أو غير أصيل ، لأن صناعات و حرف الألبسة عندنا توجهت نحو الأزياء العصرية ، أي الغربية . هم يفصلون هناك ، ونحن هنا نلبس . نحن هنا نرقص على تطبيلهم و تزميرهم هناك . أصبحت القبعة الأوروبية بأشكالها المتعددة مألوفة في مجتمعنا أكثر من الكوفية والطربوش و العرقية . فعلنا هذا دون أن نسأل عن مساوئ ألبستنا و محاسن ألبستهم ، عن العملي و الجمالي و الصحي في أزيائنا و أزيائهم ؛ دون أن نفكر بمدى صلاحية ألبستهم لبيئتنا الطبيعية و تناسبها مع إمكانياتنا الاقتصادية ، بمدى ملاءمتها لأخلاقياتنا وجمالياتنا . فما الذي جرى لنا ؟ في الحقيقة لم أجد أفضل من تفسير ابن خلدون لهذه الظاهرة حيث يقول : " إن المغلوب مولع أبدا ً بالإقتداء بالغالب في شعاره وزيه و نحلته و سائر أحواله وعوائده . والسبب في ذلك أن النفس أبدا ً تعتقد الكمال في من غلبها و انقادت إليه : إما لنظره بالكمال بما وفر عندها من تعظيمه . أو لما تغالط به من انقيادها ليس لغلب طبيعي ، إنما هو لكمال الغالب ؛ فإذا غالطت بذلك و اتصل لها اعتقادا ً ، فانتحلت جميع مذاهب الغالب و تشبهت به ؛ و ذلك هو الإقتداء .
أو لما تراه – و الله أعلم – من أن الغالب لها ليس بعصبية و لا قوة ، و إنما هو بما انتحلته من العوائد و المذاهب ، تغالط أيضا ً بذلك عن الغلب ؛ وهذا راجع للأول . ولذلك ترى المغلوب يتشبه أبدا ً بالغالب في ملبسه و مركبه و سلاحه ، في اتخاذها و أشكالها . بل و في سائر أحواله " "11 " .
يحاول البعض تفسير هذه الظاهرة بالمقارنة و المفاضلة بين لباسنا ولباسهم . فما الفائدة من ذلك ، إذا كان اللباس الأوروبي نفسه محكوم بما يسمى " الموضة " و معناها " الزي " . والزي بالمفهوم الغربي و الممارسة الغربية متبدل على الدوام . وهو لا يخضع في تبدله هذا لأي اعتبار آخر قبل الاعتبار التجاري . فالبارحة كان الفستان طويلا ً إلى القدمين وواسعا ً , واليوم تراه قصيرا ً إلى فوق الركبة و ضيقاً وغدا ً يكون متوسط الطول و الاتساع ... وهكذا . و لا تسأل عن السبب ، فما من جواب . مرة تكون الموضة فستانا ً ، وفي مرة أخرى بنطالا ً ، وفي ثالثة ما بين بين . و البنطال الذي كان البارحة ضيقا ً في الأعلى وواسعا ً في الأسفل يغطي الحذاء ، تراه اليوم واسعا ً في الأعلى وضيقا ً في الأسفل يظهر من تحته الجراب ، وغدا ً يكون بأكمله ضيقا ً وقصيرا ً دون جراب ... مرة بأزرار ، وأخرى بسحاب . مرة بجيوب وأخرى دون جيوب . بنطاق أو حمالات أو دونهما ... وهكذا . كذلك لا تسألهم عن السبب . إنما أن أجيبك : السبب هو الضرورة التجارية . لأنه ن إذا بقيت الموضة على حالها ، فإن فيض الإنتاج سوف يغرق الرأسمالية ويهدد بالتالي الحضارة الغربية .
فالرأسمالية بحاجة ماسة إلى سوق متجددة ، تصرّف فيها المزيد فالمزيد من السلع ، لتجني المزيد فالمزيد من الأرباح التي تستدعي إيجاد المزيد فالمزيد من مجالات الاستثمار و أسواق التصريف ... و إذا لم تكن ثمة حاجة لهذه السلع ، فيجب خلقها ، مثلا ً بالموضة ، بجعل بضائع صالحة عن طريق الموضة غير صالحة ، أي بالهدر . من حيث المبدأ تريد الرأسمالية طلبا ً على منتجاتها ، أكثر مما ترغب بتلبية الحاجات . هذا يعني ، أنها تفضل أن تخلق الحاجات لتصريف بضائعها على أن تسعى لسد الحاجات المتواجدة لدى الناس بصورة طبيعية . و لذلك فالهدر و الإسراف ليس استثناء ، بل هو ضرورة في النظام الرأسمالي . و هكذا نرى الحضارة الغربية الحديثة تجارية استهلاكية ؛ فهل هي بهذه الصفة جديرة بالتعميم على العالم ، جديرة بالاقتباس و التقليد و الإتباع ؟! .
يجب أن أقول بصراحة أنا لست ضد لباسنا الحالي ، و لا أطلب العودة إلى القنباز و الشروال و العباية . هذا ليس المقصود من حديثي و نقدي . قد تكون ألبستنا الحديثة أفضل ، وقد لا تكون . و ما الفرق ؟ إنما المشكلة تكمن في أننا لا نقرر بأنفسنا ، ماذا نخلع و ماذا نرتدي ؛ و لا نتزيا بهذا الزي أو ذاك ، لأنه عملي أو جميل أو صحي أو لأي سبب آخر سوى تقليد الغرب . و الأمر ينسحب على جميع أحوالنا الأخرى . لم تعد نساؤنا ترضى بغير العطور الأوروبية ، وخاصة الباريسية ، مع أن زهورهم لا رائحة لها . فالعطور التي يصدرونها إلينا هي عصارة زهورنا . أصبح الجمال في نظرنا هو جمالهم : الأشقر أجمل من الأسمر ، والأسود عبد . لذلك ترى سمراواتنا مستشقرات الشعر ، وكأنهن جئن من كوكب آخر . الشعر السابل مثل شعرهم أحب إلينا من شعرنا المجعد . لذلك نستورد أدوات التسبيل و نسبل شعرنا ، لكننا نجعده أيضا ً إذا هم جعدوه . شبابنا يطيلون شعورهم ، إن أطال الغربيون . ويرسلون لحاهم ، إن هم أرسلوا .
و يحلقون الشاربين ، إن هم حلقوا . ونساؤنا يسرحن شعرهن بحسب الدارج في باريس و لندن و نيويورك : مرة طويل كذنب الحصان و مرة قصير كالصبي ، مرة كالخنفسة و أخرى كالسبع و ثالثة كالهدهد و القرقفان ... نشاهد أفلامهم ويقلد شبابنا و صبايانا ممثليهم و ممثلاتهم ، فحفظنا أسماءهم وسيرة حياتهم ، و ألفنا طبيعة الغرب المتوحش أكثر من صحراء نجد و بادية الشام . نغني أغانيهم و نرقص على موسيقاهم . نسينا ألعابنا و تسالينا ، وأخذنا نلعب ألعابهم و نتسلى تسلياتهم . نعيّد في أعيادهم ، وعل طريقتهم ... نؤرخ بتقويمهم بدعوى أنه تقويم شمسي عالمي ، مع أنهم اختاروا بداية السنة في يوم مكفهر بارد لا يدعو للتفاؤل ولا يفرح القلوب . ولو أرادوه عالميا ً لغيروا جميع التقاويم وبدأوا السنة الشمسية بالحادي والعشرين من آذار ( في التقويم الحالي ) ، أول أيام الربيع ، كما كان يفعل الأقدمون ... ونستطيع أن نتابع التعداد و نتابع ...
إنه الاستعمار الثقافي السلال كالأفعى . وهو أخطر من الاستعمار الاقتصادي ، لأن الاستعمار الاقتصادي يبقى برانيا ً . فهو استغلال لقوة عملنا و نهب لثرواتنا ، استغلال و نهب لأشياء نستطيع فيما بعد أن نجددها أو أن نجد بدائل عنها ، طالما بقينا موجودين . أما الاستعمار الثقافي فهو استعمار جواني ، للعقل و النفسية و الروح . هو إمحاء للهوية وطمس للشخصية وقطع للانتماء ، وبالتالي أضعاف للولاء للذات أو قضاء عليه دون حرب و دون مقاومة .
___________________
10 ) نقرأ في قاموس " كناور" عن الأدب العالمي ، إن بوكاشيو أبدع بقصصه " ديكاميرون " نموذج القصة الذي مازال حتى اليوم صالحا ً
للتعريف بهذا الجنس الأدبي . انظر ط 3 ، ميونخ 1986 ، ص 92/93 .
11 ) مقدمة ابن خلدون ، طبعة دار القلم ، بيروت 1978 ، ص 147 .
_____
* على دروب الثقافة الديموقراطية - بو علي ياسين
سلسلة دراسات معاصرة – دار حوران للدراسات و النشر والتوزيع
الطبعة الأولى 1994 - الصفحة 38