مهم ٌ جداً أن يُعاد النظر في شعر السياب بعد رحيله بثلاثين سنة ، بجيل كامل ، للتأكيد على مكانته في تاريخ الشعر . هذه المكانة الراسخة التي جعلته جزءاً أساسياً من (تراث) الأدب العربي الذي راح يتراكم بحيوية هائلة منذ منتصف القرن العشرين ، معلناً مرحلة جديدة من مراحل الحضارة العربية . و ليس لنا إلا ّ أن نتوسع في دراسته ، و نتعمّق في صوره الشعرية ، و رموزه ، و وشائجه الفنية المنبثة في كل اتجاه . كانت حياة السياب قصيرة ، ولكن مثيرة و قاسية معاً ، ضاجّة بتساؤلاتها ، و مكتظة بتحرقاتها ، كما بانجازاتها . و لنتذكر أن العديد من الشعراء العرب الذين اشتهروا قبله ، في النصف الأول من القرن ، لقوا في أثناء حياتهم أضعاف ما لقي السياب في حياته من التكريم ، و التنويه ، و الرفاه المادي ، ناهيك عن (العز) الذي تمتع به بعضهم . أما السياب ، فكان متمرداً من أجل رؤيته المتميزة المشفوعة بفهمه الخاص للتاريخ و الانسانية ، كما بفهمه للغة ذاتها و إمكاناتها التعبيرية . فكان جزاؤه جزاء كل متمرد : لابد من موته بشكل ٍما ، قبل أن تنتبه الأمة الى عبقريته و دوام حضوره . غير أن السياب ، إذا كان قد خسر الدنيا إبان سنينه القلائل من العمر، فقد كسب أولاً نفسه ، ثم كسب معها ذلك الخلود الذي لا يتيسر في كل عصر إلا ّ لعدد صغير من الأفراد ، ولأنهم أتوا بإضافة حقيقية إلى تجربة الإنسان ، و بالتالي إلى تاريخه الفكري . فالسياب اليوم ليس مجرد شاعر آخر عاش في حقبة الخمسينات و اوائل الستينات ، الغزيرة بعطاءاتها الإبداعية . إنه شاعر طاول بقامته شعراء الأمة في تاريخها المديد بكل ما قال و ابتدع ، و سيبقى رمزاً للتغيير الإنقلابي في الموقف الشعري ، الذي ساهم في إنقاذ الكلمة العربية من موات ٍ في اللفظ و الصورة دام سبعة قرون أو أكثر . فالشعر الجديد ، منذ حوالي خمسين سنة ، مدين للسياب في الكثير من نزعته المستقبلية ، و رؤيته التحررية ، و إصراره على مركزيته في مصطرع الفنون التعبيرية في الوطن العربي . و شعراء اليوم ليست مرجعيتهم الحقيقية إلا ّ السياب نفسه ، بالإضافة إلى كتابات مجموعة صغيرة من الشعراء و النقاد الذين عاصروه ، و كانوا أصدقاءه و شركاءه في رؤيا العصر . و تحوّلات القصيدة إنما هي الآن دوماً ممكنة ، لأن شعر السياب و زملائه جعلها كذلك قبل أكثر من ثلاثين عاماً ، بعد أن جمدت أشكالها و معانيها لقرون . فهذا الشاعر الذي انطلق بحماسه الجامح من أبي الخصيب والبصرة ، ثم من بغداد ، كان يعي أنه ينتمي في الأعماق الى ذلك الزخم الرافديني الكامن ، الذي بقي طوال أربعين قرناً من الحضارة يأتي بين فترة و فترة بمعجزات التعبير و الخلق التي تدفع بالإنسان نحو المزيد من الطاقة على الحياة و الإمتلاء بها ، و منح فيضها للآخرين في كل مكان . فنظرة بدر في كل ما كتب من شعر ، تتجه الى الأعماق في بحث لا يستقر، قلقاً و كشفاً ، و كثيراً ما توحي بأنها نظرة المصلوب من قمته التي تتناوشها الزوابع و العُقبان ، متجهة من تلك الأعالي المعذبة نحو المشهد الإنساني الممزق بمآسيه . إنها نظرة الغضب و الفجيعة التي تتحول دائماً الى مغزىً كوني ، يضعه في مصاف الشعراء الكبار في أية لغة . و ما حققه ذات يوم من تمّوزيات ، استطاع به الآن أن يحول الأسطورة من مجرد أقاصيص كادت تندثر مع الزمن ، الى رؤىً هادرة بقوى الإنبعاث لأمة بكاملها أمة مازالت تتهددها قوى الظلام و الموت ، و ما هذا الشعر الا ّ بعض من محفزات حيويتها . وعي السياب هذا ، الذي تطفح به قصائده ، هو الذي يعطيه ذلك الحضور القوي الدائم ، و يضعه في الطليعة من المبدعين الذين تفخر الأمة العربية بأسمائهم، الباقية ما بقيت