أدب السجون أمير ناظم - عكازتان ورجلٌ واحدة

تردد قبل أن يقول وداعًا، ثم لفظها بهمسٍ وهو يدير وجهه مبتعدًا عنها، بقيَتْ صامتةً لا تعرف ما تقول أو تفعل، فلم يدم اللقاء سوى دقائق معدودات، ذكّرها بأخطائها التي تسببت بحبسه وبتر إحدى رجليه، وروى لها - باختزال - كيف هرب من (سجن نقرة السلمان) بعد أن وشت بهِ تزلفًا للنظام وختم كلامه بجملة قصيرة (الله بيننا).

مازالت دون حركة تتبع بعينيها المخضلتين بالدمع عكازيه وقدمه اليتيمة وهو يحاول أن يصعد الدرج لمقر هيئة الحدود في كردسان، فارًّا منها ومن البلد الذي شوهه إلى تركيا، وأدركتْ أنها قد ندمت بوقت متأخر على ما فعلت، إذ إنه كان يأتمنها على أسراره الخطيرة ويخبئ عندها منشوراته التي تؤدي به إلى حبل المشنقة ، وكُتُبه الممنوعة والسرية أيضًا، واكتشفت أنه لم يكن يستغلّها، بل كان يحبها حقًّا، وأدركت أنها هي الأخرى تحبه ولم تكن تتجسس عليه فحسب، فهو لطالما كان يقول لها: إن الحب والوطن شيء واحد يكمّل بعضُهما بعضًا، ومن الصعب أن نفرّق بينهما، فأنتِ وطني، ووطني أنتِ. لكنها تتجاهل الشعور المرادف لهذه الكلمات آملةً أن تنال حظوة كبيرة لدى مسؤولي جهاز الأمن، وتأمل أن تحصل على ترقية استخباراتية عسى أن تغدو ضابطة أمن، وتغلّب مشاعر الرِفعة والجاه والسلطة على أي شعور إنساني آخر.

ولكنّ ما تشعر به الآن فات الأوان عليه، فها هو يرحل ويتركها تصارع شعورها بالخيانة والندم والكراهية، إذ خدعها المسؤولون بعد أن وعدوها بمكافآت تحلم بها منذ الصغر، فقد كبُرت لتجد نفسها لقيطة يعاملها كل من في البيت بازدراء وغلظة، خصوصًا بعد أن مات أبوها غير الشرعي، الأب الذي تبنّاها ورعاها ولقنّها دروس الوطنية بمفاهيم وتنظيرات الحزب الحاكم، وبعد موته اشتدّ نقصها وعوزها لإثبات وجودها رغمًا على الحياة ونكاية بالعائلة التي محت من ذهنها أي شعور بالرحمة والكرامة والشجاعة، فأضحت ناقمة على كل شيء، حتى صديقها الذي حاول أن يجرّها إلى درب النضال والكفاح ويغرس فيها أهدافًا سامية تجعل لحياتها معنى نزيها جديدًا، وانتشلها من سفالة الشوارع وليالي الفنادق الحمراء.

لم تكن تفكّر ولو مرّة واحدة بأنها ستضطر إلى الهروب من بغداد إلى أعشاش رجال المعارضة الذين كانت تتجسس عليهم، ولم تكن تشكّ بالوعود التي أغدقها عليها المسؤولون في النوادي والخمارات، وكانت مستعدة لأن تشيَ حتى بفسها وببرودة ليس بصديق سيموت بعد تأكيد ممارساته السياسية قريبًا.
فهي تراه صديقًا عابرًا ودرْجةً أولى تصعد على ظهره إلى جهاز الأمن وتحصل على وظيفة حقيقية في الدولة، حتى عندما صرّح لها بحبّه قبل أن يُعتقل مستنجدًا بها، فلم تبالِ أو يهتز ضميرها، وأشارت للجلاوزة بأطراف أصابعها ليؤخذ إلى سجن زنزانة رقم ١.

ولكنها أعادت هذه اللحظة إلى الذاكرة حينما هرب هو من قطار الموت واتهموها بتسريب المعلومات ومساعدته على الهروب على الرغم من أنها تعلم ويعلمون بأنها لم تكن تدري بهروبه البتة، إلّا أنّهم وجدوا بسجنها خير وسيلة لإنقاذ أنفسهم أمام المسؤولين الكبار وجعلها ذريعة تمّ بواسطتها اختراق سريّة الجهاز رغم ثقتهم بها، فأمست كبش فداء لهم دون أي جريمة.

في اللحظة التي قيدوا فيها معصميها عرفتْ ذلك، واكتشفت زيف الوعود وكذب الأقاويل ونفاق الرفاق المخادعين، وتذكّرت قول صاحبها (أنتِ وطني، والوطن أنتِ) وفهمت معنى كلامه، فهو من المستحيل أن يخون الوطن أو يوقع بها في زنازين الموت والقرف بعد أن أحب، وعرفت أيضًا أن الحب قد يكون أكثر وقعًا من الوطن حتى.

وبعد أن دبّرت حيلة لتهرب مع أحد أصدقائه الذي لم يكن يعلم بأنها مُخبِرة، ظانًّا بأنها رفيقة النضال لصديقه الذي يكابد الموت في نقرة السلمان؛ أخبرها بعد أن نجحت عملية الهرب بأن صديقها قد فرّ بأعجوبة من قطار الموت، ولكن القطار أخذ إحدى قدميه، وعالجه أحد الفلاحين الذين لديهم حس نضاليّ، وهو الآن في طريقه إلى شمال العراق ليهاجر إلى تركيا عن طريق علاقات ونفوذ المعارضة العراقية المتعاطفين مع المعارضة في الوسط والجنوب، فآنست نورًا ضئيلًا بملاحقته والهروب معه، لذا أعطت ممتلكاتها كلها لأحد تجار الحشيشة كي يهرّبها بمحاذاة الحدود السورية إلى كردستان وتلحق به.
شاء القدر أن تلتقي به في آخر اللحظات على الحدود، ولأنها متأكدة من حبِّه لها ظنّت أنه سيحتضنها حال رؤيته لها، وأنه سيغفر لها زلتها ويتفهم وضعها، فهو رؤوف وشهم، لن يتركها وحيدة في منتصف الطريق لتعود لقيطة كما وجدها أول مرة في نادٍ ليلي.

فوجِئت به غاضبًا، فهي لأوّل مرة تراه بهذه الهيئة مذ عرفته، فقد كان الشرار يتطاير من عينيه، ويئست منه نهائيًّا عندما ذكّرها بمقولته (الحب والوطن شيء واحد يكمّل بعضُهما البعض) وأردف قائلًا: إن من يخُن الحب فقد خان الوطن، ومن خان وطنه فقد خان الحب، وأنتِ خنتِ الاثنين معًا، الله بيننا. وأدار وجهه راحلًا لتخرَ ساجدةً تترجاه من دون صوت، لم تجد كلمة مناسبة تستجديه بها كي ترافقه، أو حتى يسامحها أو يعذرها. وحين وصل إلى الباب الزجاجي العريض في مدخل دائرة الحدود أشار بيده إشارة فهمتها هي على أنّها تلويحة الوداع، وفهمها أصدقاؤه هو على أنّها أمرٌ بقتلها لأنها خائنة، فَنَخَر ظهرها الرصاص وماتت وهي ساجدة ترجو مغفرةً من الحب والوطن.

تعليقات

لا توجد تعليقات.

هذا النص

ملف
أدب السجون والمعتقلات
المشاهدات
773
آخر تحديث
أعلى