تاريخ الفلسفة وأهميته الراهنة :
"إن تاريخ الفلسفة لا يمكن أن يكون، تاريخاً مجرداً للافكار وللمذاهب، منفصلة عن مقاصد واضعيها وعن المناخ المعنوي والاجتماعي الذي رأت في ظله النور، ومن المتعذر على المرء ان ينكر ان الفلسفة شغلت في ما نستطيع أن نسميه بالنظام الفكري السائد في كل عصر مكانة متباينة للغاية "([1]).
من ناحية ثانية، لا بد من الإشارة إلى "ارتباط الفلسفة منذ نشوئها بالعلم والرياضيات، وهذا ما نلمسه منذ بداياتها الأولى في الحضارة الإغريقية القديمة، إذ غلب عليها آنذاك التنظير للمعرفة الرياضية والفيزيائية من جهة، وللأخلاق والسياسة من جهة أخرى، وظلت هذه الصلة الجوهرية قائمةً حتى في العصور الوسطى الدينية الطابع، لكن طغيان الثقافة الدينية آنذاك جعل الفلسفة تتمحور حول الدين أكثر من تمحورها حول العلم، وكانت إلى حد ما أسيرة عِلْمَيْ الكلام واللاهوت.
لكن الحقبة الحديثة التي ابتدأت بعصر النهضة الأوروبية في القرن السادس عشر الميلادي غيّرت ذلك تماماً، وحررت الفلسفة من قيود الدين، وأعادت الأمور إلى نصابها في ما يتعلق بالصلة العضوية بين العلم والفلسفة، بحيث يمكن القول إن الفلسفة باتت تشكل بعداً جوهرياً من أبعاد العقل النظري في ثقافة ما، وتدخل مع العلم في علاقة عضوية في تشكيل هذا العقل"([2]).
فإذا نظرنا بجدية إلى حالة العلم الحديث، أو بشكل أكثر دقة إلى الأسس النظرية والافتراضات التي يقوم عليها، فإننا نرى أن العلم لم يتحرر في الواقع من الفلسفة، وكل من يتكبد عناء دراسة تاريخ الفلسفة سيجد منجما غنيا بأفكار في منتهى العمق، إذ أن الفلسفة طريقة تفكير مختلفة عن التفكير اليومي، إنها تتعامل في كل تاريخها وسيرورتها مع الأسئلة الكبرى، "التي لا بد أن الجميع قد فكر فيها في وقت ما، أسئلة من قبيل: ما معنى الحياة؟ وما هو الخير وما هو الشر؟ وما هي طبيعة الكون؟ الخ. لقد شغلت هذه الأسئلة، التي أجاب العلم نفسه عن العديد منها، عقول المفكرين العظام لأكثر من 2000 سنة، ولذلك فإن الصلة بين العلم والفلسفة تعود إلى زمن بعيد"([3]).
لقد استمر اقتران العلوم بالفلسفة حتى القرن السابع عشر. وها هو ذا ديكارت يقول "أن الفلسفة أشبه بشجرة جذورها الميتافزيقا وجذعها الفيزياء وفروعها الطب والميكانيكا والأخلاق"، وحين أُدخلت طريقة الملاحظة التجربة والفرضية والتحقق في مجال العلوم، " لم يكن بد من انفصال العلوم عن الفلسفة "فشهدت العصور الحديثة حركات انشقاق متوالية داخل الفلسفة، فانفصل عنها أول ما انفصل الفيزياء، على يد كل من غاليليو 1564– 1642 ونيوتن 1642– 1727 ولحقت بها الكيمياء على يد لافوازييه 1743– 1794 واستقل علم الاحياء على يد كلود برنارد 1831– 1878 وتبعها علم النفس ثم علم الاجتماع وغيرهما من العلوم.
على أن نظرة كهذه إلى الفلسفة وإن كان لها ما يبررها من بعض النواحي، لم تلق استجابة من العدد الأكبر من الفلاسفة ورجال الفكر، لذلك لم ينثنوا عن مواصلة التفلسف في المسائل الأساسية للوجود والأخلاق والمصير الإنساني وغير ذلك، وهذا يعني أن للفلسفة فعالية ملازمة للإنسان باعتباره كائناً عاقلاً، وانه لن يكف عن التفلسف إلا حين يتخلى عن إنسانيته وعن عقلانيته"([4])، وتلك هي سمة الفكر الفلسفي عبر ما قدمه الفلاسفة منذ الاغريق إلى يومنا هذا.
الخطوط الكبرى لتاريخ الفلسفة ومسيرتها في إطار العصور التالية([5]):
(أ) العصر الإغريقي : ويمتد من القرن السادس قبل الميلاد وحتى وفاة أرسطو (أواخر القرن الرابع ق.م).
(ب) العصر الهليني : الذي يمتد من وفاة أرسطو حتى نهاية الأفلوطينية المحدثة 322 ق.م – 500م وقد انصب جل اهتمام الفلسفة في هذه الفترة على المسائل الأخلاقية والعملية.
(ت) العصر الوسيط: ويبدأ من القديس أوغسطين 354-430 في القرن الخامس وحتى نقولا دي كوسا 1401-1464 في القرن الخامس عشر. وقد انشغلت الفلسفة في هذا العصر بالمسائل الدينية وعملت على التوفيق بين العقل والنقل أو الإيمان والفكر. وتعتبر مصنفات فلاسفة الإسلام ابتداء من الكندي (ت873) وانتهاء بابن رشد 1126-1198 رافداً من روافده.
(ث)عصر النهضة: يبدأ من القرن الخامس عشر وحتى القرن السابع عشر. ويمكن أن يسمى هذا العصر بعصر انعتاق الفكر الإنساني من مقولات الفكر القديم وقيوده.
(ج) عصر التنوير: يتميز هذا العصر بوضع أنسقة فلسفية متكاملة عن العالم واستخدام المناهج العلمية في البحث.
(ح) عصر الفلسفة الألمانية من كانط 1724 – 1804 وحتى هيغل 1770 – 1831.
(خ) القرن التاسع عشر: يتميز هذا العصر بالانصراف إلى الواقع المحسوس ذاته تحت تأثير العلم الطبيعي. ولذلك غلبت عليه النزعة المادية الميكانيكية.
(د) القرن العشرون: وهو عصر التحليل المنطقي للغة الفلسفة في ظروف انفصالها عن العلوم التي تطورت بصور وأشكال متسارعه غير مسبوقة في كافة المجالات، خاصة في تكنولوجيا وعلوم الفضاء والجينات والهندسية والراثية وتكنولوجيا النانو، والصناعات الدقيقه والاتصالات والمعلومات التي امتدت وتواصلت في القرن الحادي والعشرين.
"إن المجتمعات الناهضة تنتج العقل النظري بوصفه قوة إنتاج رئيسية، "ولما كانت الفلسفة جزءاً لا يتجزأ من العقل النظري، فإنه يمكن اعتبارها قوة رئيسية من قوى الإنتاج، فالتقانة، التي تجسد العلم عمليا وإنتاجيا، تحمل في باطنها فلسفة، لا بل فلسفات. إنها، بمعنى من المعاني، تجسيد للفلسفة، من ثم، فإن الفلسفة هي شرط أساسي من شروط تكون الطبقات التاريخية الرئيسية، على الأقل منذ الإغريق، ومن ثم، فهي شرط أساسي من شروط تكون الأمم الحديثة المستقلة"([6]).
فالفلسفة بالمعنى التاريخي –كما يقول بحق د.هشام غصيب- "ماضية في طريقها والمساهمة الفعالة في خلق التاريخ بغض النظر عن النقاشات المهنية ضيقة الأفق، التي تجري في المجتمعات المهمشة، بصدد حق الفلسفة في الوجود، إنها جزء لا يتجزأ من الوعي البشري وتاريخه، كما إن كل إنسان هو فيلسوف عفويا بحكم كونه إنساناً، كما يقول أنطونيو جرامشي. فهي ملازمة للإنسان أنى كان ومتى وجد، لكنها تحتاج إلى توافر ظروف تاريخية معينة حتى تتجلى مستقلة عن غيرها من النظم الفكرية، أي بوصفها نظاماً فكريا متخصصا يستلزم تدريبا معينا ويرتكز إلى تراث فكري معين متميز عن غيره، وهي، بهذا المعنى التاريخي، لها حضورها ووظائفها وبنيتها التاريخية المتميزة. فهي عضوية تاريخية لها تاريخ وما قبل تاريخ، شأنها في ذلك شأن العضويات التاريخية جميعاً. إذ نشأت جنينا في أحشاء الوعي الأسطوري في مرحلة ما قبل تاريخها. وبدأت مرحلة تاريخها بولادتها نظاماً فكريا مستقلا ومتميزاً. وقد ولدت لكي تبقى وتتفشى في الحضارة البشرية. فهي إذاً جزء من مسيرة التاريخ والوعي، ولا تنشأ في مجتمع بقرار ذاتي، ولا برغبة ذاتية، وإنما بتوفير ظروف اجتماعية تنموية معينة، وبممارستها تلبية لحاجات اجتماعية ثقافية معينة"([7]).
"ففي مجال الاعتقاد الواعي توجد تلك الآراء والأفكار التي يعيش الإنسان بواسطتها، سواء عَبَّر عنها بوضوح أو لم يُعَبِّر، إذ "إننا لسنا مخيرين بين أمرين: أن تكون لنا فلسفة أو العكس، إن الاختيار هو: هل نكون نظرياتنا عن وعي، بحيث تتفق مع مبدأ مفهوم، أم نُكَوُّنها دون وعي وبمحض الصدفة"؟
وهناك الآن مسألة أخرى، فإذا ما نظرنا إلى معتقدات عصرنا على اختلافها أو إلى تلك التي سادت أياً من العصور الأخرى –وهي بالطبع معتقدات مختلفة كل الاختلاف- سنرى أنها تنتمي إلى نظرة معينة إلى العالم أو إلى اتجاه معين في الآراء"([8]).
نحن الآن في القرن الحادي والعشرين، وعلى الرغم من التقدم الهائل للعلوم في هذا العصر، إلا أن الفلسفة ما زالت ضرورة موضوعيه ملحه في البلدان المتقدمه والمتخلفة رغم انفصالها عن العلم، وهو انفصال شكلي في كل الأحوال، لكن هذه الضروره تتجلى أكثر بما لا يقاس في البلدان المتخلفة، خاصة في بلداننا العربية التي مازالت غارقة إلى حد كبير في أحكام سابقة، تقوم على أساس التقاليد والتراث السلفي اللاعقلاني الرجعي الذي يشكل أحد العوامل الرئيسية التي تَحوْل دون انتشار الرؤى العقلانية المستنيره، وتعزز عرقلة نهوض وتطور شعوبنا ومجتمعاتنا العربية.
فالوطن العربي "أخفق حتى الان في تحقيق اي من المهمات الديمقراطية الكبرى، مثل: الوحدة القومية، وحق تقرير المصير، والتنمية المستقلة، واستقلال القرار القومي، والتقدم الاجتماعي، وذلك برغم المحاولات الاستقلالية التنموية هنا وهناك، ولتحقيق هذه المهمات، فلا بد من بروز طبقة اجتماعية انتاجية تسعى إلى التحول إلى طبقات لذاتها، اي طبقات مسلحة بوعي متماسك مستقل، مدركةً لوحدتها ودورها التاريخي ومشروعاتها الاجتماعية، ولا شك أن أحد الشروط الأساسية لاكتمال تكون هذه الطبقات التنموية واستقلالها عن القوى الأخرى الداخلية والخارجية هو تمكنها من خلق فلسفة خاصة بها، تعكس هويتها التاريخية، وتجعلها قادرة على حمل مشروع التحرر القومي الاجتماعي، فالطبقات المستقلة الواعية لذاتها وعالمها ودورها التاريخي هي الوحيدة القادرة على تحقيق هذه المهمات التحررية التنموية الكبرى، فالفلسفة، أو بالأحرى الانخراط الابداعي في حقلها، هو شرط اساسي من شروط بناء الأمم واستقلالها ونهوضها، على الأقل منذ الاغريق"([9]).
وعلى هذا الأساس، فإننا عندما نشرع في دراسة تاريخ الفلسفة، نجد أننا لا يمكننا بحال أن ننظر إلى نوع المشكلة التي يعني بها الفيلسوف نظرة معزولة عن الموقف التاريخي، فقد تناول كثيرون هذه المسألة وكأن الفلسفة –كما يقول جون لويس- "تعني بالبحث في عدد من "المشكلات الفلسفية البديهية"، كأن الإنسان يواجه في كل عصر نفس العُقَد الفكرية التي قدم لها الفلاسفة المختلفون حلولاً متباينة، يظنون أن المشاكل التي تعني بها الفلسفة لا تتغير، كانوا يظنون أن كلاً من افلاطون وأرسطوطاليس([10]) والابيقوريين والرواقيين والاسكولائيين وأتباع ديكارت، الخ، وجهوا لأنفسهم نفس الاسئلة وأجابوا عنها إجابات مختلفة... وبالطبع، فإن هذه الاجوبة المختلفة التي تقدم بها فلاسفة مختلفون لحل مسائل الفلسفة الابدية قدمت في ترتيب معين وفي تواريخ مختلفة"([11]).
ومن هنا، " أصبح "تاريخ الفلسفة" بمثابة دراسة يستطيع الناس بواسطتها ان يتأكدوا من نوع الاجوبة التي قٌدِّمت للرد على هذه المسائل، وفي أي ترتيب قُدِّمت، وفي أي وقت"، إلا أن الأمر ليس كذلك: ان تاريخ الفلسفة هو تاريخ مشكلة تتغير على الدوام، كما يتغير حلها، وعلى هذا فإن كل مذهب فلسفي يُعَبَّر عنه تعبيراً منسقاً يشتمل على نظرة نافذة إلى الامور أمكن التوصل إليها في مرحلة تاريخية معينة"([12]).
فالفلسفة إذاً هي شرط جوهري من شروط إنتاج معرفة جديدة. لذلك، فإنها تدخل جوهرياً في تركيب العقل النظري في كل الحضارات البشريه، إنها ملازمة للعلم أنى وجد، ليس لأنها علم أو آلة فكرية لإنتاج المعرفة، وإنما لأنها تؤسس للعلم وإنتاج المعرفة بقحتها الصارخة وجموحها وحريتها المطلقة.
لذلك، يمكن القول إن أخذ المجتمع المعرفة العلمية الدقيقة على محمل الجد هو الذي يخلق المناخ المناسب لازدهار الفلسفة، "فالفلسفة هي تعبير دقيق عن مكانة المعرفة الدقيقة في المجتمع وعن جدية العناية بها. إن الفلسفة والمعرفة العلمية صنوان لا يفترقان"([13]).
([1]) اميل برهييه – ترجمة: جورج طرابيشي- تاريخ الفلسفة – الجزء الأول: الفلسفة اليونانية –دار الطليعة– بيروت- الطبعة 1، يونيو 1982 – الطبعة الثانية 1987– ص13
([2]) د. هشام غصيب – حوار الفلسفي – الحوار المتمدن – العدد 3599 – 6/1/2012
([3]) آلان وودز – الماركسية والفلسفة – الحوار المتمدن – العدد 6048 – 8/11/2018.
([4]) كريم متى- مرجع سبق ذكره – الموسوعة الفلسفية العربية- المجلد الأول- ص655
([5]) المرجع نفسه –ص660
([6]) هشام غصيب– المغزى النهضوي للفلسفة – الحوار المتمدن – 19/3/2011.
([7]) المرجع نفسه.
([8]) جون لويس – مرجع سبق ذكره –مدخل إلى الفلسفة – ص 17
([9]) هشام غصيب – المغزى النهضوي للفلسفة – الحوار المتمدن – العدد 4905 – 23/8/2015.
([10]) طاليس: أول الفلاسفة الملطيين (أواخر القرن السابع – النصف الأول من القرن السادس ق.م) ، جمع طاليس بين الممارسة العملية وبين الدراسة العميقة للطبيعة. عمل بالتجارة، واستخدم رحلاته التجارية لتوسيع معارفه العلمية، وقد اقترح على مواطنيه مشروعاً لاقامة اتحاد سياسي، يضم الدول اليونانية في آسيا الصغرى، لتستطيع الوقوف في وجه الخطر الفارسي المحدق. أفاد طاليس من العلوم البابلية والمصرية، وذاع صيته بعد أن تنبأ، للمرة الأولى في تاريخ اليونان، بكسوف الشمس الكلي، الذي وقع في 28 أيار (مايو) عام 585 ق.م، معمتداً في ذلك على ما أخذه عن المصريين أو الفينيقيين من معلومات فلكية حول التناوب الدوري للكسوف. وقد صاغ طاليس معلوماته الجغرافية والفلكية والفيزيولوجية في إطار تصور فلسفي شامل عن العالم وكان هذا التصور مادياً في اساسه، برغم ما نلمحه فيه من بقيا أسطورية قديمة. يرى طاليس أن جميع الموجودوات صدرت عن مادة أولية رطبة، أو عن الماء، والأرض تطفو على سطح الماء، الذي يحيط بها من جميع الجوانب. (موجز تاريخ الفلسفة - جماعة من الأساتذة السوفيات – تعريب: توفيق ابراهيم سلوم – دار الفارابي – طبعة ثالثة (1979 م) – ص63)
([11]) جون لويس – ترجمة: انور عبد الملك - مدخل إلى الفلسفة – دار الحقيقة – بيروت - الطبعة الثانية – 1973 – ص 23
([12]) المرجع نفسه – ص 23
([13]) المرجع نفسه - ص 23
"إن تاريخ الفلسفة لا يمكن أن يكون، تاريخاً مجرداً للافكار وللمذاهب، منفصلة عن مقاصد واضعيها وعن المناخ المعنوي والاجتماعي الذي رأت في ظله النور، ومن المتعذر على المرء ان ينكر ان الفلسفة شغلت في ما نستطيع أن نسميه بالنظام الفكري السائد في كل عصر مكانة متباينة للغاية "([1]).
من ناحية ثانية، لا بد من الإشارة إلى "ارتباط الفلسفة منذ نشوئها بالعلم والرياضيات، وهذا ما نلمسه منذ بداياتها الأولى في الحضارة الإغريقية القديمة، إذ غلب عليها آنذاك التنظير للمعرفة الرياضية والفيزيائية من جهة، وللأخلاق والسياسة من جهة أخرى، وظلت هذه الصلة الجوهرية قائمةً حتى في العصور الوسطى الدينية الطابع، لكن طغيان الثقافة الدينية آنذاك جعل الفلسفة تتمحور حول الدين أكثر من تمحورها حول العلم، وكانت إلى حد ما أسيرة عِلْمَيْ الكلام واللاهوت.
لكن الحقبة الحديثة التي ابتدأت بعصر النهضة الأوروبية في القرن السادس عشر الميلادي غيّرت ذلك تماماً، وحررت الفلسفة من قيود الدين، وأعادت الأمور إلى نصابها في ما يتعلق بالصلة العضوية بين العلم والفلسفة، بحيث يمكن القول إن الفلسفة باتت تشكل بعداً جوهرياً من أبعاد العقل النظري في ثقافة ما، وتدخل مع العلم في علاقة عضوية في تشكيل هذا العقل"([2]).
فإذا نظرنا بجدية إلى حالة العلم الحديث، أو بشكل أكثر دقة إلى الأسس النظرية والافتراضات التي يقوم عليها، فإننا نرى أن العلم لم يتحرر في الواقع من الفلسفة، وكل من يتكبد عناء دراسة تاريخ الفلسفة سيجد منجما غنيا بأفكار في منتهى العمق، إذ أن الفلسفة طريقة تفكير مختلفة عن التفكير اليومي، إنها تتعامل في كل تاريخها وسيرورتها مع الأسئلة الكبرى، "التي لا بد أن الجميع قد فكر فيها في وقت ما، أسئلة من قبيل: ما معنى الحياة؟ وما هو الخير وما هو الشر؟ وما هي طبيعة الكون؟ الخ. لقد شغلت هذه الأسئلة، التي أجاب العلم نفسه عن العديد منها، عقول المفكرين العظام لأكثر من 2000 سنة، ولذلك فإن الصلة بين العلم والفلسفة تعود إلى زمن بعيد"([3]).
لقد استمر اقتران العلوم بالفلسفة حتى القرن السابع عشر. وها هو ذا ديكارت يقول "أن الفلسفة أشبه بشجرة جذورها الميتافزيقا وجذعها الفيزياء وفروعها الطب والميكانيكا والأخلاق"، وحين أُدخلت طريقة الملاحظة التجربة والفرضية والتحقق في مجال العلوم، " لم يكن بد من انفصال العلوم عن الفلسفة "فشهدت العصور الحديثة حركات انشقاق متوالية داخل الفلسفة، فانفصل عنها أول ما انفصل الفيزياء، على يد كل من غاليليو 1564– 1642 ونيوتن 1642– 1727 ولحقت بها الكيمياء على يد لافوازييه 1743– 1794 واستقل علم الاحياء على يد كلود برنارد 1831– 1878 وتبعها علم النفس ثم علم الاجتماع وغيرهما من العلوم.
على أن نظرة كهذه إلى الفلسفة وإن كان لها ما يبررها من بعض النواحي، لم تلق استجابة من العدد الأكبر من الفلاسفة ورجال الفكر، لذلك لم ينثنوا عن مواصلة التفلسف في المسائل الأساسية للوجود والأخلاق والمصير الإنساني وغير ذلك، وهذا يعني أن للفلسفة فعالية ملازمة للإنسان باعتباره كائناً عاقلاً، وانه لن يكف عن التفلسف إلا حين يتخلى عن إنسانيته وعن عقلانيته"([4])، وتلك هي سمة الفكر الفلسفي عبر ما قدمه الفلاسفة منذ الاغريق إلى يومنا هذا.
الخطوط الكبرى لتاريخ الفلسفة ومسيرتها في إطار العصور التالية([5]):
(أ) العصر الإغريقي : ويمتد من القرن السادس قبل الميلاد وحتى وفاة أرسطو (أواخر القرن الرابع ق.م).
(ب) العصر الهليني : الذي يمتد من وفاة أرسطو حتى نهاية الأفلوطينية المحدثة 322 ق.م – 500م وقد انصب جل اهتمام الفلسفة في هذه الفترة على المسائل الأخلاقية والعملية.
(ت) العصر الوسيط: ويبدأ من القديس أوغسطين 354-430 في القرن الخامس وحتى نقولا دي كوسا 1401-1464 في القرن الخامس عشر. وقد انشغلت الفلسفة في هذا العصر بالمسائل الدينية وعملت على التوفيق بين العقل والنقل أو الإيمان والفكر. وتعتبر مصنفات فلاسفة الإسلام ابتداء من الكندي (ت873) وانتهاء بابن رشد 1126-1198 رافداً من روافده.
(ث)عصر النهضة: يبدأ من القرن الخامس عشر وحتى القرن السابع عشر. ويمكن أن يسمى هذا العصر بعصر انعتاق الفكر الإنساني من مقولات الفكر القديم وقيوده.
(ج) عصر التنوير: يتميز هذا العصر بوضع أنسقة فلسفية متكاملة عن العالم واستخدام المناهج العلمية في البحث.
(ح) عصر الفلسفة الألمانية من كانط 1724 – 1804 وحتى هيغل 1770 – 1831.
(خ) القرن التاسع عشر: يتميز هذا العصر بالانصراف إلى الواقع المحسوس ذاته تحت تأثير العلم الطبيعي. ولذلك غلبت عليه النزعة المادية الميكانيكية.
(د) القرن العشرون: وهو عصر التحليل المنطقي للغة الفلسفة في ظروف انفصالها عن العلوم التي تطورت بصور وأشكال متسارعه غير مسبوقة في كافة المجالات، خاصة في تكنولوجيا وعلوم الفضاء والجينات والهندسية والراثية وتكنولوجيا النانو، والصناعات الدقيقه والاتصالات والمعلومات التي امتدت وتواصلت في القرن الحادي والعشرين.
"إن المجتمعات الناهضة تنتج العقل النظري بوصفه قوة إنتاج رئيسية، "ولما كانت الفلسفة جزءاً لا يتجزأ من العقل النظري، فإنه يمكن اعتبارها قوة رئيسية من قوى الإنتاج، فالتقانة، التي تجسد العلم عمليا وإنتاجيا، تحمل في باطنها فلسفة، لا بل فلسفات. إنها، بمعنى من المعاني، تجسيد للفلسفة، من ثم، فإن الفلسفة هي شرط أساسي من شروط تكون الطبقات التاريخية الرئيسية، على الأقل منذ الإغريق، ومن ثم، فهي شرط أساسي من شروط تكون الأمم الحديثة المستقلة"([6]).
فالفلسفة بالمعنى التاريخي –كما يقول بحق د.هشام غصيب- "ماضية في طريقها والمساهمة الفعالة في خلق التاريخ بغض النظر عن النقاشات المهنية ضيقة الأفق، التي تجري في المجتمعات المهمشة، بصدد حق الفلسفة في الوجود، إنها جزء لا يتجزأ من الوعي البشري وتاريخه، كما إن كل إنسان هو فيلسوف عفويا بحكم كونه إنساناً، كما يقول أنطونيو جرامشي. فهي ملازمة للإنسان أنى كان ومتى وجد، لكنها تحتاج إلى توافر ظروف تاريخية معينة حتى تتجلى مستقلة عن غيرها من النظم الفكرية، أي بوصفها نظاماً فكريا متخصصا يستلزم تدريبا معينا ويرتكز إلى تراث فكري معين متميز عن غيره، وهي، بهذا المعنى التاريخي، لها حضورها ووظائفها وبنيتها التاريخية المتميزة. فهي عضوية تاريخية لها تاريخ وما قبل تاريخ، شأنها في ذلك شأن العضويات التاريخية جميعاً. إذ نشأت جنينا في أحشاء الوعي الأسطوري في مرحلة ما قبل تاريخها. وبدأت مرحلة تاريخها بولادتها نظاماً فكريا مستقلا ومتميزاً. وقد ولدت لكي تبقى وتتفشى في الحضارة البشرية. فهي إذاً جزء من مسيرة التاريخ والوعي، ولا تنشأ في مجتمع بقرار ذاتي، ولا برغبة ذاتية، وإنما بتوفير ظروف اجتماعية تنموية معينة، وبممارستها تلبية لحاجات اجتماعية ثقافية معينة"([7]).
"ففي مجال الاعتقاد الواعي توجد تلك الآراء والأفكار التي يعيش الإنسان بواسطتها، سواء عَبَّر عنها بوضوح أو لم يُعَبِّر، إذ "إننا لسنا مخيرين بين أمرين: أن تكون لنا فلسفة أو العكس، إن الاختيار هو: هل نكون نظرياتنا عن وعي، بحيث تتفق مع مبدأ مفهوم، أم نُكَوُّنها دون وعي وبمحض الصدفة"؟
وهناك الآن مسألة أخرى، فإذا ما نظرنا إلى معتقدات عصرنا على اختلافها أو إلى تلك التي سادت أياً من العصور الأخرى –وهي بالطبع معتقدات مختلفة كل الاختلاف- سنرى أنها تنتمي إلى نظرة معينة إلى العالم أو إلى اتجاه معين في الآراء"([8]).
نحن الآن في القرن الحادي والعشرين، وعلى الرغم من التقدم الهائل للعلوم في هذا العصر، إلا أن الفلسفة ما زالت ضرورة موضوعيه ملحه في البلدان المتقدمه والمتخلفة رغم انفصالها عن العلم، وهو انفصال شكلي في كل الأحوال، لكن هذه الضروره تتجلى أكثر بما لا يقاس في البلدان المتخلفة، خاصة في بلداننا العربية التي مازالت غارقة إلى حد كبير في أحكام سابقة، تقوم على أساس التقاليد والتراث السلفي اللاعقلاني الرجعي الذي يشكل أحد العوامل الرئيسية التي تَحوْل دون انتشار الرؤى العقلانية المستنيره، وتعزز عرقلة نهوض وتطور شعوبنا ومجتمعاتنا العربية.
فالوطن العربي "أخفق حتى الان في تحقيق اي من المهمات الديمقراطية الكبرى، مثل: الوحدة القومية، وحق تقرير المصير، والتنمية المستقلة، واستقلال القرار القومي، والتقدم الاجتماعي، وذلك برغم المحاولات الاستقلالية التنموية هنا وهناك، ولتحقيق هذه المهمات، فلا بد من بروز طبقة اجتماعية انتاجية تسعى إلى التحول إلى طبقات لذاتها، اي طبقات مسلحة بوعي متماسك مستقل، مدركةً لوحدتها ودورها التاريخي ومشروعاتها الاجتماعية، ولا شك أن أحد الشروط الأساسية لاكتمال تكون هذه الطبقات التنموية واستقلالها عن القوى الأخرى الداخلية والخارجية هو تمكنها من خلق فلسفة خاصة بها، تعكس هويتها التاريخية، وتجعلها قادرة على حمل مشروع التحرر القومي الاجتماعي، فالطبقات المستقلة الواعية لذاتها وعالمها ودورها التاريخي هي الوحيدة القادرة على تحقيق هذه المهمات التحررية التنموية الكبرى، فالفلسفة، أو بالأحرى الانخراط الابداعي في حقلها، هو شرط اساسي من شروط بناء الأمم واستقلالها ونهوضها، على الأقل منذ الاغريق"([9]).
وعلى هذا الأساس، فإننا عندما نشرع في دراسة تاريخ الفلسفة، نجد أننا لا يمكننا بحال أن ننظر إلى نوع المشكلة التي يعني بها الفيلسوف نظرة معزولة عن الموقف التاريخي، فقد تناول كثيرون هذه المسألة وكأن الفلسفة –كما يقول جون لويس- "تعني بالبحث في عدد من "المشكلات الفلسفية البديهية"، كأن الإنسان يواجه في كل عصر نفس العُقَد الفكرية التي قدم لها الفلاسفة المختلفون حلولاً متباينة، يظنون أن المشاكل التي تعني بها الفلسفة لا تتغير، كانوا يظنون أن كلاً من افلاطون وأرسطوطاليس([10]) والابيقوريين والرواقيين والاسكولائيين وأتباع ديكارت، الخ، وجهوا لأنفسهم نفس الاسئلة وأجابوا عنها إجابات مختلفة... وبالطبع، فإن هذه الاجوبة المختلفة التي تقدم بها فلاسفة مختلفون لحل مسائل الفلسفة الابدية قدمت في ترتيب معين وفي تواريخ مختلفة"([11]).
ومن هنا، " أصبح "تاريخ الفلسفة" بمثابة دراسة يستطيع الناس بواسطتها ان يتأكدوا من نوع الاجوبة التي قٌدِّمت للرد على هذه المسائل، وفي أي ترتيب قُدِّمت، وفي أي وقت"، إلا أن الأمر ليس كذلك: ان تاريخ الفلسفة هو تاريخ مشكلة تتغير على الدوام، كما يتغير حلها، وعلى هذا فإن كل مذهب فلسفي يُعَبَّر عنه تعبيراً منسقاً يشتمل على نظرة نافذة إلى الامور أمكن التوصل إليها في مرحلة تاريخية معينة"([12]).
فالفلسفة إذاً هي شرط جوهري من شروط إنتاج معرفة جديدة. لذلك، فإنها تدخل جوهرياً في تركيب العقل النظري في كل الحضارات البشريه، إنها ملازمة للعلم أنى وجد، ليس لأنها علم أو آلة فكرية لإنتاج المعرفة، وإنما لأنها تؤسس للعلم وإنتاج المعرفة بقحتها الصارخة وجموحها وحريتها المطلقة.
لذلك، يمكن القول إن أخذ المجتمع المعرفة العلمية الدقيقة على محمل الجد هو الذي يخلق المناخ المناسب لازدهار الفلسفة، "فالفلسفة هي تعبير دقيق عن مكانة المعرفة الدقيقة في المجتمع وعن جدية العناية بها. إن الفلسفة والمعرفة العلمية صنوان لا يفترقان"([13]).
([1]) اميل برهييه – ترجمة: جورج طرابيشي- تاريخ الفلسفة – الجزء الأول: الفلسفة اليونانية –دار الطليعة– بيروت- الطبعة 1، يونيو 1982 – الطبعة الثانية 1987– ص13
([2]) د. هشام غصيب – حوار الفلسفي – الحوار المتمدن – العدد 3599 – 6/1/2012
([3]) آلان وودز – الماركسية والفلسفة – الحوار المتمدن – العدد 6048 – 8/11/2018.
([4]) كريم متى- مرجع سبق ذكره – الموسوعة الفلسفية العربية- المجلد الأول- ص655
([5]) المرجع نفسه –ص660
([6]) هشام غصيب– المغزى النهضوي للفلسفة – الحوار المتمدن – 19/3/2011.
([7]) المرجع نفسه.
([8]) جون لويس – مرجع سبق ذكره –مدخل إلى الفلسفة – ص 17
([9]) هشام غصيب – المغزى النهضوي للفلسفة – الحوار المتمدن – العدد 4905 – 23/8/2015.
([10]) طاليس: أول الفلاسفة الملطيين (أواخر القرن السابع – النصف الأول من القرن السادس ق.م) ، جمع طاليس بين الممارسة العملية وبين الدراسة العميقة للطبيعة. عمل بالتجارة، واستخدم رحلاته التجارية لتوسيع معارفه العلمية، وقد اقترح على مواطنيه مشروعاً لاقامة اتحاد سياسي، يضم الدول اليونانية في آسيا الصغرى، لتستطيع الوقوف في وجه الخطر الفارسي المحدق. أفاد طاليس من العلوم البابلية والمصرية، وذاع صيته بعد أن تنبأ، للمرة الأولى في تاريخ اليونان، بكسوف الشمس الكلي، الذي وقع في 28 أيار (مايو) عام 585 ق.م، معمتداً في ذلك على ما أخذه عن المصريين أو الفينيقيين من معلومات فلكية حول التناوب الدوري للكسوف. وقد صاغ طاليس معلوماته الجغرافية والفلكية والفيزيولوجية في إطار تصور فلسفي شامل عن العالم وكان هذا التصور مادياً في اساسه، برغم ما نلمحه فيه من بقيا أسطورية قديمة. يرى طاليس أن جميع الموجودوات صدرت عن مادة أولية رطبة، أو عن الماء، والأرض تطفو على سطح الماء، الذي يحيط بها من جميع الجوانب. (موجز تاريخ الفلسفة - جماعة من الأساتذة السوفيات – تعريب: توفيق ابراهيم سلوم – دار الفارابي – طبعة ثالثة (1979 م) – ص63)
([11]) جون لويس – ترجمة: انور عبد الملك - مدخل إلى الفلسفة – دار الحقيقة – بيروت - الطبعة الثانية – 1973 – ص 23
([12]) المرجع نفسه – ص 23
([13]) المرجع نفسه - ص 23
غازي الصوراني - مدخل إلى الفلسفة ( 2 / 3 )
غازي الصوراني - مدخل إلى الفلسفة ( 2 / 3 )
www.ahewar.org