محمد مصطفى العافى - أدب المرافعات.. رؤية مختلفة للتاريخ "قضية مَقتل السِّير لى ستاك باشا سِردار الجيش المصرى" بقلم المستشار بهاء المرى.. الجزء الأول

سِردار .. اسم علَم كُردى وفارسى .. مُركَّب من "سِر" يعنى رأس و"دار" لاحقة للملكية .. وصار المعنى الفارسى رئيس الجيش .. وبالكردية الزعيم .. وفى العربية يعنى رئيس الجند.
وهو لقب أُطلق على الضابط البريطانى الكبير الذى كان يقود الجيش المصرى خلال الاحتلال البريطانى لمصر .. وكان هو السير "أوليفر فيتس موريس ستاك".
- موجز الواقعة :
فى يوم 19 نوفمبر 1924 كانت واقعة اغتيال السِّردار واتفق المتهمون على توزيع الأدوار :
- عبد الفتاح عنايت .. وقف أمام مبنى وزارة الحربية منتظرًا خروج السردار لإعطاء اشارة البَدء .. وعبد الحميد عنايت وقف فى شارع القصر العينى على مقربة من المنفِّذين .. وكانت مُهمته القاء قنبلة على من يحاول القبض عليهم .. ومحمود راشد جلس فى السيارة المُعدَّة للهرب .. وابراهيم موسى وعلى ابراهيم وراغب حسن المنفذين.
وعندما خرج السير لى ستاك من مبنى وزارة الحربية الساعة الثانية مساء واتخذ طريقه المعتاد إلى مسكنه بالزمالك "نادى الضباط حاليا" أعطى عبد الفتاح عنايت اشارة الاستعداد .. وعندما اقترب من المكان المُحدد هجَم عليه المنفذون وأطلقوا عليه الرصاص .. وانطلقت به سيارته إلى قصر الدوبارة .. ولكن كان قد أصيب باصابات قاتلة .. بينما هرب المنفذون. وفى اليوم التالى مات السردار بالمستشفى العسكرى.
وكان اسماعيل صدقى وزيرا للداخلية وشَنَّ حملة مُكبَّرة لضبط الجُناة .. حتى تم القبض على سائق التاكسى الذى هربوا فيه بعد أن كان قد التقط رقم لوحاته عسكرى انجليزى .. وبعدها تم القبض على الجناة جميعًا وأحيلوا للمحاكمة.
- مرافعة النيابة العامة :
ترافَع فى هذه القضية مُمثلاً للنيابة العامة صاحب السعادة محمد طاهر نور باشا مرافعة خلَّدها التاريخ لبلاغتها .. قال فيها :
قبل أن اشرح لحضراتكم وقائع هذه الحادثة المُؤلمة .. التى لم يشهد تاريخ الحوادث الجنائية فى مصر مثلها .. أُكرِّر أسَف الأمة على مَصابها فى قائد جيشها .. الذى قُتل من أيدٍ أثيمة وهو قائم بخدمة مصر .. التى لا تَنسى له خدمنه .. كما لا تَنسى جميل كل من أحسَن عملاً فيها.
نعم .. قد جزعت الأمة لمَصابها فى قائد جيشها .. لجناية ارتكبها فئة من الأغوار المفتونين الذين طاشَت أحلامهم .. وعمِيَت بصائرهم فخرجوا على ارادة أمَّتهم .. وانتحلوا لأنفسهم سلطة القضاء فى مهام لم يُناطوا بها جزعت لهذه الحادثة جَزعًا بادى الأثر .. فقد أظهرَت مصر من أقصائها إلى أقصائها اشمئزازًا ونفورًا أوحت بهما عاصفة صميمة كاملة فى نفوس هذا الشعب .. الذى يأبى أن يحقق آماله الشريفة إلا بالوسائل المشروعة.
استفظعَت الأمة هذا الجُّرم واستنكرته .. واشترك فى هذا الاستنكار والاستفظاع الصغير والكبير .. وعلى رأس الجميع مولانا المُعظَّم جلالة الملك حفِظه الله.
إنَّ مصر أمُّ الحضارة والمدنيَّة قديمًا .. والتى لا تُنكَر منزلتها فى عالم العلم والحضارة حديثا.
مصر .. التى يُضرَب بحُسن ضيافتها الأمثال .. وشعارها "أحرار فى بلادنا .. كُرماء لضيوفنا".
مصر .. مثال الهدوء والطُّمأنينة .. قد تمثلَّت فى البلاد الأخرى بسبب هذه الكارثة والحوادث السابقة عليها أُمَّة هائجة .. ليس فيها اطمئنان على نفس أو مال .. حيث قال عنها بعض الصُّحف الأجنبية : "إنه من الصعب الاعتقاد بأن أى أسَف أو اعتذار أو تعويض .. يُعوِّض عن اعتداء من شأنه أن يُنزل مقام مصر الدولى إلى منزلة أمَّة نصف مُتمدينة. فإنه ليس من المُحتمل أن تنظر الأمم الأخرى ذات المصالح فى مصر نظرة التساهل إلى هذا الاعتداء" .. وألقَت صحف أخرى تبعة هذه الجناية على الشعب المصرى .. الذى تأصَّلت فى نفسه العقيدة الدينية وهى تُحرِّم قتل النفس وتَنهىَ عنه .. والذى يَعرف حق المعرفة أن وسائل العنف والإجرام أكبر جناية على الوطن.
ما خلَت بلادٌ من المُغتالين ومن حوادث الاغتيال .. وقد وقع الإجرام على المصريين ذاتهم قبل أن يقع على سواهم .. وكُنا نأمل أنَّ أولى جراثيمه قد يأتى عليها القضاء العادل .. ولكنها مع الأسف الشديد قد ولَّدت جراثيم أخرى أشدُّ خطرًا وأعظم هَولاً .. جرَّت على البلاد شرورًا كثيرة .. أضرَّت بسُمعتها .. وأورثتها من المشكلات والخسائر ما يقتضى إضناء العقول .. وإجهاد القُوى زمانًا طويلاً لتلافيه ودرء عواقبه.
هذه الجرائم الخطِرة التى تولَّدت عن الجُرثومة الأولى .. كان سببها إفلات بعض الجُناة من يد العدالة .. فكانوا حَربًا على البلاد ومَن كانوا على شاكلتهم من المتهوِّسين ضعيفى النفوس أمثالهم .. فاختاروا طريقًا لا يجدون فى مصر من يُوافقهم عليها أو يجاريهم فيها.
انحدَرَت هذه النفوس الضعيفة فى مَهاوى الجريمة والإثم بسبب تلبُّد الجو السياسى .. ورأوا أنَّ وسائل العُنف والإجرام بالخيانة والجُّبن تخدم البلاد وتُنيلها أمنياتها .. وفاتهم أنَّ العنف على مختلف صوره وأشكاله لا يُمكن أن يجر على مصر وقضيتها إلا الضرر والفساد .. ولم نسمع فى تاريخ أى أمَّة – حالها كحالتنا – أنَّ هذه الوسائل الإجرامية أنالتها أمنيتها.
فاتَهم أَّن أشد ما ينتاب البلاد من الفوضى والاضطراب .. أن يُصبح الأمر فيها بيد فئة من المفتونين .. اختلسوا لأنفسهم مقام الحَكم والمنفِّذ فى أمور لا يكون الحُكم فيها إلا للأمة بأسرها.
فاتَهم أنَّ بلادًا يُصبح فيها الإنسان رهين حَكم المتهوِّسين لا تقوم ولن تقوم لها قائمة .. حتى يُترك ما لقيصر لقيصر .. وما لله لله.
فاتَ هؤلاء الأغرار أنَّ الاستقلال لا يكفى لِصَوننا ورفع مقامنا بل يجب أن نعرف كيف نصون استقلالنا .. فبِنَشر التعليم وإعلاء شأن الأخلاق والفضائل .. وتوثيق عُرَى الاتحاد بين أبناء الأمة .. نتمكن من صيانة استقلالنا .. ونتبوَّأ المكان اللائق بنا بين الأمم المتمدينة.
- ثم قال سعادة النائب عن وقائع الدعوى :
وبعد .. فوقائع الدعوى واضحة لا لبْس فيها ولا غموض. فالجناة هجموا على السِّردار وهو فى سيارته عائًدا من وزارة الحربية إلى بيته فى الزمالك .. وأطلقوا عليه عدَّة رصاصات أصابته فى صدره ويده اليسرى وكذلك أودت بحياته .. وقد ورَد فى التقرير الشرعى أنَّ السردار قد توفى بسبب الصدمة العصبية والنزيف الناشئين مباشرة من إصابته.


" يُتبع "


المستشار / بهاء المرى "رئيس محكمة جنايات كفر الشيخ"

تعليقات

لا توجد تعليقات.

هذا النص

ملف
الأدب القضائي - المحاكمات والمحاكمات الأدبية
المشاهدات
624
آخر تحديث
أعلى