د. كريمة نور عيساوي - من دروس كورونا -1-

الجمعة عروس الأيام ترتدي وشاحها الأبيض بعدما تغتسل بقطرات الندى كل شيء فيها معطر ببخور المحبة، ترقص خصلات ثوانيها على طرق الباب وإقبال الأحبة، نرتمي في حضن الحنان نمسح دمعة الحنين الذي قد يطول أسبوعا أو شهرا أو سنة، نجتمع حول مائدة الذكرى، ونشرب كؤوس الفرح، لم يخطر بخلدي يوما وأنا أنسج عقد الذكريات، أنه ستشرق شمس الجمعة الثانية من هذا الشهر دون أن أرتمي في حضن روحي الثانية لأستمد قوتي التي تضعف بعد كل رحلة مزركشة بالتعب في قطار الحياة السريع، نكهة الجمعة لا تكتمل إلا في بيتنا الكبير وقد امتزجت روائح الكسكس بسبع خضر وعبق النعناع الأخضر في براد الشاي، لوحة مغربية أصيلة لن تتحقق إلا في معرض من معارض الفنانة الشعيبية، طقوسنا الدينية شيء مقدس ورتق ما فتق من بُعد لا يتحقق إلا في هذا اليوم المميز.

أتكحل بالنظر في عيون أبي التي تحكي آلاف الحكايا وتكشف عن مرارة الأيام الخوالي، لا شيء يعادل جلوسي عند قدميه أرهم ما نقشته معاول الأيام وداء السكري، أتحسس نبع حنان يفيض دعاء بالتيسير والنجاح، إلا ابتسامة رضى وهو يضع اللقمة في فمي يغيض باقي الأخوات لقد أخذت كل البركة ، كل هذا الخير العظيم حرمني منه عدو غير مرئي ليس بيني وبيه غير الخير والإحسان بحكم الجيرة والعيش في بسيطة واحدة، لست أنانية أن أطالبك بالرحيل لعالم آخر لكن من حقي أن أطالبك بغلق الحدود بيننا بصفة نهائية ، فقد أغلقت بابي حتى تترجل عن عالمي في سلام، كورونا أيها الزائر غير المرغوب فيه، هل تعلم كم من الألم تخفي في ثنايا زيارتك؟ وكم من رعب غير متوقع جذرته في النفوس الخائفة؟ لقد تعلمنا في مدرستك دروسا لم نتلقاها في كتب الفلسفة أو مخطوطات التاريخ، لقد جعلت كل الناس سواسية وحققت العدالة الاجتماعية، وصدحت بأعلى صوتك امتلك ما تشاء فلو صادفتك في طريقي وصافحتك فأنت تنتظر الرحمة من السماء…

بعد مغادرتك سوف تتغير نظرتنا للحياة، سوف لا نعطي للأمور أكثر من حقها، فقد أدركنا أن كثرة سقي الورود تميتها، سندرك أن بيتنا الذي كنا نعتقد أنه صغير بحجم كف اليد هو قصر كبير ونحن نرفل في الصحة والعافية، وأن قصر جارنا أضحى قبرا ضيقا بعد أن زرته. سندرك بعد خروجنا من هذا الحجر الصحي، أننا أهدرنا الكثير من وقتنا ونحن نفكر في توافه الأمور، لقد كانت الحياة جميلة جدا، إلا أننا كنا نرتدي النظارات الخطأ، سندرك أن النقود التي كانت تجلب الفرح قد تكون وسيلة لجلب القرح إذا ما صادفتها في طريقك، سندرك بعد رحيلك أن انتصارنا عليك وتشبثنا بالحياة كان برحمة من الله وأن من هزموا ورحلوا دون وداع أو وتأبين فليس بخروجهم من رحمة الله ولكنه حان وقت مغادرتهم قطار الحياة في صورة تراجيدية لم يسبق لأزمات تاريخ الإنسانية أن رسمت ملامحها….

يتبع

تعليقات

لا توجد تعليقات.

هذا النص

ملف
حضور الجائحات والأوبئة والأمراض في الاداب والفنون
المشاهدات
562
آخر تحديث
أعلى