بمناسبة الذكرى السابعة للحراك الديمقراطي بمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا يقترح كاتب هذه السطور للنقاش الأفكار الآتية حول بعض الأسباب العميقة لما سمي بالربيع العربي.
منذ نهاية عهد الاستعمار الكلاسيكي لم تظهر بمنطقتنا أي حركية اجتماعية حقيقية قادرة على تعبئة كتلة حرجة من الساكنة من أجل الديمقراطية. طبعا عرفت أغلب البلدان العربية أو ذات الأغلبية العربية حركات شعبية عارمة أحيانا ولكنها كانت تطالب أساسا باحترام أو الدفاع عن الكرامة القومية أو الدينية أو الوطنية اتجاه الغرب وإسرائيل أو من أجل استقلال وسيادة هذا الشعب أو ذاك. ولعبت فلسطين في هذا المضمار وخصوصا منذ سنة 1967 دورا محوريا ومستداما. عرفت بعض البلدان كذالك انتفاضات ضد الجوع والغلاء كما حدث بتونس ومصر في السبعينيات والمغرب في بداية الثمانينيات لكنها لم تعبر بوضوح عن الديمقراطية كمطلب مركزي.
ولكن منذ سبع سنوات شهرا بشهر حدث ما لم يكن ينتظره أحد وهو حركة قوية كادت تخترق كل الجسم العربي، حركة جعلت من مطلبي الديمقراطية والحرية شعارها الأساسي.
هذا شيء جديد تماما، فماذا حدث إذن؟
بعض علماء الاجتماع حددوا ثلاثة موارد استراتيجية ضرورية حتى تستطيع طبقة او فئة ما الهيمنة على مجتمع بكامله. وهذه الموارد هي الثروة/الاقتصاد، السلطة السياسية/الحكم، المعرفة/الإعلام.
فالاقتصاد تسيطر عليه في النسق السلطوي العربي، حسب الحالات، جماعة عشائرية بل وأحيانا بعض العائلات الممتدة، أو فئة مدنية او عسكرية وقد تختلط هاته بتلك كما هو الحال في مصر مثلا. هاته السيطرة تتم عبر تملك الثروة والتحكم في القرار الاقتصادي وتوجيه الانتاج والاستهلاك لصالح فئات معينة قد تتسع أو تضيق حسب وفرة الموارد وضغط قاعدة المجتمع. أما السلطة فتتم السيطرة عليها عقب انقلاب أو ثورة وطنية أو بفضل مشروعية تقليدية وقد تستعمل الانتخابات المتحكم في نتائجها كنوع من الملمع الحداثي. أما المورد الاستراتيجي الثالث وهو المعرفة بمعناها العام الذي يشمل العلم والدين والثقافة والايديولوجيا فطرق التحكم فيه عديدة ومنها التعليم والإعلام وكل قنوات التواصل مع الأغلبية الصامتة. لكن يبقى أن هذا المورد اللامادي يصعب التحكم فيه بشكل تام وذلك لأسباب كثيرة منها العدد الكبير من الناس الذين يشاركون فيه ونظرا كذلك لارتباطه بحميمية الإنسان الفرد وضميره الذي يستعصي أحيانا كثيرة على وسائل التطويع.
إن الثورة المعلوماتية والإعلامية المعاصرة وخصوصا منها الشبكة العنكبوتية قد دمقرطت إلى حد بعيد الولوج إلى المعرفة وذلك بسبب تواضع ثمنها وصعوبة مراقبتها من طرف الأمن والجهاز الايديولوجي للدولة.
كانت النتيجة هي فقدان النسق السلطوي العربي لرجله الثالثة التي يتكيء عليها. هذا ما أتاح للشباب وغير الشباب أولا الاستفادة من السيلان الحر للمعلومة البديلة -وأعني بها التي لم تعالج عبر الوسائط الرسمية- وثانيا تنظيم أنفسهم عبر الفضاء الافتراضي والذي يصعب التحكم فيه من طرف البوليس السياسي.
ولكن قبل الثورة المعلوماتية والقفزة التواصلية التي نتجت عنها كانت هناك الثورة التعليمية التي عرفها العالم العربي في النصف الثاني من القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرون فنسبة المتعلمين قفزت حسب إحصائيات البنك العالمي من أقل من خمسين في المائة في أواسط الثمانينيات إلى حوالي ثمانين بالمائة في 2011 أي سنة الربيع العربي.
كما أن عدد الطلبة الجامعيين العرب كان لايتجاوز الآلاف سنة 1950 وأصبح يصل الآن إلى الملايين.
أضف إلى ذلك أن المثاقفة والتبادل القيمي قد ازداد زخمهما بين المنطقة العربية والمجتمعات الديمقراطية. فعدد الطلبة العرب الشرق أوسطيين يصل الآن إلى حوالي مئة ألف في الولايات المتحدة وحدها وثلاثين ألف بالمملكة المتحدة. بل ان هذا العدد ازداد في الولايات المتحدة ب 21٪ في سنة واحدة حسب معهد التعليم الدولي بين الدخول الجامعي لخريف 2012 وخريف 2013.
وقد نُقل عن بعض الزعماء العرب تخوفهم من هذا المستقبل «المظلم» بالنسبة إليهم فأحد أواخر خيديوات مصر قال منبها النخبة إلى الخطر المحدق بها «الشعب الجاهل أسلس قيادة من الشعب المتعلم»، كما أن الملك المغربي الراحل الحسن الثاني قد قال في خطاب بعد مظاهرات الدار البيضاء الشهيرة موجها كلامه وبشكل تهديدي لرجال التعليم: إنه لا خطر أكبر على الدولة من شبه المثقف وانتم أشباه المثقفين ويا ليتكم كنتم جهالا.
ماهي الخلاصة التي يمكن أن نخرج بها من كل هذا؟ إن الديمقراطية حسب منطق الأشياء تدق على أبواب العالم العربي وإننا سنرى خلال العقدين القادمين ولا شك عدة دول عربية تتحول من السلطوية إلى نظام تعددي تكون فيه السيادة حقا بين يدي الشعوب لا الأقليات أكانت مدنية أم عسكرية أم عشائرية.
٭ كاتب من المغرب
المعطي منجب
منذ نهاية عهد الاستعمار الكلاسيكي لم تظهر بمنطقتنا أي حركية اجتماعية حقيقية قادرة على تعبئة كتلة حرجة من الساكنة من أجل الديمقراطية. طبعا عرفت أغلب البلدان العربية أو ذات الأغلبية العربية حركات شعبية عارمة أحيانا ولكنها كانت تطالب أساسا باحترام أو الدفاع عن الكرامة القومية أو الدينية أو الوطنية اتجاه الغرب وإسرائيل أو من أجل استقلال وسيادة هذا الشعب أو ذاك. ولعبت فلسطين في هذا المضمار وخصوصا منذ سنة 1967 دورا محوريا ومستداما. عرفت بعض البلدان كذالك انتفاضات ضد الجوع والغلاء كما حدث بتونس ومصر في السبعينيات والمغرب في بداية الثمانينيات لكنها لم تعبر بوضوح عن الديمقراطية كمطلب مركزي.
ولكن منذ سبع سنوات شهرا بشهر حدث ما لم يكن ينتظره أحد وهو حركة قوية كادت تخترق كل الجسم العربي، حركة جعلت من مطلبي الديمقراطية والحرية شعارها الأساسي.
هذا شيء جديد تماما، فماذا حدث إذن؟
بعض علماء الاجتماع حددوا ثلاثة موارد استراتيجية ضرورية حتى تستطيع طبقة او فئة ما الهيمنة على مجتمع بكامله. وهذه الموارد هي الثروة/الاقتصاد، السلطة السياسية/الحكم، المعرفة/الإعلام.
فالاقتصاد تسيطر عليه في النسق السلطوي العربي، حسب الحالات، جماعة عشائرية بل وأحيانا بعض العائلات الممتدة، أو فئة مدنية او عسكرية وقد تختلط هاته بتلك كما هو الحال في مصر مثلا. هاته السيطرة تتم عبر تملك الثروة والتحكم في القرار الاقتصادي وتوجيه الانتاج والاستهلاك لصالح فئات معينة قد تتسع أو تضيق حسب وفرة الموارد وضغط قاعدة المجتمع. أما السلطة فتتم السيطرة عليها عقب انقلاب أو ثورة وطنية أو بفضل مشروعية تقليدية وقد تستعمل الانتخابات المتحكم في نتائجها كنوع من الملمع الحداثي. أما المورد الاستراتيجي الثالث وهو المعرفة بمعناها العام الذي يشمل العلم والدين والثقافة والايديولوجيا فطرق التحكم فيه عديدة ومنها التعليم والإعلام وكل قنوات التواصل مع الأغلبية الصامتة. لكن يبقى أن هذا المورد اللامادي يصعب التحكم فيه بشكل تام وذلك لأسباب كثيرة منها العدد الكبير من الناس الذين يشاركون فيه ونظرا كذلك لارتباطه بحميمية الإنسان الفرد وضميره الذي يستعصي أحيانا كثيرة على وسائل التطويع.
إن الثورة المعلوماتية والإعلامية المعاصرة وخصوصا منها الشبكة العنكبوتية قد دمقرطت إلى حد بعيد الولوج إلى المعرفة وذلك بسبب تواضع ثمنها وصعوبة مراقبتها من طرف الأمن والجهاز الايديولوجي للدولة.
كانت النتيجة هي فقدان النسق السلطوي العربي لرجله الثالثة التي يتكيء عليها. هذا ما أتاح للشباب وغير الشباب أولا الاستفادة من السيلان الحر للمعلومة البديلة -وأعني بها التي لم تعالج عبر الوسائط الرسمية- وثانيا تنظيم أنفسهم عبر الفضاء الافتراضي والذي يصعب التحكم فيه من طرف البوليس السياسي.
ولكن قبل الثورة المعلوماتية والقفزة التواصلية التي نتجت عنها كانت هناك الثورة التعليمية التي عرفها العالم العربي في النصف الثاني من القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرون فنسبة المتعلمين قفزت حسب إحصائيات البنك العالمي من أقل من خمسين في المائة في أواسط الثمانينيات إلى حوالي ثمانين بالمائة في 2011 أي سنة الربيع العربي.
كما أن عدد الطلبة الجامعيين العرب كان لايتجاوز الآلاف سنة 1950 وأصبح يصل الآن إلى الملايين.
أضف إلى ذلك أن المثاقفة والتبادل القيمي قد ازداد زخمهما بين المنطقة العربية والمجتمعات الديمقراطية. فعدد الطلبة العرب الشرق أوسطيين يصل الآن إلى حوالي مئة ألف في الولايات المتحدة وحدها وثلاثين ألف بالمملكة المتحدة. بل ان هذا العدد ازداد في الولايات المتحدة ب 21٪ في سنة واحدة حسب معهد التعليم الدولي بين الدخول الجامعي لخريف 2012 وخريف 2013.
وقد نُقل عن بعض الزعماء العرب تخوفهم من هذا المستقبل «المظلم» بالنسبة إليهم فأحد أواخر خيديوات مصر قال منبها النخبة إلى الخطر المحدق بها «الشعب الجاهل أسلس قيادة من الشعب المتعلم»، كما أن الملك المغربي الراحل الحسن الثاني قد قال في خطاب بعد مظاهرات الدار البيضاء الشهيرة موجها كلامه وبشكل تهديدي لرجال التعليم: إنه لا خطر أكبر على الدولة من شبه المثقف وانتم أشباه المثقفين ويا ليتكم كنتم جهالا.
ماهي الخلاصة التي يمكن أن نخرج بها من كل هذا؟ إن الديمقراطية حسب منطق الأشياء تدق على أبواب العالم العربي وإننا سنرى خلال العقدين القادمين ولا شك عدة دول عربية تتحول من السلطوية إلى نظام تعددي تكون فيه السيادة حقا بين يدي الشعوب لا الأقليات أكانت مدنية أم عسكرية أم عشائرية.
٭ كاتب من المغرب
المعطي منجب
الربيع العربي: هل اختل النسق السلطوي في المنطقة؟ | المعطي منجب
بمناسبة الذكرى السابعة للحراك الديمقراطي بمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا يقترح كاتب هذه السطور للنقاش الأفكار الآتية حول بعض الأسباب العميقة لما سمي بالربيع العربي.
www.alquds.co.uk