تقديم :
إن المستقرىء لتاريخ الصراعات السياسية فى مصر ، سيكتشف بجلاء مدى تشابهها إلى حد كبير فى مناحى حصولها ، وفى استغلالها أحكام القضاء فى توجيه الرأى العام لا سيما نحو إحراج القائمين على الأمور فى الدولة .
ومن ثم فقد تداعت إلى الذهن إحدى القضايا الشهيرة التى وقعت فى عام 1932 وعرفت باسم ( قضية مأمور البدارى ) حيث استغلت القوى السياسية المتصارعة آنذاك الحكم الصادر فيها من محكمة النقض لإحراج الحكومة ، وبالتالى لم يسلم القضاء من الهجوم عليه ابتغاء الوصول إلى هذا الهدف .
والبدارى مركز من مراكز محافظة أسيوط ، يقع فى أقصى جنوب المحافظة على الضفة الشرقية للنيل .
وفى تلك الفترة كانت مصر تعيش قلاقل سياسية ، حيث ألغى الملك فؤاد ورئيس حكومته إسماعيل صدقى باشا دستور 1923، ووضعوا بدلا منه دستورا يؤسس للاستبداد ، وبدأت الحكومة فى إصدار القوانين المقيدة للحريات ، وفى ملاحقة المعارضين وتلفيق القضايا لهم وإزاحة العناصر الموالية للوفد من الإدارة وتعيين الموالين لها .
وأدت هذه السياسة إلى إطلاق يد الشرطة فى التنكيل بالمعارضين السياسيين وامتداد هذا الأسلوب إلى التعامل مع المواطنين ، فأصبحت إهانة الكرامة والتعذيب أسلوبا معتادا فى أقسام الشرطة .
ومن ضمن هذه الوقائع ما حدث فى مركز البدارى من قيام المأمور يوسف الشافعى بتعذيب اثنين من المواطنين بصفة يومية فى ديوان القسم ، من خلال التعدى بالضرب ، وقص الشارب ، والربط فى محل الخيل والإلجام بحبل من الليف كالبهائم ، والإجبار على التسمى بأسماء النساء ، بل وإيلاج العِصِىّْ فى الدبر، الأمر الذى أدى بهما إلى انتواء قتله ، وكمنوا له فى طريق عودته ، وأطلقا عليه أعيرة نارية أدت إلى إزهاق روحة وإصابة مرافقه فهيم أفندى نصيف مفتش الرى ، وقضت محكمة جنايات أسيوط بمعاقبة الأول بالإعدام ، والآخر بالأشغال الشاقة المؤبدة .
ومن ثم فقد وجد خصوم الحكومة ضالتهم فى هذا الحادث ، وجعلوا منه قضية رأى عام وأثاروا بموجبه القلاقل ، أخذا بمنطق إحراج الدولة .
ومن ثم كان الهجوم ضاريا على المأمور وسياسة الشرطة فى التعامل مع السياسيين والمواطنين ، ولم يكن هذا الهجوم بالقطع لوجه الله الكريم ، ولا الصالح العام ، وإنما لمصالح شخصية بحتة ، يبتغيها كل طرف بغض النظر عن مصلحة البلاد .
ولما طعن المتهمان على الحكم أمام محكمة النقض ، وتبين لهذه المحكمة بجلاء أن جريمة القتل كان سببها ما قام به المأمور من تعذيب قاتليه وهتك عرضهما ، فقد انتقدت محكمة جنايات أسيوط تشددها فى الحكم على أحدهما بالإعدام وعلى الآخر بالسجن المؤبد .
ولكن المغرضين استغلوا إعمال محكمة النقض لصحيح القانون ، وحادوا به عن مقصده ففسروه - على غير الحقيقة - بأنها تلتمس العذر للمتهمين لأنهما قتلا رجل شرطة ( مأمور البدارى ) لإثارة الرأى العام ضد القائمين على حكم البلاد .
وبالرغم من أن حكم محكمة النقض لم يكن له تأثير على العقوبة المقضى بها وهى الإعدام ، إلا أن القضاء لم يسلم من ذلك التوجه السياسى ، فكان الانتقاد الحاد غير المحايد لحكم محكمة النقض ولكنها المغالطات السياسية المقصودة لإثارة الرأى العام .
تنويه :
ولسوف نتناول هذا الحكم العظيم من زاويتين ، الأولى هى كونه دليلا بالغا على تحضر الفكر القضائى واستنارته ، وإعماله لصحيح القانون دونما اعتداد بما يمكن ان يتوافق والرأى العام من عدمه ، وباعتباره مقطوعة أدبية بالغة البراعة والجمال من ناحية ، ومن ناحية ثانية باعتباره حدثا استغلته القوى السياسية لتوظيفه فى معركتها مع الدولة .
أولا : الحكم والفكر المستنير والبلاغة الأدبية :
تتحصل واقعات هذه الدعوى فى أن كل من أحمد جعيدى عبد الحق وحسن أحمد أبو عاشور ، من مواطنى مركز البدارى مديرية أسيوط ، قد صدر ضديهما أحكام قضائية مما يستوجب القانون فيها وضعهما تحت المراقبة ، مما مؤداه أن يبيتا ليلهما بالمركز وينصرفا نهارا بيْدَ أن المأمور يوسف الشافعى أفندى كان يمعن فى تشديد هذه المراقبة ، وفى إهانتهما إهانات بالغة ، تمثلت فى التعدى بالضرب ، وقص الشارب ، والربط فى محل الخيل والإلجام بحبل من الليف كالبهائم ، والإجبار على التسمى بأسماء النساء ، بل وإيلاج عِصِىّْ فى الدبر .
الأمر الذى أثار حفيظتيهما من حصول هذا الأذى ، وتوقع إيقاعه بهما لاحقا ، فعقدا العزم وبيتا النية على قتله خلاصا من أذاه ، وأعدا لذلك سلاحين ناريين ، ونظرا لعلمهما العام أن المأمور قد اعتاد السهر لدى صديقه فهيم أفندى نصيف مفتش الرى ، فقد كمنا له فى طريق عودته , خلف حائط متهدم عند مدرسة البدارى الابتدائية ، وكان مفتش الرى فى صحبة المأمور وما أن أصبحا على مقربة منهما حتى أطلقا عليهما عدة أعيرة نارية أردت المأمور قتيلا وأصابت مرافقه .
وبجلسة 21/6/1932 قضت محكمة جنايات أسيوط بمعاقبة المتهم الأول بالإعدام والثانى بالسجن المؤبد ، ، حيث رأت هذه المحكمة أن المأمور كان يطارد هذين الشقيين ويقوم بواجبه ، وأن ظرفى سبق الإصرار والترصد قد توافرا فى حقهما .
ومن ثم فقد استخلصت المحكمة من ذلك ، أن المجرم قد تدبر أمره جيدا قبل ارتكاب الجريمة ثم أقدم عليها ( ومن ثم يتوافر ظرف سبق الإصرار ) وأنه كان يتحين الفرصة للإجهاز على الضحية ( فيتوافر بذلك ظرف الترصد ) وفى كلا الحالتين ينم ذلك عن خطورة إجرامية وتكون العقوبة هى الإعدام .
وسبق الإصرار يتحقق بإعداد وسيلة الجريمة ورسم خطة تنفيذها بعيداً عن سورة الانفعال ، مما يقتضى الهدوء والروية قبل ارتكابها ، لا أن تكون وليدة الدفعة الأولى في نفس جاشت بالاضطراب ، وجمح بها الغضب حتى خرج صاحبها عن طوره ، وتقدير الظروف التى يستفاد منها توافره ، هو مما يستقل به قاضى الموضوع بغير معقب ، مادام كان استخلاصه سائغاً .
أما ظرف الترصد فهو وسيلة للفاتك يضمن بها تنفيذ جريمته غيلة وغدرا فى غفلة من المجنى عليه ، وعلى غير استعداد منه للدفاع عن نفسه ، فاعتبر المشرع تلك الوسيلة بذاتها من موجبات الحكم بالإعدام .
لم يرتض المحكوم عليهما هذا القضاء ، فطعنا عليه بطريق النقض ، وكان رئيس المحكمة هو القاضى الأديب المفكر عبد العزيز فهمى باشا ، الذى سطر بأحرف من نور أحد أهم أحكام القضاء المصرى ، وإحدى الدرر القانونية الأدبية .
وضوح الرؤية والحياد التام :
نعم .. لم تنكر محكمة النقض ذلك الجُّرم ، الذى كشفت عنه ممارسات المأمور واعتبرته كما قالت عنه ( إجرام فى إجرام ، وشذوذ وليس أداء لواجب وظيفة ، بل من أشد المخازى إثارة للنفس واهتياجا لها ودفعا بها إلى الانتقام ) .
ومن ثم فقد أنصفت المتهمين ، ورأت أن تلك الأفعال التى تعرضا لها كانت أدعى إلى استعمال الرأفة معهما لا إلى تشديد العقاب ، فأعلت بذلك مبدأ التطبيق الصحيح للقانون ، بغض النظر عما إذا كان الحكم سيوافق هوى الرأى العام من عدمه فى تلك الظروف السياسية المضطربة .
فانظر تلك البلاغة الأدبية والتطبيق القانونى الصحيح ، وهى تقرر انتفاء ظرف سبق الإصرار الذى يوجب الإعدام حين قالت :
" إن هذه المعاملة التى أثبتت المحكمة أن المجنى عليه كان يعامل الطاعنين بها ، هى إجرام فى إجرام ، ومن وقائعها ما هو جناية هتك عرض يعاقب عليها القانون ، وكلها من أشد المخازى إثارة للنفس واهتياجا لها ودفعا بها إلى الانتقام " .
" فلا شك أن مثلهما ( أى المتهمان ) الذى أوذِى واهتيج ظلما وطغيانا ، والذى ينتظر أن يتجدد إيقاع هذا الأذى الفظيع به - لاشك - أنه إذا اتجهت نفسه إلى قتل معذبه ، فإنها تتجه إلى هذا الجُّرم موتورة مما كان ، منزعجة مما سيكون ، والنفس الموتورة المنزعجة هى نفس هائجة أبدا ، لا يدع انزعاجها سبيلا لها إلى التبصر والسكون حتى يُحَكِّم العقل - هادئا متزنا مترويا – فيما تتجه إليه الإرادة من الأغراض الإجرامية التى تتخيلها قاطعة لشقائها " .
وانطلاقا من اقتناع محكمة النقض بأن المأمور القتيل قد مارس أفعالا مشينة مع المتهمين هى " قص الشارب والإلجام بحبل من الليف ، والتعدى بالضرب والإجبار على التسمى بأسماء النساء ، بل وإيلاج العصى فى الدبر " .
فقد استخلصت من ذلك بجلاء أن هذا من شأنه أن يجعل المتهمين في حالة اضطراب لا استقرار فيه , وهياج مستمر لا فرصة معه في التفكير الهادىء المتروى , الذي هو شرط ضرورى لتحقق سبق الإصرار الذى هو شرط للقضاء بعقوبة الإعدام .
ومن ثم فقد انتهت محكمة النقض إلى أن محكمة الجنايات قد أخطأت فى تطبيق القانون إذ اعتمدت علي وجود ذلك الظرف مع أنه منعدم ، كما أخطأت فى اعتبار أفاعيل المأمور الإجرامية ضربا من القيام بالواجب .
إلا أنه لما كان ظرف الترصد قد توفر فى الأوراق ،وهو أيضا موجب للقضاء بعقوبة الإعدام ، فإن المحكمة لم تجد مناصا من رفض الطعن بالنقض وهى تعتصر ألما وتجلت قمة الإنسانية لديها حين عبرت عن ذلك بقولها :
( ولو كان الأمر بيد المحكمة ، وكانت هى التى تقدر العقوبة ، لما وسعها أن تعاقب الطاعنين كليهما بمثل تلك الشدة ، بل لعاملتهما بما توجبه ظروف الدعوى من الرأفة والتخفيف ) .
- إلى أن قالت تعرب عن الأسى إزاء رفض الطعن :
( وحيث أنه لجميع ما تقدم لا ترى هذه المحكمة فى احترامها للقانون سوى رفض الطعن على مضض ) .
أما عن استغلال هذا الحكم سياسيا :
فقد كان الجو السياسي مهيئا لردود الفعل التي نتجت عن حكم محكمة النقض ، ولو كانت الظروف عادية لأمكن النظر إلى هذه الواقعة بحسبانها حادث بين رجل إدارة غالى في قسوته وبين مشتبه فيه ذهب بعيدا فى انتقامه ، غير أن الجو السياسي العام كان يقود إلي غير ذلك .
فمن ناحية كان حزب الوفد قد فترت معارضته لحكومة صدقي من جراء الانقسام الذي عرفه خلال تلك الفترة بين أغلبية مؤيدة لفكرة الحكومة القومية , وأقلية تضم مصطفي النحاس باشا ومعه سكرتير عام الحزب مكرم عبيد حتى انقسم الحزب ، ولما استرد عافيته وكان متشوفا لمعركة تؤكد عودته لحالة المقاومة التي التزم بها ضد حكومة صدقى , قدمت له حادثة البداري الميدان المطلوب لهذه المعركة .
ومن ناحية أخري فإن الحزب الكبير الآخر, الأحرار الدستوريين, الذي كان قد ائتلف مع الوفد في مقاومة وزارة صدقى باشا , قد خرج عن هذا الائتلاف ، وكان بدوره في حاجة إلي مناسبة ليؤكد علي موقفه من الحكومة الملكية .
ولذلك نجد جريدة الأهرام تنشر فى عددها الصادر في أول يناير عام1933بيانا طويلا تحت عنوان ( من الوفد المصرى إلي الأمة المصرية الكريمة ) دار حول سياسات حكومة صدقى عموما , وإن كان قد خصص جانبا كبيرا لحادثة البداري كان مما جاء فيه :
( أيها المصريون- إن تلك الروح الخبيثة التي كشفت عنها حادثة البدارى ، والتي أفضت إلي الفوضي وما هو شر من الفوضي ، فجعلت محكمة النقض تلتمس العذر للناس إذا ما انتقموا لأنفسهم وبأنفسهم ، تلك الروح إنما هي ظاهرة من مظاهر الاستبداد المضروب علي أعناقكم ولقد رأيتم كيف عاد عهد الكرباج لتحصيل الأموال الأميرية ، في الوقت الذي أجدبت فيه أراضيكم ، واشتدت بفعل الوزارة الضائقة المالية ، فأكلت ما بقي لكم من زرع وضرع , وذهبت الأموال المجلوبة من عرق جبينكم إلي خزائن المستعمرين وشركائهم , ومن إليهم من الأعوان والمناصرين ) .
ولم يتخلف حزب الأحرار الدستوريين عن استغلال الحادث فنشر فى جريدته يقول :
( واليوم يحق لنا أن نتساءل : أمأساه مسألة البداري أم مهزلة , فهى في حكم محكمة الجنايات وفي حكم محكمة النقض مأساة يقف لها شعر الرأس وتضطرب من هولها القلوب والأفئدة ، وهي في بيان وزير الحقانية مسألة تافهة لا تزيد علي أن أحد المحكوم عليهم ضرب في فبراير1932 ضربا لم يترك أكثر من كدم في عينيه , وربط بحبل في مربط الخيل إرهابا لغيره من المشبوهين فأي الأمرين أصدق !
أنبتسم علي أنها مهزلة تافهة يقع من مثلها كثير ، أم تضطرب نفوسنا لأنها مأساة أهينت فيها الكرامة الإنسانية وأهين فيها العدل والقانون شر إهانة ! ) .
فضلا عن ذلك فإن الحكومة نفسها قد عرفت نوعا من الانقسام , إذ بينما كان رئيس الوزراء ومعه أغلبهم يقفون علي جانب ، كان علي ماهر وزير الحقانية يسانده عبد الفتاح يحيي باشا الذي كان يتطلع إلي رئاسة الوزارة يقفان في الجانب الآخر, ومرة أخرى قدمت حادثة البداري الميدان المناسب لتفجر المشاكل الكامنة بين الوزراء.
فكان أول ما فعله وزير الحقانية أن أمر بمعاملة الجناة معاملة المسجونين العاديين وبناء علي ذلك نزعت الأغلال التي كانا مقيدين بها , كما خلعت الملابس الحمراء التي يرتديها المحكوم عليه بالإعدام عادة بعد الحكم عليه ، ثم اتفق بعد ذلك مع وزير الداخلية على أن تشرع النيابة في التحقيق مع رجال الإدارة فى المركز الذين رفعت فيه الشكاوى ضدهم بتهمة التعذيب خاصة وأن الشيخ أحمد جعيدى والد المحكوم بإعدامه قد تقدم بشكوي إلي النيابة يتهم فيها الإدارة فى مركز البدارى باضطهاد ولده الأكبر ، وهو شقيق المحكوم بإعدامه فأنذره البوليس كمتشرد وأمره أن يبيت كل ليلة في المركز .
وكشفت التحقيقات عن الوجه السياسي من الحادثة , والتي بدأت بسبب الخصومة بين آل جعيدى وبين آل همام بسبب العمدية ، ويبدو أن الأخيرين كانوا مناصرين لحكومة صدقى مما نتج عنه تعيين عمدة منهم علي جزء من البدارى , فبدأت الشرطة فى اضطهاد أفراد من آل جعيديى وفي مقدمتهم المحكوم بإعدامه ، فلفقت إليهم تهم السرقة وغيرها , وأثناء ذلك وقعت الحوادث المنسوبة إلي مأمور البدارى وإلي آخرين من رجال الإدارة .
وبدت الأزمة الوزارية التي تسببت فيها القضية ، بعد أن تقدم نائبان في مجلس النواب عبد الرحمن البيلي وإبراهيم زكى , بسؤال لوزير الحقانية عن النتائج التي ترتبت علي التحقيقات وكان من المتوقع أن يلقي الوزير بيانا يبرئ فيه ساحة رجال الإدارة أو على الأقل يخفف من مسئوليتهم وهو ما لم يفعله على ماهر .
ولكنه قال فى بيانه : أنه ( مهما يقال من صحة رأى محكمة الجنايات ومن أن حكمها مجرد قصور عن إبراز اعتقادها وتصوير مرادها ، فلا شك أن الأذهان يبقي فيها أيضا شبهة أن هذا التحقيق ربما لم يصل إلي كشف الواقع علي حقيقته وأن مجرد قيام تلك الشبهة ، يلقي غشاوة علي عدالة الحكم من جهة تقديره للعقوبة ولا يجعل النفس مطمئنة تمام الاطمئنان ، إلا إذا خففت في حق المحكوم عليهما فبالنسبة لجعيدى لأن عقوبته هى الإعدام ومتي نفذت استحال الرجوع فيها وبالنسبة لحسن عاشور فقد ظهر حدوث اعتداء عليه قبل ارتكابه الجريمة ) .
وفى هذه الظروف صدر أمر ملكى بتخفيف الحكم علي جعيدى من الإعدام إلي الأشغال الشاقة المؤبدة ، وتخفيف العقوبة علي حسن عاشور من الأشغال الشاقة المؤبدة إلى الأشغال الشاقة لمدة خمسة عشر عاما , وهو ما بدا استجابة لحكم محكمة النقض والإبرام .، وفى ذات الوقت للتخفيف من بيان على ماهر .
ثم قدم صدقي باشا استقالته وعزاها إلي ما أصاب الوزارة من وهن مما ترتب عليه استعصاء قيامه بواجبه الوطنى ، وأعقب ذلك إعادة تأليف الوزارة بعد إخراج كل من على ماهر وعبد الفتاح يحيى منها .
وكانت قضية مركز البداري ليلة 19 مارس عام 1932 قد أضعفت أحد جبابرة السياسة المصرية , إسماعيل صدقي باشا , مما كان إيذانا بسقوطه النهائى بعد أقل من تسعة شهور ومن ثم فقد نالت من الحكومة ، بيد أنها لم تستطيع النيل من القضاء ، ذلك أنه غير ذى مصلحة على الدوام ، ولا يعلى سوى شأن العدل والتطبيق المجرد للقانون بغض النظر عما يمكن أن يثيره المغرضون من زوابع لا شك أن غبارها يتبدد أمام نقاء سريرته.
وسيظل القضاء المصرى لا يرى حين يقضى إلا وجه الحق والعدل دونما ثمة اعتبار لما يمكن أن يرضى الرأى العام أو يغضبه ، ودونما مثقال ذرة من اعتبار لأية صراعات سياسية أيا كان مقصدها ومرماها .
المستشار بهاء المرى .
-----------------------------------------------------------------------------------------
من مراجع البحث : مقال للأستاذ الكبير الدكتور يونان لبيب رزق بجريدة الأهرام حول حادثة مأمور البدارى : ملفات الأهرام : السنة 127 - العدد 42731 فى 4 ديسمبر 2003 .
إن المستقرىء لتاريخ الصراعات السياسية فى مصر ، سيكتشف بجلاء مدى تشابهها إلى حد كبير فى مناحى حصولها ، وفى استغلالها أحكام القضاء فى توجيه الرأى العام لا سيما نحو إحراج القائمين على الأمور فى الدولة .
ومن ثم فقد تداعت إلى الذهن إحدى القضايا الشهيرة التى وقعت فى عام 1932 وعرفت باسم ( قضية مأمور البدارى ) حيث استغلت القوى السياسية المتصارعة آنذاك الحكم الصادر فيها من محكمة النقض لإحراج الحكومة ، وبالتالى لم يسلم القضاء من الهجوم عليه ابتغاء الوصول إلى هذا الهدف .
والبدارى مركز من مراكز محافظة أسيوط ، يقع فى أقصى جنوب المحافظة على الضفة الشرقية للنيل .
وفى تلك الفترة كانت مصر تعيش قلاقل سياسية ، حيث ألغى الملك فؤاد ورئيس حكومته إسماعيل صدقى باشا دستور 1923، ووضعوا بدلا منه دستورا يؤسس للاستبداد ، وبدأت الحكومة فى إصدار القوانين المقيدة للحريات ، وفى ملاحقة المعارضين وتلفيق القضايا لهم وإزاحة العناصر الموالية للوفد من الإدارة وتعيين الموالين لها .
وأدت هذه السياسة إلى إطلاق يد الشرطة فى التنكيل بالمعارضين السياسيين وامتداد هذا الأسلوب إلى التعامل مع المواطنين ، فأصبحت إهانة الكرامة والتعذيب أسلوبا معتادا فى أقسام الشرطة .
ومن ضمن هذه الوقائع ما حدث فى مركز البدارى من قيام المأمور يوسف الشافعى بتعذيب اثنين من المواطنين بصفة يومية فى ديوان القسم ، من خلال التعدى بالضرب ، وقص الشارب ، والربط فى محل الخيل والإلجام بحبل من الليف كالبهائم ، والإجبار على التسمى بأسماء النساء ، بل وإيلاج العِصِىّْ فى الدبر، الأمر الذى أدى بهما إلى انتواء قتله ، وكمنوا له فى طريق عودته ، وأطلقا عليه أعيرة نارية أدت إلى إزهاق روحة وإصابة مرافقه فهيم أفندى نصيف مفتش الرى ، وقضت محكمة جنايات أسيوط بمعاقبة الأول بالإعدام ، والآخر بالأشغال الشاقة المؤبدة .
ومن ثم فقد وجد خصوم الحكومة ضالتهم فى هذا الحادث ، وجعلوا منه قضية رأى عام وأثاروا بموجبه القلاقل ، أخذا بمنطق إحراج الدولة .
ومن ثم كان الهجوم ضاريا على المأمور وسياسة الشرطة فى التعامل مع السياسيين والمواطنين ، ولم يكن هذا الهجوم بالقطع لوجه الله الكريم ، ولا الصالح العام ، وإنما لمصالح شخصية بحتة ، يبتغيها كل طرف بغض النظر عن مصلحة البلاد .
ولما طعن المتهمان على الحكم أمام محكمة النقض ، وتبين لهذه المحكمة بجلاء أن جريمة القتل كان سببها ما قام به المأمور من تعذيب قاتليه وهتك عرضهما ، فقد انتقدت محكمة جنايات أسيوط تشددها فى الحكم على أحدهما بالإعدام وعلى الآخر بالسجن المؤبد .
ولكن المغرضين استغلوا إعمال محكمة النقض لصحيح القانون ، وحادوا به عن مقصده ففسروه - على غير الحقيقة - بأنها تلتمس العذر للمتهمين لأنهما قتلا رجل شرطة ( مأمور البدارى ) لإثارة الرأى العام ضد القائمين على حكم البلاد .
وبالرغم من أن حكم محكمة النقض لم يكن له تأثير على العقوبة المقضى بها وهى الإعدام ، إلا أن القضاء لم يسلم من ذلك التوجه السياسى ، فكان الانتقاد الحاد غير المحايد لحكم محكمة النقض ولكنها المغالطات السياسية المقصودة لإثارة الرأى العام .
تنويه :
ولسوف نتناول هذا الحكم العظيم من زاويتين ، الأولى هى كونه دليلا بالغا على تحضر الفكر القضائى واستنارته ، وإعماله لصحيح القانون دونما اعتداد بما يمكن ان يتوافق والرأى العام من عدمه ، وباعتباره مقطوعة أدبية بالغة البراعة والجمال من ناحية ، ومن ناحية ثانية باعتباره حدثا استغلته القوى السياسية لتوظيفه فى معركتها مع الدولة .
أولا : الحكم والفكر المستنير والبلاغة الأدبية :
تتحصل واقعات هذه الدعوى فى أن كل من أحمد جعيدى عبد الحق وحسن أحمد أبو عاشور ، من مواطنى مركز البدارى مديرية أسيوط ، قد صدر ضديهما أحكام قضائية مما يستوجب القانون فيها وضعهما تحت المراقبة ، مما مؤداه أن يبيتا ليلهما بالمركز وينصرفا نهارا بيْدَ أن المأمور يوسف الشافعى أفندى كان يمعن فى تشديد هذه المراقبة ، وفى إهانتهما إهانات بالغة ، تمثلت فى التعدى بالضرب ، وقص الشارب ، والربط فى محل الخيل والإلجام بحبل من الليف كالبهائم ، والإجبار على التسمى بأسماء النساء ، بل وإيلاج عِصِىّْ فى الدبر .
الأمر الذى أثار حفيظتيهما من حصول هذا الأذى ، وتوقع إيقاعه بهما لاحقا ، فعقدا العزم وبيتا النية على قتله خلاصا من أذاه ، وأعدا لذلك سلاحين ناريين ، ونظرا لعلمهما العام أن المأمور قد اعتاد السهر لدى صديقه فهيم أفندى نصيف مفتش الرى ، فقد كمنا له فى طريق عودته , خلف حائط متهدم عند مدرسة البدارى الابتدائية ، وكان مفتش الرى فى صحبة المأمور وما أن أصبحا على مقربة منهما حتى أطلقا عليهما عدة أعيرة نارية أردت المأمور قتيلا وأصابت مرافقه .
وبجلسة 21/6/1932 قضت محكمة جنايات أسيوط بمعاقبة المتهم الأول بالإعدام والثانى بالسجن المؤبد ، ، حيث رأت هذه المحكمة أن المأمور كان يطارد هذين الشقيين ويقوم بواجبه ، وأن ظرفى سبق الإصرار والترصد قد توافرا فى حقهما .
ومن ثم فقد استخلصت المحكمة من ذلك ، أن المجرم قد تدبر أمره جيدا قبل ارتكاب الجريمة ثم أقدم عليها ( ومن ثم يتوافر ظرف سبق الإصرار ) وأنه كان يتحين الفرصة للإجهاز على الضحية ( فيتوافر بذلك ظرف الترصد ) وفى كلا الحالتين ينم ذلك عن خطورة إجرامية وتكون العقوبة هى الإعدام .
وسبق الإصرار يتحقق بإعداد وسيلة الجريمة ورسم خطة تنفيذها بعيداً عن سورة الانفعال ، مما يقتضى الهدوء والروية قبل ارتكابها ، لا أن تكون وليدة الدفعة الأولى في نفس جاشت بالاضطراب ، وجمح بها الغضب حتى خرج صاحبها عن طوره ، وتقدير الظروف التى يستفاد منها توافره ، هو مما يستقل به قاضى الموضوع بغير معقب ، مادام كان استخلاصه سائغاً .
أما ظرف الترصد فهو وسيلة للفاتك يضمن بها تنفيذ جريمته غيلة وغدرا فى غفلة من المجنى عليه ، وعلى غير استعداد منه للدفاع عن نفسه ، فاعتبر المشرع تلك الوسيلة بذاتها من موجبات الحكم بالإعدام .
لم يرتض المحكوم عليهما هذا القضاء ، فطعنا عليه بطريق النقض ، وكان رئيس المحكمة هو القاضى الأديب المفكر عبد العزيز فهمى باشا ، الذى سطر بأحرف من نور أحد أهم أحكام القضاء المصرى ، وإحدى الدرر القانونية الأدبية .
وضوح الرؤية والحياد التام :
نعم .. لم تنكر محكمة النقض ذلك الجُّرم ، الذى كشفت عنه ممارسات المأمور واعتبرته كما قالت عنه ( إجرام فى إجرام ، وشذوذ وليس أداء لواجب وظيفة ، بل من أشد المخازى إثارة للنفس واهتياجا لها ودفعا بها إلى الانتقام ) .
ومن ثم فقد أنصفت المتهمين ، ورأت أن تلك الأفعال التى تعرضا لها كانت أدعى إلى استعمال الرأفة معهما لا إلى تشديد العقاب ، فأعلت بذلك مبدأ التطبيق الصحيح للقانون ، بغض النظر عما إذا كان الحكم سيوافق هوى الرأى العام من عدمه فى تلك الظروف السياسية المضطربة .
فانظر تلك البلاغة الأدبية والتطبيق القانونى الصحيح ، وهى تقرر انتفاء ظرف سبق الإصرار الذى يوجب الإعدام حين قالت :
" إن هذه المعاملة التى أثبتت المحكمة أن المجنى عليه كان يعامل الطاعنين بها ، هى إجرام فى إجرام ، ومن وقائعها ما هو جناية هتك عرض يعاقب عليها القانون ، وكلها من أشد المخازى إثارة للنفس واهتياجا لها ودفعا بها إلى الانتقام " .
" فلا شك أن مثلهما ( أى المتهمان ) الذى أوذِى واهتيج ظلما وطغيانا ، والذى ينتظر أن يتجدد إيقاع هذا الأذى الفظيع به - لاشك - أنه إذا اتجهت نفسه إلى قتل معذبه ، فإنها تتجه إلى هذا الجُّرم موتورة مما كان ، منزعجة مما سيكون ، والنفس الموتورة المنزعجة هى نفس هائجة أبدا ، لا يدع انزعاجها سبيلا لها إلى التبصر والسكون حتى يُحَكِّم العقل - هادئا متزنا مترويا – فيما تتجه إليه الإرادة من الأغراض الإجرامية التى تتخيلها قاطعة لشقائها " .
وانطلاقا من اقتناع محكمة النقض بأن المأمور القتيل قد مارس أفعالا مشينة مع المتهمين هى " قص الشارب والإلجام بحبل من الليف ، والتعدى بالضرب والإجبار على التسمى بأسماء النساء ، بل وإيلاج العصى فى الدبر " .
فقد استخلصت من ذلك بجلاء أن هذا من شأنه أن يجعل المتهمين في حالة اضطراب لا استقرار فيه , وهياج مستمر لا فرصة معه في التفكير الهادىء المتروى , الذي هو شرط ضرورى لتحقق سبق الإصرار الذى هو شرط للقضاء بعقوبة الإعدام .
ومن ثم فقد انتهت محكمة النقض إلى أن محكمة الجنايات قد أخطأت فى تطبيق القانون إذ اعتمدت علي وجود ذلك الظرف مع أنه منعدم ، كما أخطأت فى اعتبار أفاعيل المأمور الإجرامية ضربا من القيام بالواجب .
إلا أنه لما كان ظرف الترصد قد توفر فى الأوراق ،وهو أيضا موجب للقضاء بعقوبة الإعدام ، فإن المحكمة لم تجد مناصا من رفض الطعن بالنقض وهى تعتصر ألما وتجلت قمة الإنسانية لديها حين عبرت عن ذلك بقولها :
( ولو كان الأمر بيد المحكمة ، وكانت هى التى تقدر العقوبة ، لما وسعها أن تعاقب الطاعنين كليهما بمثل تلك الشدة ، بل لعاملتهما بما توجبه ظروف الدعوى من الرأفة والتخفيف ) .
- إلى أن قالت تعرب عن الأسى إزاء رفض الطعن :
( وحيث أنه لجميع ما تقدم لا ترى هذه المحكمة فى احترامها للقانون سوى رفض الطعن على مضض ) .
أما عن استغلال هذا الحكم سياسيا :
فقد كان الجو السياسي مهيئا لردود الفعل التي نتجت عن حكم محكمة النقض ، ولو كانت الظروف عادية لأمكن النظر إلى هذه الواقعة بحسبانها حادث بين رجل إدارة غالى في قسوته وبين مشتبه فيه ذهب بعيدا فى انتقامه ، غير أن الجو السياسي العام كان يقود إلي غير ذلك .
فمن ناحية كان حزب الوفد قد فترت معارضته لحكومة صدقي من جراء الانقسام الذي عرفه خلال تلك الفترة بين أغلبية مؤيدة لفكرة الحكومة القومية , وأقلية تضم مصطفي النحاس باشا ومعه سكرتير عام الحزب مكرم عبيد حتى انقسم الحزب ، ولما استرد عافيته وكان متشوفا لمعركة تؤكد عودته لحالة المقاومة التي التزم بها ضد حكومة صدقى , قدمت له حادثة البداري الميدان المطلوب لهذه المعركة .
ومن ناحية أخري فإن الحزب الكبير الآخر, الأحرار الدستوريين, الذي كان قد ائتلف مع الوفد في مقاومة وزارة صدقى باشا , قد خرج عن هذا الائتلاف ، وكان بدوره في حاجة إلي مناسبة ليؤكد علي موقفه من الحكومة الملكية .
ولذلك نجد جريدة الأهرام تنشر فى عددها الصادر في أول يناير عام1933بيانا طويلا تحت عنوان ( من الوفد المصرى إلي الأمة المصرية الكريمة ) دار حول سياسات حكومة صدقى عموما , وإن كان قد خصص جانبا كبيرا لحادثة البداري كان مما جاء فيه :
( أيها المصريون- إن تلك الروح الخبيثة التي كشفت عنها حادثة البدارى ، والتي أفضت إلي الفوضي وما هو شر من الفوضي ، فجعلت محكمة النقض تلتمس العذر للناس إذا ما انتقموا لأنفسهم وبأنفسهم ، تلك الروح إنما هي ظاهرة من مظاهر الاستبداد المضروب علي أعناقكم ولقد رأيتم كيف عاد عهد الكرباج لتحصيل الأموال الأميرية ، في الوقت الذي أجدبت فيه أراضيكم ، واشتدت بفعل الوزارة الضائقة المالية ، فأكلت ما بقي لكم من زرع وضرع , وذهبت الأموال المجلوبة من عرق جبينكم إلي خزائن المستعمرين وشركائهم , ومن إليهم من الأعوان والمناصرين ) .
ولم يتخلف حزب الأحرار الدستوريين عن استغلال الحادث فنشر فى جريدته يقول :
( واليوم يحق لنا أن نتساءل : أمأساه مسألة البداري أم مهزلة , فهى في حكم محكمة الجنايات وفي حكم محكمة النقض مأساة يقف لها شعر الرأس وتضطرب من هولها القلوب والأفئدة ، وهي في بيان وزير الحقانية مسألة تافهة لا تزيد علي أن أحد المحكوم عليهم ضرب في فبراير1932 ضربا لم يترك أكثر من كدم في عينيه , وربط بحبل في مربط الخيل إرهابا لغيره من المشبوهين فأي الأمرين أصدق !
أنبتسم علي أنها مهزلة تافهة يقع من مثلها كثير ، أم تضطرب نفوسنا لأنها مأساة أهينت فيها الكرامة الإنسانية وأهين فيها العدل والقانون شر إهانة ! ) .
فضلا عن ذلك فإن الحكومة نفسها قد عرفت نوعا من الانقسام , إذ بينما كان رئيس الوزراء ومعه أغلبهم يقفون علي جانب ، كان علي ماهر وزير الحقانية يسانده عبد الفتاح يحيي باشا الذي كان يتطلع إلي رئاسة الوزارة يقفان في الجانب الآخر, ومرة أخرى قدمت حادثة البداري الميدان المناسب لتفجر المشاكل الكامنة بين الوزراء.
فكان أول ما فعله وزير الحقانية أن أمر بمعاملة الجناة معاملة المسجونين العاديين وبناء علي ذلك نزعت الأغلال التي كانا مقيدين بها , كما خلعت الملابس الحمراء التي يرتديها المحكوم عليه بالإعدام عادة بعد الحكم عليه ، ثم اتفق بعد ذلك مع وزير الداخلية على أن تشرع النيابة في التحقيق مع رجال الإدارة فى المركز الذين رفعت فيه الشكاوى ضدهم بتهمة التعذيب خاصة وأن الشيخ أحمد جعيدى والد المحكوم بإعدامه قد تقدم بشكوي إلي النيابة يتهم فيها الإدارة فى مركز البدارى باضطهاد ولده الأكبر ، وهو شقيق المحكوم بإعدامه فأنذره البوليس كمتشرد وأمره أن يبيت كل ليلة في المركز .
وكشفت التحقيقات عن الوجه السياسي من الحادثة , والتي بدأت بسبب الخصومة بين آل جعيدى وبين آل همام بسبب العمدية ، ويبدو أن الأخيرين كانوا مناصرين لحكومة صدقى مما نتج عنه تعيين عمدة منهم علي جزء من البدارى , فبدأت الشرطة فى اضطهاد أفراد من آل جعيديى وفي مقدمتهم المحكوم بإعدامه ، فلفقت إليهم تهم السرقة وغيرها , وأثناء ذلك وقعت الحوادث المنسوبة إلي مأمور البدارى وإلي آخرين من رجال الإدارة .
وبدت الأزمة الوزارية التي تسببت فيها القضية ، بعد أن تقدم نائبان في مجلس النواب عبد الرحمن البيلي وإبراهيم زكى , بسؤال لوزير الحقانية عن النتائج التي ترتبت علي التحقيقات وكان من المتوقع أن يلقي الوزير بيانا يبرئ فيه ساحة رجال الإدارة أو على الأقل يخفف من مسئوليتهم وهو ما لم يفعله على ماهر .
ولكنه قال فى بيانه : أنه ( مهما يقال من صحة رأى محكمة الجنايات ومن أن حكمها مجرد قصور عن إبراز اعتقادها وتصوير مرادها ، فلا شك أن الأذهان يبقي فيها أيضا شبهة أن هذا التحقيق ربما لم يصل إلي كشف الواقع علي حقيقته وأن مجرد قيام تلك الشبهة ، يلقي غشاوة علي عدالة الحكم من جهة تقديره للعقوبة ولا يجعل النفس مطمئنة تمام الاطمئنان ، إلا إذا خففت في حق المحكوم عليهما فبالنسبة لجعيدى لأن عقوبته هى الإعدام ومتي نفذت استحال الرجوع فيها وبالنسبة لحسن عاشور فقد ظهر حدوث اعتداء عليه قبل ارتكابه الجريمة ) .
وفى هذه الظروف صدر أمر ملكى بتخفيف الحكم علي جعيدى من الإعدام إلي الأشغال الشاقة المؤبدة ، وتخفيف العقوبة علي حسن عاشور من الأشغال الشاقة المؤبدة إلى الأشغال الشاقة لمدة خمسة عشر عاما , وهو ما بدا استجابة لحكم محكمة النقض والإبرام .، وفى ذات الوقت للتخفيف من بيان على ماهر .
ثم قدم صدقي باشا استقالته وعزاها إلي ما أصاب الوزارة من وهن مما ترتب عليه استعصاء قيامه بواجبه الوطنى ، وأعقب ذلك إعادة تأليف الوزارة بعد إخراج كل من على ماهر وعبد الفتاح يحيى منها .
وكانت قضية مركز البداري ليلة 19 مارس عام 1932 قد أضعفت أحد جبابرة السياسة المصرية , إسماعيل صدقي باشا , مما كان إيذانا بسقوطه النهائى بعد أقل من تسعة شهور ومن ثم فقد نالت من الحكومة ، بيد أنها لم تستطيع النيل من القضاء ، ذلك أنه غير ذى مصلحة على الدوام ، ولا يعلى سوى شأن العدل والتطبيق المجرد للقانون بغض النظر عما يمكن أن يثيره المغرضون من زوابع لا شك أن غبارها يتبدد أمام نقاء سريرته.
وسيظل القضاء المصرى لا يرى حين يقضى إلا وجه الحق والعدل دونما ثمة اعتبار لما يمكن أن يرضى الرأى العام أو يغضبه ، ودونما مثقال ذرة من اعتبار لأية صراعات سياسية أيا كان مقصدها ومرماها .
المستشار بهاء المرى .
-----------------------------------------------------------------------------------------
من مراجع البحث : مقال للأستاذ الكبير الدكتور يونان لبيب رزق بجريدة الأهرام حول حادثة مأمور البدارى : ملفات الأهرام : السنة 127 - العدد 42731 فى 4 ديسمبر 2003 .