أندرية موروا كاتب ملحوظ المكانة عالي الشهرة كثير التفنن في ضروب الأدب وألوان الكتابة. فهو يعد ثالث ثلاثة في كتابة التراجم الفنية الحديثة، هم أشهر من عرف هذا الباب.
إنتهزت فرصة زيارته لمصر – في شهر مارس الماضي وطلبت منه أن أتحدث اليه في شئون الأدب والفن فأجابني الى طلبي، في أريحية وظرف. وجدته في غرفته في فندق شبرد .
وبدأت الأسئلة
هل لك ان تحدثني عن الفرق – بوجه عام – بين الشخصيتين الإنجليزية والإمريكية ؟
فقال ليس الفرق بين الخلق الإنجليزي والأمريكي بالواسع المدى والمشترك بينهما أكثر وأهم " ويمكنني أن أقول إجمالاً أن الأمريكان – لأنهم شعب حديث شغوفون بالحياة يستولى عليهم القلق والتطلع، بينما ترى الإنجليز هاديء الأعصاب متئد الخطى، يستقبل الحياة إستقبال الواثق المطمئن.
فقلت كنت أقرأ هذه الايام كتاباً لمؤلف دنماركي عاش في انجلترا ووضع كتاباً مشهوراً عنهم إسمه "الإنجليز هل هم إنسانيون ، وفي مقدمة ذلك الكتاب يشير المؤلف الى صمت الإنجليزي وعدم مقدرته على الإفصاح والإبانة.
قال : إنما هم كذلك لآنهم شعب متأدب محتشم لا يحب الثرثرة والمباهاة.
فقلت
أذكر أنني قرأت لكم في أحد أعداد مجلة الأتلانتيك الأمريكية خطاباً لصديق فرنسي يرغب في زيارة إنجلترا، تنصحون له وتحدثونه عن الخلق الإنجليزي. وقد قلتم لذلك الصديق في مقالكم المذكور في فكاهه ظاهرة " أن الإنجليزي يدعوك لآن تزوره في كوخه الصغير في القرية الفلانية ، فإذا ذهبت تجد ذلك الكوخ قصراً كبيراً !! . وأنك سوف تحب الكتب الإنجليزية أكثر من كل شيء آخر، ولكن أياك أن تتحدث عن حبك لها – الى آخر ما قلت لذلك الصديق من هذا القبيل فهل ترون في ذلك إحتشاماً وتواضعاً أو هو نفاق وكبرياء؟
فابتسم وقال:
إنني أذكر ذلك المقال جيداً . والإحتشام medesty ربما جاء من فرط الضعف أو فرط القوة والطمانينة ، ومصدر إحتشام الإنجليزي وعدم تحدثه عن ممتلكاته ومعارفه بتأكيد والحاح هو أنه شاعر بقوته، واثق من نفسه. وأغلب ما يكون الرجل الكثير الكلام الكثير التأكيد ضعيفاً غير واثق مما يقول. فيلجأ الى الحديث ليوهم نفسه بوجود ماليس له وجود. وعليه فأنا لا أرى في هذه الصفة أي نفاق أو كبرياء ، وأنما أرى فيها إحتشاماً وأدباً وقوة خلق.
أتجاه الأدب الحديث في الغرب:
قلت: هل لي أن أعرف رأيكم في الإتجاهات الحديثة في أدب أوربا وأمريكا؟
قال : هي واحدة ومصدر ذلك أن أدب أي جيل من الأجيال لابد أن تؤثر فيه المكتشافات والبحوث العلمية لذلك العصر - ويجب أن أسرع فأقرر أنني لا أؤمن بالمدارس والحركات الأدبية، وأنما أؤمن بالكتاب أفراداً لا جماعات أو مدارس خاصة.
فإذا عرفنا هذا أمكننا أن نرجع بأسباب الحركة الأدبية الحديثة في أوروبا الحديثة في أوربا وأمريكا الى عاملين إثنين
أولهما بحوث فرويد وأدلر وأضرابهما من أفذاذ علما السيكلوجيا الحديثة فقد شجعت هذه المباحث النفسانية جماعة من الأدباء وحفزت قواهم وأمدتهم بالقوة اللازمة لأن يصرحوا بما يعتقدون ويكتبوا ما يفكرون من غير خشية ولا خوف من لوم
ثانيهما - نظرية النسبية المعروفة لإنشتاين فالحقائق والنظريات لم تعد مطلقة، وأي شيء لم يعد هو نفسه الشيء ، ولكل رأي - فالأشياء تخلف بإختلاف الأفراد ، وقد يختلف الشيء الواحد لدى الفرد الواحد بإختلاف المكان والزمان.
وأول من إستفاد من بحوث إنشتين في النسبية هو إمام القصة في العصر الحديث بلا مراء أعني مارسيل بروست فهذا القصصي لم يصف الحوادث كما هي بالطريقة الزمانية المألوفة ، وإنما حاول أن يدون تيارات التصور والخيالات في وعي أشخاص قصصه. وهو على هذا الإعتبار قصصي في عالم الأحلام والرؤى!
قلت : غير أن بروست فيما يتضح لي من مطالعته التي لم أقو عليها طويلا عالم يقتل دنيا أحلامه التي يصورها بكثرة التحليل والإسهاب في الوصف والتوضح العقلي. وأنني أجد كتاب إنجلترا المحدثين أمثال فرجينيا ولف وكاترين مانسفيلد أسهل على الفهم وأخف في القراءة لأنهم يستعملون الإيحاء بدلا من التحليل الممل.
فأجاب كل هؤلاء ولا شك يقتفون أثر بروست ويأتمنون به فـــ بروست هو إمام العصر الحديث في القصة كما كان بلزاك اماما للقصة في عصره، وكما كان فلوبير زعيم القصة في أواخر القرن التاسع عشر.
ثم سألت ماهي الخواص التي تجعل الترجمة عملاً فنيا وتميزها عن بقية التراجم وكتابة السير العادية ؟
فقال يجب أن تعرف العمل الفني أولاً فأنت تذكر كلمة "بيكون" القائل "أن الفن هو الإنسان مضافاً إليه الطبيعة" ومعنى ذلك أن الفن هو الطبيعة كما تتضح لذهن فرد من الأفراد.
والترجمة على هذا الإعتبار تصبح عملاً فنياً حينما تتعدى أن تكون جملة من الحقائق والأفكار وهي عمل فني حينما يرتب المؤلف حقائق كتابه ويعرضها من غير أن يشوهها في نظام خاص يبرز به عوامل الشعر في حياة من يترجم لهم، ويشير من طرف خفي الى موضوعات الحياة الرئيسية ! وأن يكون المؤلف قد أحس بمثل إحساس بطله، وأن يعطف عليه، وأن يحاول أن يرى وجه نظره كاملة تامة"
قلت : أذكر أنكم عقدتم فصلا خاصاً في كتابكم "نواحي الترجمة" عنوانه "الترجمة كتعبير ذاتي ومؤدى ذلك الفصل أن المؤلف يجب أن يأخذ حياة بطله الى نفسه وأن يعبر عنه بعد أن يرى رأيه، ويدير هواجسه في وجدانه وأفكاره في مطارح فكرة. أفلا ترون أن ذلك النهج حري بأن ينأي بالمؤلف عن محجة الصواب والوقائع، فيضع أشياء وأفكاراً وعواطف لا أصل لها في حياة البطل أو هي لم توجد بذلك القدر وعلى ذلك الوجه؟
قال: ذلك صحيح ولكنني لا أعني التعبير عن النفس حرفياً و لا أقول بوضع أشياء لا وجود لها فعلاً في حياة البطل، وإنما أقول بضرورة العطف وتفهم وجه نظر من نترجم له"
تم إستأنف حديثه قائلاً وقد بدت عليه علائم التفكير وإستجماع الذهن:
"ولكي تصبح الترجمة عملاً فنياً يجب على المترجم أن يلاحظ عنصر التناسب في تخطيط كتابه، وأن يجعله من هذه الناحية مفهوماً واضحاً من غير أن يظهر أثر الذهن الذي يوضح ويقوم بعملية التخطيط والتوزيع".
وكان كلما انتهى من الرد على سؤال إبتسم إبتسامة الطفل ثم قال next مقلداً المدرسين الإنجليز الذين يستعجلون الطلبة.
مستقبل القصة:
فقلت : ما رأيكم في مستقبل القصة، وهل ترون أنها أيلة الى ـــــ"
فم يدعني أتتم جملتي وقال:
تريد أن تسأل هل القصة آيلة الى الإنقراض كما يعتقد بعض صحفيي فرنسا ؟ لا وعندي أن هؤلاء الذين يقولون ذلك لا يعرفون الطبيعة البشرية، ويمكنني شخصياً أن أرسل إليهم تلغرافاً كما فعل أحد أدباء فرنسا في أخريات القرن التاسع عشر حينما شاع أن المذهب الطبيعي في الوصف القصصي قد مات. فقد أرسل ذلك الأديب يومئذ هذا التلغراف "النزعة الطبيعية naturalism لم تمت الإيضاح بالبريد وعلى هذه الطريقة يمكنني أن أرسل هذا التلغراف "القصة لم تمت".
ثم قال : أن رواية القصص، ووضع الروايات من أهم خصائص الطبيعة البشرية وإذا أمكن الإنسان أن يستغنى عن الخبز الذي يأكله أمكنه بعد ذلك أن يستغنى عن القصة التي يقرأها، وأنا شخصياً لو خيرت بين الخبز والقصة لأخترت القصة . فيها تشبع عاطفة إنسانية لا سبيل الى إروائها من غير ذلك السبيل. ذد على ذلك أن القصة قد تطورت في شكلها المعاصر حتى أصبحت تشمل كل شيء يمكن أن يفكر فيه أو يشعر به الإنسان وهي ولا شك أصح الأدوات الفنية في وقتنا الحاضر.
كيف يؤلف الكتاب:
ثم سألته عن سر الخلق الفني . . وقلت : "أنني أظن أن معظم القصصيين وكتاب المسرح في أوروبا قل أن يتركوا مكتباتهم، وهم بعد ذلك يكتبون عن الطبيعة البشرية وإختلاف وجوهها، وألوان الشخصيات، وتعدد المذاهب الخلقية، والأفراد والأماكن المتباعدة، فكيف يتيسر لهم ذلك؟ وهل هم يستوحون نفوسهم في ذلك ويترجمون لعواطفهم وميولهم الخاصة بهم ؟
فأجاب " كلا . ويمكنني أن أقول لك أن كل الكتاب يعرفون الحياة أولاً قبل البدء بالكتابة الخالقة. وأنا لم أبدأ أكتب إلا بعد الثلاثين من عمري، وقد عشت ولا شك أثناء ذلك وعرفت ألواناً من الحياة وصنوفاً من الناس والشخصيات المختلفة.
ومن جهة أخرى فأنت قل أن تجد كاتباً يجلس الى مكتبه طيلة الوقت، فالكتاب يعيشون مثل كل الناس وأن لم نرهم في الطرقات والشوارع.
وكان آخر سؤال وجهته له : ماهي نصيحتك لمن يحترفون الكتابة إذا أرادوا ان ينتجوا أدباً يقرأ في الخارج؟
فأجاب : أن هذا البلد "مصر" مليء بالمواد الكتابية البكر، خاصة في ميدان الأدب القصصي، وليس على الأدباء إلا أن يخرجوا صورة أمينة لمختلف الأهواء والميول ، وتفاعلها مع بعض في هذا البلد الذي ضم خليطاً من الأجناس والعادات والأمزجة، فذلك خير موضوع يصلح للكتابة القصصية . وقد قرأت بعض مقطوعات شعرية لشاعر مصري وأعجبت بها كثيراً . كما قابلت عدداً من الشبان الأذكياء وميدان الخلق الأدبي في مصر واضح، وكل ما يطلب منكم هو التصوير الصادق لهذه الحياة التي تعيشون . ومن حسن الحظ أنها مازالت بكراً لم تتناولها الأيدي بعد بالكتابة ولاشرح. وأنني أود لو كنت كاتباً قصصياً في هذه البلاد ، إذاً لكانت المادة لدي متيسرة وفرص الإتقان والإجادة لست البعيدة النائية..
نشرته جريدة الهلال مايو 1932
إنتهزت فرصة زيارته لمصر – في شهر مارس الماضي وطلبت منه أن أتحدث اليه في شئون الأدب والفن فأجابني الى طلبي، في أريحية وظرف. وجدته في غرفته في فندق شبرد .
وبدأت الأسئلة
هل لك ان تحدثني عن الفرق – بوجه عام – بين الشخصيتين الإنجليزية والإمريكية ؟
فقال ليس الفرق بين الخلق الإنجليزي والأمريكي بالواسع المدى والمشترك بينهما أكثر وأهم " ويمكنني أن أقول إجمالاً أن الأمريكان – لأنهم شعب حديث شغوفون بالحياة يستولى عليهم القلق والتطلع، بينما ترى الإنجليز هاديء الأعصاب متئد الخطى، يستقبل الحياة إستقبال الواثق المطمئن.
فقلت كنت أقرأ هذه الايام كتاباً لمؤلف دنماركي عاش في انجلترا ووضع كتاباً مشهوراً عنهم إسمه "الإنجليز هل هم إنسانيون ، وفي مقدمة ذلك الكتاب يشير المؤلف الى صمت الإنجليزي وعدم مقدرته على الإفصاح والإبانة.
قال : إنما هم كذلك لآنهم شعب متأدب محتشم لا يحب الثرثرة والمباهاة.
فقلت
أذكر أنني قرأت لكم في أحد أعداد مجلة الأتلانتيك الأمريكية خطاباً لصديق فرنسي يرغب في زيارة إنجلترا، تنصحون له وتحدثونه عن الخلق الإنجليزي. وقد قلتم لذلك الصديق في مقالكم المذكور في فكاهه ظاهرة " أن الإنجليزي يدعوك لآن تزوره في كوخه الصغير في القرية الفلانية ، فإذا ذهبت تجد ذلك الكوخ قصراً كبيراً !! . وأنك سوف تحب الكتب الإنجليزية أكثر من كل شيء آخر، ولكن أياك أن تتحدث عن حبك لها – الى آخر ما قلت لذلك الصديق من هذا القبيل فهل ترون في ذلك إحتشاماً وتواضعاً أو هو نفاق وكبرياء؟
فابتسم وقال:
إنني أذكر ذلك المقال جيداً . والإحتشام medesty ربما جاء من فرط الضعف أو فرط القوة والطمانينة ، ومصدر إحتشام الإنجليزي وعدم تحدثه عن ممتلكاته ومعارفه بتأكيد والحاح هو أنه شاعر بقوته، واثق من نفسه. وأغلب ما يكون الرجل الكثير الكلام الكثير التأكيد ضعيفاً غير واثق مما يقول. فيلجأ الى الحديث ليوهم نفسه بوجود ماليس له وجود. وعليه فأنا لا أرى في هذه الصفة أي نفاق أو كبرياء ، وأنما أرى فيها إحتشاماً وأدباً وقوة خلق.
أتجاه الأدب الحديث في الغرب:
قلت: هل لي أن أعرف رأيكم في الإتجاهات الحديثة في أدب أوربا وأمريكا؟
قال : هي واحدة ومصدر ذلك أن أدب أي جيل من الأجيال لابد أن تؤثر فيه المكتشافات والبحوث العلمية لذلك العصر - ويجب أن أسرع فأقرر أنني لا أؤمن بالمدارس والحركات الأدبية، وأنما أؤمن بالكتاب أفراداً لا جماعات أو مدارس خاصة.
فإذا عرفنا هذا أمكننا أن نرجع بأسباب الحركة الأدبية الحديثة في أوروبا الحديثة في أوربا وأمريكا الى عاملين إثنين
أولهما بحوث فرويد وأدلر وأضرابهما من أفذاذ علما السيكلوجيا الحديثة فقد شجعت هذه المباحث النفسانية جماعة من الأدباء وحفزت قواهم وأمدتهم بالقوة اللازمة لأن يصرحوا بما يعتقدون ويكتبوا ما يفكرون من غير خشية ولا خوف من لوم
ثانيهما - نظرية النسبية المعروفة لإنشتاين فالحقائق والنظريات لم تعد مطلقة، وأي شيء لم يعد هو نفسه الشيء ، ولكل رأي - فالأشياء تخلف بإختلاف الأفراد ، وقد يختلف الشيء الواحد لدى الفرد الواحد بإختلاف المكان والزمان.
وأول من إستفاد من بحوث إنشتين في النسبية هو إمام القصة في العصر الحديث بلا مراء أعني مارسيل بروست فهذا القصصي لم يصف الحوادث كما هي بالطريقة الزمانية المألوفة ، وإنما حاول أن يدون تيارات التصور والخيالات في وعي أشخاص قصصه. وهو على هذا الإعتبار قصصي في عالم الأحلام والرؤى!
قلت : غير أن بروست فيما يتضح لي من مطالعته التي لم أقو عليها طويلا عالم يقتل دنيا أحلامه التي يصورها بكثرة التحليل والإسهاب في الوصف والتوضح العقلي. وأنني أجد كتاب إنجلترا المحدثين أمثال فرجينيا ولف وكاترين مانسفيلد أسهل على الفهم وأخف في القراءة لأنهم يستعملون الإيحاء بدلا من التحليل الممل.
فأجاب كل هؤلاء ولا شك يقتفون أثر بروست ويأتمنون به فـــ بروست هو إمام العصر الحديث في القصة كما كان بلزاك اماما للقصة في عصره، وكما كان فلوبير زعيم القصة في أواخر القرن التاسع عشر.
ثم سألت ماهي الخواص التي تجعل الترجمة عملاً فنيا وتميزها عن بقية التراجم وكتابة السير العادية ؟
فقال يجب أن تعرف العمل الفني أولاً فأنت تذكر كلمة "بيكون" القائل "أن الفن هو الإنسان مضافاً إليه الطبيعة" ومعنى ذلك أن الفن هو الطبيعة كما تتضح لذهن فرد من الأفراد.
والترجمة على هذا الإعتبار تصبح عملاً فنياً حينما تتعدى أن تكون جملة من الحقائق والأفكار وهي عمل فني حينما يرتب المؤلف حقائق كتابه ويعرضها من غير أن يشوهها في نظام خاص يبرز به عوامل الشعر في حياة من يترجم لهم، ويشير من طرف خفي الى موضوعات الحياة الرئيسية ! وأن يكون المؤلف قد أحس بمثل إحساس بطله، وأن يعطف عليه، وأن يحاول أن يرى وجه نظره كاملة تامة"
قلت : أذكر أنكم عقدتم فصلا خاصاً في كتابكم "نواحي الترجمة" عنوانه "الترجمة كتعبير ذاتي ومؤدى ذلك الفصل أن المؤلف يجب أن يأخذ حياة بطله الى نفسه وأن يعبر عنه بعد أن يرى رأيه، ويدير هواجسه في وجدانه وأفكاره في مطارح فكرة. أفلا ترون أن ذلك النهج حري بأن ينأي بالمؤلف عن محجة الصواب والوقائع، فيضع أشياء وأفكاراً وعواطف لا أصل لها في حياة البطل أو هي لم توجد بذلك القدر وعلى ذلك الوجه؟
قال: ذلك صحيح ولكنني لا أعني التعبير عن النفس حرفياً و لا أقول بوضع أشياء لا وجود لها فعلاً في حياة البطل، وإنما أقول بضرورة العطف وتفهم وجه نظر من نترجم له"
تم إستأنف حديثه قائلاً وقد بدت عليه علائم التفكير وإستجماع الذهن:
"ولكي تصبح الترجمة عملاً فنياً يجب على المترجم أن يلاحظ عنصر التناسب في تخطيط كتابه، وأن يجعله من هذه الناحية مفهوماً واضحاً من غير أن يظهر أثر الذهن الذي يوضح ويقوم بعملية التخطيط والتوزيع".
وكان كلما انتهى من الرد على سؤال إبتسم إبتسامة الطفل ثم قال next مقلداً المدرسين الإنجليز الذين يستعجلون الطلبة.
مستقبل القصة:
فقلت : ما رأيكم في مستقبل القصة، وهل ترون أنها أيلة الى ـــــ"
فم يدعني أتتم جملتي وقال:
تريد أن تسأل هل القصة آيلة الى الإنقراض كما يعتقد بعض صحفيي فرنسا ؟ لا وعندي أن هؤلاء الذين يقولون ذلك لا يعرفون الطبيعة البشرية، ويمكنني شخصياً أن أرسل إليهم تلغرافاً كما فعل أحد أدباء فرنسا في أخريات القرن التاسع عشر حينما شاع أن المذهب الطبيعي في الوصف القصصي قد مات. فقد أرسل ذلك الأديب يومئذ هذا التلغراف "النزعة الطبيعية naturalism لم تمت الإيضاح بالبريد وعلى هذه الطريقة يمكنني أن أرسل هذا التلغراف "القصة لم تمت".
ثم قال : أن رواية القصص، ووضع الروايات من أهم خصائص الطبيعة البشرية وإذا أمكن الإنسان أن يستغنى عن الخبز الذي يأكله أمكنه بعد ذلك أن يستغنى عن القصة التي يقرأها، وأنا شخصياً لو خيرت بين الخبز والقصة لأخترت القصة . فيها تشبع عاطفة إنسانية لا سبيل الى إروائها من غير ذلك السبيل. ذد على ذلك أن القصة قد تطورت في شكلها المعاصر حتى أصبحت تشمل كل شيء يمكن أن يفكر فيه أو يشعر به الإنسان وهي ولا شك أصح الأدوات الفنية في وقتنا الحاضر.
كيف يؤلف الكتاب:
ثم سألته عن سر الخلق الفني . . وقلت : "أنني أظن أن معظم القصصيين وكتاب المسرح في أوروبا قل أن يتركوا مكتباتهم، وهم بعد ذلك يكتبون عن الطبيعة البشرية وإختلاف وجوهها، وألوان الشخصيات، وتعدد المذاهب الخلقية، والأفراد والأماكن المتباعدة، فكيف يتيسر لهم ذلك؟ وهل هم يستوحون نفوسهم في ذلك ويترجمون لعواطفهم وميولهم الخاصة بهم ؟
فأجاب " كلا . ويمكنني أن أقول لك أن كل الكتاب يعرفون الحياة أولاً قبل البدء بالكتابة الخالقة. وأنا لم أبدأ أكتب إلا بعد الثلاثين من عمري، وقد عشت ولا شك أثناء ذلك وعرفت ألواناً من الحياة وصنوفاً من الناس والشخصيات المختلفة.
ومن جهة أخرى فأنت قل أن تجد كاتباً يجلس الى مكتبه طيلة الوقت، فالكتاب يعيشون مثل كل الناس وأن لم نرهم في الطرقات والشوارع.
وكان آخر سؤال وجهته له : ماهي نصيحتك لمن يحترفون الكتابة إذا أرادوا ان ينتجوا أدباً يقرأ في الخارج؟
فأجاب : أن هذا البلد "مصر" مليء بالمواد الكتابية البكر، خاصة في ميدان الأدب القصصي، وليس على الأدباء إلا أن يخرجوا صورة أمينة لمختلف الأهواء والميول ، وتفاعلها مع بعض في هذا البلد الذي ضم خليطاً من الأجناس والعادات والأمزجة، فذلك خير موضوع يصلح للكتابة القصصية . وقد قرأت بعض مقطوعات شعرية لشاعر مصري وأعجبت بها كثيراً . كما قابلت عدداً من الشبان الأذكياء وميدان الخلق الأدبي في مصر واضح، وكل ما يطلب منكم هو التصوير الصادق لهذه الحياة التي تعيشون . ومن حسن الحظ أنها مازالت بكراً لم تتناولها الأيدي بعد بالكتابة ولاشرح. وأنني أود لو كنت كاتباً قصصياً في هذه البلاد ، إذاً لكانت المادة لدي متيسرة وفرص الإتقان والإجادة لست البعيدة النائية..
نشرته جريدة الهلال مايو 1932