مقتطف شيخه حليوي - مرآة خرساء

الدّم يسيلُ من يدها نزيفا أحمر. قطرات على الأرضيّة البيضاء، قطرات أخرى شكّلت لوحة على جدار الحمّام. وه مجدوع الأنف بعين واحدة. بسبّابتها الملطّخة بدمها الحارّ رسمت أنفا ثمّ عينا مغمضة وتفرّغت لتضميد يدها بمنشفتها الكبيرة. نظرتْ إلى المرآة المهشّمة أمامها فأطلّت عليها نصف امرأة دون وجه. فخذها الأيسر حتّى ركبتها، بطنها ونهدها وكتفها الأيمن. ولا وجه. ارتاحت جدّا للشّبح المطلّ عليها من مرآة مهشّمة. ارتاحت للملامح المُراوغة بين الظهور والخفاء.

هذه صديقة خرساء دون وجه يتابع مكامن الجمال والإغراء فيها. لن تشير إلى نهديها المستديرين، ولن تقنعها أن بطنها ما زالت رائعة. لن تحوّل استحمامها اليوميّ إلى رحلةٍ في قلب الشيطان. والأسئلة الأسئلة!

كيف لجسد بهذا الجمال أنْ يكون نصف ميّتٍ؟ والرقص اليوميّ يهذّب انحناءاته ويكسبها أنوثة لم تمتلكها في مراهقتها. يدها تطمئن على هذه الانحناءات ونعومة ملمسها. المرآة خبيثة جدّا. تكشف لها أكثر مما تريد. أكثر مما تحتمل انتفاضة جسدها وهي تمرّ أمام جارهم الشابّ الّذي يطيل النظر إليها ويربكها. يجلسُ كلّ صباح في نفس المكان وكأنّه ينتظر مرورها ولا يرفع عينيه عنها حتّى تغيب. تشعر بحرارة نظراته وحرارة اشتهائه لها. شابٌ لم يتجاوز العشرين وهي امرأة تجاوزت الثلاثين. وسيم جدّا وقويّ جدّا. وهي ضعيفة جدّا وهشّة جدّا.

ارتدت ملابسها بهدوء وبدأت تجمع بحذر شديد الزجاج المتناثر ثمّ تلقي به في دلو بجانب حوض الاستحمام.

تنظيف مرآة الحمام الكبيرة صار واجبا يوميّا يندرج تحت حاجات ضروريّة للنفس والرّوح. حاجتها لجلستها المسائيّة أو الصّباحية في مساحة تسرق منها مشهدا وحيدا للبحر يختزلُ كلّ ما تعرفه عن معنى الأوطان، أو ما تعنيه لها الأوطان. ومرآة مشاكسة تقاسمها ضعفها وقوتها. تحبها برّاقة دون شوائب تعكّر صفاء المشهد. صفاء الجسد المنعكس أمامها. تخاطب انعكاسها وتحاوره، تتودّد إليه أحيانا وأحيانا تدير ظهرها له وتقتلهُ.

اشترتها قبل عامين من بائع الروبابكيا وكان بإمكانها أن تشتري جديدة بنفس السعر، استهوتها مرآةٌ علقت في ذاكرتها صور حميميّة لأشخاص لا تعرفهم ولن تعرفهم. ستشاركهم دون حرج طقوس انفرادها بنفسها وبأعماقها. كانت تقتل شيطانها أحيانا ولا تنتظر تصفيقا من أحد، وأحيانا تربّت على كتفه وتمسح شعره متفهّمة دلاله ونزقه. تسايرهُ قبل أن يتمادى. امرأة جميلة هي، ليست خارقة الجمال، ولكنّها أنثى مكتملة في الثالثة والثلاثين من عمرها. أنثى لم تعرف معنى النشوة إلا قبل عامين. وحيدة كانت إلا من خيال جامح وجسد حائر بين وأدٍ مبكّر أو نهضة متأخّرة. في زاوية من حمامها تعرّت وتعرّى إحساسها من قشوره. بكت بحرقة وألم. في لحظات قليلة صار جسدها معبدا مقدّسا يقفُ على بابه مريدون بكامل عنفوانهم يسبّحون بكنوزه ويتوسّلونها. تفتّحت مسام جسدها المُعاقة وشعرت بحبيبات من اللذة ترافق دورتها الدمويّة. تدغدغُ الطريق من القلب إلى أصابع قدميها، تنتشي وتحلّق معها. كتمت أنفاسها كيلا تجرحها حدّتها. وما إن تراخت في الزاوية مصدومة مضطربة كان معبدها يرجمه المارّة كبدعة جهنميّة مارقة. استعذبت تلك النار التي اخترقت جسدها. لكنّها تكوّمت بعدها جزء من الرّماد، تنهض منه في بعض المساءات أنثى بكامل نشوتها، ومرّات تقبله عقابا على انفلات عقال الجسد، فتتركه شاهدا على نارها المرهونة بالفناء.

جرحها العميق ينزف من وراء الضماد وهي تحاول ترتيب تفاصيل ما حدث. كيف خرج شيطانها عن طوره؟ ولماذا تمادت هي معه إلى هذا الحدّ؟. ماذا لو؟ ألحّ السّؤال. ماذا لو ماذا؟ قست على شيطانها. وألحّ أكثر، ماذا لو مرّت يدٌ قويّة شهيّة من هنا؟ وحَنَتْ على هنا؟ ونزلت وصعدت تتبع الشهقة أو تتبعها الشهقة؟ ماذا لو أطفأت حرائقها وأشعلتها؟ يدٌ رجوليّة شهيّة تمسح عن تعرّجاتها غبار الاحتشام الزائف. ألا يراها الجميعُ كذلك؟ امرأة محتشمة تطرد عنها الشّبهات كما تهشّ الذباب عن صحنها.

ماذا لو؟ وأطلّ عليها من المرآة. نظراته الصّباحيّة هي ذاتها ولكنّها أكثر جرأة ووضوحا. نار اشتعلت خلفها وأنفاسه تبحثُ عن حطب عنقها. شمّ عنقها بشفتيه وراح يرسم كتفها وظهرها بقبلات هادئة طويلة ويداه تجمعان خاصرتيها.

ويتمايل الجسدان.

اتّسعت دائرة القبلات والتقت الأيادي عند البطن. أغمضت عينيها وتركت نفسها له ولها. نارٌ تخلّف برودة عجيبة في أطرافها، نارٌ تغسلها بماء الثلج. وتحترق وتنتشي معا. بنصف عين رأت نارها في المرآة. امرأة وحيدة تداعب جسدها بيدين استحضرتهما ووجه وشفتين وأنفاس.

بعينيْن واسعتيْن مفتوحتيْن رأت أمامها امرأة لا تعرفها. تشبهها كثيرا ولكنّها ليست هي. ليست هي التي كانت قبل لحظات هنا.

– بل أنا. هذه أناي بعد النيران والطوفان. أين الرماد؟ أين رمادي ووحلي؟
وهوت بيدها على المرآة وهشّمتها.
ها هو رمادي ووحلي ودمي. ها هو.
نامت في سريرها وأدارت وجهها نحو الحائط.
تكوّرت كقطّة مهجورة في ليل صقيع وبكت.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شيخة حسين حليوي
(فصل من مشروع روائي قيد الإنجاز)
أعلى